الفصل الثاني عشر

مهندس في نيقوبول

كانت الفرقة النهائية في معهدنا تعد نفسها للامتحان الختامي في شيء من القلق، وكان من شروط الحصول على الإجازة الدراسية أن يتقدم الطالب بمشروع هندسي توافق عليه لجنة حكومية، وقد بذلت مجهودًا لا يعرف التراخي حتى أعددت مشروعي، وكان علينا بالإضافة إلى ذلك أن ننفق بعض الوقت في مصانع صهر المعادن على سبيل التدريب، وأكثر ما كنا في حاجة إليه هو قليل من طمأنينة النفس، وراحة مؤقتة من شئون السياسة، لكن أبى علينا القدر هذا المطلب؛ فجاءت تلك الأشهر الأخيرة مليئة بالأحداث السياسية.

فلم تعرف حياتنا العلمية في المعهد إلا قليلًا من الهدوء، ذلك على أحسن الفروض، فما كنَّا نكلف به من أعمال خارج المعهد، وما كانت تفعله بنا حركات التطهير، قد امتص نشاطنا امتصاصًا، حتى لقد كان يبدو لنا أحيانًا أن الدراسة لم تكن إلا وجهًا إضافيًّا من أوجه النشاط التي نقوم بها، وها نحن أولاء نُحْرَم حتى هذا الهدوء القليل الذي بقي لنا بعد ذلك كله، وذلك أنه في مستهل ديسمبر عام ١٩٣٤م أُطْلِقَت رصاصة من مسدس في «لننجراد» البعيدة عنا، لكنها أصابت حياتنا في «دنيبروبتروفسك» إصابة زلزلتها من أساسها.

أُطْلِقَت تلك الرصاصة في دهليز البناء الذي كان فيما مضى «معهد سمولني» والذي هو الآن مقر رياسة الحزب في لننجراد، وأطلق الرصاصة شاب شيوعي يُدْعَى «نيقولاييف»؛ فأصابت «سرجي كيروف» الذي كان عضوًا في الهيئة السياسية العليا والمشرف الحقيقي على الجزء الشمالي من روسيا، فسقط صريعًا عند قدمي «نيقولاييف»، ولبثت أصداء تلك الطلقة تتردد في الأرجاء أعوامًا طوالًا، وقبل أن تسكن تلك الأصداء لاقى مئات الألوف من الناس ما لاقوا من عناء وموت، وشقيت أنا أعوامًا دفعتها ثمنًا لتلك الفعلة الإرهابية التي اقترفتها يد شاب مجهول.

جاء «ستالين» ومعه «فوروشيلوف» مسرعين إلى لننجراد، وشاعت في دوائر الحزب أخبار تنبئ بأن «ستالين» أشرف بنفسه على استجواب «نيقولاييف» استجوابًا بلغ من الدقة حدًّا بعيدًا، وبالطبع لم يعلم أحد خارج هيئة المحاكمة بما علمه «ستالين» من المتهم، لكن سلوكه فيما بعد نهض دليلًا على أن «ستالين» فزع لما سمع فزعًا بلغ به حدَّ الجزع.

وقُبِضَ على مئات ممن حامت حولهم الشبهة في لننجراد، وقُتِلُوا رميًا بالرصاص في حينهم بغير محاكمة، وسيق مئات آخرون من أعماق السجون التي زجوا فيها لأعوام خلون، ثم أعدموا رمزًا من الحكومة على انتقامها من أعداء الحزب، وغصَّت سجون الأقاليم بداخليها، وحملت قطارات البضاعة ألوفًا وألوفًا من «العناصر الدخيلة من الوجهة السياسية» حيث خرجت بهم من المدينة إلى مطارح النفي النائية، ثم امتد هذا الإرهاب حتى شمل موسكو وكيف وخاركوف، وأخيرًا طفت موجته على البلاد بأسرها.

وكان أول ما أذيع من أخبار موت «كيروف» هو أن القاتل كان أداة في أيدي طائفة من الأجانب الأنذال من أستونيا وبولندا وألمانيا ثم من بريطانيا، وبعدئذٍ تتابعت التقارير الرسمية معلنة أن «نيقولاييف» كان يرتبط على نحو غامض بأتباع — حاضرين وسابقين — «لتروتسكي» و«زينوفييف» و«كامينيف» وغيرهم من البلاشفة القدامى الذين خرجوا على الحزب، وأخذت في كل ساعة تقريبًا، تتسع دائرة الذين فُرِضَت فيهم صلة بالأمر على نحو مباشر أو من الوجهة «المعنوية» حتى شملت تلك الدائرة كل إنسان حدث له يومًا أن أثار أدنى الشكوك في سياسة ستالين.

وأُطلق للدعاوة حبلها على الغارب، كأنما نسي الزعماء ونسيت صحافتهم ما كانوا يفاخرون به أمس القريب من أن الحزب قد أصبح موحد العقيدة على نحو لم يسبق له مثيل، فراحوا الآن يصرخون صرخات الهوس بأن الحزب قد اندس فيه الخونة والمنشقون والمخادعون والمخربون، وكنت تسمع تلميحًا منذرًا بالسوء آنًا بعد آن بوجود مؤامرات وتدبيرات في الخفاء، قد عقدت صلاتها بالعالم الرأسمالي الذي يأخذ أهبته لشن الحرب على الوطن السوفيتي، ومَنْ كان منَّا ذا دراية يسيرة باتجاه الريح السياسية في البلاد أدرك أن إراقة الدماء إراقة على نطاق واسع كالذي عهده التاريخ على يدي جنكيز خان، كانت على وشك الوقوع، ولم نخطئ الحساب، إذ جاءت الأعوام القليلة التالية تحمل لنا في طيها أفظع حركة إرهابية حكومية شهدتها الروسيا في تاريخها كله.

وانتشرت الشائعة في دوائر الحزب بأن فعلة «نيقولاييف» لم تكن سياسية إطلاقًا، وأنه إنما أطلق الرصاص على «كيروف» في ثورة من الغيرة؛ لأن «كيروف» قد أفسد عليه زوجته الجميلة، وتعاونت أمثال هذه الهمسات المحرفة مع وسائل الدعاوة المنظمة بحيث أحاطت الجريمة بالغموض والتخمين فلم تُعرَف حقيقتها حتى اليوم، وفي الوقت الملائم أصدرت اللجنة المركزية «خطابًا سريًّا» قُرِئ في اجتماعات خاصة من أكثر أعضاء الحزب نشاطًا في أرجاء البلاد كلها، وذلك بعد أن تعهد هؤلاء الأعضاء بكتمان الأمر سرًّا في صدورهم، وقد صور هذا الخطاب مقتل «كيروف» على أنه تعبير عن حركة بعيدة الغور يقاوم بها أنصارها من أعداء الثورة سياسة الحزب وزعماءه.

ومهما يكن من أمر العلة المباشرة أو الباعث البعيد الذي حفز «نيقولاييف» على إطلاق الرصاص، فقد كانت هذه الحادثة في رأي المفكرين من الشيوعيين علامة تدل على ما في النفوس من ضيق شديد دفين تحت سطح الحياة في بلادهم، ذلك السطح الذي يقوم على حراسته رجال الشرطة، فكل واحد منا كان يحس في طوية نفسه المرارة واليأس، وكانت تبلغ بنا الجرأة، أحيانًا أن يكاشف بعضنا بعضًا بتلك الوساوس على ألا تزيد جماعتنا عن اثنين أو ثلاثة، ولقد كان لا بد من مقتل رجل هو من أقرب المقربين لستالين، حتى نستيقظ لنعي أن كروبنا الخاصة إن هي إلا موجات من نهر عظيم من السخط تجري أمواهه تحت سطح الأرض دفَّاقة فتنفذ إلى صميم القلب في أمة كثيرة النفر.

كان كل شيء هادئًا في الظاهر، فقد بُطِشَ بألسنة النقد من «المياسرة» ومن «الميامنة» على السواء، وسطع ستالين «شمسنا» في سمائه مطمئنًّا فوق حزب موحد النزعات، وأما الفلاحون فقد ألهبتهم السياط ليخضعوا على غيظ كظيم تحت ضغط البنادق والمجاعة، فلم تعد تسمع صوتًا باحتجاج على حركة التحول الصناعي التي فتكت بحياتهم، وعلى ما يعانونه من قلة الطعام ومصاعب الحياة، وقبض الشرطة عليهم بنسبة عالية، هذا في الظاهر، أما في الباطن فقد كان كثيرون من أعضاء الحزب وأبناء الأمة يتميزون من غيظ، فَتَحْتَ هذه الغفوة البادية من عدم المبالاة، وتحت طبقة رقيقة من اليأس الصامت، كانت تتأجج نيران الغضب الهائج كأنها حمم البراكين.

ينبغي أن يتبين العالم هذه الحقيقة في وضوح إنصافًا للشعب الروسي، فقد كان هؤلاء الروس من شقاء العيش بحيث عجزوا عن النهوض، شلَّت فيهم الحركة عشرون عامًا قضوها في حروب وثورات وقلة في الغذاء ومطاردات الاضطهاد، دوختهم أقوال الدعاوة وحيرتهم الأكاذيب، وقطعت الأسباب بينهم وبين العالم الخارجي، ومع ذلك كله لم يذعنوا قط عن رضى لفظائع حكامهم، وكان الشعور بالحرارة على أشده في الحزب نفسه؛ لأنها كانت ممزوجة في نفوس أعضائه بشعور الخطيئة، وكان يزيد من المرارة عند هؤلاء الأعضاء شعورهم بالعجز إزاء الحكام وما لهم من نفوذ وسلطان.

ولم يكن من قبيل المصادفات أن يكون «نيقولاييف» ومن اتهم معه بالاشتراك المباشر في جريمته جميعهم من الشباب الذين أخرجهم عهد السوفيت، وكانت كثرتهم الغالبة من الطلاب، لقد جرى التقليد بأن تكون المدارس العليا في الروسيا هي أوكار المذهب الثوري في صورته المثلى، فباتت هذه الصورة المثلى من المذهب تعد مناهضة للثورة، لكنها لم تزل على سابق عهدها لم تتحول.

لم يكن يغيب على أحد من الشيوعيين أن آلاف الطلاب قد قُبِضَ عليهم وأن مئات منهم قد قُضِيَ عليهم بالموت بعد مقتل «كيروف»، ومع ذلك لم تذكر الصحف من ذلك شيئًا، فقد كان يكفي لتحريك الريبة في صدور الشرطة السرية أن يجتمع عدد من الطلبة في دار واحد منهم ليقضوا معًا سهرة راقصة يسرون فيها عن نفوسهم.

فإذا ما فوجئنا في المعهد بغياب عدد من الطلاب لم يقع ذلك منا موقع الشذوذ في مجرى الحياة المألوف، ولا دعا أحدًا منا إلى التساؤل، بل كنا نغضي عن عمد كأننا لم نلحظ شيئًا، لكن قلوبنا كانت دائمًا تميل بعطفها نحو الزملاء الذين قبضتهم أيدي الشرطة، ولم يحدث قط أن كان هوانا مع الشرطة في ذلك، ولقد أخذ كل منا نفسه بأن يشدد الرقابة على لسانه؛ لأنه إذا ما انطلق بحديث صريح، كان معنى الصراحة هنا «عداوة للشيوعية».

كان ما أحسسته في نفسي من خيبة الرجاء أعمق مما أستطيع أن أصارح به نفسي، بله أن أصارح به الناس، ولهذا السبب عينه تجنبت المشاركة في المناقشات السياسية، لكنني إنسان من البشر، وروسي إلى أخمص القدم، فكنت أجد نفسي حينًا بعد حين أفرط في الحديث مع أصدقاء وثقت فيهم، وبعدئذٍ كنت أقضي أسابيع في قلق وهم خشية أن يكون قد بلغ عني واحد من هؤلاء.

فلما وقع الاغتيال في لننجراد، اهتزت نفوس الطلاب اهتزاز الأمل الذي بعثه فيهم وهم الخيال، أفيكون هذا العمل الإرهابي تعبيرًا عن حركة شعبية حقيقية؟ أيمكن أن تكون الشرطة السرية بكل ما لها من قوة قد فشلت في اقتلاع جذور المعارضة المستورة؟ فنحن بعد هذا كله لم نزل جزءًا من أمة نشأت على ذكريات الحركات الثورية السرية والمؤامرات السياسية وقذف القنابل في سبيل الحرية.

لكن حادث الاغتيال قد بعث في نفوسنا إلى جانب الرجاء رعشة الخوف التي تغلغلت فينا إلى الصميم، فلم يكن لنا إزاءه محيص عن حركات تطهيرية أخرى، بل قد حدث بالفعل أن سارعت الهيئة الحاكمة إلى الإعلان عن نواياها، إذ أعلنت أن كل تذاكر الحزب لا بد من مراجعتها وتجديدها، ولم يطلقوا على الحركة المعتزمة اسم «التطهير» لكنها ستكون في حقيقة أمرها حركة محاكمات تعود إلينا من جديد قبل أن يكتمل عام واحد بعد حركة التطهير السياسية التي شملت أرجاء البلاد جميعًا.

كان صديقي في الدراسة «م» واحدًا من الشيوعيين القلائل الذين كنت أبيح لنفسي معهم أن أعلق برأي صريح على الشئون السياسية، فقد أحسسنا حالة نفسية مشتركة بيننا بثت فينا الجرأة كلما انفردنا معًا، فلم يلبث «م» بعد موت «كيروف» أن دعاني للقاء طائفة من الأصدقاء في منزل «أندريه س» وهو طالب لم تكن قد توثقت بينه وبيني الصلات، «سنشرب الشاي ونشقق أطراف الحديث.» هكذا قال لي، لكنني ترددت في الذهاب؛ لأنني شممت رائحة الخطر في مثل هذه الدعوة العابرة، غير أن حب الاستطلاع من ناحية وحالتي العقلية المضطربة من ناحية أخرى جذباني في نهاية الأمر إلى الذهاب في الموعد المضروب.

كان «أندراي» مديد القامة شاحب اللون في نحو الثلاثين من عمره، سمح المحيَّا أزرق العينين غائرهما، وكان واسع الاطلاع ذرب اللسان حتى في الموضوعات التي لا توحي بالإفاضة في الحديث مثل مراحل صنع الصلب، فكان محبوبًا من الجميع محترمًا من الجميع.

وجدت «م» في غرفة «أندراي» الصغيرة ذلك المساء، ومعه طالبان من معاهد غير معهدنا، وتحلَّقنا حول وعاء الشاي المتوهج في ضوء الغرفة الخافت الذي كان مصدره مصباحًا واحدًا صغيرًا، وأخذنا نتنقل في الحديث على غير نهج مرسوم، نطوف حول الموضوع الذي كان يشغل عقولنا جميعًا، دون أن نقع فيه، كأنما كان كل منا يسبر غور الآخرين، ولقد لحظت شيئًا عجيبًا وهو أن الحاضرين أخذوا ينادون بعضهم بعضًا بأسماء زائفة، فكانت هذه الحقيقة وحدها كفيلة أن تصبغ جماعتنا بصبغة التآمر، وهي صبغة تشيع في النفس فزعًا، لكنها في الوقت نفسه تغري بالمضي في الطريق، فاللعب بالنار عند كثير من الروس مما يخلب الألباب.

كنت حديث عهد بهذا الحديث السياسي الخطر، أما الآخرون فقد كانوا فيما يظهر يألفونه منذ بعيد، وما هو إلا أن نسينا ما اصطنعناه من حرص، وحمي النقاش بيننا رويدًا رويدًا في حادث اغتيال «كيروف» فاحتدت الأصوات تدريجًا، وازدادت الأعين بريقًا، وازددنا بفعل كلامنا التهابًا، وأخذنا نتحدث عن «طاغية الكرملن» ونبدي علائم العطف على «الشعب الروسي المظلوم»، فخُيِّلَ إليَّ على نحو ما أنني أعود بالذاكرة إلى حياة طفولتي من جديد؛ حيث كان يجتمع أبي مع أصدقائه الثائرين في دار استقبالنا المتفرعة من «طريق بوشكين» على نقاش سياسي محتدم في موضوع الظلم القيصري.

قال أندراي: «نحن نعتبر رصاصة» نيقولاييف بمثابة الفاتحة لانقلاب.» فرنَّت كلمة «نحن» هذه التي قالها رنين المنذر بالخطوب، ولم أدرِ قط من هؤلاء الذين يعنيهم بهذه الكلمة، «نعم إنها بمثابة الفاتحة لانقلاب، فقد كانت رصاصة لا تدعو إليها الضرورة ثم كانت مجلبة للأذى، فلا بد لستالين أن يلتمس ثغرة ينفذ من خلالها إلى مذبحة تطهيرية يشنها على فريق المنشقين من الحزب، وها هو ذا قد وجد الثغرة مهيأة، فلم يعد الأمر أمر «نيقولاييف» وحده، بل قُضِيَ الأمر فيه وفي أصدقائه جميعًا، الموقف الآن هو أن عصبة الكرملن قد بات في يدها أقوى المبررات للإجهاز على نقدة الحزب ومعارضيه إجهازًا لا يبقي منهم أحدًا.»

– «اذكروا قولي هذا يا رفاق، إن مئات الألوف، لا بل قد يبلغون ألوف الألوف، أولئك الذين سيدفعون الثمن لرصاصة «نيقولاييف»، لئن جاز لنا حتى الساعة أن نحلم بالحرية والديمقراطية تسودان الحزب، فهذا الحلم قد تقشَّع وزال، تقشَّع وزال، ها أنا ذا أعيدها لكم، لقد تبددت آخر ذرة من الأمل! إنه لن يمضي طويل وقت حتى ترون الروسيا تدمى إلى حد الفناء!»

وأخذ يذرع الغرفة بخطاه وهو منفعل، وسرعان ما تأثرنا جميعًا بانفعاله وجيشانه، وأحسسنا إحساس ركاب السفينة التي أخذت في الغرق، ودوامة الماء باتت قاب قوس من خياشيمهم، وسكت «أندراي» برهة ثم مال في ترنح المخمور، ومضى يقول: «كان «ستالين» و«فوروشيلوف» حاضرين حين كان «نيقولاييف» يسام العذاب، لقد شاءت لي المصادفة أن أعلم ذلك يا رفاقي، لقد كانوا يريدون منه أسماء ناس، تتلوها أسماء وأسماء … أرادوا منه أسماء ناس يكونون غذاءً لسعير نيرانهم، وليس ما يهمنا الآن هو أي الأسماء قد اعتصرها المستجوبون من «نيقولاييف»، فهؤلاء سيكتبون تقريرهم على النحو الذي يشتهيه ستالين، كائنة ما كانت الأسماء، وبعدئذٍ تسيل الدماء دفَّاقة في هدوء، تستند إلى مبررات نظرية.»

كان أصغر عضو في جماعتنا طالبًا ضئيل الجسم شاحبًا، وما كان أجمله حين نهض فوقف فجأة بجسمه النحيل وأخذ ينشد مقطوعة من شعر «رايلييف»:

إني لأعلم أن الموت يرتقب
من يجعل من نفسه طليعة النهوض
ضد الطاغية الذي بغى بالشعب
وأعلم أن قد حم فيَّ القضاء
سأموت في سبيل وطني الحبيب
إني لأعلم ذلك وأحسه …

وكأنما تبدلت سحنته وهو يقلص وجهه إذ هو ينشد هذه الكلمات، فبدا كأنه شخص من شخوص «دستويفسكي» أو «جوركي»، تلك الشخوص التي تعرفها في مناظر الثورة الرائعة من قصص هذين الكاتبين، بدا كأنه شخص من تلك الشخوص دبت فيه الحياة، وعلى الرغم من أن ما شهدته عندئذٍ كانت له في النفس روعة توحي بما توحي، فقد شعرت مع ذلك بأسف عميق إذ أبحت لنفسي أن أنساق إلى هذا الاجتماع، فقد كانت تسوده روح من السذاجة التي بلغت حدًّا توجست منه خيفة، ولم يكن في اتجاهه عمليًّا ولا مفيدًا، لا بل إنني لم أفهم قط فيم انعقد هذا الاجتماع، ولقد حدث أن قُرِئ لنا فيه كتيب صغير صادرته الحكومة، بقلم رجل من أعلام المعارضين — هو «سلبكوف» — فطبعت منه نسخ على الآلة الكاتبة كهذه النسخة التي قُرِئَت لنا، وكان فيها هجوم عنيف على طاغية الكرملن وعصابته، فكان ما سمعته من هذه الرسالة هو ما كسبته في هذا الاجتماع العجيب من علم مفيد، ولم أدرِ كيف استطاع «أندراي» أن يحصل على هذه الرسالة الخطيرة، ومهما يكن من أمر، فمجرد قراءتها — لو علمت الشرطة السرية بذلك — كان كفيلًا أن يطوح بي إلى مطارح النفي في سيبيريا.

وانفض اجتماعنا عند مطلع الفجر، فلم أتبين فداحة ما أقدمت عليه إلا حين خرجت في ضوء الصباح الشاحب، أخبُّ في الطريق المثلوج، لقد كنت واحدًا من جماعة متآمرة طالما قضى أمثالها على ألوف الطلاب في أرجاء الروسيا، فسلبتهم الحرية أو حرمتهم الحياة بأسرها، فلو علم السلطان طرفًا من الأمر لكان في ذلك قضائي المحتوم، ومع ذلك فقد أخذت صبح ذلك اليوم في المعهد أبحث عن «أندراي» ورأيتني منجذبًا إليه بسبب ما نستهدف له من الخطر، لا على الرغم منه، فقد كنت مشوقًا أن أعلم مَنْ هؤلاء الذين أشار إليهم ليلة أمس بكلمة «نحن» وظل يتحدث عنهم طيلة الليل.

وما بلغت الساعة الواحدة حتى طُلِبَ إليَّ الذهاب إلى مكتب الحزب، فوجدت هناك غيري من الناس وبينهم «م» وتجهم أمين سر الحزب وهو يغلق من دوننا الباب ويتجه بنظره إلينا، فتوقعت من الأمور شرها.

قال: «أيها الرفاق، إن ما لديَّ لخبرًا محزنًا، وآثرت أن أنبئكم به في غير إبطاء، وذلك أن رفيقًا من أعز رفقائنا علينا قد أزهق نفسه بيده هذا الصباح في غرفته، وقد يكون دافعه إلى ذلك هو الحب، أو غير ذلك من مآسي الحياة.»

فسألته: «من هو ذاك؟»

– «أندراي س، لقد كان طالبًا مجدًّا وشيوعيًّا مخلصًا، إنها لخسارة …»

وبينا نحن في طريقنا إلى الخارج واحدًا في إثر واحد، تحسس «م» حتى صادف يدي فضغط عليها، وكانت عبراته تنحدر فوق خديه، إذن فلم يكن هذا الجَيَشان النفسي الذي رأيناه في «أندراي» المسكين تمثيلًا زائفًا يخدعنا به، ولقد ظلت عبارته التي قالها: «لقد تبددت آخر ذرة من الأمل، ولن يمضي طويل وقت حتى ترون الروسيا تدمى إلى حد الفناء!» ظلت عبارته هذه تتردد أصداؤها في ذهني أشهرًا طوالًا، ومن حسن حظنا جميعًا أن هذا الاجتماع الليلي الذي سمعنا خلاله نشيدًا من شعر «رايلييف» ظل سرًّا مكتومًا طوال سنوات التطهير التي طغت على البلاد بعد ذلك.

لم يعلم أحد على وجه الدقة لماذا انتحر «أندراي»، ومع ذلك فقد كثر اللغط في أرجاء المعهد رجمًا بالغيب، وأحس كل مَنْ بالمعهد أن موته كان متصلًا على نحو غامض بحادث الاغتيال في لننجراد وبموجة الرعب التي كانت وقتئذٍ تجتاح الحزب كله والهيئة الحاكمة السوفيتية جميعًا.

ولم تكن مراجعة تذاكر الحزب علنية كما كانت حركة التطهير من قبل، بل اتخذت صورة التحقيق البوليسي، فنودينا للاستجواب واحدًا بعد واحد، ولما جاء دوري دخلت مكتب الشرطة في حالة من الجزع تندى بها جسمي كله بالعرق، فماذا أنا صانع لو كان أمر الاجتماع في غرفة «أندراي» قبل موته بساعات قليلة قد كشف عن سره؟ لكن مثل هذا السؤال الذي ألقيته على نفسي لم يكن له سند من المنطق؛ لأنه لو كانت الشرطة السرية قد أحاطت بالأمر علمًا لكان القبض قد أُلْقِيَ عليَّ قبل ذلك بزمن طويل، غير أن الخوف الشديد — كالحب الشديد — لا يعرف منطقًا.

قال الرجل الجالس خلف المكتب: «اجلس أيها الرفيق كرافتشنكو، أرني تذكرة الحزب التي لك.»

كنت أعرف عن هذا الرجل أنه شيوعي عامل في «دنيبروبتروفسك»، وكان معه اثنان آخران، لم أعرف أحدهما لكنني أيقنت أن ثانيهما — رغم ما كان يرتديه من ملابس المدنيين — من هيئة الشرطة السياسية، واستجوبني مَنْ لم يكونا من الشرطة، لكن كان الشرطي بمثابة القاضي هذه المرة، وكان أمامه ملف أوراق — لعله ملف أوراقي — فكان ينظر إليه آنًا بعد آن، ثم رأيته حينًا بعد حين يناول الجالس إلى المكتب هذه الورقة أو تلك.

وأخذت المحاكمة مجراها المألوف، فرواية على النحو المعهود لقصة حياتي وأصدقائي وأقربائي وما أديته من مهام الحزب، وهذا العمل المكرور على ما في تكراره من ملل، كان بتكراره هذا مطمئنًا للنفس، وأرادوا هذه المرة أن يعلموا مرشحِي حين التحقت بالحزب؛ فأدليت لهم بأسمائهم.

– «ألا يزالون أعضاءً في الحزب؟»

فأجبت قائلًا: «نعم، هذا ما أعلمه عنهم.»

– «هل حدث يومًا أن كان أحدهم شريكًا على أي صورة من الصور في إحدى حركات المعارضة؟»

– «لو كان ذلك فليس لي بالأمر علم.»

– «رفيقي كرافتشنكو، أليس عجيبًا أن تكون وحدك دون سائر أفراد أسرتك عضوًا في الحزب؟ لماذا اعتزل صفوفنا أبوك وإخوتك؟»

– «وأي عجب في ذلك؟ أليس واقع الأمر أن في البلاد خارج الحزب عددًا أكبر من أعضاء الحزب؟»

فقاطع رجل الشرطة السياسية قائلًا: «كان أبوه ذا نشاط سياسي قبل الثورة، لكن يظهر أن البلاشفة ليسوا على هواه.»

فقلت: «أنا آسف يا رفاقي، لكنه ليس من العدالة في شيء أن تزعموا لأنفسكم مثل هذه المزاعم لا لسبب ظاهر سوى أن بعض الناس لم ينضموا إلى الحزب.»

فقال الشرطي في ابتسامة ساخرة: «أوه، أنا لم أقصد إلى مهاجمة أبيك، إنما أردت أن أسرد الواقع فحسب.»

ودام الاستجواب نحو ساعة، وكان كلما سار خطوة ازددت سيطرة على نفسي، إذ كان من الجلي أن ملف أوراقي لم يزل نقيًّا، ونجوت مرة أخرى، ورُدَّت إليَّ تذكرتي بعدما فرغوا من استجوابي، لكن الإجراءات التي تم بها الاستجواب تركت في نفسي مرارة، فمن الوجهة النظرية كنا نحن الشيوعيين أصحاب السيادة في البلاد، إذ نحن «صفوة الصفوة» من بناة العالم الجديد، أما من الوجهة العملية فقد كنا قطعًا من قطع الشطرنج التي لا حول لها ولا قوة، يحركها اللاعبون في جو من النظام الشرطي رسمته مجموعة من قوانين سنَّها رجال الشرطة أنفسهم لأنفسهم.

وطُرِدَ من الحزب ألوف الشيوعيين من أهل المدينة، وحدث مثل ذلك في كل بلد من بلاد الروسيا جميعًا، وكان الطرد من الحزب هذه المرة معناه الحبس فورًا.

لم يكن المشروع الهندسي الذي حصلت به على إجازتي الدراسية — وقوامه وصف وتصميم لآلة لخراطة الأنابيب، وهى ابتكاري الخالص — لم يكن ذلك المشروع في تقدير الممتحنين ممتازًا فحسب، بل ازداد على امتيازه شرفًا حين اشترت الحكومة حق الانتفاع به، نعم إن الآلة لم تخرج قط من دائرة الرسم إلى دائرة الواقع، لكنها مع ذلك وضعتني — من الوجهة النظرية على الأقل — في صف المخترعين الفنيين.

ولم أكد أفرغ من الامتحان التحريري حتى جلست لامتحان شفوي أمام لجنة حكومية من الممتحنين، وكان ختام حياتي المدرسية حفلة أقيمت لتكريم المتخرجين، فملأنا بطوننا طعامًا وشرابًا وأخذنا نغني ونتغنى بالعبارات الشائعة في تمجيد الوطنية السوفيتية، وطفق خطيب بعد خطيب يذكر لنا أننا تلقينا العلم على حساب الأمة، وأن واجبنا الآن هو أن نشرع في رد هذا الدين مائة ضعف بمعاونتنا لمشروع السنوات الخمس لنشيد للحزب مجدًا مؤثلًا.

وهكذا أصبحت في نهاية الأمر، في النهاية التي طال انتظارها، مهندسًا ذا مؤهلات رسمية، وقد كان هذا الهدف منذ سنوات أربع يتبدى لعيني محوطًا بهالة من مجد، ولست أدري كيف رأيته الآن وليس يزخرفه من المجد شيء، فقد أظلم هاتيك الهالة التي كان رسمها الخيال، ما رأيته في الريف من أهوال ومن مجاعة كاسحة، وما شهدته في حركة التطهير التي قام بها الحزب، وما أحسسته حولي من موجات التشاؤم، ولئن كان قد تبقى لي قليل من ضوء المجد المرتقب، قليل من ضوء يشوبه الأسى، فقد انمحى هذا القليل بعد أن سمعت من «إلينا» قصتها، وبعد أن علمت بانتحار «أندراي»، وبما كان سائدًا في النفوس من يأس وشعور بالعبث، ولعله من هذا اليأس وهذا الشعور بالعبث جاءت قصة «إلينا» وجاء انتحار «أندراي» نتيجة لازمة.

إن أسرة من غمار الشعب كأسرتي لتعدُّ من دواعي فخارها أن يكون من أبنائها مهندس ذو مؤهلات عالية، فتظاهرت بفرح لم أكن أحسه، ولا شك أن أمي نفذت ببصرها خلال ما تقنَّعت به من فرح مفتعل، لكنها أغضت بدورها وتظاهرت بمثل ما تظاهرت به أنا من علائم السرور، وأما أبي فقد كان يعلم علم اليقين أن الطريق الذي يسلكه مهندس سوفيتي، إنما هو طريق مليء بمواضع الزلل من الوجهة السياسية، لكنه كان رجلًا كتومًا فطوى نفسه على همه، وأما أخواي «يوجين» و«قنسطنطين» اللذان كانا لا يأبهان بالسياسة، فلم يريا في إجازتي الدراسية إلا فرصة تفتح أمامي طريق التقدم من حيث حالتي الاقتصادية.

وشعرت «إلينا» بزهو مشوب باكتئاب، واستطاعت بما تكنُّه نحوي من حب وعطف أن تهدئ من اضطراب خواطري، كانت تتوقع لنفسها النقل إلى «خاركوف»، وها أنا ذا أتوقع لنفسي أن أعين في مركز لصهر المعادن بعيد، وكلانا لم يكن بالمستهتر الذي لا يبالي الحوادث، فضلًا عما زاد الآصرة بيننا من سلسلة الخطوب التي مرت بنا، فكانت تتأرجح بين الغبطة تارة والأسى طورًا، فعلمي بأنها كانت عضوًا في الشرطة السرية ظل شبحًا يلقي ظله على مباهج حبنا، وعبثًا حاولت أن أقتلع هذا الشبح من نفسي.

وأرسلت نسخة من رسالتي في الهندسة التي اجتزت بها الامتحان إلى «الوزير أورزنكدز» وجاءني منه رد عطوف، فقد لبثت مدى أعوام الدراسة متصلًا به، حتى أخذت الروابط الرسمية بيننا تتحول شيئًا فشيئًا إلى صداقة شخصية.

وحدث مرة في عام ١٩٣٣م أن عرضت رأيًا بإقامة معرض سوفيتي دائم للصناعة لا يختلف كثيرًا عن المعارض في ألمانيا، وعرضت هذا الرأي في مقالات نشرتها الصحف مصحوبة بصورتي وبثناء من هيئات التحرير على مثل هذا «الابتكار بين البلاشفة»، فأخذت عندئذٍ أضع للفكرة وصفًا مفصلًا مدعمًا بالمصورات الإيضاحية، وأسلمت كل هذا إلى «أورزنكدز»، ولم أعد أسمع شيئًا عن مشروعي هذا سوى أن ظهيري من بين حاشية الكرملن قد اغتبط له، وأبلغني هذا الاغتباط على طريقته العاطفية القفقاسية، فأتبعت ذلك المشروع بمشروع آخر شبيه به، وهو اقتراح بإقامة معرض زراعي، فلقي هذا الاقتراح حظًّا أسعد من زميله إذ رأيته نافذًا بالفعل بعد حين، ولو أن فضلي في ابتكار الفكرة لم يكن له ذكر على الإطلاق.

كان في مقدوري أن أقدم طلبًا بالتعيين إلى «أورزنكدز» مباشرة، بوصفه الرجل الذي لا يعلوه إنسان في عالم الصناعة السوفيتية، لكني آثرت ألا أستغل صداقته، فأسلموني إلى «رياسة صناعة التعدين» وهي المكلفة بصناعة أنابيب الصلب وغيرها من مصنوعات الصلب للبلاد بأسرها، وكان رئيسي بها «يعقوب إيفانتشنكو» الذي كان حينًا مديرًا لمصنع «بتروفسكي-لينين» فعرفني معرفة جيدة، وتقرر في اجتماع انعقد في مكتبه في «خاركوف» أن أعيَّن في مصنع معدني جديد ينشأ في «نيقوبول» فُرِضَ له أن يبدأ العمل في أبريل.

ولم أكن قد نسيت ما كنت شهدته في «نيقوبول» — حين ذهبت إليها مفتشًا من قِبَل الحزب — من قذارة واضطراب ومرارة، وكانت الذكرى وحدها كفيلة أن تشيع الهم في نفسي، ولم أكد أصدق أن المصنع سيبدأ إنتاجه بعد قليل، رغم كل ما هنالك من إسراف وما يلاقيه الناس من عذاب، فقد كانت «نيقوبول» في رأيي مثالًا لحركة التحول الصناعي في البلاد كلها، فهي مسرفة فيما تهلكه من حياة ومن مواد، وحشية في طرائقها التي خلت من كل حذق ومهارة، ومع ذلك فهي تتقدم لسبب لا أدريه.

وقفتْ أمي و«إلينا» تودِّعاني وتلوِّحان لي من رصيف الميناء حتى اختفت عنهما السفينة التي أقلَّتني إلى «نيقوبول» إذ دارت حول الحنية التي في نهر دنيبر، وأحسست حينئذٍ إحساسًا عميقًا أن صفحة جديدة من حياتي قد بدأت، فقد بلغت من العمر إذ ذاك تسعة وعشرين عامًا، وهي سن متقدمة بالنسبة إلى مستقبل رجل سيشتغل بأعمال الهندسة، لكن كان يعوض ذلك أني بدأت الشوط من نقطة قريبة من النهاية؛ ذلك أني بدأت رئيسًا من الرؤساء المشرفين على مشروع هندسي عظيم، وهكذا أصبحت بين عشية وضحاها رجلًا من «الصفوة» الممتازة في المجتمع السوفيتي، إذ أصبحت فردًا من عدد يقرب من المليون من الموظفين ومديري الصناعة ورؤساء الشرطة الذين كانوا يكوِّنون بمجموعتهم الطبقة الأرستقراطية الجديدة في الروسيا.

«نيقوبول» مدينة قديمة على نهر دنيبر، تفوح في هوائها رائحة النهر وتحيط بها غابات يانعة وحقول فسيحة من القمح، وهي في إقليم يعرف عنه العالم كله أنه من أخصب مصادر المانجنيز الذي هو معدن لا غنى عنه في صناعة الصلب، وعلى مقربة منها بعض مناجم الحديد الهامة مما جعلها مركزًا طبيعيًّا لصناعة التعدين، وكانت الشوارع والمنازل في «نيقوبول» تحرك في قلبي حنينًا نحو أعوام الطفولة التي قضيتها مع جدي «فيودور بانتليفتش» في مدينة «إسكندروفسك» التي باتت الآن تُعْرَف باسم «زبرزهي».

لكن المصنع نفسه كان — لسوء الحظ — بعيدًا عن المدينة، إذ كان قائمًا في مكان قفر موحش، وكانت الكثرة الغالبة من عماله الخمسة الآلاف لا تزال متزاحمة في ثكنات حقيرة، نعم كانت ثكنات العمال إذ ذاك خيرًا مما رأيته فصعقت له إبان زيارتي الأولى، لكنها مع ذلك كانت لا تزال أصلح لسكنى الحيوان منها لإقامة الآدميين، وكان غمار العمال يتناولون وجباتهم في مقصف ضخم نتن الرائحة لم تراعَ فيه أصول الصحة، ثم كان لرؤساء العمال والمهندسين مطعم أنظف من ذلك المقصف وأملأ منه بألوان الطعام، ثم مطعم ثالث حديث الطراز أُعِدَّ لنفر قليل من كبار الموظفين الذين كانوا يتزودون — فضلًا عما ينعمون به في المطعم — بوفرة من الطعام في منازلهم يستمدونها من محصول ما ينبت في أرض المصنع، فهكذا جرى التقليد في الروسيا أن يكون بين الطبقات هذه الفوارق البعيدة، بحيث لم يدرك غرابة وجودها في بلد «تحكمه طبقات الشعب» إلا الأجانب.

أما عن نفسي فقد أسكنوني في منزل فسيح ذي غرف خمس يبعد عن المصنع نحو ميل، وكان أحد ثمانية منازل على طراز واحد أُعِدَّت للطبقة العليا من الموظفين، وكان منزلي ذاك محوطًا بأشجار عالية وله حديقة أزهار ممتعة أُحْسِنَت العناية بها كما كانت له حديقة خلفية للفاكهة، وكان في المنزل حوض للاستحمام ومذياع، بل كان به كذلك ثلاجة كبيرة، وكان لي سيارة في حظيرتها، وجوادان من طراز ممتاز، كل هذه بالطبع ملك للمصنع، لكنها تكون تحت تصرفي وحدي ما دمت في منصبي كما لو كانت ملكي الخاص، وكان لي بالإضافة إلى دار السكنى سائق لسيارتي وسائس لجواديَّ وفلاحة فيها خشونة الريف تهيئ لي الدار وتطهى الطعام، وكنت أدفع أجر الخادمة، أما السائق والسائس فأجرهما من حساب المصنع.

وكان راتبي يتراوح بين ١٥٠٠ و١٨٠٠ روبل في الشهر الواحد، ولو أنه كثيرًا ما كان يبلغ الألفين أو يزيد بعد إضافة العلاوات، وتستطيع أن تفهم معنى هذه الأرقام في الظروف القائمة في الروسيا إذا عرفت أن رؤساء العمال ومهرة الصناع الذين كانوا تحت إدارتي لم يكد يزيد راتب أحد منهم على أربعمائة روبل، وأن غير الفنيين من العمال رجالًا ونساءً لم يزد أجر الواحد منهم على قدر يتراوح بين ١٢٠ و١٧٥، وهكذا ترى أن صفوف الشعب التي تدار جماعة السوفيت باسمهم، لم ينعموا طبعًا بشيء مما كنت أنا أنعم به، وقد ينعم به معي عشرة آخرون من رجال المصنع جميعًا.

ضاعفت في العمل جهدي ولم أُرْخِ العِنان قط لنفسي، بحيث كنت أعد اليوم الذي ألبث فيه داخل المصنع اثنتي عشرة ساعة يوم عطلة، بل مرت أيام كنت أواصل خلالها عملي في وظيفتي ثمانيًا وأربعين بل اثنتين وسبعين ساعة، لا أذوق فيها النوم إلا ساعات قليلة أخطفها خطفًا فأستلقي على أريكة في مكتبي، ومع ذلك الجهد كله فقد كنت إذا ما خلوت إلى نفسي في داري الجميلة بما فيها من خادمتي «باشا» القوية البنية الحمراء الوجه، إذ هي تعد لي في المطبخ أكلة طيبة، ومن البستاني الذي أعدته لي الدولة إذ هو يروي حديقتي، ومن ثلاجة مليئة بالخضر الطازجة والشمام والكفيار والقشدة المحمضة، كنت إذا ما خلوت إلى نفسي في داري بما فيها من كل هذه الأشياء؛ أشعر بتأنيب الضمير.

فقد كنت أفكر في العمال الذين يسكنون الثكنات، وأفكر في أبنائهم وفي حياتهم المظلمة، كيف أنحو إليهم بلائمة إذا ما فعلوا ما توهمت أنهم لا بد فاعلوه نحوي من مقاومة بل من مقت، باعتباري سيدًا من بين سادتهم الجدد؟ كيف لي أن أفهمهم أن هذا الذي يرونه من فارق بين شقائهم ونعيمي لم يكن من صنع يدي، وأنني كنت بدوري ترسًا لا حول له ولا قوة في عجلة ضخمة، وأن رغدي منحة وهبتني إياها الدولة وتستطيع الدولة أن تحرمني إياها متى شاءت لغير سبب وبغير إنذار؟

لقد أردت في إخلاص أن أصل ما بيني وبين العمال بصلات من الود والصراحة، فقد كنت أفهم ما هم عليه، وكانت حاجاتهم وآلامهم قريبة من قلبي، لكن مهندسًا في مثل منزلتي لو خالط صفوف العمال، فإنه بذلك إنما يجرح كبرياءهم؛ لأن مثل هذه المخالطة فيها معنى الإشراف، هذا فضلًا عن أن الهيئة الرسمية لن ترضى عن مثل هذا الإخاء بيني وبينهم باعتباره عاملًا يفسد النظام، فنحن من الوجهة النظرية نمثل «سلطة العمال»، أما من الوجهة العملية فنحن طبقة غير طبقاتهم، فبين دنيا الكلام ودنيا العمل هوة سحيقة.

كان الرفيق «براتشكو» الذي كُلِّفَ بناء المصنع هو نفسه الذي أُسْنِدَت إليه الآن إدارته، ولقد رقق مَرُّ الأيام من خشونة أخلاقه وجعل منه زميلًا أمتع بكثير مما كان، ولم يكن يعلوني في الإدارة الفنية إلا «براتشكو» هذا، وكبير المهندسين «فشنيف»، أما من الناحية السياسية فيما يختص بالإشراف على المصنع، فقد كان من بيدهما الأمر «ألكسي كوزلوف» رئيس اللجنة الحزبية المشرفة على المصانع، والرفيق «ستاروستين» رئيس نقابة العمال.

كان «كوزلوف» متقدمًا في السن، شديد العطف على الناس، معنيًّا بكل قلبه برفاهية العمال، أما «ستاروستين» فقد كان رجلًا من الطراز الأول من حيث مقدرته على الصعود في سلم الوظائف، أما فيما عدا ذلك فهو بليد الذهن، وكان منظره — كمخبره — غليظًا قذرًا، ولحسن الطالع لم يكن له من النفوذ بقدر ما كان له من ضخامة المنصب، وذلك بحكم كونه موظفًا في نقابات العمال، فلم يكن لرجال نقابات العمال أدنى الخطر؛ لأنه لم يكن في وسعهم أن ينبسوا ببنت شفة، بله أن يتخذوا قرارات فيما يعرض من الشئون، دون استئذان الحزب.

كان النظام كله، الذي يضع شئون العمال في يد حاكم مستبد، أثرًا عجيبًا باقيًا على الزمن منذ الماضي البعيد، ولم يكن هذا الوضع من المخادعة في شيء؛ إذ لم يكن بين الناس أحد خدعته ألاعيب الاجتماعات والقرارات، وأبعد الناس انخداعًا بمثل هذه الأشياء هم العمال أنفسهم، فأعضاء النقابات من هؤلاء العمال لم يعرفوا سوى أن النقابات تتقاضاهم رسومًا تقتطعها اقتطاعًا من أجورهم الضئيلة، فإن كان هذا شأن النقابات، فلا غرابة أن يبلغ نفوذ «ستاروستين» من الضعف حدًّا بحيث لا يأبه له رجل من كبار الموظفين، أما «كوزلوف» فكانت كل كلمة تنحدر من شفتيه بمثابة القانون.

كنا نحن الزعماء بطبيعة الحال على صلة شديدة بعضنا ببعض، فعرف كل منا عن الآخر جوانب ضعفه وشذوذه، مما أدى إلى عدم ارتياحنا بعض لبعض، وكان ثمة رجل يُدْعَى «برودسكي» وهو أمين سر اللجنة المحلية في نيقوبول، التي هي فرع من الحزب، كان هذا الرجل كذلك شديد الرقابة لما يدور في مصانعنا، ولئن كانت له في ذلك عين واحدة، فقد كان لرجل آخر — هو «دوروجان» رئيس الشرطة السياسية في نيقوبول — مئات العيون يرقبنا بها، مستعينًا في ذلك «بالإدارة الخاصة» و«القسم السري» في مصنعي، وطوائف من المخبرين المحترفين والمتطوعين والمجبرين ممن تراهم في كل «مصنع» أو مكتب أو مصلحة.

كان «دوروجان» فظًّا سريع الغضب، له وجه كوجه الكلب الإنجليزي، فهو رجل كأنما صاغه الخالق من الحجر الأعبل ليكون شرطيًّا في أي نظام حكومي كائنًا ما كان، وإني لأذكر رجالًا من أمثاله أيام أن كانت الشرطة السياسية تطارد أبي في عهد القيصر، وكانت الشرطة السياسية قد غيرت اسمها منذ عهد قريب، فلم تعد كما كانت «القسم السياسي التابع للدولة»، بل أصبحت تسمى «هيئة الشئون الداخلية»، وأصبح اختصارها هذه الأحرف: N. K. V. D. وهكذا تبدلت عليها الأسماء واحدًا بعد واحد (cheka ثم G. P. U. ثم N. K. V. D.)، لكن تبدل الأسماء لم يغير شيئًا لا من أساليبها ولا من الاسم المخيف الذي شاع في النفوس عن «سيف الثورة المسلول» الذي يتمثل في هذه الهيئة، ولبث المشتغلون بهذه الإدارة الشرطية ينعتون بأول أسمائها، وهو اسم التشيكيون Chekists، كما لبث الروس أعوامًا يطلقون عليهم ثاني الأسماء G. P. U. حتى بعد أن تغير الاسم بحيث أصبح N. K. V. D..

كانت صلتنا برجال الشرطة السرية المحلية تتفاوت شدة، فهي أضعف برئيسها «دوروجان» منها بمساعده النشيط «جرشجورن» الذي كان منوطًا به القسم الاقتصادي من تلك الشرطة السياسية الخاصة بمدينة نيقوبول وما حولها، وإن «جرشجورن» هذا ليحتل مكانًا خاصًّا بين مجموعة من يجللهم العار في ذاكرتي، فهو رجل بدين، له عينان صغيرتان سريعتا الحركة، ركزتا في وجه مليء حليق، ورأسه كذلك حليق فترى جمجمته صاعدة في تدرج حتى تبلغ نقطة كأنها قمة الجبل، وكان إذا ما تحدث أخذ يسترضي أو يهاجم بالسباب حسب طبيعة الشخص الذي يتحدث إليه، ولئن كان في تركيب هذا الرجل ذرة واحدة من كرم النفس الإنسانية، فلم يتح لي أن أراها في الأعوام التي عرفته فيها معرفة كان يضيق لها صدري.

كان أهم ما خصصت له الشهر الأول من أعمال هو جمع الآلات وغيرها من الضروريات الأولية لتنظيم الإنتاج، وكان هناك فرعان ثانويان من المصنع خُصِّصا لخراطة الأنابيب في كل منهما نحو ألف وخمسمائة من العمال والعاملات، ولم ألبث طويل زمن حتى أُسْنِدَت إليَّ إدارة أحد هذين الفرعين، فما دنا شهر يونيو من ختامه حتى كانت عجلة الإنتاج دائبة السير، إذ صادف تكليفي بهذا المنصب وتبعاته هوى من نفسي على الرغم مما فيه من مخاطر، فلم أكد أفسح لنفسي من فراغ الوقت ما يكفي للنوم حرصًا مني على أن تتصل حركة العمل على أساس ثلاث نوبات في اليوم الواحد.

وكنت كلما سرت آنًا بعد آن في أرجاء المصنع وأدركت أن كل ما فيه يطن طنينًا سويًّا شعرت بسعادة تعز عن التعبير، وفي مثل تلك اللحظات كنت أفهم فهمًا صادرًا من أعمق أعماق نفسي معنى قولهم: «لذة العمل»، فما كان أجمل هذه الحياة لو قل الجواسيس عددًا وقلت الريبة وذهبت عن الناس حالة الفزع التي تشل عقولهم عن التفكير وتضيق الخناق على أنفسهم أيما تضييق!

لقد كنت أعلم علم اليقين أن كل خطوة أخطوها لها أعين ترقبها وتسجلها، ولست أعني سلوكي في المصنع فحسب، بل كذلك ما يتعلق بحياتي الخاصة، ولم أشك لحظة في أن أمينة سري واسمها «توفينا» — وهي امرأة نَصفٌ صارمة قادرة — كانت تقدم عني التقارير، كما كان يقدم عني التقارير كذلك سائق سيارتي وخادمة داري، وواحد على الأقل — إن لم يكن أكثر من واحد — من مساعديَّ في العمل، لكني تجاهلت علمي بهذا تجاهلًا لم ينسني إياه نسيانًا تامًّا، فقد كان لي بمثابة الواخز الذي يؤرقني إذا ما عملت أو فكرت.

فلطالما تبين لي أن كل كلمة مما كان يدور في اللجان العادية التي نعقدها للنظر في شئون الإنتاج، كانت تبلغ «هانتوفتش» رئيس الإدارة الخاصة، وهذا بدوره يبلغها بالطبع إلى «جرشجورن» صاحب العينين المترجرجتين، ولم يكن ما يدور في هذه اللجان سرًّا، كلا ولا كان فيها شيء مما يستوقف النظر، ولكم كان يسرني أن أدوِّن محاضرها لكل من يريد أن يعلم عنها شيئًا، ولم يكن يضايقني أشد الضيق إلا أساليب التجسس؛ ذلك لأني لم أستطع أن أتخيل نفسي قط عاملًا من عوامل التخريب؛ فلذلك كانت محاولات التجسس تسوءني أشد الإساءة حتى لأعدها إهانة وسبابًا.

إنه ليستحيل على أي عمل صناعي أن يسير في دقة مطلقة، فالآلات قد تفسد، والأغلاط قد تقع، والعمال المتعبون قد يزدادون إهمالًا، وخطط الإنتاج قد يصيبها التعديل، ولئن صح هذا عادة، فهو صحيح بصفة خاصة إذا ما كان المصنع حديث الإنشاء، وآلاته واردة إليه من خارج البلاد، وعماله إلى حد كبير يتألفون ممن جاءوا من الريف توًّا ولا خبرة لهم، ومع ذلك فقد كانت كل حادثة طارئة مما يحدث تجيء برجال القسم السياسي مسرعين، يتشممون في قلق لعلهم واجدون رائحة شيء من التخريب والتدمير، فيجرون تحقيقًا علنيًّا في مكاتب «القسم السري» أو يجرون تحقيق مسائيًّا سريًّا تهتز له رئاسة القسم السياسي في المدينة.

ولقد أصدرت أمري بأن أُسْتَدْعَى في الحال إذا ما حدثت حادثة مهما تكن تافهة، حتى لو أدى ذلك إلى إيقاظي من النوم في منتصف الليل، ولكني مهما أسرعت في الذهاب إلى مكان الحادثة، كنت أجد رجال القسم السياسي قد سبقوني إلى هناك، يتجهمون ريبة، ويتهمون في سخرية.

ذلك هو الجو الذي عملنا في ظله منذ البداية، وقد كان المهندسون والموظفون الإداريون القدامى يرونه جوًّا طبيعيًّا للصناعة السوفيتية، وكانت تدور بينهم نكات خاصة عن «كُتَّاب العرائض» الذين ينبثون في كل ركن من أركان المصنع، أما أنا فلم أستطع قط أن أوائم بين نفسي وبين هذا الجو، وكان لا بد لهذه الحالة أن تزداد سوءًا كلما تقدم الزمان شهرًا، فاشتدت في قوتها حركة التطهير الأعظم التي أعقبت موت «كيروف»، فلم يكد يمضي عام واحد على نيقوبول حتى تحولت بحيث أصبحت أقرب إلى أن تكون مجالًا للصيد يجول فيه رجال الشرطة وأعوانهم من المخبرين السريين، منها إلى أن تكون مؤسسة صناعية.

جاءت أمي تزورني فأعجبها منزلي الأنيق بما فيه من أثاث جميل ومن أسباب الراحة الكثيرة الحديثة، ثم أعجبها بوجه خاص أن تكون في الدار خمس غرف لي كلها وحدي، فلم يعد أمامها سبيل إلى الشك في أن ثاني أبنائها قد «شق طريقه في الحياة!» وكان المطبخ بثلاجته الكبيرة وخيراته الوفيرة يجذبها كأنه المغناطيس، وحدث أن دعوت بعض زملائي للعشاء ولإقامة حفل صغير تكريمًا لأمي، فألحَّت أمي أن تطهى هي الطعام بنفسها، ووقفت خادمتي «باشا» تنظر في إعجاب إلى أم مخدومها وهي تعد له أصنافًا خاصة تعرف أنه يحبها منذ طفولته.

ولما فرغنا من العشاء مر بداري بعض أضياف آخرين، بينهم رئيس العمال وكثير من عمال المصنع، وكان كل منهم يبدي من ضروب الشهامة أعلاها في ترحيبه بهذه السيدة القليلة في حجمها ذات الشعر الأبيض والقد المتناسب، وقد حدث ما جعل أمي تهمس في أذني قائلة: «أرى يا «فيتيا» أنك محبوب لدى الناس، أرى ذلك من طرائق سلوكهم إزاءك، وهذا جميل، جد جميل!»

وفي الصباح التالي قبَّلت أمي مودعًا، وطلبت إليها ألا تدع الملل يتسلل إلى نفسها؛ إذ إني لن أعود إلى الدار قبل ساعة متأخرة من الليل، ولم يدر في خلدي حينئذٍ أنها كانت قد دبرت لنفسها خطة تقضي بها النهار، فلما كانت ساعة الأصيل من ذلك اليوم جاءتني الأنباء عن بوادر نشاطها، إذ أنبأني مهندس أنه رأى أمي في المقصف تتحدث إلى الطاهيات والمناولات، فالظاهر أنها وجدت من يعطيها تذكرة مرور بحيث استجابت لدافع التطلع من أنوثتها والتمست سبيلها فورًا إلى المطبخ.

وعدت إلى الدار ذلك المساء في ساعة متأخرة فوجدت أمي قد أوت إلى مخدعها، وفي اليوم التالي أُنْبِئْتُ مرة أخرى أن أمي كانت في بعض أنحاء المصنع تتسلل خلسة هنا وهناك وأوراق مذكراتها في يدها، على حد تعبير رئيس عمالي، وسمعت أنها طافت بالثكنات ومخازن التعاون ومراضع الأطفال، لكني كنت في ذلك اليوم من الإجهاد في عملي بحيث لم يبقَ لي من فراغ التفكير ما يجعلني أهتم لهذا «التسلل» الذي سمعته عن أمي، فما أن بلغت الدار في المساء حتى وجدتها جالسة إلى مكتبي بمنظارها ذي الإطار المعدني مرتكزة على أرنبة أنفها الدقيق، تكتب في كراسة على نحو ما يكتب أصحاب الأعمال إذ ينهمكون في أعمالهم، فلم أتوجه إليها بسؤال، وانتظرت قليلًا في شيء من القلق، لعلها تبدأ هي الحديث، فلما انتهينا من طعام العشاء، وأزالت «باشا» عن المائدة أطباقها، قالت لي أمي: «أريد الآن يا «فيتيا» أن أتحدث إليك حديثًا جادًّا.»

– «افعلي يا أماه، فماذا يؤرقك؟»

فأخذت تحدثني على نحو ما يتحدث مجلس الإدارة للجمعية العمومية إذ يُرفَع إليها تقرير العام، فأنبأتني أنها قامت بتفتيش المصنع تفتيشًا دقيقًا، ففحصت مساكنه ومراضعه ونواديه ووسائل الاستحمام وغيرها من الوسائل الصحية، وكان صوتها إذ هي تحدثني ينم عن كثير من اللوم.

ولخصت تقريرها قائلة: «لقد صعقت لما رأيت، هل تدري كيف يعاملون عمالك ها هنا؟ ففيما يختص بما لديك من مديرين وموظفين ترى كل أسباب العيش الرغيد موفورة، أما إذا هبطت إلى صفوف العمال فلن تجد إلا قذارة وإهمالًا، فالمطبخ يقزز النفس وقائمة الطعام تتكرر صنوفها تكرارًا يغم الصدور، وأما الثكنات قل لي: أتظن حقًّا أن هذه الثكنات تصلح لسكنى العمال السوفيت؟»

– «ولماذا تلقين التبعة على عاتقي؟ إني أبذل كل جهدي، وليس من الإنصاف أن تلقي التبعة عليَّ.»

– «إنك من القادة هنا يا «فيتيا» ولا مندوحة لك عن الشعور بالتبعة، انظر كيف تعيش أنت، ألا يحرك ضميرك قط أن ترى هذا الفارق البعيد بين عيشك وعيشهم؟»

– «أخشى يا أماه أن تكون حقيقة الأمر قد غابت عنك، فلسنا نحن الموظفين رؤساء بالمعنى القديم لهذه الكلمة، إنما تأتينا الأوامر من الرياسة العليا ونحن إزاءها مقيدون لا نستطيع حراكًا، لقد أمرت بتبييض المقصف وألححت في أن تغسل أرضه ثلاث مرات كل يوم، مرة بعد كل نوبة من نوبات العمل، أما إذا جاوزت أمثال هذه الصغائر فلا حول لي ولا قوة، إذ الأمر بعدئذٍ يصبح مرتبطًا بسلم الأجور ومشروعات المساكن والميزانيات والأسعار المحددة للملابس والأحذية، وهذه كلها أمور تتقرر في موسكو، وكل عملي ها هنا هو صناعة الأنابيب.»

– «لا أقلَّ من أن تعرف الحقائق! لقد دونت مذكرات فهاك ما دونت، أتدري أن النساء لا بد لهن أن يركبن أو يمشين أربعة أميال أو أكثر إلى المدينة ليستبضعن؟ فلماذا لا تقام سوق هنا حيث يجيء مزارعو المزارع الجماعية بمنتجاتهم للبيع؟ إن لك وحدك — فيما أرى — حمامًا جميلًا أبيض، أما العمال وهم يعدون بالألوف فليس لهم سوى جحر قذر لا يستحق أن يسمى حمامًا، وحتى هذا الحمام على ما فيه من سوء، تالف لا يعمل! في مشروع كهذا يكلَّف عشرات الملايين، لماذا لا تُعَد حمامات نظيفة للرجال ومثلها للنساء؟ وخذ مثلًا آخر يا فيتيا: مراضع الأطفال، لا تجد فيها الكفاية من «بياضات» أو دواء أو أي شيء آخر.»

فقلت في صوت المتخاذل الموقن بصدق ما تقول أمي: «لقد رسمتِ الصورة أسود مما هي في الواقع.»

– «لست يا بني بلائمتك على ذلك، لكنك إذا ما عرفت حقيقة الأمر وعرفها سائر المديرين، فربما أنقذتم في الموقف شيئًا.»

هنا لم تعد أمي قادرة على الاحتفاظ بروح الجد العملي التي كانت تخاطبني بها، فقد كانت هذه الروح قناعًا سترت وراءه طبيعتها ولم تستطع أن تطيل له الأمد، بل اغرورقت عيناها بالدموع إذ آلم نفسها ما رأت، آلمها حتى هذا الفارق بين ما يتمتع به ابنها من رغد في العيش وبين حياة الآخرين.

وبعد أن سافرت أمي إلى «دنيبروبتروفسك» ببضعة أيام، عقد الرفيق «كوزلوف» اجتماعًا من الموظفين الفنيين وموظفي الحزب ونقابة العمال، فلما ذهبت إلى مكتب الحزب حيث الاجتماع، كان المكان قد غصَّ بالناس، ولم يكن في جدول الأعمال إلا موضوع واحد — كما أعلن كوزلوف — وهو «الظروف التي يعيش العمال فيها»؛ فاهتزت نفسي لذلك، فها هي ذي الفرصة السانحة — سنحت في وقت أقرب مما توقعت — فأبسط الحقائق أمام الإدارة بسطًا كما صورتها لي أمي! وقلت لنفسي: يا لها من مصادفة سعيدة!

وتكلم ناس كثيرون كلامًا فيه تعميم تدعو إليه طبيعة الموضوع، نعم إنه لا جدال في أن الظروف من البشاعة بمكان، لكن ماذا نحن صانعون حيالها؟ فلما جاء دوري في الكلام استطعت أن أنزل من التعميم إلى التخصيص، وطفقت أعيد على السامعين ما كشفت لي عنه أمي، إذ كان ما حدثتني به لم يزل حاضرًا في ذهني.

ولم أكن في كلامي صدًى مرددًا لما روته أمي من وقائع فحسب، بل مرددًا كذلك لنغمة غضبها وحزنها وتقريعها، وبديهي أن الكثرة الغالبة ممن استمعوا إلى حديثي قد تأثرت نفوسهم كما تأثرت نفسي قبل ذلك ببضع ليالٍ، فقلت فيما قلت: إن في وسعنا أن نصنع شيئًا كثيرًا على الرغم من قلة ما بين أيدينا من وسائل، على شرط ألا تشغلنا «شواغلنا الخاصة» على نحو ما تشغلنا الآن، ثم استحفزت السامعين قائلًا: هيا منذ الآن ننظر إلى مشكلات العمال في حياتهم اليومية نظرتنا إلى «شواغلنا الخاصة».

وسأل سائل: «من أين ﻟ «كرافتشنكو» كل هذه المعلومات؟»

فصاح «ستاروستين» رئيس نقابة العمال قائلًا في نغمة الساخر: «أوه! إنها أمه يا سيدي، ألا تدري؟ لقد نصبت نفسها جاسوسة لا تني فاحصة متشممة لكل شيء كأنما هي سيدة تشرف على ضيعة لها … إن «السيدة الرفيعة» قد حسبت أنها تملك نيقوبول ما دام ابنها بين الرؤساء، إننا نفهم مثل هذا التدخل … إنها تكوِّن بذلك لابنها رصيدًا في عالم السياسة!»

وعمَّ المكان ضجيج مرتفع إذ تكلم الجميع في وقت واحد، فصعد دمي إلى رأسي، وانعقد لساني عن الحديث بفعل الغضب، فضغط «كوزلوف» على ذراعي ليضبط جماحي.

وضرب على مكتبه وقال: «صمتًا أيها الرفاق! إن الرفيق ستاروستين يتكلم كلام المأفون، ليست أم كرافتشنكو «سيدة مترفعة»، وإنه ليعلم ذلك، بل هي زوجة رجل عامل فيما مضى، زوجة بطل من أبطال ١٩٠٥م في صحيفته ما يشرفه من سجن في سبيل الثورة، إنه لعار عليكم أن تهاجموها بنقدكم، أفلا يجوز أن يكون هجومكم هذا غطاءً تسترون به ما أصابكم من كسل وعدم مبالاة بحالة العمال؟»

وقهقه الحاضرون قهقهة عالية، فرئيس نقابة العمال له في نفوس معظم الناس من الازدراء بحيث إذا ما سنحت فرصة للضحك منه تصادف هوى في نفس أمين سر الحزب، فهيهات أن يدعوها تفلت من أيديهم.

ومضى كوزلوف يقول: «لقد شاءت لي المصادفة أن أعلم أن هذه السيدة الكهلة قد حاولت أن تراك أيها الرفيق ستاروستين لكنك أبيت عليها ذلك اللقاء، لا شك أنك لم ترد أن يزعجك مزعج بأمور توافه مثل وجود حشرات البق في ثكنات العمال وقذارة البياضات في مراضع الأطفال، لكنني حادثتها لقد رأيت لديها ضربًا من الأصالة السوفيتية مما يكون له أبعد النتائج.»

وهكذا علمت أن أمي لم تكتفِ بفحصها عن الأمور، بل ذهبت إلى كبار الرؤساء فأطلعتهم على ما كشف لها عنه بحثها! ولم تكن قد أنبأتني بذلك الجانب من نشاطها، وعلى ذلك فلم يكن ذلك الاجتماع مصادفة، بل جاء نتيجة مباشرة «لتدخلها»، لله هذه النزعة الخيرة وهذا القلب الجريء من تلك المرأة! لقد طفح قلبي حبًّا لها على الرغم مما عرضتني له من مواقف مربكة.

ولقد آتت دعوات أمي الساذجة أُكُلها في الأشهر التي أعقبت ذلك، إذ أقيمت سوق زراعية قريبًا من المصنع، ونُظِّفَت مساكن الأطفال وزُوِّدَت بكمية أوفر من البياضات، وأُعْلِنَت خطة ترمي إلى إنشاء حمام جديد، وأُجْرِيَت بضعة إصلاحات صغيرة أخرى، وانتشرت بين العمال قصة «مسز كرافتشنكو» وحملتها في سبيلهم، فقاسمها ابنها هذا «المجد» المتواضع.

حدث ذات ليلة أن صادفتُ أمينة سري المنطبعة بطابع العانس التي تقدمت بها السن، الرفيقة «توفينا»، صادفتها خارجة من بناء القسم السياسي في نيقوبول، ولم يكن يدور في خلدي أدنى شك أنها ترفع عني التقارير، نعم أنا أعلم أن التجسس على الرئيس هو المهمة الرئيسية لأمناء السر في بلاد السوفيت، لكن علمك بالأمر شيء، ووقوعك على برهان وجوده شيء آخر، فما أقبل اليوم التالي حتى أصدرت أمري لقسم المستخدمين أن ينقل هذه المرأة من مكتبي وأن يوصي لي بغيرها، وآثرت أن يكون بديلها رجلًا.

وبعد بضعة أيام جاءني رجل في نحو الثانية والثلاثين ومعه مذكرة من رئيس المستخدمين، كانت هيئته تستوقف النظر، فأول عبارة وردت على ذهني حين رأيته هي «نُصُب لتخويف الطير»، فقد كان في هيئته هيكلًا تدلت فوقه هلاهيل الثياب، حذاؤه ممزق وسراويله مرقعة وسترته مصنوعة من «خيش» وفُصِّلَت في صورة غليظة، فهذا طراز من القذارة التي بلغت أقصى حدودها، حتى في ظروف الحياة السوفيتية، ومع ذلك فقد كانت ملامح وجهه الذي امتصَّه الجوع محددة التقاطيع بل كانت جذابة يعلوها شعر ضارب إلى الحمرة شابَ عند العارضين.

قال: «أنا أعرف ما هيئتي أيها الرفيق كرافتشنكو، لكني أتوسل إليك ألا تحكم عليَّ بهيئتي، فاعلم أنني جئت لتوي من معسكر اعتقال قضيت فيه أربعة أعوام، وإن قسم المستخدمين ليعلم ذلك عني فلو هيأت لي الفرصة فلا شك عندي أنك ستجد من عملي ما يرضيك.»

كان كلامه يشبه ما يتكلم به المتعلمون، فتحول شعور التقزز الذي بدأت به إلى إشفاق، إذ لا ريب في أن المسكين قد مرت به محنة قاسية، وسارعت فدققت الجرس لأطلب له شايًا وشطائر، ولما قدمت إليه حاول أن يكبح زمام نفسه فلا يأكل إلا قليلًا قليلًا كأنما هو شيء عارض، لكن الجوع كان قد نال من جسمه على نحو لا تخطئه العين، وبينا نحن آخذان في الحديث دق التليفون، وكان المتحدث هو «رومانوف»، موظف محبوب له أهميته يعمل في قسم آخر، ولقد كان «رومانوف» هذا يتمتع بثقة الإدارة من «كوزلوف» فنازلًا، على الرغم من أنه لم يكن من رجال الحزب.

قال: «فكتور أندريفتش، إني لأعدها مكرمة منك نحو شخصي إذا أنت استخدمت الرفيق «جرومان» الذي هو في مكتبك الآن، فهو على الرغم مما صادفه من حظ منكود شخص يُرْكَن إليه.»

– «هل عرفته منذ طويل؟»

– «لا، لكني في موقف يدعوني إلى الرجاء من أجله.»

– «شكرًا، فجميل منك أن تحيطني بذلك علمًا.»

وذهب «جرومان» إلى غرفة الاستقبال ينتظر، فتلفنت القسم السياسي واتصلت ﺑ «جرشجورن»، إذ كان من واجبي أن أحيطه علمًا ما دام أمين سري سيتناول في عمله أوراق رسمية هامة، فلما أنبأته بالأمر طلب إليَّ أن أنتظر هنيهة، ثم ما لبث أن عاد إلى التليفون يؤكد لي أنه لا يمانع في تعيينه إذا وجدت أن الرجل مقبول من سائر نواحيه.

فلما أنبأت السجين السابق الذي تحطم بنيانه، أنه يستطيع البدء في عمله بعد يوم أو يومين، ابتسم لأول مرة، وأبدى من علائم عرفانه بالجميل ما أخجلني، أعطيته شيئًا من المال مقدمًا، وأمرت مخازن المصنع أن تصرف له الملابس الضرورية، ثم عاونته — مستعينًا في ذلك بمساعدي — على أن يجد لنفسه غرفة تصلح للسكن في منزل من منازل المصنع.

وسرعان ما أقام «جرومان» الدليل على كفايته وذكائه معًا، فاستطاع بهذا أن يزيح عن كاهلي حملًا ثقيلًا من التفصيلات، ولقد خُيِّلَ إليَّ أن الرجل يعود إلى الحياة من جديد حين حسنت ثيابه وأخذت عظامه تكتسي باللحم وعيناه تلمعان بنور الحياة، وكثيرًا ما كان يحضر إلى منزلي من أجل العمل، وقد يحدث أحيانًا أن أعيده إلى داره في سيارتي بعد الفراغ من عمله، فكانت العلاقة بيننا قائمة على أساس إنساني لا يقيم في وجهينا العراقيل، وشكرت «رومانوف» على توصيته بهذا الأمين؛ لأنه في هذا الباب من الطراز الأول.

ومضت أسابيع تتلوها أسابيع، حتى إذا ما كان الصباح ذات يوم، لم يحضر «جرومان» إلى عمله كعادته، فظننت به مرضًا، فلما لم يحضر في اليوم التالي، شُغِلت عليه وقررت أن أرسل رسولًا إلى منزله في ختام العمل من ذلك النهار ليرى ما خطبه، إذ لم يكن له تليفون في داره، وبينا أنا أقلب بعض الأوراق المكدسة في أدراج مكتبي، صادفت حزمة منها مكتوبة باليد ومدبسة في ربطة واحدة، فعرفت في الكتابة خط «جرومان» فما كدت أقرأ كلمات الافتتاح حتى دفعتني غريزتي ألا أمسَّ هذه الأوراق، وقد بدأت بالكلمات الآتية: «عزيزي فكتور أندريفتش، حين تطالع هذه الكلمات لن أكون في نيقوبول؛ لأني أحاول الفرار من هذه البلاد، بلاد الفظائع، فالموت نفسه آثر عندي من أن أحيا حياة العبيد …»

فتندَّى جسدي بعرق بارد، وأقفلت باب غرفتي في حركة عصبية ووضعت على يدي قفازها وتناولت الخطاب، فوجدته وثيقة نادرة، وإني وإن كنت قد نسيت ألفاظه التي كُتِبَ بها، لا أزال أجد مادته منقوشة في ذهني نقشًا: «أشكرك على كل ما تفضلت عليَّ به شكرًا صادرًا من أعماق قلب روسي مخلص، فقد أيقظت رأفتك في نفسي شعورًا إنسانيًّا كنت ظننته قد بَرَدَ إلى حيث لا يعود، والحقيقة أن ذلك هو أحد الأسباب التي جعلتني أعتزم الفرار، وسأعبر الحدود إن شاء الله، وأما إذا قبضوا عليَّ قبل ذلك فبالطبع كان في ذلك موتي رميًا بالرصاص.

إني لأمقت النظام السوفيتي بما فيه من نظام شرطي مقتًا ليس بعده مقت، فعلى الرغم من أني لم أقترف جرمًا — اللهم إلا إن كان حب الحرية جرمًا — فقد عانيت في قاعات التعذيب ما عانيت وزُجَّ بي في غرف السجن الضيقة الانفرادية وحيدًا، حتى إذا ما أُطْلِقَ سراحي تبين لي أن حريتي لن يطول بها الأمد، بل تبين لي أنني قد لا أجد عملًا إلا إذا وضعت نفسي رهنًا لإرادة مَنْ أنزلوا بي التعذيب.

ففي الليلة السابقة ليوم لقائي بك، كنت قد وصلت لتوي إلى نيقوبول قادمًا من معسكر الاعتقال، وقد جئت إلى نيقوبول تنفيذًا لما أُمِرْت به، وذهبت إلى القسم السياسي فسيق بي إلى «جرشجورن»، وهكذا رسم لي طريق الحضور إليك، فكان كل ما حدث — بما في ذلك توصية رومانوف — جزءًا من مهزلة قبيحة كنت أنت ضحيتها.

لم يكن يهمني أن أتجسس على الناس، فلأني أمقت الشيوعيين جميعًا، وجدت — فيما بدا لي — في التجسس فرصة سانحة أستطيع بها الانتقام لنفسي بأن أوقع في الشر نفرًا من هؤلاء الشيوعيين، وكلما ازدادوا بذلك شقاءً ازددت أنا انتقامًا فارتياحًا، ونظرت إليك نظرتي إلى من سيكون الضحية الأولى، لكنني ما لبثت أن أحسست نحوك باحترام، ونحو نفسي بالكراهية لما كانت قد دبرت ضدك من خطط.

وأحب أن تعلم أنه ما مضى قليل وقت حتى أصبحت أنا أول من يبلِّغ عنك أنباءك، فما دام الرجل منا قد قاسى أهوال التطهير على يدي القسم السياسي، فهو عندهم بعد ذلك موضع اطمئنان وثقة، فإن هؤلاء الشياطين ليعلمون أن الخوف أداة تصون الولاء فيمن يتخذونهم من الناس أعوانًا، فكان يجيئني كل يوم وكلاء القسم السياسي الذين ينبثون في كل ركن من أركان مصنعك ومكاتبك، فيبلغونني ما وقعوا عليه من أخبار، فأجمع هذه الأخبار جميعًا مرة في كل أسبوع تقريبًا، وأصوغها في تقرير شامل عن عملك وقولك وأصدقائك، بل عما تدل عليه ملامح وجهك، وكذلك عما يبدو من أوجه النقص في عمل مصنعك.

لم يكن هؤلاء الجواسيس يعرف بعضهم بعضًا، لكني كنت أعرفهم جميعًا، فأقل ما يجب عليَّ نحوك — اعترافًا لك بما أسديته نحوي من عطف — هو أن أكشف لك عن هؤلاء.»

وأعقب ذلك قائمة بأسماء كان بينها اسم «رومانوف»، «رومانوف» الأصيل الذي أحببناه جميعًا ووثقنا فيه جميعًا لأساليبه الأبوية اللينة، وكذلك كان بين الأسماء كثيرون من ألصق الزملاء بي صلة في المصنع، فمنهم فريق من رؤساء العمال، وفريق من العمال والكتبة، فكان المخبرون شبكة انتشرت عيونها في كل «ورشة» أو مكتب في المصنع، بحيث تشمل كل مراحل العمل الفني الذي نقوم به.

– «حذارِ من هؤلاء الناس يا فكتور أندريفتش! إنهم لا يحترمون الحقيقة في قليل أو كثير، حياتهم في وظائفهم معتمدة على كشفهم عن المؤامرات، ويغريهم أن يخترعوا بخيالهم مؤامرات ليكشفوا عنها، ولتعلم أن من عمل القسم السياسي على تحطيم أبدانهم وهدم نفوسهم هدمًا لا يبقي لهم خلاقًا، لا يتورعون عن عمل مهما يكن، ويعترفون بكل ما يُطْلَب إليهم أن يعترفوا به، ويلقون الاتهام على أي إنسان، ومن هؤلاء الناس كثيرون ممن يحيطون بك — ثم أعطى جملة أسماء — ولم أكن في ذلك وحدي.»

– «أكبر ظني أنك سترتاب في أن يكون هذا الخطاب فخًّا نصبته لك، ولست على ذلك بلائمك، وكل ما أستطيعه هو أن أقسم لك بالله وبأمي الورعة التقية إنني أقول لك قول الصدق، وإنني أحاول أن أكفِّر عن أسابيع قضيتها متجسسًا على رجل عطف عليَّ واحترم فيَّ الآدمية، وسأترك لغريزتك أن تهديك إلى تصديق هذا الذي أقول أو تكذيبه.

إذا أنت أطلعت «جرشجورن» على هذا الخطاب فسيقول لك إني كاذب وسيعمد من فوره إلى إعادة توزيع المخبرين، أما إذا استطعت الركون إليَّ وأتلفت هذا الخطاب وتظاهرت بالغضب لاختفائي الذي يحيط به الغموض، إذا فعلت ذلك فلن تأخذهم ريبة في أن أكون قد كشفت لك سترهم.

ومهما يكن قرارك الذي تنتهي إليه، فإني أستحلفك كل عزيز لديك أن تهيئ لي مهلة يوم واحد على الأقل قبل أن تبلِّغ أولي الأمر عن غيابي، فقد يكون هذا اليوم هو الحد الذي يفصل موتي عن حياتي، إني لأجثو أمامك على ركبتي ضارعًا يا فكتور أندريفتش.

وأشكر لك كل ما تفضلت عليَّ به، أشكر لك أن عاونت في إحياء إنسان من البشر له شيء من كرامة النفس كان طغاة التعذيب قد محوها محوًا، فلو بقيت حَيًّا فسأدعو لك الله في غير انقطاع.»

فحفزني شعور دخيل أن أثق في هذا الهارب، وربما دعاني إلى الوثوق فيه قبل ذلك ما تكشَّف لي من صفحة نفسه في حديثنا العابر خلال الأسابيع الماضية، ولكن على الرغم من هذا الصوت الباطني الذي يطمئن نفسي، فقد أحسست كأنما كنت أقامر بحياتي كلها إذ أخذت في نقل الأسماء التي دوَّنها لي في خطابه، ثم أحرقت الخطاب وأخفيت في حرص شديد كل أثر للرماد.

ولما دنا النهار من ختامه أرسلت رسولًا إلى «جرومان» حيث يقيم، فجاءني الرسول في صبيحة اليوم التالي ينبئني أن الأسرة التي يساكنها «جرومان» قد قررت له أنه لم يذهب إليهم منذ يومين، فاتصلت فورًا بقسم المستخدمين وسألت موظفيه في غضب مفتعل لماذا لا يبعثون إليَّ بأمين سر يكون أكثر جدارة بالركون إليه من ذلك الذي بعثوا به أول مرة، ثم قلت لهم متذمرًا في غير إفاضة في الشرح: إن ذلك هو ثالث أيام غيابه عن عمله.

ولم تكتمل بعد ذلك ساعة واحدة حتى جاءني «جرشجورن» بنفسه مصحوبًا برجل يرتدي حلة رسمية، وكان في حالة من الاضطراب الشديد، وسألاني أسئلة، وقلَّبا كل ما يحتوي عليه مكتب «جرومان» ثم عادا، ولم يكن ثمة من سبيل أعلم به هل الهارب قد لاذ فعلًا بالفرار، فالاحتمال ضئيل جدًّا أن يستطيع الهاربون التسلل خلسة عبر حدود السوفيت، ومع ذلك فمئات من الناس قد وُفِّقُوا في هذا العمل الجسيم.

ولقد أفادني ما علمته من أمر المخبرين المنبثين حولي، إذ استطعت أن أكون على حذر في شأن نفسي، وأن أعمل على حماية الآخرين، فلو أردت لشيء أن يبلغ مسامع الشرطة بغير إبطاء، فلا عليَّ سوى أن أذكره ذكرًا عابرًا على مسمع من المخبر العامل في الأفران، أو المخبر العامل في قسم الآلات، أو رئيس قسم عمليات الصقل، أو المهندس «ماكاروف» أو رئيس العمال «يورافين» أو موظف نقابة العمال «إيفانوف» الذي كان مساعدًا لرئيسه «ستاروستين»، وأصبح اتصالي ﺑ «رومانوف» في أوقات الفراغ تكليفًا أليمًا على نفسي أقوم به بين آونة وأخرى، إذ لم يكن في مستطاعي أن أجتنبه اجتنابًا تامًّا دون أن أثير الشكوك.

وجاءت بعد «جرومان» خلفًا له، فتاة شابة جميلة نشيطة كانت عضوًا في الهيئة الشيوعية للشباب، ولا شك أنها استأنفت أعمال التجسس حيث تركها «جرومان» المنكود.

وكان اسم سائق سيارتي في القائمة التي تركها لي «جرومان» فكدت لا أدهش لذلك، وكان عليه أن يقرر عني ما يشاء رأسًا لقسم المخابرات من المكتب السياسي، لا للقسم الاقتصادي الذي يشرف عليه «جرشجورن»، أما خادمتي «باشا» فلم يكن اسمها في القائمة.

لكني عرفت فيما بعد أن حذف اسمها من القائمة كان سهوًا من «جرومان» أو أن «جرومان» لم يكن له علم بنصيبها من التجسس.

وعدت ذات يوم بعد زيارة لموسكو، وكانت «باشا» قد أمضت في خدمتي ما يقرب من سنة كاملة، فساعدتني في تفريغ حقيبتي، وكنت قد اشتريت لها عددًا من الهدايا، اشتريت لها لفاعة زاهية الألوان، وبضعة أزواج من الجوارب القطنية، وكوثًا منزليًّا، فخُيِّلَ إليَّ أنها أخذت هذه الأشياء في تحفظ غريب.

فسألتها: «ألا تعجبك هذه الأشياء يا «باشا»؟»

– «نعم، تعجبني يا فكتور أندريفتش، وإني لجدُّ شاكرة.»

لكن «باشا» في تلك الليلة نفسها، بعد أن خدمتني في تناول عشائي، جاءت إلى غرفة الطعام تحمل الهدايا وتبكي في صوت عالٍ كما يفعل أهل الريف من الفلاحين، فنظرت إليها فزعًا متسائلًا، قالت وهي تنهنه بالبكاء: «لا أستطيع قبول هذه الأشياء يا فكتور أندريفتش، أرجوك، أرجوك أن تستعيدها.»

– «لا بأس، لكن خبريني لماذا؟ ما السر في هذا؟»

فأشارت على صدرها بعلامة الصليب وقالت: «اللهم غفرانك، لا أستطيع أن أخبرك بشيء، وكل ما أرجوه ألا تضطرني إلى أخذ هذه الهدايا.»

لكني أخذت أستحفزها على الإفصاح، وأتعهد لها بكتمان سرها، فأنبأتني، ثم أضافت إلى النبأ قولها: إنها لا تستطيع أن تقبل الهدايا من رجل طيب القلب بينما هي مكلَّفة بالإخبار عنه بما ليس في صالحه.

– «نعم، منذ اللحظة الأولى التي جئتك فيها ها هنا، لبثت أرفع عنك تقريرًا كل أسبوع إلى القسم السياسي، لقد جئت من الريف وأعطيت هذا العمل، لكني ما كدت أستقر في دارك حتى أُمِرْت بالذهاب إلى القسم السياسي حيث رُسِمَ لي ما ينبغي أن أفعله، فرفضت وبكيت وقلت: إن ذلك ينافي ديانتي، لكن الرجل صاحب الحلة الرسمية لم يُجِبْ إلا بقوله: «لا تكوني حمقاء يا «باشا» ألا ترغبين في عودة أبيك من منفاه؟ إذن فاخدمينا في دقة وإخلاص ننظر لك في عودة أبيك.»

– «أذهب مرة كل أسبوع إلى دار خاصة في نيقوبول وأبلغهم كل ما عرفته عنك، وبصفة خاصة ما عرفته خلال الأسبوع عن زائريك وما يقولون، وكانوا يسألونني: ألا يلعنون الحكومة؟ فكنت دائمًا أشير بعلامة الصليب على صدري وأجيب: كلا، بل هم على عكس ذلك، وإنهم يضحكون مني إذ أشير بعلامة الصليب، ألا لعنة الله عليهم من كافرين!»

فأكدت للمسكينة «باشا» أنني عفوت عنها، وأنني لن أذكر لأحد قط ما أنبأتني به، على شريطة أن تمسك هي بدورها عن ذكر ما دار بيننا، بل إني أقنعتها أنه خير لها أن تقبل هداياي ما دامت قد وضعت ثقتها فيَّ.

ولبثت «باشا» تبلغ عني ما بقينا معًا في تلك الدار، ولم يحدث قط أن ذكرنا ما اعترفت لي به وهي تذرف العبرات، لكنها كثيرًا ما كانت تسألني أسئلة أرادت بها — فيما أعلم علم اليقين — أن تستوثق مني هل أريد لها أن تبلغ عن حوادث بعينها، فوضحت لها في جلاء أنني لا أخفي شيئًا، وأن ما لا تخبر به هي سينقله آخرون غيرها على كل حال.

كنت ترى عادة في نيقوبول عددًا من المهندسين الأجانب، أمريكيين وألمان، ليقوموا بتركيب الآلات الواردة من خارج البلاد، وليعملوا على رفع كفايتها في الإنتاج، وقد كان هؤلاء الأجانب عند الروس — عاليهم وسافلهم — موضع فتنة تستثير الاستطلاع، كما كانوا مصدر خوف في آن معًا، فمن الخطر أن تخالطهم؛ لأنه من الخطر أن «تتصل بأعداء الشعب»، لكن هذا الجو الذي كهربته معاني الخطر كان في ذاته مثيرًا لهؤلاء الأجانب الذين كانوا يبدون بحسن هندامهم وبغرابة حديثهم وسلوكهم، كأنما هم مخلوقات جاءتنا من كوكب آخر، ولعل أهم ما كان يستوقف فيهم الأنظار انعدام الخوف من نفوسهم بحيث يعملون ويتكلمون بل وينقدون إلى حد محدود، كأنه ليس هناك قسم سياسي ولا «جرشجورن» ولا مخبرون.

فلما اقترح الرفيق «براتشكو» أن آخذ اثنين من الأمريكيين في داري، لم أكتم ما أحدثه ذلك الرأي من الرعب في نفسي، وكان هذان الأجنبيان قد استُدْعِيا من «يَنْجستَون» ليقيما في نيقوبول بضعة أشهر بحكم المهمة التي جاءا من أجلها، ولما كان الفندق المحلي من القذارة بمكان، ولما كنت عزبًا يسكن وحده دارًا فسيحة، لم أجد مبررًا لرفض استضافتهما في منزلي، لكنني خشيت ما عسى أن يترتب على هذا الاتصال الذي فُرِضَ عليَّ فرضًا «بعناصر غريبة عن طبقات شعبنا».

كان «لاري» و«جو» طويلين أشقرين طيبين، يضيق صدراهما لقذارة ما حولهما ويحنَّان إلى الوطن حنينًا ظاهرًا، ولقد توثقت بيني وبينهما صلات الود في الأشهر التي استضفتهما خلالها على الرغم مما اعترضنا من مشكلة التفاهم من حيث اللغة، ولم يحدث قط أن مسَّ أحد منهما موضوعات السياسة بالحديث، ولم يكن هذا الإهمال لشئون السياسة مما يعز على التصديق، فحسب عند الرجل الروسي الذي كادت السياسة والحياة أن يكونا له شيئًا واحدًا، بل كان يعدُّه شذوذًا لا يجري مع طبائع الأشياء، لكن هذين الأمريكيين حصرا اهتمامهما في عملهما، فإذا ما فرغ الحديث في العمل أخذا يقصان القصص ويلعبان الورق ويبحثان عن «حفلات»، ولما كانت لهما طبيعة الاجتماع بالناس والصراحة في الحديث صراحة لا تخفي شيئًا، لم يفهما قط لماذا ينفضُّ الناس من حولهما بحيث يُتركان وحيدين، ولماذا لا يحدث إلا نادرًا أن يدعوهما من يعملون معهما في مصنع واحد.

وقد حدث ذات صباح أن تلفنني «جرشجورن»، وكان «لاري» و«جو» عندئذٍ قد قضيا معي بضعة أسابيع.

قال لي منبئًا: «ضيفاك الأمريكيان سيطلعان للصيد هذا النهار.»

– «أهو كذلك؟ وما شأني بهذا؟»

– «أريدك أن تتلفنني بمجرد مغادرتهما لدارك، وقل لخادمتك إن يومها يوم عطلة، فليس عليها أن تعود إليك قبل الخامسة.»

فلما فرغنا من الإفطار، بدأ الأمريكيان رحلتهما نحو التلال وقلباهما يفيضان بشرًا، وخبطاني على ظهري على نحو ما يفعل الأمريكان في زئاطهم، ووعدا أن يأتياني بما يصطادانه كائنًا ما كان، ولم يكن لي بد من تلفنة القسم السياسي، فما جاءت الساعة الحادية عشرة حتى قدم «جرشجورن» ومعه آخر، ودخلا داري كأنها دارهما، وطافا بأنحائها كأنما يعرفان كل جزء من أجزائها، حتى لقد خطر لي خاطر أزعجني، إذ قلت لنفسي: يجوز أن يكونا قد فحصا هذا المكان مرارًا في غيبتي!

وطفق وكيلا القسم السياسي يفتشان الغرفة التي كان يشغلها الضيفان تفتيشًا دقيقًا، فبحثا داخل الجيوب وفي أحزمة السراويل وأكمام القمصان وثنيات الستر ونعال الأحذية وكل ما يتوهم العقل أنه يجوز أن يكون مخبأً، ففحصا كذلك الكتب والمجلات والمذكرات والخطابات فحصًا دقيقًا، وصورا بعض هذه الأشياء، ونقلا كل ما صادفاه من أسماء أمكنة أو أرقام تليفونية، ورأيت «جرشجورن» إذ اعتراه ارتباك ملحوظ إزاء عدة الحلاقة الأمريكية، فأخذ يضغط على أيدي آلات الحلاقة ويهزها ويدرس الفراجين ويخبر باللمس أنابيب الصابون، فلعله آمن أن هذه الأشياء هي ما يحتمل جدًّا أن تكون مخابئ ما لدى الأمريكيين من أسرار، ولم يكن زميل «جرشجورن» من موظفي القسم السياسي المحلي، ولقد أظهر معرفة جيدة بالإنجليزية.

وانتهى التفتيش في الساعة الرابعة، ولم يعثر الشرطيان على شيء؛ إذ لم تبدُ على وجهيهما علامات السرور التي تنم عن نشوة الكشف.

وقال لي جرشجورن: «أنت تعلم بالطبع أيها الرفيق كرافتشنكو أنه لا يجوز لك قط أن تنبس ببنت شفة عما حدث، فإذا ما تسرب النبأ فسيعدك القسم السياسي مسئولًا بصفة مباشرة، وقِّع على هذا التعهد.»

وكان ما قدمه لأوقعه استمارة يألفها كل من كانت له صلة بالشرطة السرية، فهي تعهد «اختياري» يأخذه المرء على نفسه بألا يقول شيئًا، وما أن تركني الرجلان حتى طفقت أطوف بأنحاء الدار محزون النفس؛ لأنني غريب في مسكني، وأخجلني أن أواجه الأمريكيين عند عودتهما فالتمست مبررًا أعزز به غيابي عن الدار تلك الليلة.

وإني لعلى يقين من أن كليهما لم يَرْتَبْ أقل ريبة في أن تكون أشياؤه قد فُحِصَت، أو أنه في كل دقيقة يقضيها في الروسيا مراقب تسجَّل عليه كل حركاته، وحدث أن مرت «بجرشجورن» لحظة من التفريط بعد أن غادر الأمريكيان «نيقوبول» بزمن طويل، فأطلعني بلمحة سريعة على ملف أوراقهما، فوجدت بين ما فيه من أوراق صورًا شمسية لهذين الأجنبيين إذ هما في حالات اتصال خاص ببعض النساء في فندق بموسكو، ولم يكن بالطبع قد دار في خلدهما إذ هما في تلك الغرفة من الفندق أن رجال آلة التصوير قد تستروا يسجلون حركات ذلك الغرام العابر.

وكان «جرشجورن» يمص شفتيه الغليظتين إعجابًا وهو يناولني تلك الصور واحدة بعد أخرى.

سألته: «لكن ما حاجتكم إلى هذه الصور، والأمريكيان الآن في بلادهما؟»

– «نعم، قد عادا إلى أمريكا، لكن ثق وثوقًا لا يتطرق إليه أدنى الشك أنهما لن يكتبا شيئًا يهاجمان به وطننا الاشتراكي هجومًا عنيفًا، كما يفعل بعض الأمريكان المناجيس بعد أن يأخذوا ذهبنا الثمين وأحسن ما لدينا من طعام.»

وكان هنالك كذلك مهندس أجنبي آخر لا تزال مغامراته الحمقاء عالقة في ذهني، وأعني به «لنتز»، وهو ألماني ضخم البدن تثنَّى عنقه الغليظ ثلاث ثنيات متميزة إحداها عن الأخرى، وإنما أُرسل إلينا ليقوم بتركيب مجموعة من الآلات وردت من الخارج، ولقد كنت أوثر أن أتفاهم معه بوساطة رجل من رجال مصنعي — هو يورِف — الذي كان يتكلم الألمانية قليلًا، على الرغم من أن «لنتز» كان يصحبه مترجمتان.

كانت إحدى مترجمتي «لنتز» من نساء الشرطة السرية في «دنيبروبتروفسك» جاءت إلى نيقوبول لهذه المناسبة، ولم يكن عسيرًا عليها أن تؤدي مهمتها خير أداء، فقد كانت في الثلاثين من عمرها مليئة بالحياة وليست تخلو من جمال، ولم يلبث أن شاع في الناس ما كان الغرض فيه أن يكون سرًّا مكتومًا، وهو أن «ألكساندرا» كانت تزامل «لنتز» في حياته الخاصة، فكانت تُرَى مرتدية جوارب حريرية، حاملة حقيبة في يدها مما ورد من الخارج، وغير ذلك من الهدايا التي يثور حولها القال والقيل، ومع ذلك فالظاهر أن القسم السياسي قد رأى أن امرأة واحدة لا تكفي، فأضاف إليها امرأة أخرى هي «ناتاشا».

كانت «ناتاشا» ابنة قسيس أُرْسِلَ إلى مطارح النفي قبل ذلك بأعوام كثيرة؛ ولذلك كان معروفًا في المدينة، ولم تكن «ناتاشا» قد بلغت عشرينها بعد، وكان جمالها من طراز رقيق كجمال الأطفال، ولقد علمت من «يورف» أن «ناتاشا» قد أُلْزِمت إلزامًا أن تكون مترجمة ﻟ «لنتز» إذ تهددوها في أبيها ووعدوها أن يأذنوا له بمكاتبتها.

وذات «أحد» جميل قصد الألماني ومترجمتاه ورجل قيل إنه صديقهم، وقيل إنه من هواة السيارات، قصدوا جميعًا إلى رحلة نهرية في نهر «دنيبر» وكان معهم طعام كثير ونبيذ وفودكا في القارب البخاري الذي ركبوه، ولكي يضيفوا إلى جمال الرحلة أخذوا معهم حاكيًا وعددًا من الأسطوانات الروسية والألمانية، وبعد أن سمروا وأكلوا في مكان منعش جميل على شاطئ النهر، وبعد أن أصغوا إلى ألحان الموسيقى، استصحب «هاوي السيارات» كبرى الفتاتين إلى مشية قصيرة، وأما «لنتز» الذي كان عندئذٍ قد صعد فعل النبيذ إلى رأسه شيئًا فشيئًا، وزاد على النبيذ فعل النساء والغناء الألماني، أقول: أما «لنتز» فقد بقي وحده مع «ناتاشا» التي تُسيل اللعاب.

وحدث ما توقعوا له أن يحدث، وهو أن أخذ الرجل بأسباب الغزل فصدَّت الفتاة تلك الأسباب، وهي بين الإثارة لشهوته والحياء من القبول، لكن المهندس «لنتز» لم يزد إلا إلحاحًا، وفي اللحظة التي خلع الألماني للفتاة قميصها فعرى ثدييها الناضرين، خُيِّلَ إليه أنه يسمع صوتًا في الشجيرات القريبة، فألقى فريسته من يديه وبقفزة واحدة ذهب إلى مصدر الصوت بين الشجيرات، ليجد «هاوي السيارات» على وشك أن يصور فيها بآلته صورة ثانية لمنظر الألماني وهو يعابث الفتاة.

فعاد إلى «لنتز» صحوه فورًا، وجذب آلة التصوير جذبًا سريعًا وحطمها تحطيمًا وألقى بها في النهر، وأمطر السباب على «هاوي السيارات» الذي أرسله القسم السياسي، وعاد إلى داره، ولما شكا الأمر إلى الإدارة في اليوم التالي، مهددًا بأن يبلغ القصة كلها إلى السفارة الألمانية، أكدوا له أن ذلك لم يزد على مهاذرة أصحاب في يوم عطلة، وليس له أي معنى من معاني السياسة على الإطلاق، لكن «لنتز» لم يكن من الحمق بهذا المكان.

«أنا أحسن تصويرًا من شرطيكم.» قال ذلك في نغمة المزهو ثم قهقه ضاحكًا: «انظر إلى هذه المجموعة.»

وعرض صورًا له مع ألكساندرا في عدة مواقف غزلية.

ثم قال: «لو أرادت حكومتكم صوري مع «ناتاشا» لسرَّني أن أقدمها لها، ولم يكن ثمة ما يدعو أن تكلفوا أنفسكم قاربًا بخاريًّا ورحلة نهرية، فها أنتم أولاء ترون أني من رجال التصوير الشمسي أيضًا.»

فلم يلبث «لنتز» أن طُلِبَ إليه مغادرة الروسيا، وأغلب ظني أنهم أجزلوا له العطاء ماركات ألمانية ثمنًا لكتمانه الأمر عن السفارة الألمانية، وعادت «ألكساندرا» إلى «دنيبروبتروفسك» حيث يتسع لها المجال لإظهار مواهبها في المهندسين الفنيين الأجانب، وإنهم في تلك المدينة لكثيرون، ولست أدري هل كوفئت «ناتاشا» على صنيعها بأن أُذِنَ لها أن تكاتب أباها، وأما «يورف» فإنه لما قُبِضَ عليه بعد ذلك بعام، اتُّهم بأشياء كثيرة بينها «الاتصال بالفاشيين من الألمان»، وكان كل أساس هذه التهمة أنه كان حينًا بعد حين يترجم ﻟ «لنتز».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤