حارس الغيطان

(تجربة في الترجمة إلى العامية المصرية)
قرأت رواية سالنجر الشهيرة THE CATCHER IN THE RYE، التي يتحدَّى عنوانها الترجمة الدقيقة، منذ عام ١٩٧٠، وبقيَت في ذاكرتي دائمًا مع الأمل في القيام يومًا بترجمتها إلى العربية، بعد أن أصبحت واحدة من كلاسيكيات الأدب الأمريكي الحديث. وكنت كلما شرعت في ترجمتها، أجدني غير مقتنع بما أكتب؛ حيث إن نبرة اللغة لم تكن متفقة مع روح النص الأثلي الذي أترجم عنه. وظل الأمر كذلك إلى أن طالعتُ كتاب ديفيد لودج عن الفن الروائي، ووجدتُه يصنف تلك الرواية ويعلق عليها تحت بند الرواية الشفاهية التي يقصها الفتية في سن المراهقة. وفي نفس الوقت، وقعت في يدي الترجمة الفرنسية للرواية، وعنوانها بالفرنسية «صياد القلوب»، فإذا بي أجدها وقد نحَّت جانبًا اللغة الأدبية الفرنسية التي نعرفها، وعمد مترجمها إلى لغة الكلام اليومي الدارج، خاصةً تلك التي يستخدمها الشباب الآن، وهي وإن كانت لا تختلف عن الفرنسية الكلاسيكية بنفس القدر التي تختلف به العامية عن العربية الفصحى، فإن الفكرة تظل واحدة. وهكذا أقدمت على ترجمتها إلى العامية، كعمل تجريبي بحت لا يحمل وراءه أي آراء أو معتقدات أدبية معينة، ولا ينطبق إلا على أعمال بعينها، منها هذه الرواية.

وأقدِّم هنا ستة فصول من الرواية كنموذج على هذه التجربة:

١

لو كنت صحيح عاوز تعرف الحكاية كلها، فأول حاجة حتعوز تعرفها المكان اللي أنا أتولدت فيه، وإزاي قضيت فترة طفولتي المهببة، وكان أبويا وأمي بيعملوا إيه قبل ما يخلفوني، وكل الحاجات الهلس دي، من النوع اللي جه في رواية ديفيد كوبرفيلد، لكن، إذا كنت عاوز الحق، أنا مليش نفس أدخل في الموضوعات دي؛ أولًا الحاجات دي بتخليني أزهق، وثانيًا، أبويا وأمي حتجيلهم نقطة لو أنا حكيت أي حاجة شخصية عنهم؛ لأنهم حساسين قوي من أي شيء زي ده، خاصة أبويا، همه ناس كويسين وكل حاجة، وأنا مش قصدي أقول أي حاجة وحشة عنهم، إنما همه حساسين بدرجة رهيبة، وفوق كده، أنا مش ححكي لك سيرة حياتي المهببة أو أي شيء من دا القبيل، لكن حقولَّك بس الحاجات الغريبة اللي حصلت لي قرب الكريسماس اللي فات، قبل ما تتهد الدنيا كلها فوق دماغي، وأضطر إني أدخل هنا عشان أستريح شوية. قصدي أن كل ده هو اللي قلته ﻟ د. ب، اللي هو أخويا وكل حاجة. هوه في هوليوود دلوقتي، وهيه مش بعيدة عن المكان السخيف اللي أنا فيه دلوقتي، وهو بييجي يزورني كل آخر أسبوع تقريبًا، وهو حاياخدني في العربية لما أرجع البيت الشهر اللي جاي يمكن. لسة مشتري عربية جاجوار. حتة إنجليزي صغيرة وكويسة من اللي يقدروا يعملوا حوالي ميتين ميل في الساعة، كلِّفته حوالي أربع تلاف دولار حتة واحدة. هوه عنده فلوس كتير دلوقتي، لكن ماكانش الحال كده الأول. كان زي ما تقول كده كاتب عادي، لما كان معانا في البيت. وبعدين كتب كتاب القصص القصيرة الهايل ده، اللي عنوانه «السمكة الذهبية الخفية»، لو كنت مسمعتش عنه. وأحسن قصة فيه هي «السمكة الذهبية الخفية». وكانت بتدور حوالين الواد الصغير اللي ما كانش بيخلي حد يشوف سمكته الدهب؛ لأنه اشتراها من حر ماله. وده كان بينقطني. ود. ب. دلوقتي سارح في هوليوود، بيبيع نفسه للي يشتري، وأنا لو فيه حاجة بكرهها من جوا قلبي، فهي السينما، إوعى حتى تجيب سيرتها قدامي.

النقطة اللي عاوز أبدأ منها حكايتي هي اليوم اللي سِبت في المدرسة «بنسي»، وبنسي هي المدرسة اللي موجودة في «أجرستاون» في بنسلفانيا. إنت يمكن سمعت عنها، أو يمكن حتى شفت الإعلانات بتاعتها. همه بينشروا إعلانات في ألف مجلة، ودايمًا يصوروا واد جدع له عضلات، راكب حصان وبينط بيه من على السور، كأنما كل حاجة الواحد بيعملها في بنسي هي لعب البولو طول الوقت. دنا حتى عمر ما شفت ريحة حصان واحد في المدرسة كلها أو قريِّب منها. وتحت صورة الواد اللي في الصورة دايمًا يكتبوا: «منذ عام ١٨٨٨، نعمل على خلق شبان رائعين قويمي التفكير.» ضحك على الدقون، الشبان اللي بيخلقوهم في بنسي ما يزيدوش أي حاجة عن الشبان اللي في المدارس التانية. وكما أنا عمري ما شفت في بنسي أن شبان رائعين أو قويمي التفكير، يمكن اتنين بس، لو حتى يوصلوا لكده، والأغلب إن دول لما دخلوا بنسي كانوا كده من الأول.

نهايته، كان يومها يوم السبت اللي حنلعب فيه الفوتبول مع فريق ساكسون هول. وكان المفروض إن الماتش مع ساكسون هول حاجة كبيرة قوي في بنسي. كان آخر ماتش في السنة، وكان المفروض إن الواحد يقتل نفسه أو حاجة زي كده لو إن بنسي ما تكسبش، وأنا فاكر إني كنت الساعة تلاتة العصر داك اليوم واقف فوق تل طومسين، طوالي جنب المدفع الغريب بتاع حرب التحرير وكل ده. الواحد كان بمقدوره يشوف الملعب كله من هناك، ويشوف الفريقين بيهروا في بعض في كل مكان، ماكانش الواحد يقدر يشوف المتفرجين بالتفصيل، إنما كان يقدر يسمعهم وهمه بيتصايحوا، كلهم بيشجعوا فريق بنسي، عشان كانت المدرسة كلها تقريبًا هناك ما عدا أنا، وكلهم طبعًا في صف مدرستنا؛ لأن الفريق الزائر ما كنش جاب معاه إلا عدد قليل من المشجعين.

ماكانش فيه بنات كتير في مباريات الفوتبول. كان طلبة الصف النهائي همه لوحدهم المسموح لهم إنهم يجيبوا بنات معاهم، كانت مدرسة زفت، من أي زاوية تبص لها، فأنا دايمًا أحب أن يكون فيه شوية بنات في أي مكان أكون فيه، حتى لو ما كانوش بيعملوا أي حاجة إلا يهرشوا دراعاتهم أو ينفوا أو يضحكوا عمَّال على بطال. كانت سلمى تيرنر — بنت الناظر — ساعات تحضر المباريات، لكنها ما كانتش بالضبط البنت اللي ممكن تخليك مجنون بحبها. ومع ذلك، كانت بنت جميلة ولطيفة. أنا مرة قعدت جنبها في الأوتوبيس من أجرستاون، وضربنا مكالمة مع بعض. اتبسطت منها، مناخيرها كانت كبيرة شوية، وضوافرها كلها متكسرة، وعينيها حمرة وتبان كإنها بتبص في كل مكان في وقت واحد، لكن كان الواحد بيحس بالعطف عليها. الحاجة اللي كنت أحبها فيها إنها ما كنتش تدش في كلامها لك عن أمجاد أبوها الناظر. لازم كانت عارفة كويس أد إيه هوه فالصو كبير.

والسبب في إني كنت واقف على التل بدال ما أكون في المدرسة أتفرج على الماتش، هو إني كنت لسه راجع من نيويورك مع فريق الشيش. كنت مدير فريق الشيش المهبب، عظمة على عظمة! كنا رحنا نيويورك الصبح علشان نلعب مباراة شيش ضد مدرسة «ماكبيرني». لكن المباراة ما تمتش. ده لأني نسيت السيوف والمعدات والأجهزة في الهباب المترو. ما كنتش غلطتي؛ لأني كنت كل شوية أقوم من مكاني عشان أبص في خريطة المترو، عشان نعرف إحنا حننزل فين، وعليه رجعنا لبرسي حوالي الساعة اثنين ونص بدل وقت العشا، وكل الفريق كان مقاطعني طول السكة، واحنا راجعين بالقطر، كانت حاجة غريبة.

والسبب التاني إني ما كنتش مع المتفرجين هو إني كنت رايح أقول مع السلامة لعم سبنسر، مدرس التاريخ. كان عنده أنفلونزا، وقدَّرت إني يمكن ما أقدرشي أشوفه بعد كده لحد ما تبدأ إجازة الكرسماس. كان كتب لي نوتة، يقولي فيها إنه يحب يشوفني قبل ما أروَّح، كان عارف إني مش راجع المدرسة تاني.

أنا نسيت أقول لك على الحكاية دي. كانوا فصلوني، ما كنتش مفروض إني أرجع بعد أجازة الكريسماس، عشان سقطت في أربع مواد، ومانيش مجتهد كفاية وكل الكلام ده. كانوا أنذروني كتير إنى لازم أشد حيلي، خاصة في وسط التيرم، لما أبويا وأمي جم عشان يجتمعوا مع يُرمر، لكن أنا ما شدتش حيلي. عشان كده فصلوني، كانوا بيفصلوا ولاد كتير في بنسي. بنسي لها مكانة علمية كويسة خالص، حقيقي.

على كلٍّ، كنا في شهر ديسمبر، وكانت الدنيا برد زمهرير، خاصة فوق التل المهبب ده، كنت لابس الجاكت اللي بوشِّين، وما كانش معايا جوانتيات ولا غيره. الأسبوع اللي فات، واحد سرق البالطو وبر الجمل من أودتي نفسها، ومعاه الجوانتي بتاعي المبطن بالفرو اللي كان في جيب البالطو، وكل حاجة. بنسي كانت مليانة حرامية. ولاد كتير كانوا من أُسَر غنية جدًّا، لكن المدرسة كانت مليانة حرامية على كل حال. وكل ما كانت المدرسة غالية، كل ما كان فيها حرامية أكتر. أنا مبهزرشي. المهم، استمريت واقف قريب من المدفع الغريب ده، أتفرج من فوق على الماتش، وأنا بترعش من البرد، كل ما في الموضوع، إني ما كنتش واخد بالي قوي من الماتش. اللي حقيقي كان مخليني أقف هناك، هوه إني كنت زي ما تقول كده بحاول إني أقول باي باي. قصدي إني سبت قبل كده مدارس وأماكن من غير ما أعرف إني سايبهم، وأنا أكره الحكاية دي، ما يهمنيش إن كان وداعي لها محزن أو وحش، لكن لما أسيب مكاني، أحب إني «أعرف» إني حاسيبه. إذا الواحد ما عملشي كده يبقى شعوره أسوأ بكتير.

كنت محظوظ، فجأة خطر على بالي شيء ساعدني إني أعرف إني ماشي من هنا. خطرت على بالي فجأة الحكاية دي، في حوالي شهر أكتوبر، لما كنت أنا وروبرت تشنر وبول كامبل عمَّالين نشوط بينَّا كورة قدم قدام المبنى الأكاديمي. كانوا شبَّان كويسين، خاصة تشنر. كان الوقت قبل العشا بشوية، وكانت الدنيا بتضلم بسرعة بره، ورغم كده استمرينا نلعب بالكرة، وزادت الضلمة شوية بشوية، لدرجة إننا كنا بنشوف الكورة بصعوبة، لكن ما كناش عاوزين نسيب اللي بنعمله، لكن في الآخر اضطرينا. المدرس بتاع الأحياء، الأستاذ زامبيسي، طل علينا من الشباك اللي في المبنى الأكاديمي، وقال لنا نرجع العنابر ونستعد للعشا. لما بقدر أفتكر حاجات زي دي، يبقى سهل عليَّ إني أودَّع المكان لو عُزت، في أغلب الأحيان. ولما نجحت في المرة دي، إتدورت وبدأت أجري وأنا نازل على الناحية التانية من التل، تجاه بيت عم سبنسر. ما كنش ساكن في حرم المدرسة، كان ساكن في شارع أنطوني دين.

جريت طول الوقت ناحية البوابة الرئيسية، وبعدين وقفت شوية آخد نفسي. في الحقيقة أنا كان نفَسي مقطوع، أولًا لأني بدخن كتير، أو بالأصح، كنت بدخن كتير. اضطروني إني أبطَّل. وثانيًا، أنا طِولت ست بوصات ونص عن السنة اللي فاتت. وده كمان السبب في إني جالي سل تقريبًا، وجيت في المكان ده لعمل الفحوصات المهببة، وكل الحاجات دي. ومع ذلك، أنا صحتي بمب.

ما علينا. أول ما لقطت أنفاسي، جريت في طريق ٢٠٤. كانت السكة مزحلقة من التلج، وكنت على وشك الوقوع، حتى ما كنتش عارف أنا بجري ليه. أظن إني عزت أجري وخلاص. وبعد ما عديت الطريق، حسيت إني زي كده ما تقول بختفي، كان وقت الأصيل، والدنيا تلج، ومفيش أي شمس ولا حاجة، والواحد يحس إنه بيختفي كل مرة يعدي فيها الطريق.

ياه! أول ما وصلنا لبيت عم سبنسر دقيت الجرس. كنت متجمد من البرد. كانت وداني بتوجعني، ويا دوب أقدر أحرك صوابعي. طلع مني غصبن عني: «يلَّا بسرعة، حد يفتح الباب.» وأخيرًا، فتحته مدام سبنسر. ما كانش عندهم شغالة ولا حاجة، وكانوا دايمًا همه اللي يفتحوا الباب بنفسهم، ما كنش عندهم فلوس كتيرة.

مدام سبنسر قالت: «هولدن! أهلًا بيك، خش يا عزيزي! إنت اتجمدت للآخر.»

كانت مبسوطة إنها شافتني. كانت بتحبني، على الأقل كنت أظن كده.

ياه! قد إيه أنا دخلت بسرعة البيت ده. قلت: «إزيك يا مدام سبنسر، وإزي الأستاذ سبنسر؟»

ردت: «إديني البالطو.» وما كانتشي سمعتني وأنا بسأل عن الأستاذ سبنسر. كان سمعها تقيل شوية.

وعلقت البالطو بتاعي في دولاب الصالة، أما أنا ففركت شعري لورا، كنت كتير أقص شعري قصير، وما كنتش بضطر أسرحه كتير، قلت مرة تانية بصوت أعلى، عشان تسمعني: «إزيك يا مدام سبنسر؟»

ردت وهي بتقفل الباب: «أنا كويسة جدًّا يا هولدن، إزيك إنت؟» وعرفت على طول من الطريقة اللي سألت بيها، إن عم سبنسر قال لها إني انطردت.

قلت: «كويس، إزي الأستاذ سبنسر؟ هل يا ترى لسة عنده الإنفلونزا؟»

«لسة، ده بيتصرف يا هولدن تمام زي، مش عارفة أقول إيه … هو في أودته يا عزيزي، خش عنده.»

٢

كان كل واحد منهم له أوضته الخاصة، كان سن الواحد منهم حوالي سبعين سنة، أو يمكن أكتر إنما كانوا بيستمتعوا بحياتهم، بطريقة عبيطة بالطبع، أنا عارف إن ده ميصحش يتقال، لكن أنا مقصدتش حاجة وحشة. اللي أقصده إني كنت بفكر كتير في عم سبنسر، وإذا الواحد فكر فيه زيادة عن اللزوم، لازم يسأل، بالله عليك، هو لسة عايش ليه؟ أقصد إن ضهره بقى محني خالص، ومنظره يبكِّي. وفي الفصل، إذا وقعت منه حتى طباشير قدام السبورة، لازم دايمًا واحد في التختة الأولانية يقوم ياخدها، ويديها له. وأنا أعتقد إن ده شيء فظيع. لكن إذا الواحد فكر فيه شوية ومش كتير، يبقى يعتقد إنه مش بطال. مثلًا، يوم حد، كنت أنا وواحد زميلي رايحين هناك ناخد شوكولاتة سخنة، عم سبنسر فرجنا على البطانية الهندي اللي اشتراها هو ومدام سبنسر من شوية هنود في منتزه «يليستون». كان الواحد يعرف على طول إن عم سبنسر اتمتع جدًّا بشرى البطانية دي. ده اللي أقصده، يبقى عندك واحد عجوز كحكوحة زي عم سبنسر، ويقدر يتمتع بشرى بطانية.

كان باب أوضته مفتوح، لكن أنا برضه خبَّطت عليه على أي حال، من باب الأدب والذي منه، وكنت شايف هو قاعد فين، كان قاعد على كرسي جلد كبير، متغطي كله بالبطانية الهندي اللي لسة حاكي لك عنها. ولما خبَّطت على الباب، بص ليَّه وزعق: «مين؟ كاوفيلد؟ تعال يا بني.» كان دايمًا يزعق، بره الفصل، وأحيانًا الموضوع ده يثير أعصاب الواحد.

وفي اللحظة اللي دخلت فيها، حسيت كأني غلطت إني جيت. كان بيقرا في مجلة «أتلانتيك منثلي»، وكان حواليه حبوب وأدوية في كل مكان، وكل حاجة لها ريحة نقط «فكس». كان شيء يخللي الواحد يحس بالاكتئاب. وأنا على كل حال منيش بحب الناس العيانين، واللي خلاني أحس أكتر بالاكتئاب، إن العم سبنسر كان لابس روب حمام قديم لونه فيراني حزين، يظهر إنه اتولد فيه أو حاجة زي كده. وعلى كل حال، أنا ما بحبش أشوف رجالة عواجيز لابسين بيجامة أو روب حمام. صدرهم المكرمش دايمًا بيبقى باين، ورجليهم دايمًا رجلين العواجيز بتبان على البلاجات وفي أي مكان، بيضة وملسة من غير شعر. قلت: «أهلًا يا أستاذ. أنا استلمت الكلمة اللي بعتها لي، ألف شكر.» كان كتب لي ورقة يطلب مني فيها إني أمر عليه وأودَّعه قبل الأجازة ما تبدأ، حيث إني مش راجع تاني، «ما كانش حق حضرتك تكلف نفسك. أنا كنت حاجي أودع حضرتك على كل حال.»

عم سبنسر قال: «اقعد هناك يا بني.» كان بيقصد السرير.

وقعدت على السرير: «إزي الإنفلونزا يا أستاذ؟»

وعم سنبسر يرد: «لو مكنتش حسيت ببعض التحسن، كنت بعت للدكتور على طول.» والجملة دي خلت روحه تطلع، وقعد يكح كإنه واحد مخبول. وبعدين تمالك نفسه أخيرًا، وقال: «مانتش معاهم ليه في الماتش؟ أظن إن دي هيه المباراة الحاسمة.»

«أيوه أنا كنت معاهم. بس الحكاية إني لسة راجع من نيويورك مع فريق الشيش.»

ياه! كان السرير اللي أنا قاعد عليه جامد زي الحجر.

ثم ابتدى عم سبنسر يدخل في الجد. كنت عارف إنه حيعمل كده، قال: «إذن، إنت حتسيبنا، هه؟»

– أيوه يا أستاذ، أعتقد ذلك.

وقعد يهز راسه زي عوايده، عمر الواحد ما حيشوف حد يهز راسه أكتر من عم سبنسر. وما تعرفش إذا كان بيهز راسه عشان عمَّال يفكر، أو إنه بيعمل كده لأنه لطيف ومش عارف راسه من رجليه.

– ويا ترى الدكتور ثيرمر قال لك إيه؟ سمعت إنكم اتكلمتم مع بعض شوية.

– أيوة اتكلمنا، أظن إني قعدت معاه حوالي ساعتين في مكتبه.

– وقال لك إيه؟

– آه … يعني … عن الحياة، وإزاي إنها مباراة وكل ده. وإزاي الواحد لازم يلعب حسب القواعد. كان لطيف قوي، أقصد إنه ما كانش غضبان أو أي حاجة. إنما قعد يقول إزاي إن الحياة مباراة. حضرتك عارف.

– ياه! الحياة فعلًا مباراة. الحياة مباراة الواحد لازم يلعبها طبقًا للقواعد.

مباراة! يا أخي هع! نوع من المباراة. لو كان الواحد في صف الناس الناجحين يبقى أوكيه، الحياة مباراة، أعترف بكده. لكن لو كان الواحد مع الناس التانيين، اللي مش ناجحين ولا حاجة، إذن تبقى فين هيه المباراة دي؟ مفيش مباراة.

وسألني عم سبنسر: هل مستر ثيربر كتب لوالديك ولا لسة؟

– هوه قاللي إنه حيكتب لهم يوم الاتنين.

– وهل أنت اتصلت بيهم؟

– لا يا أستاذ، أنا ما اتصلتش بيهم؛ لأني حاشوفهم يوم الأربع بالليل لما أروَّح البيت.

– ويا ترى حيكون رد فعلهم إيه للأخبار دي؟

– والله حيتضايقوا جدًّا منها … بالطبع. دي كانت رابع مدرسة التحق بيها.

وهزيت راسي، كنت بهز راسي كتير. وقلت: «ياه!» وكمان كنت بقول ياه كتير. من ناحية لأن كلامي بطال، ومن ناحية تانية لأني أحيانًا كانت تصرفاتي أقل من سني بكتير. كنت بتصرف أحيانًا كما لو كان عندي تلاتاشر سنة. كان عندي وقتها ستاشر سنة، ودلوقتي عندي سبعتاشر، وبرضه أحيانًا بتصرف كما لو كان عندي تلاتاشر سنة. وده في الواقع شيء مضحك؛ لأن طولي ست أقدام وبوصتين ونص، وشعري شايب. ده حقيقي، جانب من راسي، الجنب اليمين، مليان شعر شايب. كنت كده من أيام ما أنا طفل. ورغم ده كنت بتصرف أحيانًا كأن عندي إتناشر سنة بس. كل الناس بتقول كده، خاصة أبويا. وده صحيح جزئيًّا، إلا إن بتضايق أحيانًا لما الناس تقولِّي اتصرَّف حسب سنك. أحيانًا أنا بتصرف أكبر بكتير من سنِّي، حقيقي، لكن الناس ما بتاخدش بالها أبدًا. الناس عمرها ما بتاخد بالها من حاجة.

وبدأ عم سبنسر يهز راسه تاني. وكمان بدأ يلعب بصباعه في مناخيره. كان بيتظاهر كإنه بيقرصها، لكن في الحقيقة إنه كان حاطط صباعه جُوَّاها، أظن إنه ما هموش إنه يعمل كده لأني أنا بس كنت موجود في الأوضة. وأنا ما يهمنيش، لكن دي حاجة مقرفة تمام، إن حد يشوف واحد بيلعب في مناخيره.

بعد كده قال: «أنا اتشرفت بمقابلة والدتك ووالدك لما كانوا بيتكلموا مع الدكتور ثيرمر من كام أسبوع. دول ناس عظماء.»

– أيوة. دول ناس كويسين.

عظماء. دي كلمة من الكلمات اللي أنا بكرهها موت، فالصو. كنت أحس إني عاوز أتقايا كل ما أسمعها.

وفجأة، بان كإن عم سبنسر عنده حاجة مهمة قوي يقولها لي، حاجة مسنونة زي المسمار. وفرد نفسه على الكرسي، وقعد يتحرك عليه. ومع ذلك، معملش حاجة مهمة. كل اللي عمله إنه رفع المجلة من حجره وحاول أن يحدفها على السرير، جنبي. لكن النشان مطلعش مظبوط. المسافة ما كانتش أكتر من بوصتين اتنين بس، لكن مقدرش يصيب هدفه على أي حال. فأنا قمت على طول وأخدتها من على الأرض، وحطيتها جنبي على السرير. وفجأة، تملكتني رغبة إني أطفش من الأوضة، كنت حاسس إنه على وشك يديني محاضرة طويلة. ما كانش يهمني ده قوي، لكن ما كنتش أحب إني أسمع المحاضرة، وأشم ريحة نقط فيكس، وأبص في وش عم سبنسر وهو لابس البيجامة، كل ده في نفس الوقت، حقيقي ما أقدرش.

لكن المحاضرة كانت ابتدت.

– «إنت جرى لك إيه يا بني؟» قالها عم سبنسر بنبرة شديدة بالنسبة له. «إنت عندك كام مادة الفصل ده؟»

– خمسة يا أستاذ.

– خمسة؟ وسقطت في كام مادة؟

– أربعة.

وحركت جتتي شوية فوق السرير. كان أنشف سرير قعدت عليه في حياتي، وقلت:

– أنا نجحت في الإنجليزي تمام التمام؛ لأني درست حاجات «بيولف» و«لورد راندال ابني» لما كنت في مدرسة «هوتو». أقصد إني ما كنتش مضطر لأي حاجة تقريبًا في مادة الإنجليزي، عدا كتابة شوية مواضيع إنشا من حين لآخر.

ما كانش حتى سامعني. كان عمره ما يسمع اللي يتقال له.

– أنا سقَّطتك في التاريخ؛ لأنك ببساطة ما تعرفش أي حاجة.

– أنا عارف يا أستاذ. ياه، عارف. كنت مضطر إنك تسقطني.

وكرر كلامه: «أي حاجة.»

ودي كانت حاجة بتجنني. لما الناس تقول الجملة مرتين، رغم إنك تعترف لهم بعد أول مرة. وبعد كده قالها لتالت مرة.

– أي حاجة خالص، أنا أشك إنك تكون فتحت كتاب المقرر، ولو مرة واحدة طول التيرم. هل فتحته؟ قول الحق يا بني.

وجاوبته: أنا زي ما تقول كده بصيت فيه مرتين.

قال بطريقة ساخرة: بصيت فيه، هه؟ ورق امتحانك أهه هناك فوق الشوفونيرة، فوق الصف. أرجوك، هاتها لي.

كانت حركة بايخة منه، لكني اضطريت أروح وأجبها له، ما كانش قدامي حل تاني إلا إني أعمل كده. وبعدين رجعت قعدت على سريره اللي زي الأسمنت. ياه! قد إيه أنا كنت غلطان إني فكرت أفوت عليه عشان أقوله له باي باي.

وبعدين قعد يقلب في ورقة الإجابة بتاعتي، كما لو كانت زبالة أو شيء من النوع ده.

إحنا درسنا قدماء المصريين من ٤ نوفمبر لحد ٢ ديسمبر، وإنت اخترت إنك تكتب عنهم في موضوع المقال الاختياري. عاوز تسمع إنت كتبت إيه؟

– لا يا أستاذ، مش ضروري.

ومع ذلك قرأ. الواحد ما يقدرش يوقف مدرس لما يكون عاوز يعمل حاجة، بيعملوا اللي همه عاوزينه.

«المصريون هم جنس قوقازي قديم، كانوا يسكنون في أجزاء شمالية من أفريقيا. وكما نعرف، فإن أفريقيا هي أكبر قارة في نصف الكرة الشرقي.»

كنت مضطر إني أقعد هناك وأسمع الكلام الفارغ ده. كانت عملية مش لطيفة حقيقي.

– «والمصريون مهمون جدًّا لنا اليوم لأسباب كثيرة. فالعلم الحديث ما زال يريد أن يعرف المكونات السرية التي كان يستخدمها قدماء المصريين حين كانوا يلفون موتاهم، بحيث إن وجوههم تظل سليمة عدة قرون. ما زال هذا اللغز الهام يتحدى العلم الحديث في القرن العشرين.»

وبطَّل قراية، ونزل ورقة إجابتي. وكنت بدأت زي ما تقول كده، أكرهه.

وقال لي في نبرة سخرية:

مقالك ينتهي هنا.

الواحد عمره ما يتصور إن راجل عجوز ممكن يسخر بالشكل ده. وقال:

– ومع ذلك، إنت رميت لي ملاحظة صغيرة في ديل الصفحة.

– أيوة عارف.

قلت كده بمنتهى السرعة؛ لأني كنت عاوز أمنعه من إنه يقرأ كل ده بصوت عالي. لكن ما كانش ممكن لحد يوقفه، كان حامي زي الصاروخ.

وقرأ بصوت عالٍ: «عزيزي الأستاذ سبنسر. هذا كل ما أعرفه عن قدماء المصريين. لم أستطع أن أهتم بهم، رغم أن محاضراتك عنهم في غاية الأهمية، أنا لا أمانع أن أرسب في هذه المادة، رغم أني راسب في كل المواد عدا اللغة الإنجليزية. مع فائق الاحترام. هولدن كاوفيلد.»

ونزِّل ورقة إجابتي المهببة مرة تانية، وبحلق في وشي كأنه وجَّه لي الضربة القاضية في لعبة البنج بونج مثلًا. أظن إني عمري ما حسامحه إنه قرأ لي كل العك ده بصوت عالي. أنا عمري ما كنت عملت كده لو كان هوه اللي كتب ده، عمري؛ فأولًا أنا كتبت الملاحظة المهببة دي عشان ما يحسش بتأنيب ضمير إنه يسقطني.

قال: «هل تلومني بعد كده إني سقطتك يا بني؟»

قلت: «لا يا أستاذ، بالطبع لا.»

كنت بتمنى من كل قلبي إنه يبطل يقولِّي كلمة يا بني دي كل مرة.

وحاول إنه يحدف ورقة إجابتي على السرير بعد ما خلص منها. لكنه غلط الهدف تاني، طبعًا اضطريت إني أقوم تاني وأحطها فوق مجلة أطلانتك منثلي. حاجة تفلق إن الواحد يعمل كده كل دقيقتين.

قال: «كنت تعمل إيه لو كنت مكاني؟ قول الحق يا بني.»

تقدر تشوف طبعًا إن ضميره كان بيأنبه لأنه سقطني. وعشان كده ضربت على النغمة دي شوية. قلت له إني حقيقي على قد عقلي، وكلام من ده. قلت له إزاي أنا ما كنتش عملت غير اللي عمله لو إني كنت مكانه، وإزاي الناس ما بتقدَّرش صعوبة مهنة المدرس. وكلام من النوع ده، الإسطوانة إياها.

والشيء العجيب هو إني كنت بفكر في حاجة تانية خالص، وأنا عمَّال أدوَّر الإسطوانة إياها. أنا كنت ساكن في نيويورك، وكنت بفكر في البحيرة اللي في جنينة سنترال بارك، هناك قرب جنوب سنترال بارك. كنت بتسائل إذا مش حتكون متجمدة لما أروَّح، وإذا كانت كده، البط اللي بيكون فيها حيروح فين؟ كنت مندهش البط بيروح فين لما البحيرة تتجمد وتبقى كلها جليد. كنت بتسائل إذا كان فيه واحد بييجي في عربية نقل، وينقلهم لجنينة حيوانات أو حاجة كده. أو إذا كانوا مجرد بيطيروا لحتة تانية.

ومع هذا، أنا كنت محظوظ. أقصد إني كنت أقدر أدور الإسطوانة إياها لعم سبنسر، وأفكر في البط في نفس الوقت. مش ضروري الواحد يعصر فكره لما يتكلم مع مدرس. ومع ذلك، قاطعني فجأة وأنا بدوَّر الإسطوانة إياها، كان دايمًا يقاطع الواحد.

– إيه إحساسك يا بني من كل ده؟ يهمني قوي إني أعرف، يهمني قوي.

قلت: «تقصد طردي من المدرسة وكل ده؟» كنت أحب لو إنه يغطي صدره العريان المكرمش. ما كانش منظر لطيف.

– لو ما كنتش غلطان، أعتقد إنه كان لك مشاكل كمان في مدرسة هوتون، ومدرسة «إلكتون هيلز».

وما كانش صوته ساخر بس، بل وكان سخيف كمان.

قلت له: «ما كنتش عندي مشاكل كتير في إلكتون هيلز، متفصلتش من هناك بالضبط ولا حاجة. أنا سبتها، حاجة زي كده.»

– أقدر أسأل سبتها ليه؟

– ليه آه … دي حكاية طويلة يا أستاذ، أقصد إنها معقدة قوي.

ما كنتش مستعد إني أحكيله الحكاية كلها. ما كانش حيفهمها على كل حال. ما كانتش من توبه خالص، واحد من أهم الأسباب اللي سبت إلكتون هيلز عشانها، هو إن كل اللي حواليا هناك كانوا فالصو، ده كل الموضوع، كانوا جايين في الشبَّاك الهباب، مثلًا كان منهم الناظر، الأستاذ هاس، وده أكبر واحد فالصو ملعون قابلته في حياتي. عشر مرات أكتر من عم ثيرمر. فمثلًا، كان عم هاس أيام الحد يصول ويجول يسلِّم على أبَّهات كل واحد لمَّا كانوا يزوروا المدرسة. وكان يبقى لطيف وكل حاجة. إلا إذا كان أي ولد أبهاتهم شكلهم مش ولا بد. كان لازم تشوف عمل إيه مع أبو وأم زميلي في الأوضة. أقصد إنه إذا كانت أم الولد تخينة أو مظهرها مش ولا بد أو حاجة كده، وإذا كان أبو الولد من الناس دول اللي بيلبسوا بدل كتافها عريضة وجزم إسود وأبيض بلدي، ساعتها عم هاس مجرد يسلِّم عليهم بابتسامة فالصو، ويروح بعد كده يتكلم ربما نص ساعة كاملة مع أبهات أولاد تانيين. أنا ما أقدرش أستحمل حاجات زي دي. دي كانت بتجنني، كانت بتخليني مكتئب لحد ما أتجنن. قد إيه أنا بكره إلكتون هليز الملعونة دي.

وعند هنا سألني عم سبنسر حاجة بس أنا ما سمعتهوش. كنت بفكر في عم هاس. قلت: «نعم يا أستاذ؟»

– هل يا ترى حاسس بأي زعل إنك سايب بنسي؟

– أوه … حاسس ببعض الزعل طبعًا. أكيد … لكن مش كتير قوي. مش دلوقتي على كل حال. أظن إن الموضوع لسة ما دخلش في دماغي. عاوز وقت لحد الموضوعات ما تدخل دماغي. كل اللي بعمله دلوقتي هوه إني أفكر في رجوعي البيت يوم الأربع. أنا عقلي على قدي.

– إنت مش حاسس بأي اهتمام ناحية مستقبلك يا بني؟

– أوه، أنا حاسس باهتمام ناحية مستقبلي وكل حاجة. بالتأكيد، بالتأكيد. وفكرت لحظة وقلت: «لكن أعتقد مش كتير قوي. أعتقد مش كتير قوي.»

وعم سبنسر قال: حيحصل، حيحصل يا بني. لكن بعد ما يكون فات الأوان.

ما كنتش مبسوط وأنا بسمعه يقول ده. كان بيتكلم كأني مت خلاص أو حاجة زي كده. كانت حاجة تجيب اكتئاب.

قلت: «أظن أن ده حيحصل.»

«ياما في نفسي أحط بعض العقل في دماغك ده يا بني، أنا بحاول أساعدك، لو في مقدروي.»

كان حقيقي عاوز يساعدني. الأمر كان واضح، لكن الحكاية إن إحنا كنا كل واحد منا في ناحية، ده كل الموضوع. قلت: «أنا عارف ده يا أستاذ، وأنا شاكر جدًّا، حقيقي، أنا مقدر تمامًا كل ده، حقيقي.» وعندها قمت من على السرير. ياه، ما كانش في مقدروي أقعد عشر دقايق تانيين، حتى لو كان فيها إنقاذ حياتي، «الحكاية إنه لازم أمشي دلوقتي. عندي شوية حاجات في الجمنازيوم لازم آخدها البيت معايا، حقيقي.» وبص لي وقعد يهز راسه تاني. وبانت على وشه علامات الجد دي. وفجأة حسيت بالأسف الشديد عشانه، لكن ما كنتش أقدر أقعد أكتر من كده، وكل واحد منا في ناحية، وفي كل مرة يرمي حاجة على السرير ما يصبش الهدف، وروب الحمام القديم بتاعه اللي بيبين صدره، وريحة نقط الفيكس الفظيعة في كل حتة. قلت: «شوف يا أستاذ، ما تقلقشي عليا. كلام جد، أنا حبقى تمام التمام، كل الحكاية إني بمر بمرحلة دلوقتي. كل واحد بيمر بمرحلة وكل ده. مش كده؟»

– مش عارف يا بني، مش عارف.

كنت باكره أي حد يجاوب بالطريقة دي. قلت: «طبعًا طبعًا ده بيحصل، أنا بتكلم جد يا أستاذ. أرجوك ما تقلقش عليا.» وتقريبًا حطيت إيدي على كتفه، وقلت: «أوكيه.»

– يا ترى تحب تشرب فنجان شوكولاتة سخنة قبل ما تخرج؟ مدام سبنسر حتكون …

– أحب طبيعي … أحب. لكن الواقع إني لازم أمشي دلوقتي، لازم أروح حالًا الجمنازيوم. أنا متشكر على كل حال، ألف شكر يا أستاذ.

وبعدين سلِّمنا على بعض، وكل الهلس ده. ومع ذلك، ده خلَّاني أحس بحزن شديد.

– حابقى أكتب لك يا أستاذ، إنما دلوقتي خللي بالك من الإنفلونزا.

– مع السلامة يا بني.

وبعد ما قفلت الباب وخرجت تاني لأوضة القعاد، قاللي حاجة بصوت زعيق، لكن ما كنتش أقدر أسمعه بالضبط. أنا كنت متأكد أنه قاللي «حظ سعيد.» أتمنى إنه ما يكونش كده. أتمنى على الله. أنا عمري ما أقول لحد بزعيق حظ سعيد، إذا الواحد فكر فيها، تبان رهيبة.

٣

أنا أكبر واحد كداب على وش الأرض، شيء رهيب، حتى إذا كنت مرة رايح أشتري الجرنان من المحل، وحد سألني رايح فين، ممكن أقول له إني رايح الأوبرا. حاجة بشعة. عشان كده، أنا لما قلت لعم سبنسر إني رايح الجمنازيوم عشان أجيب معداتي وأدواتي، كانت كدبة كبيرة ليس إلا. حتى أنا مبسبش أدواتي في الجمنازيوم أبدًا.

أنا لما كنت في المدرسة، كنت ساكن في جناح «أوسنبرجر» التذكاري في عنابر النوم الجديدة. كانت مخصصة للصفوف النهائية وقبل النهائية. كنت في الصف قبل النهائي، وزميلي في الأوضة كان في السنة النهائية، والعنابر كانت على اسم الجدع أوسبنجر، اللي درس في بنسي، عمل له كوم فلوس من شغلانة مكاتب الحانوتية في البلد كلها، حتى إنه كان بإمكان الواحد يدفن حد من عيلته بخمس دولارات بس. كان لازم تشوف عم أوسبنجر. يظهر إنه كان بيحط الميت في شوال ويرميه في البحر. نهايته. هو اتبرع لبنسي بكومة فلوس، فسموا الجناح بتاعنا على اسمه. وفي أول مباراة فوتبول في السنة، جه للمدرسة في الكاديلاك الكبيرة، وخلُّونا كلنا نقف في الحوش الكبير ونديله تعميرة، أي نهتف له. وبعد كده، في الصبح في الكنيسة، ألقى خطبة استمرت عشر ساعات. ابتدأ الحكاية بحوالي خمسين نكتة سخيفة، بس عشان يورينا قد إيه هوه واد جدع. يا سلام على كده. وبعدين قعد يقول لنا إزاي إنه عمره ما كان يتكسف إذا وقع في مشكلة أو حاجة من النوع ده، إنه يركع على ركبه ويصلي لربنا. وقال لنا إننا لازم نصلِّي لربنا — نتكلم معاه وكل ده — في أي مكان كنَّا فيه. وقال لنا إن إحنا لازم نبص ليسوع كأنه واحد زميلنا، وكل ده. وقال إنه هوه بيتكلم مع يسوع على طول، حتى وهو بيسوق عربيته، ده نقطني، كنت بتخيل الملعون الفالصو الكبير ده وهو بينقل العربية للسرعة التانية، وبيطلب من يسوع يبعت له أكل أكتر، لكن أحسن شيء في خطبته كان في نصها. كان بيحكي لنا إزاي كان ولد جدع، وكل حاجة، وإزاي كان ناجح في كل شيء. وعندها الولد اللي كان قاعد في الصف اللي قدامي على طول، إدجار مارساللا، أطلق ريح بصوت عالي، كانت حاجة بشعة بالفعل. في الكنيسة وكل ده، لكن كانت حاجة مسلية للغاية، عم مارساللا كان على وشك يطيِّر السقف كله، ومحدش ضحك بصوت عالي، وعم أوسبنجر اتظاهر إنه ما سمعش حاجة، لكن عم ثيرمر، الناظر، كان قاعد جنبه على المنصة وكل حاجة، وكان بمقدروك تعرف إنه سمع كل شيء. ياه، قد إيه غضب. ما قالش حاجة ساعتها، لكن الليلة اللي بعدها فرض علينا دروس إجبارية إضافية في المبنى الأكاديمي، وجه هناك وألقى خطبة. قال إن الولد اللي عمل العملة دي في الكنيسة لا يستحق إنه ينتسب لبنسي، وحاولنا جهدنا إننا نخلِّي عم مارساللا يجيب واحدة تانية وسط خطبة عم ثيرمر، لكن ما كانش له مزاج، على كلٍّ، كان ده المكان اللي عشت فيه في بنسي. جناح عم أوسبنجر التذكاري، في عنابر النوم الجديدة.

وحسيت بسعادة بعد ما سبت عم سبنسر ورجعت لأوضتي؛ لأن الكل كان هناك في الملعب، وكانت التدفئة شغالة في أوضتنا، على غير العادة. كان المكان مريح، وخلعت البالطو والكرافتة، وفتحت زرار الرقبة من القميص، وبعدين لبست البرنيطة دي اللي اشتريتها الصبح من نيويورك، كانت برنيطة صيد حمرا، لها طرف طويل جدًّا جدًّا، شفتها في فترينة محل الأدوات الرياضية، بعد ما خرجنا من مترو الأنفاق، على طول بعد ما لاحظت إني نسيت السيوف المهببة دي. كان تمنها دولار واحد. وكنت بلبسها بطريقة خاصة، إني كنت أحدف طرفها الطويل لورا — حاجة بايخة جدًّا، أعترف بكده، لكن أنا كنت بحبها كده. كان منظري حلو بالشكل ده، وبعدين أخدت الكتاب اللي كنت بقرأ فيه، وقعدت على الكرسي بتاعي. كان فيه كرسيين في كل أوضة، واحد كان ليا، والتاني لزميلي في الأوضة، وارد سترادليتر. كانت مساندهم في حالة سيئة؛ لأن الكل كان بيقعد على المساند، لكن كانت كراسي مريحة جدًّا.

وكان الكتاب اللي بقراه هوه الكتاب اللي أخدته من المكتبة بطريق الخطأ، إدوني الكتاب الخطأ، وما لاحظتش ده إلا بعد ما رجعت لأوضتي. إدوني رواية «الخروج من أفريقيا» تأليف إيزاك دينزن. افتكرت إنه كتاب سخيف، لكن ما كانش سخيف، كان كتاب كويس، أنا ما ليش في الأدب، لكن كنت بقرأ كتير. أحسن المؤلفين عندي أخويا د. ب. وبعده رينج لاردنر. أخويا إداني كتاب من تأليف رنج لاردنر في عيد ميلادي، قبل ما أروح بنسي على طول، كان فيه ألعاب الحلوة المجنونة، وفيه كمان حكاية ضابط المرور اللي بيحب واحدة، دايمًا تسوق عربيتها بسرعة. لكن المشكلة هي إنه كان متجوز، الظابط، عشان كده ما كانش يقدر يتجوزها ولا حاجة، وبعدين البنت دي تموت في حادثة؛ لأنها كانت تحب السواقة بسرعة، كانت الحكاية دي بتجنني، الكتاب اللي أحبه، لازم يكون فيه حاجات غريبة من حين لآخر، وقريت كمان كتب كلاسييك كتير، زي «عودة ابن البلدة» وكل ده، وحبِّتها، وقريت كتب كتير عن الحرب وكتب بوليسية، لكن ما كانتش بتهزني قوي. اللي يهزني صحيح هوه الكتاب اللي إنت بعد ما تخلص قرايته، تتمنى لو كان مؤلفه صاحبك الصدوق، اللي تقدر تطلبه وتكلمه على التليفون وقت ما تحب، لكن ده ما بيحصلش كتير طبعًا. أنا كنت أحب أكلم إيزاك دينسن ده، ورنج لاندر. بس د. ب. كان قال لي إنه مات. عندك مثلًا كتاب «عبودية الإنسان»، تأليف سُمرست موم، قريته الصيف اللي فات. هوه كتاب كويس وكل حاجة، لكن ما بحسش إني عاوز أتصل بسمرست موم ولا حاجة. معرفش، هوه مش الشخص اللي أحس إني عاوز أتصل بيه وأكلمه، دي كل الحكاية، أفضل أتصل بعم توماس هاردي. كنت بحب إيوستوشيا فاي دي.

على كلٍّ، لبست برنيطتي الجديدة، وقعدت وبديت أقرأ الكتاب ده، الخروج من أفريقيا. كنت قريته قبل كده، لكن حبيت أقرأ بعض حتت منه تاني. لكن، كنت قريت حوالي تلات صفحات لما سمعت حد جاي من عند ستاير الدش. وحتى من غير ما أبص عرفت على طول مين ده. كان روبرت آكلي، الجدع اللي جنبي في الأوضة. كان فيه دش مشترك لكل أوضتين في الجناح بتاعنا، وكل يوم عم آكلي يدخل عليا أكتر من ميت مرة. ويظهر إنه كان الوحيد اللي موجود في العنبر غيري؛ لأن الكل كان بيشوف الماتش. كان عمره ما بيروح أي حتة. كان شخصية غريبة. كان في السنة النهائية، وكان في بنسي طول الأربع سنين وكل حاجة، لكن عمره ما حد كان يناديه بغير اسم «آكلي»، ولا حتى زميله في الأوضة، هيرب جيل، كان ممكن يناديه «بوب» أو حتى «آك». لو إنه اتجوز في يوم من الأيام، مراته يمكن تناديه آكلي كمان. كان شخص طويل جدًّا، كتافه عريضة — طوله حوالي ١٨٤ — وسنانه رهيبة. وعمري ما شفته بيدعك سنانه بالفرشة. كانت سنانه معفنة ورهيبة، وكان منظره، لو شفته في المطعم، وبُقه مليان بهريسة البطاطس والبسلة، أو حاجات من دي، يخلِّي نِفسك تُغم عليك. وكان كمان وشه مليان دمامل. مش بس على أورته أو دقنه، زي ما عند معظم الولاد، لكن على كل وشه. ومش بس كده، كانت شخصيته رهيبة. وكان كمان حاجة كده شاب سخيف. ماكنش ينزل لي من زور، إن جيت للحق.

كنت حاسس بيه وهوه واقف على حافة الدش، ورا الكرسي بتاعي على طول، بيشوف إن كان سترادليتر موجود ولا لأ، كان بيكره سترادليتر كُرْه العمى، وما كانش بيدخل الأوضة لما يكون سترادليتر فيها، كان بيكره كل الناس تقريبًا.

وعدَّى حافة الدش ودخل الأوضة. قال: «أهلًا.» كان دايمًا ينطقها كما لو إنه زهقان على الآخر، أو تعبان على الآخِر. كان مش عاوز إنك تفتكر إنه بيزورك أو أي شيء من النوع ده. كان عايز إنك تفتكر إنه جه كده على سهوه، أي والله!

قلت: «أهلا» لكن ما رفعتش عيني من الكتاب. مع آكلي، لو إنك رفعت عينك من الكتاب تبقى ضعت. أنا كنت ضايع ضايع، بس مش بالسرعة اللي كان ممكن تبقى لو إني رفعت عيني من الكتاب.

وبدأ يلف في الأوضة، بشويش قوي وكل حاجة، زي عوايده دايمًا، ويمسك حاجاتك الشخصية من على المكتب والشيفونيرة. كان دايمًا يمسك حاجاتك الشخصية ويبص فيها. يا الله، قد إيه كان بيضغط على أعصابي أحيانًا. قال: «كيف كان ماتش الشيش؟» كان عايزني أبطل قراية واستمتاع. ما كانش يهمه الشيش أبدًا. قال: «إحنا كسبنا ولا إيه؟»

قلت: «ما حدش كسب.» من غير ما أرفع عين.

قال: «إيه؟» كان دايمًا يخليك تعيد اللي تقوله مرة تانية.

قلت: «ما حدش كسب.» وبصيت بطرف عيني أشوفه بيهبب إيه حوالين الشيفونيرة بتاعتي. كان بيبص في صورة البنت اللي كنت بخرج معاها في نيويورك، سالي هييز. كان يمكن مسك الصورة دي وبص فيها خمس تلاف مرة على الأقل، من ساعة ما كانت عندي. وكمان، كان دايمًا يعيد الصورة في المكان الغلط بعد ما يبص فيها. كان بيعمل كده عن قصد، كده واضح.

قال: «ما حدش كسب؟ إزاي؟»

– أنا سبت السيوف المهببة والأدوات في مترو الأنفاق.

وبرضه ما رفعتش عيني له.

– في مترو الأنفاق، يا دي المصيبة! تقصد إنك ضيعتهم؟

– أصلنا ركبنا المترو الغلط. وكنت بروح أبص في خريطة المترو المهببة كل شوية.

وجه وقف قدامي مغطي النور عنِّي. قلت: «هه، أنا قريت الجملة اللي أنا عندها دي عشرين مرة من ساعة إنت ما جيت.»

وكان آكلي عمره ما يفهم بالإشارة. لا، مش هوه. قال: «وتفتكر إنهم حيخلوك تدفع تمنها؟»

«معرفش. وما يهمنيش. إيه رأيك اقعد في حتة يا واد يا آكلي؟ إنت واقف قدام النور تمام.» وما كانش يحب حد يقول له يا واد يا آكلي. رغم إنه دايمًا يقول لي إني واد؛ لأني كنت ستاشر سنة وهو تمنتاشر. وكان يتجنن لما أقول له واد آكلي.

وفضل واقف مكانه. كان بالضبط نوع البني آدم اللي عمره ما يتحرك من مكانه لما يحجز عنك النور، لمَّا تطلب منه إنه يبعد. كان بيتحرك في الآخر، لكن كان بياخد وقته أكتر لو إنك طلبت منه ده. قال: «عمَّال بتقرأ في إيه؟»

«كتاب هباب.»

ورفع الكتاب اللي بقرا فيه عشان يشوف عنوانه. قال: «كويس؟»

«الجملة اللي أنا باقراها دلوقتي روعة.»

كنت أقدر أكون ساخر جدًّا لما يكون عندي مزاج لكده، وكان عندي مزاج ساعتها، لكن هو مفهمش كده، وقعد يتجول في الأوضة تاني، ويشوف حاجاتي وحاجات سترادليتر الشخصية. وفي الآخر، حطيت كتابي على الأرض، مكنتش تقدر تقرا أي حاجة وشخص زي آكلي حواليك، مستحيل.

واتمددت على كرسيَّا، وبقيت أبص على عم آكلي وهو بياخد راحته في الأوضة. كنت حاسس بتعب من رحلة نيويورك وكل ده، وبدأت أتَّاوب. وبعدين بدأت أسوق الهبالة شوية. أحيانًا كنت أسوق الهبالة عشان أسلِّي نفسي. وساعتها شدِّيت طرف برنيطتي لقدام، وبعدين خليت طرفها القدَّماني يغطي عينيه، وبكده ما كنتش أقدر أشوف أي حاجة، وقلت بصوت مبحوح: «يظهر إني أنا اتعميت، يا حبيبتي يا أمي، كل حاجة هنا بقت ضلمة في ضلمة.»

آكلي قال: إنت مجنون، احلف على كده.

يا أمي العزيزة، إديني إيدك، ليه مش عاوزه تديني إيدك؟

«هيه، خليك راجل.»

وبدأت أحسس قدامي، كإني بقيت أعمى، لكن من غير ما أقوم من مكاني ولا حاجة، وفضلت أقول: «يا حبيبتي يا ماما، ليه ما بتساعدينيش؟»

كنت بسوق الهبالة ليس إلا بالطبع. الحكاية دي كانت بتسليني أحيانًا. وبالإضافة لكده، كنت عارف إنها بتضايق عم آكلي قوي. كان بيخليني أتقلب سادي. كنت ببقى سادي كتير جدًّا معاه. وفي الآخر، بطلت، وزحت البرنيطة لورا تاني، واسترخيت على الكرسي.

وآكلي قال: «بتاعة مين دي؟» كان شايل ربطة الركبة بتاعتي في الأوضة. الجدع آكلي ده كان يمسك أي حاجة يلاقيها. كان ممكن مثلًا يمسك ملابسك الداخلية أو حاجة كده. قلت له إنها بتاعة سترادليتر، فقام حاطَّها على سرير سترادليتر، أخدها من على شيفونيرة سترادليتر، وحدفها على سريره.

وبعدين، جه وقعد على دراع كرسي سترادليتر. عمره ما كان يقعد على الكرسي، دايمًا على الدراع. قال: «من فين جبت البرنيطة دي؟»

– من نيويورك.

– بكام؟

– دولار.

– ضحكوا عليك.

وبدأ ينضف ضوافره اللعينة بعود كبريت. كان دايمًا بينضف ضوافره، كان شيء مضحك. سنانه دايمًا مسودة، وودانه دايمًا وسخة، لكنه دايمًا عمَّال ينضف ضوافره. أظن إن ده كان بيخليه يحس إنه واد أنيق. ورمى نظرة تانية على برنيطتي وهو بينضف ضوافره. قال: «في بلدنا بنلبس برنيطة زي دي، واحنا بنصيد الغزلان، أي والله. ديه برنيطة صيد الغزلان.»

«لا يا شيخ!»

وقلعتها وبصيت لها. وغمضت عين من عينيا كإني بنشن عليها. قلت: «دي برنيطة صيد الناس. أنا بصطاد الناس وأنا لابس البرنيطة دي.»

– أهلك عرفوا إنك انطردت؟

– لأ.

– وفين سترادليتر راح؟

– في الملعب، معاه واحدة صاحبته.

واتَّاوبت. كنت بتَّاوب في الحتة كلها، فأولًا، الأوضة كانت حر جدًّا، تخلي الواحد منعوس في بينسي، إما الواحد يموت من البرد أو يتخنق من الحر.

قال آكلي: «سترادليتر العظيم. هيه. سلفني مقصك لحظة، ممكن؟»

– عارف مكانه؟

– لأ، أنا لفيته مع حاجاتي خلاص، محطوطين في الرف العالي بالدولاب.

آكلي قال: «ممكن تجيبه لحظة؟ عندي الضوفر ده اللي مضايقني.»

ما كانش يهمه إذا كنت رتبت حاجاتك خلاص ولا لأ، وإذا كانت مصفوفة في الدولاب، ومع ذلك، رحت جبت له المقص، وكنت على وشك أموت في العملية ديه، أول ما فتحت باب الدولاب اللي جوه الحيطة، إلا ومضرب التنس بتاع سترادليتر — في علبته الخشب، وكل ده — وقع فوق نفوخي. وعملت حاجة مكببة وكانت بتوجع وجع رهيب، ومع ذلك كانت حتموِّت عم آكلي. وابتدا يضحك بصوته الفالصو العالي جدًّا، وفضل يضحك طول الوقت اللي كنت بنزل فيه الشنطة، وبخرج منها المقص عشانه. كانت حاجة زي دي — واحد طوبة تخبط راسه أو حاجة زي كده — تخللي آكلي في غاية الانبساط. قلت له: «أما أنت عندك حس مرح بشكل يا واد يا آكلي، إنت عارف ده؟» واديته المقص. «خلليني أبقى مدير أعمالك، أنا حخليك تتكلم في الإذاعة.» وقعدت على الكرسي بتاعي تاني، وهوه ابتدا يقص ضوافره الطويلة المهببة. قلت: «إيه رأيك تستخدم الترابيزة؟ قص ضوافرك عليها، ممكن؟ ما أحبش أمشي وأدوس على ضوافرك الليلة دي وأنا حافي.» واستمر هو يقص ضوافره على الأرض مع كل ده. أخلاق زفت، بكل معنى الكلمة.

قال: «مين هي البنت بتاعة سترادليتر؟» كان دايمًا يحب يعرف سترادليتر بيحب مين، رغم إنه كان بيكره سترادليتر كره العمى.

«معرفش، بتسأل ليه؟»

«يعني، أنا مبحبش ابن الكلب ده أبدًا. هوه ابن كلب مقدرش أحتمله أبدًا.»

«هو بيحبك جدًّا. قال لي مرة إنه شايف إنك أمير رائع.»

كنت أسمِّي الناس باسم «أمير» لما أكون بسوق الهبالة على الشيطنة، كانت بتدفع عني الملل أو حاجة زي كده.

آكلي قال: «دايمًا بيبقى باين عليه التعالي. أنا بس ما أقدرش أستحمل ابن الكلب ده، أنت شايف إنه …»

قلت: «هييي، ممكن وحياتك تقص ضوافرك على الترابيزة؟ أنا طلبت منك كده ميت مرة …»

آكلي قال: «دايمًا بيظهر بمظهر المتعالي، مع إني مظنش إن ابن الكلب ده ذكي حتى، هو شايف نفسه ذكي، شايف إنه …»

«آكلي! وحياة أبوك، ممكن تقص ضوافرك المهببة دي فوق الترابيزة؟ قلت لك كده ميت مرة.»

وابتدا يقص ضوافره فوق الترابيزة، أخيرًا، ما كانش عمره يعمل حاجة، إلا إذا صرخت فيه بأعلى حسك.

وراقبته شوية، وبعدين قلت: «إنت شايل من سترادليتر عشان الكلام اللي قاله عن إنك لازم تدعك سنانك من حين لآخر، ما كانش يقصد يهينك لما قال كده صراحة. يمكن يكون ما قالهاش بطريقة مناسبة، لكن ما كانش يقصد إهانتك. كل اللي كان عايز يقوله إنك حتبقى أحسن وتشعر أحسن، لو إنك دعكت سنانك من وقت للتاني.»

أنا بدعك سناني، سيبك من الكلام ده.

قلت: «لأ، إنت مبتدعكش سنانك، أنا شفتك، وعارف إنك مبتعملش ده» ما كنتش بتطلب بطريقة وحشة. كنت حاسس بالأسف له بطريقة ما. كنت أقصد إن الحكاية مش كويسة لو وصلت إن واحد يقول لك إنك ما بتنضفش سنانك. «سترادليتر معاه حق. هو مش وحش، كل الحكاية إنك متعرفوش.»

لكن أنا لسة رأيي إنه ابن كلب مغرور.

قلت: «هوه صحيح مغرور، لكنه كريم جدًّا في بعض الأمور. صحيح، بص، إفترض مثلًا إن سترادليتر كان لابس كرافتة أو حاجة كده، وإنت أعجبت بيها. قول إنه لابس كرافتة إنت اتجننت بيها، أنا بس بضرب لك مثال دلوقتي. تعرف ممكن يعمل إيه؟ ممكن قوي إنه يقلعها ويديها لك. ممكن قوي يعمل كده، أو … تعرف ممكن يعمل إيه كمان؟ ممكن يسيبها لك على سريرك أو حاجة كده، لكن المهم إنه ممكن يديها لك، معظم الولاد ربما بس …»

آكلي قال: «وإيه يعني، أنا لو غني زيه كنت أعمل كده برضه.»

هزيت راسي وقلت: «لأ، ما كنتش تعمل كده، مكنتش تعمل كده يا واد يا آكلي، لو إنك كنت غني زيه، حتبقى أكبر …»

«بطل تقول لي يا واد يا آكلي، أنا سني ممكن أكون أبوك.»

«لا، أبدًا.» يالله، كان أحيانًا يبقى في غاية الرزالة. عمره ما كان يفوت فرصة عشان يفهمك إن إنت عندك ستاشر سنة وهو تمنتاشر. «أولًا أنا ما كنتش أدخلك في عيلتي.»

– المهم، بطَّل تقول لي …

وفجأة انفتح الباب، ودخل عم سترادليتر، ملهوف. دايمًا كان يبان ملهوف ومستعجل. كل حاجة عنده مهمة، وجه ناحيتي، وإداني خبطتين من كفه على خدودي، ودي أحيانًا حاجة مزعجة جدًّا. قال: «اسمع، إنت رايح حتة معينة الليلة دي؟»

«مش عارف، يجوز، الدنيا عاملة إيه بره، بتتلج؟» كان البلطو بتاعه كله تلج.

«أيوة، اسمع، إذا ما كنتش خارج لحتة معينة، إيه رأيك تسلفني جاكتتك الجلد؟»

– مين كسب الماتش؟

– الماتش لسة في نصه. إحنا ماشيين. قوللي الحق، حتلبس جاكتتك الجلد الليلة دي ولا لأ؟ أنا دلقت حاجات على جاكتتي الرمادي.

– لأ مش حلبسها الليلة دي، بس أنا ما حبش إنك توسعها بكتافك العريضة دي.

كنَّا طول بعض تقريبًا، لكن كان وزنه ضعف وزني. كانت كتافه عريضة جدًّا.

«مش حوسعها.»

وراح ناحية دولاب الحيطة في لهفة. وقال لآكلي: «إزيك يا آكلي؟» كان على الأقل جدع لطيف ودود ستراليتر ده. كان نوع واد فالصو، لكن كان دايمًا يقول أهلًا لآكلي وكل حاجة.

وآكلي تمتم من تحت ضروسه حاجة زي «إزيك.» ما كانش يحب يرد عليه، لكن ما استجراش على الأقل يتمتم حاجة. وبعدها قال لي: «أنا ماشي، أشوفك بعدين.»

قلت: «أوكي.» ما كانش الواحد يزعل أبدًا لما آكلي يقرر إنه يرجع أوضته.

وبدأ عم سترادليتر يخلع بالطيه وكرافتته وكل ده. قال: «أظن إني أحسن أحلق دقني بسرعة.» كانت دقنه تقيلة. صحيح.

قلت له: «أومال فين البنت بتاعتك؟»

«مستنياني في المبنى التاني.»

وخرج من الأوضة ومعاه أدوات الحلاقة، والفوطة تحت باطه. من غير قميص ولا حاجة. كان دايمًا يمشي ونصه الفوقاني عريان؛ لأنه كان شايف إن جسمه حلو. وده صحيح فعلًا. ضروري أعترف بكده.

٤

ما كانش ورايا أي حاجة أعملها، عشان كده رحت معاه للحمامات ندردش وهو بيحلق. كنا لوحدنا في الحمامات؛ لأن الكل كان لسة في الماتش، الجو كان حر جدًّا جوه، والشبابيك كلها عليها بخار. كان هناك حوالي عشر أحواض، كلها ملزوقة في الحيط. حوض سترادليتر كان في الوسط، وقعدت على الحوض اللي جنبه على طول، وابتديت أفتح حنفية المية الباردة وأقفلها، اللازمة العصبية بتاعتي دي. وسترادليتر فضل يصفر لحن «أغنية الهند» وهوه بيحلق. كانت له طريقة غريبة في التصفير، نشاز وحادة جدًّا، وكان دايمًا يختار أغنية صعب إن الواحد يصفرها، حتى لو كان شاطر في التصفير، زي «أغنية الهند» أو «مذبحة في الشارع العاشر». كان ممكن حقيقي يبوَّظ أي أغنية.

فاكر لما قلت قبل كده إن آكلي مقزز في تصرفاته الشخصية؟ ممم، برضه سترادليتر كان نفس الشيء، لكن بطريقة مختلفة. سترادليتر كان مقزز خفي، كان دايمًا يظهر بمظهر تمام التمام، لكن، مثلًا كان لازم تشوف الموس اللي كان بيحلق بيه. كان دايمًا موس مصدي ومتغطي صابون وشعر وقرف، وعمره ما كان ينضفه أو أي شيء. كان دايمًا يبان تمام بعد ما يخلص توضيب نفسه، لكنه كان مقزز خفي رغم كده، لو كنت تعرفه زي ما أنا بعرفه. والسبب في إنه بيوضب نفسه تمام، عشان يبان في أحسن حالاته، هو إنه كان معجب بنفسه جدًّا، كان فاكر نفسه أجمل واد في النص الغربي للكرة الأرضية، هو كان وسيم صحيح، لازم أعترف بكده، لكن كان من نوع الولاد الوجيهين، اللي لو أي أبهات شافوا صورهم في كتاب المدرسة السنوي، يقولوا على طول: «مين الواد ده؟» أقصد أنه كان من صنف الولاد الشيك بتوع الكتب السنوية، اللي بتنشرها المدراس. أنا أعرف ولاد كتير في بينسي، أعتقد إنهم أجمل بكتير من سترادليتر، لكنهم مش حيبانوا شيك في صور الكتب السنوية. كانو دايمًا يبانو بمناخير كبيرة أو ودان طالعة لبرة، أنا شفت الحكاية دي كتير.

على كل، أنا كنت قاعد على الحوض اللي جنب الحوض اللي بيحلق عليه سترادليتر، عمَّال أفتح الحنفية وأقفلها. كنت لسة لابس برنيطتي الحمرا، وطرفها منزاح لورا وكل حاجة. حقيقي البرنيطة دي كانت ملياني بالنشوة.

سترادليتر قال: «إيه، ممكن تعمل لي خدمة؟»

قلت: «إيه هيه؟» مكنتش متحمس. كان دايمًا يطلب من الواحد يعمل له خدمة، عندك أهوه واحد وسيم جدًّا، أو هوه فاكر إنه حاجة مهمة قوي، وبعدين دايمًا يطلبوا منك إنك تعمل لهم خدمة كبيرة، عشان ما همه فاكرين نفسهم مهمين جدًّا، بيفتكروا إنك كمان شايفهم مهمين، وإنك حتموت عشان تعمل لهم خدمة، حاجة غريبة.

قال: «إنت خارج الليلة دي؟»

– يمكن، ويمكن لأ، مش عارف. ليه؟

– ورايا حوالي ميت صفحة لازم أقراهم لحصة التاريخ يوم الإتنين، إيه رأيك تكتب لي موضوع إنشا لدرس الإنجليزي؟ وأنا بسأل لأني حروح في داهية لو مكتبتش الموضوع المهبب ده على يوم الإتنين. إيه رأيك؟

كانت حكاية مضحكة. حقيقي مضحكة.

قلت: «يا راجل، دا أنا اللي منطرد من المكان المهبب ده، وبعدين إنت اللي تسألني أكتب لك موضوع إنشا؟»

– أيوه أنا عارف. لكن مع كده الحكاية إني حروح في داهية لو ما قدمتوش. خليك صاحبي، خليك صاحبي، أوكي؟

ما جاوبتوش على طول. التعليق كويس للولاد الكلاب اللي زي سترادليتر.

قلت: موضوع عن إيه؟

– أي شيء، أي شيء وصفي، أوضة، أو بيت، أو مكان عشت فيه مرة أو أي حاجة، إنت عارف، طالما إنه يكون وصفي على سن ورمح.

واتَّاوب بشدة وهو بيقول كده، ودي حاجة تملاني بالقرف، قصدي إن لو الواحد إتَّاوب وهو بيطلب منك إنك تعمل له معروف كبير.

قال: «لكن ما تعملوش كويس أكتر من اللازم. ابن الكلب ده هارتزل بيقول إنك رهيب في الإنجليزي، وهو عارف إنك زييي في الأوضة، قصدي ما تكتبش كل الفواصل والعلامات دي في مكانها الصحيح دايمًا.»

ودي كانت حاجة تانية تملاني قرف، قصدي لو إنك كويس في كتابة مواضيع الإنشا، وبعدين حد يبتدي يتكلم عن الفواصل. سترادليتر كان دايمًا يعمل كده. كان عايز يخليك تفتكر إن السبب الوحيد إنه ما يعرفش يكتب مواضيع إنشا كويس هو إنه بيحط الفواصل في مكانها الغلط. كان زي آكلي من الناحية دي، كنت مرة قاعد جنب آكلي في ماتش الباسكت بول. كان في فريقنا لاعب ممتار، هاوي كويل، يقدر يحط هدف من وسط الملعب، من غير ما يخلِّي الكورة تحك في الخشبة حتى، وقعد آكلي يقول طول الماتش المهبب إن كويل جسمه مناسب تمام للباسكت بول، يالله، قد إيه أنا بكره الكلام ده.

وبعد شوية زهقت من قعدتي على الحوض، عشان كده بعدت شوية وابتديت أرقص كلاكيت عشان أسلي نفسي. والحق أنا ما كنتش أعرف أرقص كلاكيت ولا حاجة، لكن الأرض كانت هناك حجرية ومناسبة لرقص الكلاكيت، وبدأت أقلد واحد من الرقاصين المشهورين دول في الأفلام. في فيلم موسيقي من دول، أنا بكره الأفلام عمى، لكن كنت أحب أقلدهم، وفضل عم سترادليتر يبص لي في المراية وهو بيحلق، كنت محتاج جمهور، كنت أحب أستعرض، قلت وأنا عمال أرقص بجد من حواليه: «أنا ابن الحاكم، مش عاوزني أطلع رقاص كلاكيت، عاوزني أدرس في أكسفورد، لكن رقص الكلاكيت في دمي.»

وعم سترادليتر ضحك، كان يحس بالنكتة، وقلت وأنا نفَسي مقطوع، ومش قادر أتنفس: «دي ليلة الافتتاح في ملهى زيجفلد، الراقص الأول من قادر يطلع على المسرح، سكران طينة، فمين يختاره عشان يحل محله؟ أنا، هو أنا، ابن الحاكم الصغنن.»

سترادليتر قال: «أنت جبت منين البرنيطة المهببة دي؟» كان يقصد برنيطة الصيد بتاعتي، ما كانش شافها قبل كده.

كان نفسَي مقطوع على كل حال، عشان كده بطلت أسوق الهبل، وخلعت برنيطتي، وبصيت لها يمكن لتاسع مرة. «اشتريتها في نيويورك الصبحية دي، بدولار، عجبتك؟»

وستارليتر هزَّ رأسه. قال: «روعة.» كان بيتملقني ليس إلا؛ لأنه قال بعد كده على طول: «اسمع، حتكتب موضوع الإنشاء ده ليا؟ لازم أعرف.»

– «حكتبه لو عندي وقت، لو ما عنديش، مش حكتبه.»

ورحت قعدت على الحوض اللي جنبه تاني، وسألته: «مين البنت بتاعتك؟ فتزجرالد؟»

– طبعًا لأ! أنا قلت لك إني انتهيت مع الخنزيرة دي.

– صحيح؟ إديهاني إذن يا واد، بتكلم جد، دي الطراز بتاعي.

– خدها … دي كبيرة عليك.

وفجأة، من غير أي سبب، إلا إني كنت عايز أسوق الهبالة على الشيطنة. حسيت برغبة إني أنط من على الحوض وآخد بخناق سترادليتر بحركة نلسون، كان وضع مصارعة إذا ما كنتش تعرف، تمسك فيه رقبة الواد التاني، وتضغط عليها لحد ما يتخنق إذا حبيت تخنقه. وعملت كده، ورقدت عليه كإني نمر متوثب.

سترادليتر قال: «بطَّل يا هولدن وحياة أبوك»، ما كانش في مزاج يسوق الهبالة. كان بيحلق وكل ده، «إنت عاوزني أعمل إيه، أقطع رقبتي بالموس؟»

ومع كده، ما سبتوش. كنت عملت حركة نلسون حلوة على رقبته، قلت: «خلَّص نفسك يا حلو من قبضتي.»

– يا الله!

وحط الموس على الحوض، وبحركة فجائية رفع دراعه وحرر نفسه من خنقتي، كان واد قوي جدًّا، وأنا واد ضعيف.

قال: «دلوقتي بطل السخافة دي.»

ورجع تاني يحلق دقنه. كان دايمًا يحلقها مرتين، عشان يبان روعة بالموس المصدي بتاعه.

سألته: «إذن، مين البنت بتاعتك إذا ما كانتش فتزجرالد؟» وقعدت على الحوض اللي جنبه تاني. «هل هيا البت فيليس سميث؟»

– لأ، كان المفروض إنها تبقى البنت بتاعتي، لكن الحكاية ما نفعتش، دلوقتي معايا زميلة البت بتاعة بد ذوو … آه، كنت حنسى، دي تعرفك.

– مين؟

– البنت بتاعتي.

– صحيح؟ هيه اسمها إيه؟

كنت مهتم أعرف الحكاية.

– بفكر … آه، جان جالاغر.

يالله، كنت حقع ميت لما سمعت ده.

– جان جالاغر؟

حتى إني قمت من على الحوض لما قال كده. كنت حقع ميت.

– طبعًا أنا أعرفها. كان تقريبًا ساكنة جنبنا في الصيف اللي قبل اللي فات. كان عندها كلب ضخم دوبرمان. ده سبب معرفتي بيها، كان الكلب بتاعها دايمًا بيجي عندنا …

– إنت حاجز عني النور يا هولدن، وحياتك. أنت لازم تقف في الحتة دي؟

يالله، قد إيه أنا كنت متحمس، أي والله.

هي فين؟ المفروض إني أروح أقول لها أهلًا أو حاجة كده، هي فين؟ في المبنى الملحق؟

– أيوة.

– إزاي افتكرتني؟ هي دلوقتي في مدرسة ب. م.؟ كانت بتقول إنها يمكن تروح هناك، وقالت كمان يمكن تروح مدرسة شيبلي. أظن إنها راحت شيبلي. إزاي افتكرتني؟

كنت متحمس جدًّا، حقيقي.

– معرفش، ابعد شوية، ممكن، إنت قاعد على الفوطة بتاعتي.

كنت فعلًا قاعد على فوطته الملعونة.

قلت، وأنا لسة بفكر في الموضوع: ««جين جالاغر»، يا ربي!»

وكان عم سترادليتر بيحط دهان فيتاليس على شعره، الدهان بتاعي.

قلت: «دي رقاصة باليه وكل ده. كانت بتتمرن حوالي ساعتين كل يوم، حتى لو كان الجو حر جدًّا. كانت قلقانة لحسن الدهن يخللي رجليها وحشة.»

– فيها عضلات وكل ده، كنت بلعب معاها طاولة دايمًا.

– كنت بتلعب معاها إيه دايمًا؟

– طاولة.

طاولة! يا ألله!

– أيوة، كانت متحركش أي قطعة من قطعها. كانت لما يبقى عندها ملك، ما تحركوش أبدًا. كانت مجرد تسيبه في الصف الخلفي، وبعدين عمرها ما تستخدمه، كانت تحب تشوفهم كلهم مصفوفين في الخطوط الخلفية.

سترادليتر ما نطقش بكلمة، الحاجات دي ما كانتش تعجب معظم الناس.

قلت: «أمها كانت في النادي اللي احنا كنا فيه. كنت أخدم في ملعب الجولف أحيانًا عشان أكسب قرشين، وخدمت أمها أحيانًا. كانت بتحط حوالي ١٧٠، في تسع حفر.»

ما كانش سترادليتر حتى سامع اللي بأقوله. كان بيسرَّح شعره الجميل.

قلت: «أظن إني لازم أروح أقول لها أهلًا.»

– ليه لأ.

– حروح، حالًا.

وبدأ يفرق شعره تاني من جديد. كان ياخد ساعة عشان يسرَّح شعره.

– أمها وأبوها كانوا متطلقين، وأمها اتجوزت تاني من واحد بتاع كاس وطاس، راجل معظم رجليه مغطية شعر، فاكره كويس، كان بيلبس شورت على طول. كان جين تقول إنه كاتب مسرحي أو حاجة زي كده، لكن كل اللي شفته بيعمله هو إنه يشرب ويسمع برامج المغامرات البوليسية في الراديو، ويجري في البيت بحاله وهوه عريان، وجين موجودة وكله.

– صحيح؟

ده أثار اهتمام سترادليتر، عن الراجل السكران اللي يجري في البيت عريان مع وجود جين فيه … سترادليتر كان جنسي خالص ملعون.

– كانت طفولتها بؤس خالص، بتكلم جد.

لكن ده ما أثارش اهتمام سترادليتر، ما كانش يهتم إلا بالأمور الجنسية خالص.

– جين جالاغر، يا الله!

ما كنتش قادر أبعد فكري عنها، حقيقي ما كنتش قادر.

– لازم أروح أقول لها أهلًا.

– يا أخي روح قول لها، بدل ما إنت عمَّال تقول كده وبس.

ومشيت ناحية الشباك، لكن ما كانش الواحد يقدر يشوف حاجة؛ لأن القزاز كان متغطي بطبقة بخار.

قلت: «معنديش مزاج دلوقتي.»

كان الواحد لازم يبقى عنده مزاج عشان يعمل الحاجات دي.

– أظن إنها راحت مدرسة شيبلي، أقدر أحلف إنها راحت شيبلي، وقعدت أتمشَّى في الحمام شوية، ما كانش ورايا حاجة تانية أعملها، قلت: «انبسطت من الماتش؟»

– أيوة، أظن كده، مش عارف.

– يا ترى قالت لك إننا كنا بنلعب طاولة طول الوقت، أو حاجة زي كده؟

– مش عارف، يا أخي أنا لسة مقابلها.

كان بيخلص تسريح شعره الجنان، كان بيرص أدوات التواليت بتاعته.

«اسمع، سلِّم لي عليها، ممكن؟»

– أوكي.

لكن أنا كنت عارف إنه يمكن مش حيقول لها حاجة. عندك ناس زي سترادليتر ده، عمرهم ما ينقلوا تحياتك لحد.

ورجع للأوضة، لكن أنا فضلت في الحمامات شوية، أفكر في الست جين، وبعدها رجعت الأوضة أنا كمان.

كان سترادليتر بيربط كرافتته، قدام المراية، لما أنا دخلت، كان بيقضي نص عمره الملعون واقف قدام المراية. أنا قعدت على الكرسي بتاعي، وراقبته شوية.

– اسمع، ما تقولهاش إني انطردت من المدرسة، ممكن؟

– أوكي.

دي كانت خصلة حلوة في سترادليتر. ما كانش الواحد مضطر إنه يشرح له كل حاجة بالتفصيل، زي ما هو ضروري مع آكلي. يمكن السبب إنه ما كانش بيهتم. ده هوه السبب الحقيقي، لكن آكلي كان مختلف، آكلي متطفل ابن كلب.

ولبس الجاكتة الجلد بتاعتي.

قلت: «حاول وحياتك إنك ما تمطهاش من كل حتة، أنا ما لبستهاش إلا مرتين بس.»

– مش حمطها، فين السجاير بتاعتي؟

– «على المكتب.» عمره ما كان يفتكر مكان حاجاته. «تحت الكوفية بتاعتك». وحط السجاير في جيب جاكتته، جيب جاكتتي.

وأنا شديت طرف برنيطتي الصيد على قورتي فجأة عشان أعمل حاجة، كنت بدأت أحس فجأة بالنرفزة، كنت ولد نرفوز جدًّا، سألته: «اسمع، إنت حتروح فين مع البنت بتاعتك، عندك فكرة؟»

– مش عارف، نيويورك لو عندنا وقت كفاية، هي خدت إذن لحد تسعة ونص بس.

ومعجبتنيش الطريقة اللي اتكلم بيها، عشان كده قلت: «يمكن هي عملت كده لأنها متعرفش الواد الجميل، الساحر، ابن الكلب، اللي هي خارجة معاه، لو أنها كانت تعرف، كانت خدت إذن لحد تسعة ونص الصبح.»

سترادليتر قال: «عندك حق.»

ما كانش حد يقدر يخليه يغضب بسهولة. كان مغرور بنفسه جدًّا.

– نتكلم بجد دلوقتي. اكتب لي موضوع الإنشا ده.

كان لابس البالطو وجاهز للخروج.

ما تبذلش جهد فيه ولا حاجة، بس خلِّيه وصفي قد ما تقدر، أوكي؟

ما جاوبتوش، ما كانش عندي نِفْس أجاوب. كل اللي قلته هو: «اسألها إذا كانت لسة بتحط الملوك السود في الخط الوراني.»

سترادليتر قال: «أوكي»، لكن كنت عارف إنه مش حيسألها. «أسيبك بقى.» واندفع خارجًا من الأوضة.

وقعدت هناك حوالي نص ساعة بعد ما خرج، أقصد قعدت في الكرسي بتاعي ما اعملش أي حاجة، فضلت أفكر في جين، وفي إنها البنت بتاعة سترادليتر وكل ده. كانت الحكاية دي خليتني عصبي جدًّا وكإني حتجنن. أنا قلت لك قبل كده قد إيه كان سترادليتر جنسي ابن حرام.

وفجأة دخل آكلي مرة تانية في الأوضة، من خلال ستاير الدش الملعون ده زي عوايده. ومرة وحيدة في حياتي المهببة دي، شعرت بالسعادة لما شفته. كان وجوده بيبعد عن ذهني موضوعات تانيه.

وقعد في الأوضة لحد ميعاد العشا، يتكلم عن كل الولاد اللي في بينسي اللي كان بيكرههم كره العمى، ويفعَّص في الدمامل اللي على دقنه، ما كانش حتى بيستعمل المنديل بتاعه. ما أظنش حتى ابن الحرام ده كان عنده منديل، إن كنت عاوز الحق، على كلٍّ، أنا عمري ما شفته بيستعمل أي منديل.

٥

كانت وجبة العشا في بينسي ليلة السبت مبتتغيرش. كان المفروض إنها حاجة عظيمة؛ لأنهم بيدوا فيها لحمة. أراهن بألف دولار إنهم بيعملوا ده لأن أبهات ولاد كتير في المدرسة بييجوا بينسي يوم الحد، ولازم عم ثيرمر كان عارف إن الأمهات حيسألوا الأولاد أكلوا إيه الليلة اللي فاتت، والولد حيقول «لحمة.» احتيال، وكان لازم تشوف اللحمة. كانت من نوع الحتت الجامدة دي اللي صعب قوي إنك تقطعها. دايمًا يدوك كمان كتلة من البطاطس المهروسة مع لحمة يوم السبت بالليل، والحلو حتة كيك سودة محدش كان بياكلها، يمكن بس الولاد الصغيرين في الصفوف الأولى اللي ما يعرفوش أحسن من كده، والولاد اللي زي آكلي اللي بياكلوا كل حاجة.

ومع كده، كان كويس لما خرجنا من المطعم. كان فيه تلات بوصات من التلج على الأرض، وكان التلج لسة نازل زي الحنفية. الحكاية كانت هايلة، وكلنا بدأنا نحدف كرات التلج ونسوق الهبالة في المكان كله. كانت الحكاية عيالي خالص، لكن الكل كان مستمتع جدًّا.

ما كانش عندي بنت مواعدها ولا حاجة، عشان كده أنا وصاحبي «مال بروسارد» — ده اللي كان في فريق المصارعة — قررنا إننا ناخد الباص اللي رايح «آجروستاون»، وناكل هامبرجر، ويمكن نشوف فيلم مهبب. ما كانش حد منا عاوز يقعد قفاه يقمر عيش طول الليل، وسألت مال إذا كان عنده مانع إن آكلي ييجي معانا. وسبب إني سألت هوه إن آكلي ما كانش بيعمل أي حاجة أبدًا يوم السبت بالليل، عدا إنه يقعد في أوضته ويفقع الدمامل بتاعته أو حاجة كده. ورد مال إنه ما عندوش مانع، برغم إنه مش متحمس قوي للفكرة، ما كانش بيحب آكلي قوي. المهم، كل واحد منا راح أوضته عشان يستعد. ولما كنت بلبس غطا الجزمة، زعقت على آكلي، وقلت له إذا كان عاوز يروح السينما، كان يسمعني كويس من ورا ستاير الدش، لكنه ما ردش عليا على طول. كان من الصنف اللي يكره إنه يرد عليك على طول. وأخيرًا دخل عن طريق الستاير الملعونة، ووقف على حافة الدش، وسألني مين رايح معايا، كان دايمًا يحب يعرف مين رايح، أحلف إن الواد ده لو غرقت بيه مركب وأنقذته في قارب مهبب، لكان يطلب يعرف مين اللي بيقدف القارب قبل ما يطلع فيه. قلت له إن مال بروسارد رايح معايا. قال: «ابن الحرام ده … وهو كذلك. استنى لحظة.» كنت تحس إنه بيقدم لك خدمة كبيرة إنه جَيْ معاك.

وقعد حوالي خمس ساعات يستعد. ولما كان بيستعد، رحت للشباك بتاعي وفتحته، وعملت كورة تلج بصوابعي. التلج كان هايل لعمل الكور. ومع ذلك محدفتش الكورة أي حتة، بدأت أحدفها ناحية عربية كانت راكنة مقبل الشارع. لكن غيرت رأيي. العربية كانت حلوة وبيضا، وبدأت أرميها ناحية حنفية مية في الشارع، لكن دي رخره كانت كويسة وبيضا. وفي الآخر، ما رميتهاش ناحية أي حاجة. كل اللي عملته إني قفلت الشباك، ومشيت في الأوضة ومعايا كورة التلج، بعد ما كبستها أكتر. وبعد شوية، كانت لسة معايا لما ركبنا أنا وبروسارد وآكلي الأوتوبيس. وسواق الأوتوبيس فتح الباب وخللاني أرميها بره. قلت له إني مش ححدفها على أي حد، لكن ما صدقنيش. الناس عمرها ما تصدقك.

كان بروسارد وآكلي شافوا الفيلم المعروض قبل كده، عشان كده كل اللي عملناه إننا أكلنا جوز هامبرجر، ولعبنا في ماكينة الكور مدة، وبعدين خدنا الباص تاني لبينسي، وعلى كلٍّ، ما اهتمتش إني ما شفتش الفيلم. كان مفروض إنه كوميدي، فيه كاري جرانت، وكل الهلس ده. وبالإضافة لكده، أنا رحت قبل كده السينما مع بروسارد وآكلي. كان الاتنين يضحكوا زي الحيوانات على حاجات ما فيهاش أي حاجة تضحك. حتى ما كنتش بحب إني أقعد جنبهم في السينما.

ما كانتش الساعة عدت تسعة إلا ربع، لما رجعنا العنبر. عم بروسارد كان شاطر في البردج، وقعد يدور على حد يلاعبه في العنبر. وعم آكلي جرَّش في أوضتي، يغير مناظر. بس بدل ما يقعد على مسند كرسي سترادليتر، مدِّد على سريري، ووشه على مخدتي وكل حاجة. وبدأ يتكلم بصوته الرتيب الممل، وهوه بيفعص في كل الدمامل بتاعته. رميت ألف إشارة له، لكن ما قدرتش أتخلص منه. كل اللي عمله إنه استمر يتكلم بصوته الرتيب عن بنت، كان المفروض إنه نام معاها في الصيف اللي فات. كان قاللي الحكاية دي ميت مرة قبل كده. وفي كل مرة يحكيها لي كانت تبقى مختلفة. مرة، يكون إنه عملها معاها في عربية ابن عمه البويك، ومرة تانية تكون العملة تحت الكوبري. كان كل ده كلام فارغ طبعًا، كان عمره ما نام مع بنت، حتى أنا أشك إنه لمس أي واحدة. ونهايته، في الآخر اضطريت أبقى صريح، وقلت له إني لازم أكتب موضوع إنشا لسترادليتر، وإنه لازم يخرج عشان أقدر أركز، وخرج في النهاية، بس بعد ما خد كل وقته زي عوايده. وبعد ما خرج، لبست بيجامتي، وروب الحمام بتاعي، وبرنيطة الصيد القديمة، وبدأت أكتب موضوع الإنشا.

الموضوع إني ما كنتش أقدر أفكر في أوضة أو بيت عشان أوصفه بالطريقة اللي سترادليتر قالها. وعلى كلٍّ أنا ما كنتش أحب أوصف أوض أو بيوت. وعشان كده، كل اللي عملته إني كتبت عن جوانتي البيزبول بتاع أخويا إلى. كان موضوع وصفي خالص. حقيقي، أخويا إلى والجوانتي بتاع الإيد الشمال. أخويا كان أشول، لكن الشيء الوصفي في الموضوع هوه إنه كان كاتب قصايد على كل الصوابع والكف وكل مكان فيه. بالحبر الأخضر، كتبها عشان يبقى عنده حاجة يقراها لما يكون في الملعب، والماتش مش شغال، هوه ميت دلوقتي، جاله سرطان في الدم، ومات لما كنا عايشين في ولاية «مين»، يوم ١٨ يوليو ١٩٤٦، كان حَبُّوب، كان أصغر مني بسنتين، لكن كان أذكى مني خمسين مرة. كان ذكاؤه خارق، كان المدرسين بتوعه بيكتبوا جوابات دايمًا لأمي، يقولوا لها إزاي كانوا مبسوطين إن إلى في الفصل بتاعهم، وماكنوش بيقولوا مجرد كلام وبس. كانوا يقصدوا اللي بيقولوه. وماكانش الموضوع بس إنه أذكى واحد في العيلة، لكنه كان ألطف واحد كمان في حاجات كتير. عمره ما كان يغضب من حد. المفروض إن الناس اللي شعرهم أحمر بيكونوا سريعي الغضب، لكن إلى ما كانش كده، وكان شعره أحمر خالص. حقول لك نوع شعره الأحمر. أنا بدأت ألعب جولف لمَّا كان عندي عشر سنين، وأنا فاكر مرة، الصيف اللي كان عندي فيه إتناشر سنة، وحسيت جوايا إني لو التفت ورايا فجأة حشوف إلى. واتدورت، وفعلًا كان هناك قاعد على العجلة بتاعته خارج السور — السور اللي كان موجود حوالين الملعب كله — وكان قاعد هناك، حوالي مية وخمسين ياردة ورايا، بيشوفني وأنا بلعب. ده كان مدى احمرار شعره. يا الله، قد إيه كان ولد لطيف! كان أحيانًا يضحك بكل قوته وهو بيفتكر حاجة واحنا بنتعشى، لدرجة إنه يبقى على وشك يقع من كرسيه. كان عندي تلاتاشر سنة، وكانوا حيبعتوني أحلل نفسيًّا وكل ده عشان كسرت كل شبابيك الجراج. مكنتش ألومهم على كده. حقيقي ما كنتش. أنا نمت في الجراج الليلة اللي مات فيها، وكسرت كل الشبابيك الملعونة بقبضة إيدي، لمجرد التنفيس عن نفسي. حتى أنا فكرت أكسر شبابيك العربية الإستيشن واجون اللي كانت عندنا الصيف ده، لكن إيدي كانت اتكسرت خلاص وكل ده، وما قدرتش أعمل كده. كان شيء غبي اللي عملته، أنا معترف بذلك، لكن أنا ما كنتش حاسس أنا بعمل إيه، وإنت ما تعرفش إن إيدي لسة بتوجعني من حين لآخر، لما الدنيا تمطر وكل ده، وما بقدرش أكوَّر قبضتي كما يجب — قصدي أعمل قبضة محكمة — لكن بخلاف كده الموضوع ما يهمنيش. أقصد أنا مش ناوي أبقى جراح أو عازف فيولين، أو أي شيء على كل حال.

المهم، ده الموضوع اللي كتبت عنه لإنشا سترادليتر. جوانتي البيزبول بتاع عم إلى. وبالصدفة الجوانتي كان معايا، في شنطتي، عشان كده طلعته ونسخت القصائد اللي كانت مكتوبة عليه. كان كل اللي عليا أعمله هوه إني أغير اسم إلى عشان محدش يعرف إنه أخويا أنا، مش أخو سترادليتر. مكنتش مبسوط وأنا بعمل كده، لكن ما كنتش قادر أفكر في موضوع وصفي تاني. بالإضافة إلى إني كنت مبسوط من الكتابة عن الجوانتي. والحكاية دي خدت مني ساعة تقريبًا؛ لأني اضطريت أستخدم الآلة الكاتبة المهببة بتاعة سترادليتر، وفضل الورق ينحشر فيها. وسبب إني ما استخدمتش الماكينة بتاعتي، هو إني سلفتها لواحد ساكن في آخر العنبر.

أظن إني انتهيت من الموضوع حوالي الساعة عشرة ونص، ومع ذلك ماكنتش تعبان، لذلك فضلت أبص من الشباك فترة. كان التلج بطَّل ينزل، لكن من بين حين وآخر كنت تسمع عربية مش قادرة تبدأ تتحرك، وكنت تسمع عم آكلي وهوه بيشخر كمان. كان صوت شخيره بيوصل عبر ستاير الدش الملعونة. كان عنده جيوف أنفية، وما كانش بيقدر يتنفس تمام وهو نايم. الواد ده كان فيه كل حاجة؛ جيوب أنفية، دمامل، سنان منخورة، نفَس وحش، ضوافر مقصفة. كان ضروري تحس نوع من الأسف ناحية ابن الكلب الأهبل ده.

٦

فيه حاجات صعب الواحد يفتكرها، بفكر دلوقتي لما رجع سترادليتر من ميعاده الغرامي مع جين. قصدي إني مش قادر أفتكر بالظبط كنت بعمل إيه لما سمعت خطواته المهببة الغبية، جاية من الصالة الخارجية، أظن إني كنت لسه ببص عبر الشباك، لكني أحلف إني مش فاكر. كنت قلقان جدًّا، ده السبب. أنا لما أقلق بجد على حاجة، ما كنتش بقدر أعمل حاجة. حتى إني كنت لازم أروح دورة الميه لما أكون قلقان من حاجة. لكن الحكاية إني ما بروحش. بكون قلقان لدرجة إني ما أقدرش أروح. ما كنتش عاوز أقطع قلقي عشان أروح. إنت إذا عرفت سترادليتر، كنت بقيت قلقان كمان. أنا مرتين يمكن رحت مواعيد غرامية مع ابن الكلب ده، وعارف أنا بتكلم عن إيه، كان ما عندوش ضمير، حقيقي.

على كلٍّ، كانت أرضية الصالة من اللينوليوم، وكنت تقدر تسمع خطوته المهببة جاي ناحية الأوضة. حتى أنا مش فاكر أنا كنت قاعد فين لمَّا دخل، جنب الشباك، ولَّا في الكرسي بتاعي أو في الكرسي بتاعه. أحلف لك إني مش فاكر.

ودخل وهو بيتمتم: «قد إيه الدنيا بره برد»، وبعدين قال: «فين راحت الناس؟ المكان هنا عامل زي المشرحة.» وما كلفتش نفسي إني أرد عليه. إذا كان من الغباء بحيث ما يدركش أن النهاردة يوم سبت بالليل، وإن الناس كلهم إما بره أو نايمين أو رجعوا بيوتهم للويك إند، فليه أنا أتكلَّف عناء إني أقول له كل ده. وبدأ يغير هدومه. ما قالش كلمة واحدة عن جين، ولا كلمة، ولا أنا راخر. كنت براقبه بس. كل اللي عمله إنه شكرني على إني سمحت له إنه يلبس جاكتتي، وعلَّقها في شماعة، وحطها في دولاب الحيط.

وبعد كده، لما كان بيقلع الكرافتة، سألني إذا كنت كتبت موضوع الإنشا المهبب بتاعه. قلت له إنه جاهز، وموجود فوق سريره المهبب. وراح قراه وهو بيفك زراير قميصه، وقف هناك، يقرأ فيه، وينقر على صدره وبطنه العريانين، ووشه عليه التعبير الغبي ده. كان دايمًا ينقر بإيده على بطنه أو صدره، كان معجب بنفسه جدًّا.

وفجأة، قال: «إيه ده يا هولدن؟! ده عن جوانتي بيزبول مهبب.»

قلت ببرود: «وفيها إيه؟»

– يعني إيه فيها إيه؟ أنا قلت لك إنه لازم يكون عن أوضة مهببة أو بيت أو حاجة كده.

«إنت قلت إنك عاوزه يكون وصفي، إيه الفرق إذا كان عن جوانتي بيزبول؟»

– «الله يلعنك.»

كان زعلان خالص، كان هايج بجد. «إنت دايمًا تعمل عكس المطلوب.» وبص لي. «مش غريب إنك مطرود من هنا. إنت عمرك ما تعمل حاجة بالطريقة المفروض إنها تتعمل بيها. حقيقي. ولا حاجة واحدة.»

– أوكي، رجعهولي تاني.

ورحت ونتشته من إيده، وبعدين قطعته حتت.

– إنت بتعمل إيه؟

وماردتش عليه حتى. بل رميت الورق المقطع في الزبالة، وبعدين اتمددت على سريري، وقعدنا إحنا الاتنين ساكتين مدة طويلة، وخلع هدومه وفضل بالسليب، وأنا في السرير ولعت سيجارة. كان ممنوع إن الواحد يدخن في العنابر، لكن ممكن تعمل كده بالليل قوي، لما يكون الكل إما نايمين أو بره، وما حدِّش يقدر يشم الدخان. وبالإضافة لكده، أنا دخنت عشان أغيظ سترادليتر. كان بيتضايق جدًّا إذا حد كسر أي قواعد، هو عمره ما دخن في العنابر، أنا بس.

كان ما قالش أي كلمة واحدة عن جين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤