سنة إحدى وتسعين وماية وألف/١٧٧٧م

فيها في أوايل ربيع الأول ورد أغا من الديار الرومية بطلب عساكر لسفر العجم، فاجتمع الأمرا وتشاوروا في ذلك، فاتفق رأيهم على إحضار إبراهيم بك طنان فأحضروه من المحلة وقلدوه إمارة ذلك.

وفيها في أوايل شهر جمادى الأول وقعت حادثة في طايفة المغاربة المجاورين بالجامع الأزهر، وذلك أنه آل إليهم مكان موقوف، وجحد واضع اليد ذلك والتجا إلى بعض الأمرا وكتبوا فتوى في شأن ذلك، واختلفوا في ثبوت الوقف بالإشاعة، ثم أقاموا الدعوى في المحكمة وثبت الحق للمغاربة، ووقع بينهم منازعات، وعزلوا شيخهم، وولوا آخر، وكان المندفع في الخصومة واللسانة شيخًا منهم يسمى الشيخ عباس، والأمير الملتجي إليه الخصم يوسف بك، فلما ترافعوا وظهر الحق على خلاف غرض الأمير، حنق لذلك ونسبهم إلى ارتكاب الباطل، فأرسل من طرفه من يقبض على الشيخ عباس المذكور من بين المجاورين، فطردوا المعينين وشتموهم وأخبروا الشيخ أحمد الدردير، فكتب مراسلة إلى يوسف بك تتضمن عدم تعرضه لأهل العلم، ومعاندة الحكم الشرعي، وأرسلها صحبة الشيخ عبد الرحمن الفرنوي وآخر. فعندما وصلوا إليه وأعطوه التذكرة، نهرهم وأمر بالقبض عليهم وسجنهم بالحبس، ووصل الخبر إلى الشيخ الدردير وأهل الجامع فاجتمعوا في صبحها، وأبطلوا الدروس والآذان والصلوت وقفلوا أبواب الجامع وجلس المشايخ بالقبلة القديمة، وطلع الصغار على المنارات يكثرون الصياح والدعاء على الأمرا، وأغلق أهل الأسواق القريبة الحوانيت وبلغ الأمرا ذلك فأرسلوا إلى يوسف بك فأطلق المسجونين، وأرسل إبراهيم بك من طرفه إبراهيم أغا بيت المال فلم يأخذ جوابًا، وحضر الأغا إلى الغورية ونزل هناك ونادى بالأمان وأمر بفتح الحوانيت، فبلغ مجاوري المغاربة ذلك، فذهب إليه طايفة منهم وتبعهم بعض العوام وبأيديهم العصي والمساوق، وضربوا أتباع الأغا ورجموه بالأحجار، فركب عليهم وأشهر فيهم السلاح هو ومماليكه، فقتل من مجاوري المغاربة ثلاثة أنفار وانجرح منهم كذلك ومن العامة، وذهب الأغا ورجع الفريق الآخر، وبقي الهرج إلى ثاني يوم، فحضروا إسماعيل بك والشيخ السادات وعلي أغا كتخدا الجاويشية وحسن أغا أغات المتفرقة والترجمان وحسن أفندي كاتب حواله وغيرهم، فنزلوا الأشرفية وأرسلوا إلى أهل الجامع تذكرة بانفضاض الجمع وتمام المطلوب، وكان ذلك عند الغروب فلم يرضوا بمجرد الوعد وطلبوا الجامكية والجراية فركبوا ورجعوا، وأصبح يوم الأربعا والحال على ما هو عليه وإسماعيل بك مظهر الاهتمام لنصرة أهل الأزهر فحضر مع الشيخ السادات، وجلسوا بالجامع المؤيدي وأرسلوا للمشايخ تذكرة صحبة الشيخ إبراهيم السندوبى ملخصها أن إسماعيل بك تكفل بقضا أشغال المشايخ وقضا حوايجهم وقبول، فتواهم وصرف جماكيهم وجراياتهم وذلك بضمان الشيخ السادات له، فلما حضر الشيخ إبراهيم بالتذكرة وقرأها الشيخ عبد الرحمن العريشي جهارًا وهو قايم على أقدامه، فلما سمعوها أكثروا من الهرج واللغط وقالوا: هذا كلام لا أصل له وترددت الإرساليات والذهاب والمجي بطول النهار، ثم اصطلحوا وفتحوا الجامع في آخر النهار، وأرسلوا لهم في يوم الخميس جانبًا من دراهم الجامكية ومن جملة ما اشترطوه في الصلح عدم مرور الأغا والوالي والمحتسب من حارة الأزهر وغير ذلك شروط لم ينفذ منها شي، وعمل إبراهيم بك ناظرًا على الجامع عوضًا عن الأغا وأرسل من طرفه جنديًّا للمطبخ وسكن الاضطراب، وبعد مضي أربعة أيام من هذه الحادثة مر الأغا وبعده الوالي كذلك، فأرسل المشايخ إلى إبراهيم بك يخبرونه فقال: إن الطريق يمر بها البر والفاجر ولا يستغني الحكام عن المرور.

وفي أوايله أيضًا أحضر مراد بك شخصًا يقال له: سليمان كاشف من أتباع يوسف بك، وضربه علقة بالنبابيت لسبب من الأسباب فحقدها عليه يوسف بك واستوحش من طرفه.

وفي ثاني عشر جمادي الثانية قبض الأغا على إنسان شريف من أولاد البلد يسمى حسن المدابغي وضربه حتى مات، وسبب ذلك أنه كان في جملة من خرج على الأغا بالغورية يوم فتنة الجامع، وكان إنسانًا لا بأس به.

وفي ليلة الجمعة رابع عشر جمادى الثانية خرج إسماعيل بك جهة العادلية مغضبًا، وسبب ذلك أن مراد بك زاد في العسف والتعدي خصوصًا في طرف إسماعيل بك وإبراهيم بك يسعى بينهما في الصلح، واجتمعوا في آخر مجلس عند إبراهيم بك فتكلم إسماعيل بك كلامًا مفحمًا، وقال: أنا تارك لكم مصر وإمارتها وجاعلكم مثل أولادي ولا أريد إلا المعيشة وراحة السر وأنتم لا تراعون لي حقًّا وأمثال ذلك من الكلام، فحضر في هذه الأيام إلى إسماعيل بك مركب غلال، فأرسل مراد بك وأخذ ما فيها، وعلم أن إسماعيل بك يغتاظ لذلك، ثم اتفق مع بعض أغراضه أنهم يركبون من الغد إلى إسماعيل بك، ويدخلون عليه في بيته ويقتلونه، فعلم إسماعيل بك بذلك، فركب في الصباح وخرج إلى العادلية بعد أن عزل بيته وحريمه ليلًا، وجلس بالأشبكية وركب مراد بك ذاهبًا إلى إسماعيل بك فوجده قد خرج إلى الأشبكية، وكان إبراهيم بك طلع إلى قصر العيني، فذهب إلى مراد بك ولما أشيع خروج إسماعيل بك ركب يوسف بك وخرج إليه، وتبعه محمد بك طبل وحسن بك وإبراهيم بك طنان وذو الفقار بك وغيرهم، ووصل الخبر إلى إبراهيم بك ومراد بك ومن انضم إليهم، فركبوا وحضروا إلى القلعة وملكوا الأبواب وامتلأت الرميلة والميدان بعساكرهم، وصحبتهم أحمد بك الكلارجي ولاجين بك وأيوب بك ومصطفى بك، واضطربت المدينة وأغلق الناس الدكاكين، واستمروا على ذلك يوم السبت ويوم الأحد ويوم الإثنين ويوم الثلاثا، وتسحب من أهل القلعة جماعة خرجوا إلى إسماعيل بك ويوسف بك ومن معهما وهم إسماعيل أغا أخو علي بك الغزاوي وأخو سليم أغا وعبد الرحمن أغا أغات الينكجرية سابقًا، فأرسل أهل القلعة إبراهيم أغا الوالي فجلس بباب النصر، وأغلق الباب ونزل الباشا إلى باب العزب، فحضر قاسم كتخدا عزبان أمين البحرين وعبد الرحمن أغا وصحبتهم جماعة إلى باب النصر، وفتحوا الباب وطردوا الوالي، وذلك في يوم الإثنين، وملكوا باب النصر، فأرسلوا إليهم طايفة من عسكر المغاربة، فضربوا عليهم بالرصاص وحمل عليهم الآخرون فشتموهم ورجعوا إلى خلف، وقتل من المغاربة أنفار وانجرح منهم كذلك وانتشر البرانيون حوالي جهات مصر وذهب منهم طايفة إلى جهة بولاق، وفيهم محمد بك طبل فوجدوا طايفة من الكشاف والأجناد حضروا إلى بولاق لأجل العليق والتبن، فوقعت بينهم وقعة فانهزموا إلى قصر عبد الرحمن كتخدا، وأخذ أوليك العليق والتبن وطلع منهم طايفة إلى الجبل، واشتد الحال وعظمت الفتنة، فأراد الباشا إجراء الصلح فأرسل أيوب أغا ورجع بجواب عدم رضاهم بالصلح، وقالوا: «قد تخاصمنا واصطلحنا مرارًا»، ثم أرسل إليهم أحمد جاويش المجنون فذهب ولم يرجع والتف عليهم، فأرسل الباشا ولده وكتخداه سعيد بك مرارًا ثم دخل يوم الأربعا عبد الرحمن أغا من باب النصر، وشق من وسط المدينة وأمامه المنادي ينادي على الناس برفع بضايعهم من الحوانيت، فرفع الناس بواقي بضايعهم من الدكاكين، ولم يزل سايرًا حتى وصل إلى باب زويلة ونزل بجامع المؤيد، وجلس به مقدار ساعتين ورتب عسكرًا هناك على السقايف والأسبلة، ثم ركب راجعًا وعاد صحبته إبراهيم بك الطناني، ومعهم عدة أجناد عساكر وخرجوا من باب زويلة إلى الدرب الأحمر إلى جامع المرداني، فجلسوا عنده إلى بعد الظهر ثم زحفوا إلى التبانة إلى قرب المحجر، وعملوا هناك متاريس ورتبوا بها جماعة، وكذلك ناحية سويقة العزى فنزل إليهم جماعة من القلعة وتراموا بالرصاص، وقطعوا الطرق على من بالقلعة إلى بعد العصر، فنزل إليهم خيالة مدرعين فحمل عليهم عسكر المغاربة فوقع منهم أربعة خيالة، وانجرح لاجين بك فحملوه إلى بيته في شنف، وقتل أنفار من عسكر المغاربة وولى القلعاوية إلى جهة القلعة، وبعد الغروب انفصل عنهم عسكر المغاربة، ونكسوا أعلامهم وحضروا عند أجناسهم، والتفوا عليهم ولاحت لوايح الخذلان على من بالقلعة، ودخل عليهم الليل وانكف الفريقان، وأصبح يوم الخميس فدخل الكثير من البرانيين إلى المدينة شيًّا فشيًّا وربطوا في جميع الجهات حتى انحصروا بالقلعة، وأخذوا ينقبون عليهم فلما شاهدوا الغلب فيهم نزلوا من باب الميدان، وذهبوا جهة البساتين إلى الصعيد فتخلف عنهم أحمد بك الكلارجي وأيوب بك وإبراهيم بك أوده باشه ولاجين بك مجروح، وخرج المتخلفون إلى إسماعيل بك ويوسف بك، وطلبوا منهما الآمان وانضموا إليهم، وعندما أشيع نزول إبراهيم بك ومراد بك من القلعة، هجم المرابطون بالمحجر وسوق السلاح على الرميلة، ونهبوا خيامهم وعازقهم الذي بها وبالميدان حتى جمال الباشا وخيول الدلاة، وذلك يوم الخميس قبل العصر بنصف ساعة، فدخل إسماعيل بك بعد العصر من ذلك اليوم من باب النصر وتوجهوا إلى بيوتهم، وأصبح يوم الجمعة فشق عبد الرحمن أغا ونادى بالأمان والبيع والشراء وراق الحال.

ولما كان يوم الأحد ثاني عشرين جمادى الثانية طلعوا إلى الديوان، فخلع الباشا على إسماعيل بك خلعتي سمور، واستقر إسماعيل بك شيخ البلاد ومدبر الدولة، وقلدوا حسن بك الجداوي صنجقًا كما كان، وكانت الصنجقية مرفوعة عنه من موت سيده علي بك، وكذلك رضوان بك قرابة علي بك قلدوه صنجقية وقلدوا إسماعيل أغا أخًا علي بك الغزاوي صنجقية أيضًا، وسكن بيت إبراهيم بك الكبير وقلدوا سليمان كاشف من أتباع يوسف بك، وهو الذي كان ضربه علقة مراد بك بالنبوت كما تقدم صنجقية ولقبه الناس أبا نبوت، وقلدوا أيضًا سليم كاشف من أتباع إسماعيل بك صنجقية، وقلدوا عبد الرحمن أغا أغوية مستحفظان كما كان، ومحمد كاشف والي الشرطة، وفي عشية ذلك اليوم أنزلوا سليمان أغا مستحفظان إلى بولاق وأنزلوه في مركب منفيًّا إلى دمياط بعدما صودر في نحو أربعين ألف ريال.

وفي يوم الثلاثاء خامس عشرينه أنزلوا أيضًا سليمان كتخدا مستحفظان وعثمان كتخدا باش اختيار مستحفظان المعروف بأبي مساوق، والأمير عبد الله أغا وأنزلوهم إلى المراكب، ثم حصل عنهم العفو فردوهم إلى بيوتهم.

وفي ذلك اليوم طلعوا إلى الديوان فقلدوا ذا الفقار يك دفتردار عوضًا عن رضوان بك بلفيا، وذلك بإشارة يوسف بك لكونه كان مع مراد بك وإبراهيم بك، حتى إنه أراد أن يسلب نعمته، فمنعه عنه إسماعيل بك.

وفي يوم الأربعاء ثاني شهر رجب حضر عند يوسف بك حسن بك الجداوي وصحبته إسماعيل بك الصغير وهو أخو علي بك الغزاوي وسليم بك الإسماعيلي وعبد الرحمن بك العلوي، فجلسوا معه ساعة لطيفة بالمقعد المطل على البركة، فجلس حسن بيك أمامه وكان جالسًا على الدكة المرتفعة عن المرتبة وجلس تحت شماله على المرتبة إسماعيل بك الصغير وسليم بك، وعبد الرحمن بك استمر واقفًا حادثوه في شيء وتناجوا مع بعضهم، وتأخر عنهم الواقفون من المماليك والأجناد فسحب عبد الرحمن بك النمشاة، وضرب بها يوسف بك فأراد أن يهم قائمًا، فداس على ملوطة إسماعيل بك فوقع على ظهره، فنزلوا عليه بالسيوف وضربوا في وجوه الواقفين طلق بارود فهربوا إلى خلف، ونزل الضاربون من القيطون، وركبوا وذهبوا إلى إسماعيل بك فركب في تلك الساعة وطلع إلى القلعة، وأرسل إسماعيل كتخدا عزبان إلى الباشا وكان بقصر العيني بقصد التنزه، فركب من هناك وطلع إلى القلعة وجلس بباب العزب صحبة إسماعيل بك، فلما بلغ الأمر الذين هم خشداشين يوسف بك فركبوا وخرجوا من المدينة وذهبوا قبلي، وهم: أحمد بك الكلارجي وذو الفقار بك ورضوان بك الجرجاوي، فركب خلفهم طايفة فلم يدركوهم، وأرسلوا إلى محمد بك طبل فكرنك في بيته ونصب له مدافع وأبى من الخروج؛ لأنه صار من المذبذبين، فلما وقع منه ذلك ذهب إليه حسن بك سوق السلاح، وأخذه بالأمان إلى إسماعيل بك بعد ما نزل إلى بيته، فأمره أن يأخذه عنده فلما أصبح أستأذنه في زيارة الإمام الشافعي، فأذن له فركب إلى جهة القرافة وذهب إلى جهة الصعيد وانقضت الفتنة، ودفن يوسف بك.

وفي يوم الخميس، طلعوا إلى الديوان فخلع الباشا على إسماعيل بك الكبير فروة سمور، وأقره على مشيخة البلد وقلدوا حسن بك قصبة رضوان إمارة الحج عوضًا عن يوسف بك، وقلدوا عبد الرحمن العلوي صنجقًا كما كان وقلدوا إبراهيم أغا خازندار إسماعيل بك الذي زوجه ابنته صنجقية، وتلقب بإبراهيم بك قشطة وسكن ببيت محمد بك وقلدوا حسين أغا خازندار إسماعيل بك سابقًا صنجقية أيضًا، وسكن ببيت أحمد بيك الكلارجي وقلدوا كاشفين أيضًا لإسماعيل بك يسمى كل واحد منهما بعثمان صنجقين، وسكن أحدهما ببيت مصطفى بك الذي كان سكن محمد بك طبل وهو على بركة الفيل، حيث جامع أزبك اليوسفي وهو الذي يسمى بعثمان بك طبل وعثمان الثاني وهو الذي لقب بقفا التور، وسكن ببيت ذي الفقار المقابل لبيت بلفيا، وقلدوا علي أغا جوخدار إسماعيل بك صنجقية أيضًا، وسكن ببيت مراد بك عند الكبش وهو بيت صالح بك الكبير، وكان يسكنه سليمان بك أبو نبوت اليوسفي، وأما بيت يوسف بك فسكن به سليم بك وقلدوا يوسف أغا من أتباع إسماعيل بك واليًا، ونفوا أيوب بك وسليمان بك إلى المنصورة.

وفي صبحها يوم الجمعة رابع شهر الفرد الموافق لرابع مسرى القبطي، نودي بوفاء النيل ونزل الباشا صبح يوم السبت، وكسر السد على العادة وجرى الماء في الخليج وعاد الباشا إلى القلعة.

وفي سابعة اتفقوا على إرسال تجريدة إلى الصعيد وسر عسكرها إسماعيل بك الصغير، وعينوا للتوجه صحبته حسن بك الجداوي وإبراهيم بك الطناني وسليم بك الطناني وسليم بك الإسماعيلى وإبراهيم بك أوده باشا وحسن بك الشرقاوي المعروف بسوق السلاح، وقاسم كتخدا عزبان وعلي أغا المعمار وكان غايبًا بالمنية فلما قبل ذهبوا للوجه القبلي، فتخلص وترك أحواله وغلاله وحضر إلى مصر وصحبته طايفة من الهوارة والعربان، فلما حضر أرادوا أن يقلدوه صنجقية فامتنع من ذلك، وشرعوا في تشهيل التجريدة وطلبوا طلبًا عظيمًا، وصرف الباشا ألف كيس من الخزينة لنفقة العسكر، وخلعوا على الهوارة ومشايخ العربان ووعدوهم بالخير.

وفيه جاءت الأخبار بأن علي بك السروجي ساق خلف محمد بك طبل، فلحقه عند مكان تجاه البدرشين واحتاط به العربان، وقتلوا مماليكه وشرد من نجا منهم، وتفرق ونهبوا ما معه وعروه وسلموه لكاشف هناك من أتباع إسماعيل بك، فوقع في عرضه وعرض مشايخ البلد فألبسوه حوايج، وهربوه وصحبته اثنان من الأجناد، فلما حضر علي بك السروجي أخبره العرب بما حصل، فأخذ ذلك الكاشف وحضر صحبته إلى إسماعيل بك فضرب الكاشف علقة ونفاه.

وفيه ورد الخبر أيضًا عن ذي الفقار بك بأن العرب عروه أيضًا، فهرب فلحقوه وأرادوا قتله فألقى نفسه في البحر بفرسه وغرق ومات.

وفي يوم الإثنين رابع عشر رجب برزت عساكر التجريدة إلى جهة البساتين وفي يوم الخميس خرج أيضًا غالب الأمراء وبرزوا خيامهم.

وفي يوم الجمعة ثامن عشر رجب سافرت التجريدة برًّا وبحرًا، وفي يوم السبت سادس عشرين رجب وصلت الأخبار بأن التجريدة تلاقت مع الأمرا القبالي، ووقع بينهم معركة قوية، فكانت الهزيمة على التجريدة، فلما وصلت هذه الأخبار اضطرب إسماعيل بك وتخبل غزله وكذلك أمراؤه، ودخل الأجناد مشتتين مهزومين وكانت الوقعة يوم الجمعة في بياضة من أعمال الشرق شرق النيل، فكبسوهم على حين غفلة وقت الفجر، فركب علي أغا المعمار وقاسم كتخدا عزبان وإبراهيم بك طنان فحاربوا جهدهم، فأصيب علي أغا وقاسم كتخدا ووقعت خيولهما، وذلك بعد أن ساق علي أغا وصحبته رضوان أغا طنان وقصد مراد بك وضربه رضوان في وجهه بالسيف، فلحقه خليل بك كوسه الإبراهيمي وضرب علي أغا بالقرابينة فأصابته في عنقه ووقع فرسه وسقط ميتًا، فلما قتل هذان الأميران ولى إبراهيم بك طنان، فانهزم بقية الأمرا؛ لأنه لم يكن فيهم أشجع من هولا الثلاثة، وباقيهم ليس له دربه في الحرب وسر عسكر مقصوب ومريض. واحتاط الأمراء القبليون بخيامهم وحملاتهم ومراكبم بما فيها، وكانت نيفًا وخمسماية مركب، وكان كبير العسكر في قنجة صغيرة، فلما عاين الكسرة أسرع في الانحدار، وكذلك بعض الأمرا انحدروا معه وباقيهم وصلوا البر على هئية شنيعة، وكان إسماعيل بك بمصر القديمة ينتظر أمرا التجريدة، فلما حصل ذلك نزل الباشا في يوم الأحد وخرج إلى الأثار، وجلس مع الصنجق ونادوا بالنفير العام، فخرج القاضي والمشايخ والتجار وأرباب الصنايع والمغاربة وأهل الحارات والعصب وغلقت الأسواق، وخرج الناس في يوم الإثنين حتى ملوا الفضا، فلما عاين ذلك إسماعيل بك وعلم أنهم يحتاجون إلى مصروف ومأكل وأكثرهم فقرا، وذلك غاية لا تدرك، فأشار على تجار المغاربة والألضاشات بالمكث، ورجع بقية العامة وأرباب الحرف ومشايخ الأشاير والفقرا من أهل الزوايا والبيوت، ووصل القبليون إلى حلوان وطمعوا في أخذ مصر بعد الكسرة قبل الاستعداد ثانيًا. وفي يوم الإثنين أرسل إسماعيل بك عدة من الأجناد وأصحبهم عسكر المغاربة ومعهم الجبخانة والمدافع، فنصبوا المتاريس ما بين التبين وحلوان تجاه الأخصام، وركب في ليلتها إسماعيل بك وأمراؤه وأجناده، وأحضر الباشا قليون رومي من دمياط وريسه يسمى حسن الغاوي مشهور بمعرفة الحرب في البحر، يشتمل ذلك القليون على خمسة وعشرين مدافعًا فأقلع به ليلًا تجاه العسكر وارتفع حتى تجاوز مراكبهم، وضرب بالمدافع على وطاقهم في البر وعلى مراكبهم في البحر وساق جميع المراكب بما فيها، ووقع المصاف واشتد الجلاد بين الفريقين فكان بينهم وقعة قوية وقتل فيها من أوليك رضوان بك الجرجاوي وخليل بك كوسة الإبراهيمي وخازنداره وكشاف وأجناد، ووقعت على القبالي الهزيمة، ولم يظهر مراد بك في هذه المعركة بسبب جراحته، ثم هجموا على وطاقهم وخيامهم ونهبوها. ونزل محمد بك طبل بفرسه إلى البحر وغرق ومات ورجع إبراهيم بك ومراد بك وهو مجروح ومصطفى بك وأحمد بك الكلارجي وأتباعهم، وذهبوا إلى قبلي وساقوا خلفهم فلم يدركوهم ودخل إسماعيل بك والأمراء والأجناد والعسكر إلى مصر منصورين مؤيدين، وكانت هذه النصرة بخلاف المظنون، وكان رجوعهم يوم الأربعاء غرة شهر شعبان.

وفي ليلة السبت رابع شعبان حضر كاشف وصحبته جملة من المماليك، وكان هذا الكاشف مأسورًا عند القبالي فلما انهزموا أذنوا له بارجوع إلى بيته، وانضم إليه عدة مماليك ماتت أسيادهم فلما حضروا عند إسماعيل بك فرقهم على الأمرا.

وفي سابعه أحضروا رمة علي أغا المعمار إلى بيته فغسلوه وكفنوه، وصلوا عليه في مشهد حافل ودفنوه بالقرافة. وفيه تقلد حسن بك الجداوي ولاية جرجا، وجاءت الأخبار بأن القلبين استقروا بشرق أولاد يحيى.

وفي آخر شعبان سافر حسن بك الجداوي إلى جرجا وصحبته كشاف الولايات وحكام الأقاليم، فضج لنزولهم ساحل البحر بسبب أخذهم المراكب.

وفي منتصف شهر رمضان ولدت امرأة مولودًا يشبه خلقة الفيل مثل وجهه وآذانه، وله نابان خارجان من فمه، وأبوه رجل جمال وامرأته لما رأت الفيل وكانت في أشهر وحامها، فنقلت شبهه في ولدها وأخذه الناس يتفرجون عليه في البيوت والأزقة.

وفي يوم الجمعة تاسع عشرين شهر رمضان ركب أمرا إسماعيل بك وصناجقه وعساكره في آخر الليل، واحتاطوا ببيت إسماعيل بك الصغير أخي علي بك الغزاوي، فركب في مماليكه وخاصته وخرج من البيت، فوجدوا الطرق كلها مسدودة بالعسكر والأجناد، فدخل من عطفة الفرن يريد الفرار، وخرج على جهة قنطرة عمر شاه فوجد العسكر والأجناد أمامه وخلفه، فصار يقاتلهم ويتخلص منهم من عطفة إلى عطفة حتى وصل إلى عطفة البيدق، وأصيب بسيف على عاتقه وسقطت عمامته، وصار مكشوف الرأس إلى أن وصل إلى تجاه درب عبد الحق بالأزبكية، فلاقاه عثمان بك أحد صناجق إسماعيل بك فرده وسقط فرسه، واحتاطوا به فنزل على دكان في أسوأ حال مكشوف الرأس والدم خارج من كركه، فعصبوا رأسه بعمامة رجل جمال وأخذه عثمان بك بيته، وتركه وذهب إلى سيده فأخبره فخلع عليه فروة وفرسًا مرختًا، وأرسلوا إليه الوالي فخنقه ووضعوه في تابوت وأرسلوه إلى بيته الصغير فبات به ميتًا وأخرجوه في صبحها في مشهد ودفنوه، وكان إسماعيل بك قد استوحش منه وظهر عليه في أحكامه وأوامره، وكلما أبرم شيًّا عارضه فيه وازدحم الناس على بيته وأقبلت إليه أرباب الخصومات والدعاوى وصار له عزوة كبيرة وأنضم إليه كشاف واختيارية، وحدثته نفسه بالانفراد وتخيل منه إسماعيل بك فتركه وما يفعله، وأظهر أنه مرمود في عينيه وانقطع بالحريم من أول شهر رمضان، ثم سافر في أواخره في النيل لزيارة سيدي أحمد البدوي ثم رجع وبيت مع اتباعه ومن يثق به، وقاموا عليه وقتلوه كما ذكر، ولما انقضى أمره شرع إسماعيل بك في إبعاد ونفي من كان يلوذ به وينتمي إليه، فأنزلوا إبراهيم بك بلفيا ومحمد أغا الترجمان وعلي كتخدا الفلاح وبعض كشاف إلى بولاق، وأراد قتل أخيه سليم أغا المعروف بتمرلنك فافتدى نفسه بثلاثين ألف ريال، ثم نفوه ثالث شوال، ونفي إبراهيم بك بلفيا إلى المحلة، وفي تلك الأيام قرر إسماعيل بك على كل بلد من القرى ثلثماية ريال، وهي أول سيئاته.

وفي يوم الأحد ثاني عشرين شوال عملوا موكب المحمل وأمير الحاج حسن بك رضوان، وفي يوم الخميس رابع ذي القعدة تقلد عبد الرحمن بك عثمان صنقية، وكانت مرفوعة عنه وكذلك علي بك، وفي يوم الإثنين ثامنه سافرت تجريدة لجهة الصعيد للأمراء القبالي؛ لأنهم تقووا واستواوا على البلاد، وقبضوا الخراج وملكوا من جرجا إلى فوق وحسن بك أمير الصعيد مقيم، وليس فيه قدرة على مقاومتهم، ومنعوا ورود الغلال حتى غلا سعرها، فعينوا لهم التجريدة وسر عسكرها رضوان بك وعلي بك الجوخدار وسليم بك وإبراهيم بك طنان وحسن سوق السلاح.

وفي يوم الأحد حادي عشرين القعدة خرج إسماعيل بك إلى ناحية دير الطين، وعزم على التوجه إلى قبلي بنفسه، وأرسل الباشا فرمانات لساير الأمرا والوجاقلية وأمرهم جميعًا بالسفر فخرجوا جميعًا ونصبوا وطاقاتهم عند المعادي، ونزل الباشا وجلس بقصر العيني وطلبوا طلبًا عظيمًا.

وفي يوم الجمعة عدى إسماعيل بك إلى البر الثاني وترك بمصر عبد الرحمن أغا مستحفظان كتخدا ورضوان بك بلفيا وعثمان بك طبل وإبراهيم بك قشطة صهره وحسين بك ومقادم الأبواب لحفظ البلد، فكان المقادم يدورون بالطوف العسكر في الجهات ليلًا ونهارًا مع هدو سر الناس، وسكون الحال في مدة غياب الجميع.

وفي سادس شهر الحجة وصلت مكاتبات من إسماعيل بك ومن الأمرا الذين بصحبته بأنهم وصلوا إلى المنية، فلم يجدوا بها أحد من القبليين وأنهم في أسيوط، ومعهم إسماعيل أبو علي من كبار الهوارة.

وفي سابع عشره حضر الوجاقلية الذين كانوا بالتجريدة وحضر أيضًا أيوب أغا كان عند القبالي فحضر إلى عند إسماعيل بك بأمان، وأستأذنه في التوجه إلى بيته ليرى عياله، فأذن له وأرسله صحبة الوجاقلية.

وسبب رجوع الوجاقلية لما رأى إسماعيل بك بعد الأمراء وأراد أن يذهب خلفهم، فأمرهم بالرجوع للتخفيف وانقضت هذه السنة.

ذكر من مات في هذه السنة

ومات الشريف الصالح المرشد الواصل السيد/محمد هاشم الأسيوطي، ولد بأسيوط وبيتهم يعرف ببيت فاضل، نشأ ببلده على قدم الخير والصلاح، وحضر دروس الشيخ حسن الجديري ثم ورد إلى مصر فحضر دروس كل من الشيخ محمد البليدي والشيخ محمد الشماوي والشيخ عطية الأجهوري وأخذ الطريق علي الشيخ عبد الوهاب العفيفي، وكان منقطعًا للعبادة متقشفًا متواضعًا، وكان غالب جلوسه بالأشرفية ومسجد الشيخ مطهر، وكان لا يزاحم الناس ولا يداخلهم في أحوال دنياهم، ولهم فيه اعتقاد عظيم ويذهبون لزيارته ويقتبسون من إشارته واستخارته، ويتبركون بإجازته في الأوراد والأسماء، ويسافر لزيارة سيدي أحمد البدوي ثم يعود إلى خلوته، وربما مكث عند بعض أصدقائه أيامًا بقصد البعد عن الناس وعندما يعلمون استقراره بالخلوة، ويزدحمون على زيارته، وكان نعم الرجل سمتًا وورعًا، توفي في سابع شعبان في بيته بالأزبكية، وصلوا عليه بالأزهر ودفن بالمجاورين، رحمه الله.

ومات الشيخ الإمام الأديب الفاضل أحد العلما الأعلام الشيخ محمد بن إبراهيم العوفي المالكي، لازم الشمس الحفني وأخاه الشيخ يوسف، وحضر دروس الشيخ علي العدوي والشيخ عيسى البراوي، وأفتى ودرس، وكان شافعى المذهب، فسعى فيه جماعة عند الشيخ الحفني، فأحضره وأثبت عليه بخطه ما نقل عنه فتوعده، فلحق بالشيخ علي العدوي وانتقل لمذهب مالك، وكان رحمه الله عالمًا محصلًا بحاثًا متفننًا غير عشر البديهة، شاعرًا ماجنًا خليعًا، ومع ذلك كان حلقة درسه تزيد على الثلاثماية في الأزهر، مات رحمه الله مفلوجًا، وحين أصابه المرض رجع إلى مذهب الشافعي وقرأ ابن قاسم بمسجد قريب من منزله، ويحمله الطلبة إلى المسجد فيقرأ وهو يتعلثم لتعقد لسانه بالفالج مع ما كان فيه من الفصاحة أولًا، ثم برى يسيرًا، ولم يلبث أن عاوده المرض وتوفي إلى رحمة الله تعالى.

ومات الأديب الماهر الشيخ/رمضان بن محمد المنصوري الأحمدى الشهير بالحمامي سبط آل الباز، ولد بالمنصورة، وقرأ المتون على مشايخ بلده، وانزوى إلى شيخ الأدب محمد المنصوري الشاعر فرقاه في الشعر وهذبه وبه تخرج، وورد إلى مصر مرارًا، وسمعنا من قصايده وكلامه الكثير، وله قصايد سنية في المدايح الأحمدية تنشد في الجموع، وبينه وبين الأديب قاسم عبد القادر المدني محاورات ومداعبات، وأخبر أنه ورد الحرمين من مدة، ومدح كلًّا من الشريف والوزير وأكابر الأعيان بقصايد طنانة، كان ينشد منها جملة مستكثرة مما يدل على سعة باعه في الفصاحة، ولم يزل فقيرًا مملقًا يشكو الزمان وأهليه ويذم جنى بنيه، وبآخرة تزوج امرأة موسرة بمصر، وتوجه بها إلى مكة فأتاه الحمام وهو في ثغر جدة في سنة تاريخه، ومن آثاره تعجيز وتصدير البيتين المشهورين وهما:

إن ألطاف إلهي
عند كربي المتناهي
هي كانت نعم جاهي
وإذا ما صرت ساهي
لي قالت خل عنكما
لا تدبر لك أمرًا
تلق بعد العسر يسرا
وارقب الألطاف صبرًا
حيث قالت لك حهرا
أنا أولى بك منكا

ومن ذلك قوله مشطرًا تعجيز أحمد بن أبي بكر بن نظام تصدير بدر خوج بيتي ابن مكانس وهما:

فتنت به حلو الشمايل أهيف
تغار غصون البان منه إذا مشى
يعذبني والغير يحظى بوصله
وذلك فضل الله يؤتيه من يشا

•••

(فتنت به حلو الشمايل أهيف)
مرير الجفا بالسحر عينيه قد حشا
هلال تبدى في سماء كماله
له مسكن في وسط قلبي والحشا
فطلعته يسبي القلوب جمالها
وناظره بالفتك فينا تحرشا
بروحي محياه الجميل إخاله
كشمس الضحى نورًا لقلبي أدهشا
مليح التثني لست ألقى نظيره
وهل توجود العنقاء في مصر أو بشا
قليل الوفا لم أستطع كتم حبه
كثير التجني فيه حبي قد فشا
جميل وترى بالظبي لفتاته
فيها خجلة الأقمار يوكسها الرشا
تغيب بدور التم منه إذا بدا
(تغار غصون البان منه إذا مشى)
(ويعذبني والغير يحظى بوصله)
فيا شقوتي في الحب يا سعد من وشا
فيا عصبة العذال كفوا ملاكم
ففكري لغير الحب فيه تشوشا
أبيت سمير النجم أرجو خياله
يعود فما أحلاه أن مر أو مشى
فما زال طرفي شيقًا لجماله
وما زال قلبي للقا متعطشا
متى قاتني بالوصل يبعد حرقتى
ويرشفني من ريقه العذب منعشا
فها مقلتي الرصداء ترقب قربه
فللعين وصل الحب نور من العشا
فما الوصل إلا نعمة وتفضل
يفوز به القاصي ويحرم من يشا
ولا عيبة في قرب هذا وبعد ذا
(وذاك فضل الله يؤتيه من يشا)

(ومات) الأمير يوسف بك الكبير وهو من أمراء محمد بك أبي الدهب أمره في سنة ست وثمانين وزوجه بأخته، وشرع في بنا داره على بركة الفيل داخل درب الحمام تجاه جامع ألماس، وكان يسلك إليها من هذا الدرب من طرق الشيخ ظلام، وكان هذا الدرب كثير العطف ضيق المسالك، فأخذ بيوته بعضها شرا وبعضها غصبًا، وجعلها طريقًا واسعة وعليها بوابة عظيمة، وأراد أن يجعل أمام باب داره رحبة متسعة، فعارضه جامع خير بك حديد فعزم على هدمه ونقله إلى آخر الرحبة، فسأل المرحوم الوالد وكان يعتقد ويجنح إلى قوله فقال له: لا يجوز ذلك فامتثل وتركه على حاله، واستمر يعمر في تلك الدار نحو خمس سنوات، وأخذ بيت الداوودية الذي بجواره وهدمه جمعيه وأدخله فيها، وصرف في تلك الدار أموالًا عظيمة، فكان يبني الجهة منها حتى يتمها بعد تبليطها وترخيمها بالرخام الدقي الخردة المحكم الصنعة والسقوف والأخشاب والرواشن والخرط والأدهان، ثم يوسوس له شيطانه فيهدمها إلى آخرها ويبنيها ثانيًا على وضع آخر، وهكذا كان دأبه، واتفق أنه ورد إليه من بلاده القبلية ثمانون ألف إردب غلال، فوزعها بأسرها على الموانة في ثمن الجبس والجير والأحجار والأخشاب والحديد وغير ذلك، وكان فيه حدة زائدة وتخليط في الأمور والحركات ولا يستقر بالمجلس، بل يقوم ويقعد ويصرخ، ويروق حاله في بعض الأوقات فيظهر فيه بعض إنسانية، ثم يتغير ويتعكر من أدنى شي، ولما مات سيده محمد بك وتولى إمارة الحج أزداد عتوًّا وعسفًا وانحرافًا، خصوصًا مع طايفة الفقها والمتعممين لأمور نقمها عليهم. منها أن شيخًا يسمى الشيخ أحمد صادومة وكان رجلًا مسنًّا ذا شيبة وهيبة وأصله من سمنود واه شهرة عظيمة وباع طويل في الروحانيات وتحريك الجمادات والسيميات، ويكلم الجن ويخاطبهم مشافهة ويظهرهم للعيان، كما أخبرني عنه من شاهده، وللناس اختلاف في شأنه، وكان للشيخ حسن الكفراوي به التئام وعشرة ومحبة أكيدة واعتقاد عظيم ويخبر عنه أنه من الأوليا وأرباب الأحوال والمكاشفات، بل يقول: إنه هو الفرد الجامع، ونوه بشأنه عند الأمرا وخصوصًا محمد بك أبا الدهب فراج حال كل منهما بالآخر، فاتفق أن الأمير المذكور اختلى بمحظيته فرأى على سوتها كتابة، فسألها عن ذلك وتهددها بالقتل فأخبرته أن المرأة الفلانية ذهبت بها إلى هذا الشيخ، هو الذي كتب لها ذلك ليجبها إلى سيدها، فنزل في الحال وأرسل فقبض على الشيخ صادومة المذكور وأمر بقتله وإلقائه في البحر النيل ففعلوا به ذلك، وأرسل إلى داره فاحتاط بما فيها فأخرجوا منها أشياء كثيرة وتماثيل ومنها تمثال من قطيفة على هيئة الذكر فأحضروا له تلك الأشياء، فصار يريها للجالسين عنده والمترددين عليه من الأمرا وغيرهم، ووضع ذلك التمثال بجانبه على الوسادة فيأخذه بيده ويشير لمن يجلس معه ويتعجبون ويضحكون، ويقول: انظروا أفاعيل المشايخ، وعزل الشيخ حسن الكفراوي من إفتا الشافعية ورفع عنه وظيفة المحمدية، وأحضر الشيخ أحمد بن يوسف الخليفي وخلع عليه وألبسه فروة وقرره في ذلك عوضًا عن الشيخ الكفراوي، واتفق أيضًا أن الشيخ عبد الباقي ابن الشيخ عبد الوهاب العفيفي طلق على زوج بنت أخيه في غيابه على يد الشيخ حسن الجداوي المالكي على قاعدة مذهبه، وزوجها من آخر، وحضر زوجها من الفيوم وذهب إلى ذلك الأمير وشكا له الشيخ عبد الباقي، فطلبه فوجده غايبًا في منية عفيف فأرسل إليه أعوانًا أهانوه وقبضوا عليه ووضعوا الحديد في رقبته ورجليه، وأحضروه في صورة منكرة وحبسه في حاصل أرباب الجرايم من الفلاحين، فركب الشيخ علي الصعيدي العدوي والشيخ الجداوي وجماعة كثيرة من المتعممين، وذهبوا إليه وخاطبه الشيخ الصعيدي وقال له: ما هذه الأفعال وهذا التجاري؟ فقال له: أفعالكم يا مشايخ أقبح، فقال له: هذا قول في مذهب المالكية معمول به، فقال: من يقول: إن المرأة تطلق زوجها إذا غاب عنها وعندها ما تنفقه وما تصرفه ووكيله يعطيها ما تطلبه، ثم يأتى من غيبته فيجدها مع غيره؟ فقالوا له: نحن أعلم بالأحكام الشرعية، فقال: لو رأيت الشيخ الذي فسخ النكاح، فقال الشيخ الجداوي: أنا الذي فسخت النكاح على قاعدة مدهبي، فقام على أقدامه وصرح وقال: والله أكسر رأسك، فصرخ عليه الشيخ علي الصعيدي وسبه، وقال له: لعنك الله ولعن اليسرجي الذي جاء بك ومن باعك ومن اشتراك ومن جعلك أميرًا، فتوسط بينهم الحاضرون من الأمرا يسكنون حدته وحدتهم، وأحضروا الشيخ عبد الباقي من الحبس فأخذوه وخرجوا وهم يسبونه وهو يسمعهم. واتفق أيضًا أن الشيخ عبد الرحمن العريشى لما توفي صهره الشيخ أحمد المعروف بالسقط، وجعله القاضي وصيًّا على أولاده وتركته وكان عليه ديون كثيرة أثبتها أربابها بالمحكمة واستوفوها، وأخذ عليهم صكوكًا بذلك، فذهبت زوجة المتوفى إلى يوسف بك بعد ذلك بنحو ست سنوات، وذكرت له أن الشيخ عبد الرحمن انتهب ميراث زوجها وتواطأ مع أرباب الديون وقاسمهم فيما أخذوه، فأحضر الشيخ عبد الرحمن وكان إذ ذاك مفتي الحنفية، وطالبه بإحضار المخلفات أو قيمتها فعرفه أنه وزعها على أرباب الديون وقسم الباقي بين الورثة وانقضى أمرها. وأبرز له الصكوك والحجج ودفتر القسام، فلم يقبل وقال: هذا كله تزوير وفاتحه في عدة مجالس وهو مصر على قوله وطلبه للتركة، ثم أحضره يومًا وحبسه عند الخازندار، فركب شيخ السادات إليه وكلمه في أمره، وطلبه من محبسه فلما علم الشيخ عبد الرحمن حضور شيخ السادات هناك رمى عمامته وفراجته، وتطور وصرخ وخرج يعدو مسرعًا وهو يقول: بيتك خراب يا يوسف بك ونزل إلى الحوش صارخًا بأعلى صوته وهو مكشوف الرأس يقول ذلك وأمثاله، فلما عاينه يوسف بك وهو يفعل ذلك احتد الآخر وكان جالسًا مع شيخ السادات في المقعد المطل على الحوش، فقام على أقدامه وصار يصرخ على خدمه ويقول: أمسكوه اقتلوه ونحو ذلك، وشيخ السادات يقول له: أي شيء هذا الفعل؟ اجلس يا مبارك، وأرسل إليه تابعه الشيخ إبراهيم السندوبي فنزل إليه وألبسه عمامته وفراجته ونزل الشيخ فركب وأخذه صحبته إلى داره، وتلافوا القضية وسكتوها، ثم حصل منه ما حصل في الدعوى المتقدمة وما ترتب عليها من الفتنة وقفل الجامع وقتل الأنفس، وثقل أمره على مراد بك وأضمر له السو، فلما سافر أميرًا بالحج في السنة الماضية قصد مراد بك اغتياله أو نفيه عند رجوعه بالحج، واتفق مع أمرائه وضايع القضية. وسافر إلى جهة الغربية والمنوفية وعسف في البلاد، ويريد أن يجعل عودته على نصف الشهر في أوان رجوع الحج، ووصل الخبر إلى يوسف بك فاستعجل الحضور فصار يجعل كل مرحلتين في مرحلة حتى وصل محترسًا في سابع صفر قبل حضور مراد بك من سرحته، وعندما قرب وصول مراد بك إلى دخول مصر ركب يوسف بك في مماليكه وطوايفه وعدده، وخرج إلى خارج البلد، فسعى إبراهيم بك بينهما وصالحهما، واستمرت بينهما المنافرة القلبية من حينئذ إلى أن حصل ما حصل، وانضم إلى إسماعيل بك ثم قتله إسماعيل بك بيد حسن بيك وإسماعيل بك الصغر كما تقدم.

ومات الأمير/علي أغا المعمار وهو من مماليك مصطفى بك المعروف بالقرد وخشداش صالح بك الكبير، وكان من الأبطال المعروفين والشجعان المعدودين، فلما قتل كبيرهم صالح بك استمر في بلاد قبلي على ما يتعلق به من الالتزام ويدفع ما عليه من المال والغلال إلى أن استوحش محمد بك أبو الدهب من سيده علي بك، وخرج إلى الصعيد وقتل خشداشه أيوب بك، وتحقق الأجانب بذلك صحة العداوة فأقبلوا على محمد بك من كل جانب برجالهم وأموالهم ومنهم علي أغا المذكور، وكان ضخمًا عظيم الخلقة جهوري الصوت شهمًا يصدع بالكلام، فأنس به محمد بك وأكرمه واجتهد هو في نصرته ومنا صحته، وجمع إليه الأمراء والأجناد المنفيين والمطرودين الذين شتتهم علي بك وقتل أسيادهم، وكبار الهوار الذين قهرهم علي بك أيضًا، واستولى على بلادهم مثل أولاد همام وأولاد نصير وأولاد وافي وإسماعيل أبي على وأبي عبد الله وغيرهم، وحضر معه الجميع إلى جهة مصر كما تقدم، ولما وصلوا إلى تجاه التبين وأخرج لهم علي بك التجريدة وأميرها علي بك الطنطاوي، خرج علي أغا هذا إلى الحرب هو ومن معه وبأيديهم مساوق غلاظ قصيرة ولها جلب حديد، وفي طرفها أزيد من قبضة بها مسامير متينة محددة الروس إلى خارج، يضربون بها خوذة الفارس ضربة واحدة فتنخسف في دماغه، وكانت هذه من مبتكرات المترجم، حتى إنه تسمى بأبي الجلب، ولما خلصت إمارة مصر إلى محمد بك جعل كتخداه إسماعيل أغا علي بك الغزاوي المذكور، فنقم عليه أمورًا فأهمله وأحضر علي أغا هذا وخلع عليه وجعله كتخداه، فسار في الناس سيرًا حسنًا ويقضي حوايج الناس من غير تطلع إلى شيء، ويقول الحق ولو على مخدومه، وكان مخدومه أيضًا يحبه، ويرجع إلى رأيه في الأمور لما تحققه فيه من المناصحة وعدم الميل إلى هوى النفس وعرض الدنيا، وكان يحب أهل العلم والفضل والقرآن ويميل بكليتة إليهم مع لين الجانب والتواضع عدم الأنفة، ولما أنشأ محمد بك مدرسته المحمدية تجاه الأزهر وقرر فيها الدروس كان يحضر معنا المترجم على شيخنا الشيخ علي العدوي في صحيح البخاري مع الملازمة، واتخذ لنفسه خلوة بالمدرسة المذكورة يستريح فيها وتأتيه أرباب الحوايج فيقضي لهم أشغالهم، وكان يلم بحضرة الشيخ محمد حفيد الأستاذ الحفني ويحبه، وأخذ عنه طريق السادة الخلوتية وحر دروسه مع المودة وحسن العشرة، ويحضر ختوم دروس المشايخ ويقرأ عشرًا من القرآن بأعلى صوته عند تمام المجلس، ومملوكه حسن أغا الذي زوجه ابنته واشتهر بعده، وحج المترجم في السنة الماضية في هيئة جليلة وآثار جميلة، وتوفي في وقعة بياضة قتيلًا كما تقدم.

(ومات) الأمير/إسماعيل بك الصغير وهو أخو علي بك الغزاوي وهم: خمسة إخوة علي بك وإسماعيل بك هذا وسليم أغا المعروف بتمرلنك وعثمان وأحمد، ولما تأمر علي بك كان إخوته الأربعة بإسلامبول مماليك عند بشير أغا القزلار وأعتقهم وتسامعوا بإمارو أخيهم، فحضر إليه إسماعيل وأحمد وسليم واستمر عثمان بإسلامبول وأقام إسماعيل وسليم وأحمد بمصر، وعمل إسماعيل كتخدا عند أخيه علي بك وعمل سليم خازندار عند إبراهيم كتخدا أيامًا، ثم قامت عليه مماليكه وعزلوه لكونه أجنبيًّا عنهم، وصار لهم إمرة وبيوت والتزام، وتزوج إسماعيل بهانم ابنة رضوان كتخدا الجلفي وهي المسماة بفاطمة هانم، وذلك أن رضوان كتخدا كان عقد لها على مملوكه علي أغا الذي قلده الصنجقية ولم يدخل بها، ولما خرج رضوان كتخدا وخرج معه المذكور فيمن خرج كما تقدم وذهب إلى بغداد أرسل لها يطلبها إليه من مصر، وأرسل مع وكليه عشرة آلاف دينار وأشيا فلم يسلموا في إرسالها، وكتبوا فتوى بفسخ النكاح على قاعدة مذهب مالك وتزوجها إسماعيل أغا هذا، وظهر ذكره بها وسكن بها في دار أبيها العظيمة بالأزبكية، وصار من أرباب الوجاهة، فلما استقل محمد بك أبو الدهب بملك مصر بعد سيده استوزره وجعله كتخداه مدة، وأراد أن يتزوج بالست سلن محظية رضوان كتخدا وكان تزوج بها أخوه علي بك ومات عنها، فصرفه مخدومه محمد بك أبو الدهب وعرفه أنها ربما امتنعت عليه مراعاة لهانم ابنة سيدها، فركب محمد بك وأتى عند علي أغا كتخدا الجويشية المجاور لسكنها بدرب السادات وأرسل إليها علي أغا فلم يمكنها الامتناع، فعقد عليها، وماتت هانم بعد ذلك، وباع بيت الأزبكية لمخدومه محمد بك، وبنى داره المجاورة لبيت الصابونجي وصرف عليها أموالًا كثيرة، وأضاف إليها البيت الذي عند باب الهواء المعروف ببيت المرحوم من الشرايبية وسكنها مدة، وزوجه محمد بك سرية من سرارية أيضًا ثم باع تلك الدار لأيوب بك الكبير وسكنها، ولما سافر محمد بك إلى الشام لمحاربة الظاهر عمر أرسل المترجم من هناك إلى إسلامبول بهدايا وأموال للدولة، ومكاتبات بطلب ولاية مصر والشام، وأجيب إلى ذلك، وكتب له التقليد وأعطوه رقم الوزارة وتم الأمر، وأراد المسير بذلك إلى محمد بك فورد الخبر بموته فبطل ذلك، ورجع المترجم إلى مصر وأقام بها في ثروة إلى أن حصلت الوحشة بين إسماعيل بك ويوسف بك والجماعة المحمدية وكانت الغلبة عليهم، فقلده إسماعيل بك الصنجقية وقدمه في الأمور ونوه بشأنه، وأوهمه أنه يريد تفويض الأمور لما يعلمه فيه من العقل والرياسة فاغتر بذلك، وباشر قتل يوسف بك هو وحسن بك الجداوي كما تقدم، وظن أن الوقت صفا له فاندفع في الرياسة وازدحمت الروس عليه، وأخذ في النقض والإبرام، فعاجله إسماعيل بك وأحاطوا به وقتلوه كما ذكر، وكان ذا دها ومعرفة وفيه صلابة وقوة جنان وحزم مع التواضع وتهذيب الأخلاق، وكان يحب أهل العلم ويكره النصارى كراهة شديدة وتصدى لأذيتهم أيام كتخدائيته لمحمد بك، وكتب في حقهم فتاوي بنقضهم العهد وخروجهم عن طرايقهم التي أخذ عليهم بها من أيام سيدنا عمر رضي الله عنه، ونادى عليهم ومنعهم من ركوب الحمير، ولبسهم الملابس الفاخر وشراهم الجواري والعبيد واستخدامهم المسلمين وتقنع نسايهم بالبراقع البيض ونحو ذلك، وكذلك فعل معهم مثل ذلك عندما تلبس بالصنجقة، وكان له اعتقاد عظيم في الشيخ محمد الجوهري، ويسعى بكليته في قضاء أشغاله وحوايجه، وكان لا بأس به.

(ومات) الأمير/قاسم كتخدا عزبان وكان من مماليك محمد بك أبي الذهب، وتقلد كتخدائية العزب وأمين البحرين، وكان بطلًا شجاعًا موصوفًا، ومال عن خشداشينه كراهة منه لأفعالهم حتى خرج إلى محاربتهم وقتل، غفر الله له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤