الفصل السادس

طالب في خاركوف

ها أنا ذا أعود في سن الخامسة والعشرين طالبًا وأمينًا على مصالح الدولة، وقد خُصِّصَ لي مرتب أتقاضاه في كل شهر من ميزانية مصنع بتروفسكى-لينين يفي بنفقات معيشتي ويترك لي فضلة من المال تكفي ثمن ملابسي ونفقات تسليتي، غير أن الجوع والبرد، وهما التوأمان اللذان ألفتهما في إبان الحرب الأهلية، لم يفارقاني طويلًا، نعم إنهما لم يكونا من القسوة وطول الأمد كما كانا في الأيام الماضية، بل كانا يتركان لي بين الفينة والفينة مهلة أنجو فيها من عذابهما، ولكنهما مع ذلك كانا يعودان بكل ما فيهما من قسوة كما يعود مرض الأسنان المزمن.

وكان المعهد الفني في خاركوف يشغل بناءً ضخمًا قديمًا مشيدًا على طرف حديقة غنَّاء في شارع كبلونوفسكي، وما من شك في أنه كان في الأوقات العادية نموذجًا لما يجب أن تكون عليه المدينة الجامعية، وفي وسعي أن أتخيله في تلك الأوقات وقد اجتمع فيه الشبان بحللهم الجامعية الأنيقة، معظمهم من الأسر الموسرة، يجمعون بين العمل وبين نزق حياة الطلاب، وما من شك أيضًا في أن روح الشباب كانت تسري في جو الدراسة، أما في الوقت الذي التحقت فيه بهذا المعهد فقد كان صاخبًا مزدحمًا يكدُّ فيه الطلاب كما يكد العمال في مصهر عظيم دائب على العمل، ترى فيه اللجاجة والدعوة إلى العمل والعجلة الملازمة لمشروع الخمس السنين كما تراها في أية صناعة من الصناعات.

ولعل هذا الخليط الذي شاهدته في هذا المعهد من رجال ونساء وفتيان وفتيات لم يُحْشَر مثله في معهد واحد من معاهد التعليم قبل ذلك الوقت أو بعده إلى يومنا هذا، وكان معظم الطلبة يزيدون على الثالثة والعشرين من عمرهم، وكثيرون منهم بين الثلاثين والأربعين، وكان الذين أوتوا منهم قسطًا من العلم والثقافة يجتمعون في فصول واحدة مع الشبان من العمال الذين لم يكونوا يحلمون قط بأنهم سيدرسون العلم في يوم من الأيام، ويرون في هذه الدراسة نوعًا من العذاب؛ ذلك أننا جُندنا من المصانع وأفران صهر المعادن والمناجم والمكاتب، ليؤلف منا ذلك الجيش العرمرم من رجال الفكر الفنيين على الطراز الجديد، وكنت ترى في هذا الحشد العظيم رجالًا من ذوي الوجوه الكالحة من وسط آسيا لم يروا من قبل مدينة غربية يعيشون مع طلبة ذلك الإقليم نفسه المقيمين مع أسرهم في بيوتهم، كما كانت بينهم طائفة كبيرة من الجنود القدامى المحنكين وأنصار الحزب السابقين — من رجال العصابات المحاربة — جيء بهم من سيبيريا، والموظفين الشيوعيين الذين يتقنون أساليب السياسة الحديثة.

وأكبر الظن أيضًا أن فئة غيرنا من الطلاب المُجِدِّين لم تدرس منهاجًا يشبه في صعوبته المنهاج الذي وُضِعَ لنا، لقد كنا نشق طريقنا في هذا المنهاج كما يشق جماعة من الناس طريقهم وسط غابة تكتنفهم فيها الأخطار من كل ناحية، أو كما يشق الجيش طريقه في بلد معادٍ له، فلم يكن عملنا في هذا المعهد شبيهًا بحال من الأحوال بعمل الطلبة الممهد في المدرسة العادية وفي الأوقات العادية.

وكنت أسكن مع آلاف غيري من طلبة معاهد مختلفة في خاركوف في مجموعة من حجر النوم في شارع بشكين غصَّت بنا كأنها خلايا النحل، وكنا نكدس فيها كل أربعة أو خمسة في حجرة واحدة، يشوي أجسامنا حر الصيف وتتجمد أطرافنا من زمهرير الشتاء.

وكثيرًا ما اشتد البرد في شتاء ١٩٣٠-١٩٣١م في هذه الأماكن حتى تجمدت منه المياه في المغاسل، فكنا نجمع ما نعثر عليه من قطع الخشب المتفرقة وأسوار الحدائق والأثاث المحطم والصحف القديمة، لنلقيها في الموقد الذي وُضِعَ في حجرتنا، وكان موقدًا صغيرًا من الحديد ذا مدخنة بالية من قطع متعددة، تخرج من إحدى النوافذ، وفي هذا الجو كنا نسكن وندرس ونتناقش ونحلم بمستقبل بلدنا الصناعي، ونحن نقاوم البرد والجوع في ذينك الزمان والمكان.

وكان النساء يقمن في جناح خاص بهن، ولكننا كنا مع ذلك أحرارًا في الاختلاط بهن في قاعات الاجتماعات العامة وفي المطاعم، ولم نكن نُمْنَع من المذاكرة معهن في حجراتنا وحجراتهن، وما من شك في أن صلات كانت تنشأ بين الطلبة والطالبات، فلم يكن ثمة شيء من التزمت في هذه الأماكن، وإن كان المستوى الخلقي ساميًا بوجه عام؛ ذلك أن مزاج الطلبة والطالبات كان مزاجًا تغلب عليه الصرامة والكآبة، وأن الصعاب التي تحيط بهم كانت قاسية كثيرة، واحترام بعضهم بعضًا كان احترامًا حقًّا لا تشوبه شائبة، وكل هذا يحول بينهم وبين العبث والاستهتار.

وكان يشاركني في حجرتي أربعة من الطلاب هم: ألكسي كارنوخوف، وجورج فجورا، ونجلسكين، وفانيا آفداش تشنكو، وكلنا من «الآلاف» المعبئين، وكلنا من أعضاء الحزب.

وكان ألكسي في واقع الأمر رجلًا له بعض الخطر؛ لأنه كان عضوًا في اللجنة المركزية لمنظمات الشباب، وكان فتًى بهي الطلعة مفتول العضلات أصفر الشعر عسلي العينين، يشع منهما الجد والوقار، جميلًا في أخلاقه كما كان جميلًا في ملامحه نبيلًا صريحًا، ذا عقل نقاد يندر وجوده بين الموظفين الشيوعيين، وقلما كنت تراه يزهو بنفسه اعتمادًا على سمو مركزه، أو يتهرب من المناقشة الصريحة في الشئون المدرسية أو الشئون العامة.

وسرعان ما استحكمت عرى المودة بيني وبين ألكسي، فقد كنا كلانا نحب حزبنا ونؤمن به، ومن أجل هذا السبب نفسه لم نتردد في التحدث عنه بمنتهى الصراحة، فنسائل أنفسنا عن سبب وجود تلك الهوة السحيقة بين المبادئ والأعمال، وبين الأقوال الرسمية والحقائق الواقعة، وكنا نبحث هذه المشكلة إشفاقًا منا على الحزب لا غضبًا عليه، وكان أسهل علينا أن نجد من الأسباب ما يبرر حكم الإرهاب الذي بدأت بوادره في الظهور، وأن نكشف عن البواعث النبيلة الكامنة وراء هذا المسلك الآثم في ظاهره، وأن تثبت قلوبنا على الإيمان بعهد الآلام الذي كنا نعيش فيه.

أما جورج فجورا فكان شيوعيًّا من طراز غير هذا الطراز، وكان يخُيَّل إلى هذا الرجل أن مجرد التفكير في مناقشة ما يصدره الحزب من الأوامر والقرارات هو الكفر بعينه، فأي شيء في هذه الأوامر والقرارات يمكن أن يناقش؟ ألم يكن كل شيء فيها واضحًا جليًّا؟ ولم يكن لجورج رأي خاص، وكل ما كنا نسمعه منه أقوال ينقلها عن ستالين وعن جريدتي إزفستيا وبرفدا وما إليهما من المراجع، أما الموضوعات التي لا يجد لها سندًا من الأقوال الرسمية فلم يكن لها وجود لديه، ولم يكن يشك مطلقًا فيما نجيزه لأنفسنا أنا وألكسي من تنقيب في الشئون العامة، وما نتكلفه من عناء في بحثها أو عدم التحرج في الحديث عنها، لم يكن يشك مطلقًا في أن هذا كله سيكون وخيم العاقبة علينا.

ولم يكن نجلكين أقل إخلاصًا للحزب من جورج، ولكنه كان فتًى متسامحًا، مثابرًا، صبورًا على ما يصيبه من آلام، وكان كثير الاحترام لجميع رفاقه، يشعرني بأنه فتى ذليل، يرى أن مجرد وجوده على ظهر الأرض نعمة أُنعم بها عليه، ولشد ما كان شعوري بحاله هذه مؤلمًا لي، وكان يخشى تطرف فجورا في حزبيته التي لا يقبل فيها جدلًا، بقدر ما يخشى أسئلتي الجريئة، ولعلنا كنا نستغل وداعته هذه فنحمِّله من أعباء العمل أكثر مما يجب أن يتحمله.

أما الشخص المشكل حقًّا في حجرتنا فقد كان هو فانيا أفداش تشنكو، وكان فانيا هذا أكبرنا سنًّا يزيد على الثلاثين من عمره، وكان بدينًا قوي الجسم طيب القلب، كسولًا فوق ما يتصوره الإنسان، ولما كان قد اشترك في الحرب الأهلية في صف الشيوعية فقد كان يقنع بالحياة في ظلال ما ناله من المجد الزائل في مغامراته الماضية، وكأنه كان يعتقد أن هذه الأعمال تعفيه طوال حياته المستقبلة من القيام بكل عمل جدي أيًّا كان نوعه.

ولم يكن فانيا شخصًا غبيًّا، وكان في وسعه أن يتقن دروسه لو أنه بذل في ذلك بعض الجهد، وطالما أسدينا إليه النصح في هذا، وأخذنا عليه العهود بأن يجد في العمل الذي ضُم من أجله إلى «الآلاف»، ولكن جهودنا كلها ذهبت أدراج الرياح، فقد كان يستلقي على فراشه ويتظاهر بأنه يحفظ القوانين الكيميائية عن ظهر قلبه، بينما هو في واقع الأمر يقرأ إحدى الروايات الرخيصة.

على أنه كان يعوض كسله وضعفه في الدرس بقدرته على الاتصالات السياسية، فلم يكن يجهل أحدًا من الناس، كما أن أحدًا من الناس لم يكن يجهله، وكان من أجل هذا يُخْتَار بطبيعة الحال في كل اللجان الهامة التي لا يعمل فيها شيئًا معينًا؛ ولذلك لا يرتكب فيها خطأ يؤخذ عليه، وكان له أصدقاء في مطابخ البيت، وفي أحسن مخازن البقالة التعاونية، وفي غيرها من الأماكن التي يمكن الحصول منها على جرايات إضافية، وكنا نحن نقتسم ما يأتي به بفضل عبقريته السياسية، وإن لم يحُلْ هذا بيننا وبين تعنيفه على كسله وإهماله.

وطُرِدَ فانيا من المعهد قبل انتهاء الفترة الأولى من السنة الدراسية، على أنني لم يدهشني قط أن أعرف منه حين قابلته مصادفة في موسكو بعد عدة سنين من ذلك الوقت أنه أصبح رئيس مواثقة١ كبيرة؛ ذلك أن فانيا لم يكن ذا حظ عظيم من العلم أو الذكاء أو الشعور المرهف يقف في سبيله وهو يرتقي سلم البيروقراطية.
وكان للتربية السياسية في منهاج دراستنا شأن أعظم من شأن التعليم الفني نفسه؛ ذلك أن الحكومة لم تكن تهدف إلى الحصول على مهندسين وحسب، بل كانت تريد مهندسين ذوي عقول سوفيتية، وكانت كلية لينين التابعة للمعهد وعلى رأسها الأستاذ فيليب الأحمر تعمل جاهدة لهذه الغاية، وكان الذين يعجزون عن استيعاب كتاب رأس المال Das Capital لكارل ماركس، ومحاورات إنجل ومؤلفات لينين وأبحاث ستالين وهي أهم من هذه كلها، يُخرجون من المعهد أسرع مما يخرج منه الذين يعجزون عن استيعاب حساب التفاضل والتكامل، أو الذين لا يجيدون عمل التصميمات الهندسية.

والتحقت أنا ورفاقي الأربعة بمعهد بناء الطائرات، وإن لم يكن لأحد منا خبرة عملية في بنائها عدا فجورا، وكان لموضوع الطيران في حد ذاته صفة رمزية خاصة؛ لأنه كان أحدث ما اتُّبِعَ من الوسائل في تجديد روسيا؛ ولذلك كان التحاقنا بمعهد الطيران سببًا في شحذ همتنا وانشراح صدورنا.

وكنا في صباح كل يوم نمارس ضروبًا من الألعاب الرياضية في حجرتنا لنخفف من آثار البرد القارس، ثم نفطر في المطعم. وكان الفطور المقرر يشمل مقدارًا قليلًا من الحساء وكسرة صغيرة من الخبز الأسود والشاي من غير سكر أو ليمون، وكنا نذهب بعدئذٍ إلى المعهد، جياعًا نرتعد من البرد، ولكننا لم نرَ في هذا شيئًا من البؤس والشقاء، بل كنا نتحدث طويلًا ونضع الخطط الكثيرة للمستقبل، نتحدث عن المعهد والمطعم والحزب وعن أنفسنا نحن.

ونشأ بيننا شيء من الولاء لجماعتنا رغم ما كان بيننا من فروق في الآراء واختلاف في الشخصية، فإذا كان واحد منا نحن الخمسة على موعد مع فتاة جاء له زملاؤه الأربعة بما يحتاجه من رباط للرقبة أو سترة نظيفة أو سراويل أنيقة، بل كنا نقدم له أحيانًا بعض الروبلات ليستعين بها على مطالبه في هذه المناسبات.

وكان للمعهد صحيفته الخاصة شأنه في ذلك شأن كل معهد سوفيتي آخر، وسرعان ما انضممت إلى هيئة التحرير فكنت محررًا مساعدًا لهذه الصحيفة، وكان التذمر من أحوال مسكننا شائعًا بين العمال، ورددت صحيفتنا أصداء هذا التذمر، وكثيرًا ما وُجِّهَ النقد فيها إلى قلة الطعام وسوء طهيه، وعدم العناية بغسل الملابس، وقذارة المكان وسوء الإدارة.

وبلغ هذا التذمر غايته حين انتظم الطلاب في اجتماع عام نظَّمته خلايا الحزب ولجان الشباب، وأُلْقِيَت في هذا الاجتماع كثير من الخطب وعُرِضَت عدة اقتراحات، وعرضت أنا بناءً على اتفاق سابق مع لجنة تنظيم الاجتماع أن يقوم الطلاب أنفسهم ببعض الأعمال الإدارية، وأن يتحملوا هم بعض التبعات، فلما تقدمت بهذا الاقتراح عرض ألكسي أن أقوم أنا من فوري بهذا التنظيم، ولم يكد يعرض اقتراحه حتى قامت فتاة حسناء جذابة لم أُلْقِ بالي إليها من قبل وطلبت الكلمة، فلما أُذِنَ لها قالت: «أؤيد انتخاب الرفيق كرافتشنكو، فقد عرفته من ثماني سنين وفي وسعي أن أشهد بأنه رفيق مخلص.»

وكانت فتاة حسناء بلا جدال، ممتلئة الجسم، أنيقة الملبس، جريئة في قولها، تبدو عليها شواهد الاعتماد على نفسها، وظللت طوال الاجتماع لا أدري مَنْ تكون هذه الفتاة وكيف عرفتني. وانتُخِبْتُ رئيس «هيئة البيت الكبير»، ولما انفضَّ الاجتماع لحقت بالفتاة في الردهة.

فلما رأتني قالت وهي تضحك ضحكة خبيثة: «كيف حالك يا فكتور أندريفتش؟ لست أشك في أنك قد نسيتني، ولكن حسبي أنني أذكرك.»

فسألتها: «هل لك أن تبوحي بالسر؟»

– «أنا باشا، فهل هذا يساعدك على أن تعرفني؟»

– «باشا؟ أخشى أن أقول إن هذا لا يساعدني قط.»

– «إذن، فسأقدم لك شاهدًا آخر لعله يهديك إلى معرفتي، لقد كنت أدفع عربة فحم في مناجم ألْجُفِرُفْكا.»

ثم تذكرت فجأة فصحت: «رباه! وهل يمكن أن تكون هذه باشا نفسها؟» ثم ضحكنا وضممتها إلى صدري وأنا مغتبط جذل.

وصحت حين انضم إلينا ألكسي: «اليوشا! ها هي ذي باشا، لقد كانت حين رأيتها آخر مرة حالكة السواد كالفحم، ممزقة الثياب.»

وأضافت هي من عندها: «وأمية لا تقرأ ولا تكتب.»

وزدت على ذلك قولي: «نعم، ولكن انظر إليها الآن، فهي طالبة ومثقفة تعجب من يراها، هذا فضلًا عن ملامحها الجميلة التي كان يخفيها تراب الفحم، ألا ما أعظم هذا النصر الذي ظفرت به الثورة!»

والحق أن هذا الانقلاب كان مدهشًا خارقًا للعادة، حتى لقد كان من أصعب الأشياء على الإنسان أن يتبين فيها أثرًا من آثار الفتاة القروية المكتئبة المتأخرة، ذات الخرق البالية حول قدمها، والغدائر الطويلة المرسلة على ظهرها، التي عرفتها في مناجم الفحم، وتذكرت ساعتئذٍ أنها كانت في أيامها الماضية أشبه بحيوان بري مصيد تقاوم كل ما نبذله من جهود لتمدينها.

وسجلت في أعماق عقلي ما طرأ على باشا من تطور، وأضفته إلى محاسن الثورة لأوازن به ما يعادله من مساوئها.

وتوثقت الصداقة بين ألكسي وباشا وازدهرت، وأحسست أني أنا راعي هذه الصداقة والحفيظ عليها.

وأفلحنا في إصلاح أحوال البيت وحجر النوم بفضل سوفيت مدينة خاركوف والصحف المحلية التي تنطق بلسان الحزب، فزيدت مقرراتنا من الطعام، وأُنْشِئَت عدة مغاسل في الطبقة السفلى من البناء، وجُهِّزَت بما يلزمها من الأدوات، وتألفت جماعات متطوعة لنظافة الدهاليز أكثر من ذي قبل، وأُنْشِئَ في البناء حانوت لحلق الشعر به حجرة للزينة، وكان هذا أعظم شيء ظفرنا به، وإذ كنت أنا المشرف على هذه الجهود كلها فقد ارتفعت مكانتي كثيرًا بين الطلاب.

ولكن حياتنا ظلت قاسية مخشوشنة رغم هذه الإصلاحات كلها.

وكان معظمنا يدرك — ويؤلمه أن يدرك — ما هو حادث في المدينة من تدهور سريع في أحوالها بوجه عام، وما هو حادث في الريف من تدهور أسرع منه، فضلًا عما يكتنفنا نحن من صعاب، ولم يكن منا مَنْ لا يعرف بعض هذه الحقائق إن لم يعرفها كلها، رغم ما كان يُفْرَض علينا من حظر وصمت، ورغم ما كان يحدق بمن لا يمسك لسانه عن التحدث في هذه الظروف من خطر شديد.

وكان الناس يتلقفون الشائعات التي كانت تنتشر بينهم عما كان يحدث في القرى أثناء تصفية أملاك كبار الزراع من فظائع تقشعر لها الأبدان ولا تصدقها العقول، وكنا نرى قطرًا طويلة من العربات غاصَّة بالزراع تمر بمدينة خاركوف، وأكبر الظن أنها كانت تقلُّهم إلى أقاليم التندرا في الشمال، وكانت هذه وسيلة من وسائل «تصفيتهم». وكان الموظفون الشيوعيون يغتالون في القرى، والفلاحون المشاغبون يُنَفَّذ فيهم حكم الإعدام جماعات، وراجت الشائعات أيضًا أن من الوسائل التي يلجأ إليها الفلاحون لمقاومة نظام المزارع الجماعية أن يذبحوا ماشيتهم حتى تبقى الأرض بلا حرث ولا زرع، وكان مما أيَّد أسوأ هذه الشائعات ذلك المرسوم الذي صدر في موسكو، والذي يعد ذبح الماشية بلا إذن جريمة يعاقَب مرتكبها بالإعدام.

وغصَّت محطات السكك الحديدية في المدينة بالفلاحين الجياع ذوي الملابس الرثة البالية الفارين من منازلهم، وانتشر الأطفال المشردون الذين لا مأوى لهم، والذين كانوا في أثناء الحرب الأهلية وسني القحط يواجهون الإنسان أينما سار، وعاد المتسولون إلى الظهور في شوارع المدن، وكان معظمهم من الفلاحين، ولكن كان من بينهم أيضًا بعض سكان المدن.

ومع هذا فقد كانت الصحف تشيد بما قامت به الدولة من أعمال عظيمة، فقد تم إنشاء الخط الحديدي بين التركستان وسيبيريا، وشُيِّدَت مصانع جديدة في جبال أورال وفي سيبيريا وفي جميع أنحاء البلاد، وتم في إقليم بعد إقليم تحويل المزارع كلها إلى مزارع جماعية، ونَشَرَت الخطابات المفتوحة «ثناءً على ستالين»؛ لما شيَّده من المصانع وما وضعه من مشروعات لإنشاء المساكن، وجاءت الوفود من البلاد الأجنبية النائية — ومن بلاد أمريكا وأستراليا نفسها — تشاهد معجزات مشروع السنوات الخمس، وأخذوا في مقابلاتهم يمتدحون بحماسة جنونية ما أحرزه السوفيت من نصر عجيب، أما كيف غفل هؤلاء الزوار عن الجانب الآخر من الصورة فذلك سر لم نستطع نحن الروس أن نكشف عنه الستار.

ترى أين الحقيقة وأين الخداع؟ هل الحقيقة هي ما في القرى من جوع وفزع وأطفال مشردين، أو ما تنشره الصحف من إحصاءات وما تشيد به من أعمال مجيدة؟ أو هل كانت هذه وتلك عناصر من حقيقة واحدة مركبة معقدة؟ إن هذه الأسئلة وأمثالها لم يكن يسألها إنسان أو يجيب عنها جهرة، ولكننا كنا نتحدث عنها في مجالسنا الخاصة، كنت أتحدث عنها أنا وألكسي وكان يتحدث عنها آلاف الآلاف غيرنا.

وحدث بعد دخولي المعهد بزمن قليل حادث آخر زاد الحياة فيه اضطرابًا على اضطرابها، وذلك أنه صدر أمر يقضي بأن تكون اللغة الأوكرانية لا الروسية لغة التعليم كله ولغة الامتحانات كلها، وطُبِّقَ هذا النظام على جميع المدارس ومعاهد التعليم على السواء، وكان أكبر إذعان من جانب موسكو للأماني القومية في أكبر جمهورية من جمهوريات السوفيت التي تقطنها العناصر غير الروسية.

وكان حقًّا علينا نحن الطلبة الأوكرانيين أن نغتبط بهذا القرار من الوجهة النظرية، ولكن الواقع أن القرار الجديد أساء إلينا بقدر ما أساء إلى الأقلية غير الأوكرانية؛ ذلك أننا لم نتعود قط أن نستخدم اللغة الأوكرانية في التعلم والدرس حتى الذين كانوا مثلي يتخذونها منذ طفولتهم لغة للتخاطب؛ ولذلك كان لهذا التغيير المفاجئ أسوأ الأثر في عدد كبير من أحسن الأساتذة، وشر من هذا كله أن لغتنا القومية لم ترتقِ بارتقاء العلم الحديث، ولم تكن تفي بحاجاته، فقد كانت مفرداتها خالية من الاصطلاحات الفنية في الكهرباء والكيمياء وعلم الغازات وضغطها وحركتها والعلوم الطبيعية ومعظم العلوم الأخرى.

وأصبح فانيا المسكين في حال من العجز يرثى لها بسبب هذه العاصفة الجديدة التي قَلَبَت كل شيء فجعلته أوكرانيًّا، وقد كان من قبل يضل في بيداء التعليم أيًّا كانت اللغة التي تدرس بها العلوم، وكان شأنه في ذلك شأن مئات غيره من الطلاب، واستطاع جورج فجورا بطبيعة الحال أن يستعين بولاة الأمور في الحزب على ترجمة نصوصه المقدسة كلها إلى اللغة الأوكرانية، فلم يتأثر بهذا التغيير المفاجئ كما تأثر به غيره، أما سائر الطلبة فقد قاسوا الأمرَّين من جراء هذا العبء الجديد، وكانوا يرجعون إلى الكتب المدرسية الروسية في الخفاء، ويهزءُون في مجالسهم الخصوصية من هذا الإغراق الساخر في القومية.

وكان الواجب يقضي بأن يكون هذا حقًّا من الحقوق يمارسه الناس بحريتهم، ولكنه استحال في تطبيقه إلى فرض بغيض مرهق؛ ذلك أن استخدام لغتنا القومية لم يُسمَح به فحسب بل أُرغمنا عليه إرغامًا، وطُرد من وظائف الحكومة مئات ممن لم يستطيعوا إتقان هذه اللغة رجالًا كانوا أو نساءً، وكاد يصبح من أعداء الثورة كل من ينطق في خارج داره بغير اللغة الأوكرانية، ولاقى أبناء الأسر التي تَرَوَّست أشد العناء، وتأخروا في دراستهم؛ لأن اللغة الأوكرانية كانت بمثابة لغة أجنبية لهم.

ولا حاجة إلى القول بأن هذه التطورات الجامحة كلها أُلْغِيَت فيما بعد، وعوقب دعاة الوطنية الأوكرانية المختلفة عن الوطنية السوفيتية — والتي كانت وليدة هذه التطورات — بالنفي أو الإعدام.

وكان الشيخ البلشفي اسكربنك وزير التربية في أوكرانيا ضحية ذلك الانقلاب الثاني، فأُخْرِجَ من بلده، واضطر إلى الانتحار لهذا السبب ولغيره من الجرائم «الفكرية».

ولكن المشرفين على هذه المأساة الهازلة لم يكونوا يسمحون بأقل نقد لها وقت تمثيلها، وعدنا نحن الرفاق الخمسة إلى بيتنا ذات مساء بعد أن استمعنا إلى خطبة ألقاها الرفيق اسكربنك في امتداح سياسة الأكرنة الجديدة والإشادة بنعمها، وأثَّر فينا جميعًا إخلاصه هذا وذكاؤه، على الرغم من ارتيابنا في حكمة السياسة اللغوية الجديدة.

وقال فانيا: «قد يكون الرجل على حق، ولكن تبًّا له! إني لا أستطيع دراسة شيء ما باللغة الأوكرانية، وحسبي ما ألاقي من صعاب في دراسته باللغة الروسية.»

فلما سمع منه فجورا هذا السؤال هز رأسه وهو محزون وقال له: «ليس من حقك أن تنطق بهذه الأقوال، إن الحزب يرى هذا فرضًا واجبًا وعلينا نحن أن نصدع بما نؤمر.»

فأجابه ألكسي بقوله: «إن النظر إلى الأمور هذه النظرة الرسمية لا يجدي نفعًا، وإنك يا جورج لا تفيد الحزب أقل فائدة بإصرارك على عدم التفكير المستقل، وإن منهج الأكرنة المتطرف لا ينفع قضيتنا بل يضرها، ومهما يكن من شأننا فإنا أقْدَر على تبين النتائج واضحة من الهيئة السياسية العليا في الكرملن.»

وقلت أنا: «إن ألكسي على حق فيما يقول، وهذا العمل كله خرق وحماقة، ومن حق الناس أن يستخدموا أية لغة يشاءُون.»

وصاح فجورا قائلًا: «إنك الآن تطعن في الكرملن، إن المسألة قد أصبحت من الأمور المقررة، وأنا أرفض البحث فيها بعد أن تقررت.»

ولما واصلنا بحث الموقف وتحليله، وجهرنا بأملنا في تغييره، غادر فجورا الحجرة وهو غاضب، وأقبل اليوم الثاني وإذا أمين سر لجنة الحزب يستدعيني أنا وألكسي، فلما دخلنا عليه بدأ يتحدث عن أمور أخرى، ولكنه لم يلبث أن انتقل إلى برنامج الأكرنة، وقال إنه قد بلغه أننا ننتقد هذا البرنامج، وأننا نشيع حوله جوًّا من الشك.

وتبين لنا أن فجورا نقل أخبارنا إليه؛ ولهذا جلسنا نحن الأربعة في انتظاره حين عاد من العشاء في مساء ذلك اليوم، وكان فانيا أول مَنْ تكلم، فقال: «يا جورج، إنك تستطيع أن تساعدنا في الوصول إلى رأي كنا نتناقش فيه، إنك تعرف الكتاب المقدس، أليس كذلك؟»

– «بلى، إني أعرفه.»

– «إذن فقل لنا كم كان عدد أولاد نوح وما هي أسماؤهم؟»

فأجاب فجورا الأديب المثقف: «كان لنوح ثلاثة أولاد: سام وحام ويافث.»

فرد عليه فانيا بسخرية لاذعة: «لا، إنك مخطئ، صحيح أنه كان له ثلاثة أولاد ولكن أسماءهم هي سام وحام ويهوذا، ولعلك تفهم قولي.»

واحمرَّ وجه فجورا وتزعزعت للمرة الأولى تقواه واعتداده بفضيلته، وتمتم وهو يخرج من الحجرة: «إني لا أفتأ أؤدي واجبي.» ولم نستطع تنقية الجو الذي أعقب هذا الحادث إلا بعد أسابيع كثيرة، ولما انتحر اسكربنك بعد أن بدَّل الحزب نفسه خطته وأصبح رأيه في هذا الموضوع أقرب إلى رأيي ورأي ألكسي، لم يرَ فجورا نفسه شيئًا من التناقض في مسلكه، وكان يقول: «لكل زمان حقائقه.»

ولقد أصبح الآن حق الجمهوريات أو الأقاليم غير الروسية الداخلة في نطاق الاتحاد السوفيتي في أن تستخدم لغتها الخاصة المظهر الوحيد من مظاهر الحكم الذاتي الذي تتمتع به تلك الجمهوريات والأقاليم، أما أن تكتب بهذه اللغة شيئًا لا يتفق في كل صغيرة وكبيرة مع خطة الحزب، أو أن تفكر بها في شيء من هذا القبيل، فذلك هو الخيانة العظمى. وبهذا أصبحت حرية اللغة في واقع الأمر آخر مظاهر الاستقلال القومي، وكان الواجب يقضي أن تكون بدايتها، وأضحى شعار القوم الذي يسترون به سيطرتهم البوليسية التامة هو: «القومية شكلًا والاشتراكية قلبًا وقالبًا.»

وهمس في أذني صديق ساخر في يوم من الأيام: «ها هو ذا كل ما لنا من استقلال ذاتي قومي.» وأشار وهو ينطق بهذا إلى مرحاض عمومي كُتِبَت عليه كلمتا: «الرجال» و«النساء» باللغتين الأوكرانية والروسية.

ولقد نبتت في بعض البلاد الأجنبية لسبب ما تلك الخرافة القائلة بأن الجمهوريات السوفيتية المختلفة تتمتع بقسط من الاستقلال، يتضمن حتى حق الانفصال، وليس ثمة — بطبيعة الحال — إنسان واحد في بلاد الاتحاد السوفيتي كلها يصدِّق هذه الخرافة؛ ذلك أن أية نزعة ثقافية قوية تظهر بين أقلية من الأقليات وتتعارض مع العقائد الشيوعية في أتفه الأمور، يُقْضَى عليها بلا رحمة، ومن أجل هذا أُعْدِمَ مئات من الأوكرانيين وسُجِنَ أو نُفِيَ عشرات الآلاف منهم؛ ﻟ «مروقهم القومي» ولوجود ميول انفصالية مزعومة بينهم.

وانتهت إقامتي في خاركوف دون سابق إنذار بمقتضى قرار لم يستشرني أحد فيه؛ ذلك أني نقلت فجأة من أعمال الطيران إلى أعمال التعدين، وأُمِرْتُ أن ألتحق بمعهد للتعدين في لنينغراد أولًا ثم في بلدتي الأصلية بعدئذٍ، ولكن العهد الذي قضيته في خاركوف على صغره يشغل حيزًا كبيرًا من ذاكرتي؛ ذلك أن هذا العهد ازدحم بالأعمال الحزبية ونواحي النشاط الصحفية، وبما أُلْقِيَ عليَّ من تبعات في إدارة بيت الطلاب.

ومن أبرز الصور التي بقيت في ذاكرتي صورتا امرأتين كلتاهما حسناء وكلتاهما رُزِئَت مما رُزِئَت به الأخرى فلم توفَّق في زواجها.

أما الأولى فهي زوجة الدكتور سمرين أستاذنا في الكيمياء، وهو رجل أحدب له ذراعان طويلتان لا تتناسبان قط مع قامته القصيرة المقرقمة، ورأس تخاله بطيخة، ولكنه كانت له عينان تشعَّان حكمة، وعقل قوي وثَّاب، وعطف على الناس صادق غير متكلف، وسرعان ما غطَّت هذه الفضائل الخلقية والذهنية في عقول الطلبة على عيوبه الجسمية، وكنت أنا أنتظر محاضراته بشغف عظيم.

ودعوته يومًا إلى العشاء معي في بيت الطلبة، وطُفْتُ به في الحجرات وقاعات الاجتماع؛ فسُرَّ من نظامها ونظافتها، ولما فرغنا من العشاء قال لي: «عليك يا فيتيا أن تردَّ لي هذه الزيارة في وقت قريب، إن زوجتي تجيد العزف على البيان، وأنا أعلم أنك مولع بالموسيقى.»

وكانت أسرة الدكتور سمرين تقيم في شقة ذات أثاث يدل على ذوق راقٍ حسن، في إحدى حجراتها بيان يشغل معظم فراغها، وعلى جدرانها صور لكبار الكُتَّاب الروس، ووُضِعَ في أحد الأركان تمثال نصفي لبيتهوفن مصنوع من الشبه قائم على قاعدة.

ولم أكن في تلك الليلة الأولى أرى كلافديا بعيني وحواسي وحسب، بل كنت أراها أيضًا بعيني زوجها وحواسه، وكان حبه لهذه السمراء النحيفة القوام حبًّا أكاد ألمسه في الحجرة لمسًا، وكأن جمالها قد محا من الوجود تشويه جسمه فأصبح معافًى سليمًا، وأحسست بقلبي يجذبه إليها سحر جمالها، كما أحسست بجو من الحزن لا أستطيع التعبير عنه يحيط بها، فسرى في نفسي شعور هو أقرب ما يكون إلى الجريمة أفسد عليَّ استمتاعي بموسيقاها الشجية وحديثها العذب، فانتحلت بعض الأعذار وغادرت الدار مبكرًا.

ومرت على هذه الزيارة أيام قليلة، وبينما كنت أسير في يوم يتساقط فيه الثلج خفيفًا، إذ وقفت وجهًا لوجه أمام كلافديا.

وما أن رأتني حتى فاجأتني من غير أن تحييني: «لقد فررت منا في تلك الليلة، وسيكون جزاؤك أن تزورني في هذه، وسأعد هذا وعدًا منك، وسأنتظر قدومك.»

ولم يخامرني شك في أني لن أذهب لزيارتها، ولكن مع ذلك وجدت نفسي أدق جرس بابها بعد بضع ساعات من لقائنا، وأشاهد المائدة في قاعة الطعام وقد أُعِدَّت لاثنين.

وشعرت فجأة بشيء من الارتباك، وبأني وقعت في شَرَكٍ لم تنصبه لي كلافديا بل نصبته لي عواطفي، فسألتها وأنا على هذه الحال: «ولكن أين الدكتور سمرين؟»

– «آه، لقد ذهب ليزور أخاه الذي يسكن في الريف غير بعيد من هذا المكان، ولن يعود إلينا إلا بعد بضعة أيام.»

وكان حديثنا على المائدة في أثناء العشاء حديثًا مجهدًا غير طبيعي، ثم شربنا خلاله زجاجة من النبيذ القفقاسي، وعرضت عليها بعد أن فرغنا من العشاء أن نتنزه في الحديقة، وكان ضياء القمر فيها أبيض ناصعًا.

فضحكت وقالت: «لا يا سجيني العزيز، إذا كان لا بد لك من لوثة قمرية فها هي ذي «أنشودة ضوء القمر».» وأخذت تعزفها على البيان.

ثم أخذت بعدها تعزف وتغني أغنيات غجرية، كنت أذكر كثيرًا منها منذ طفولتي في ألكسندروفسك، وحدَّثتها عن معسكرات الغجر وعن صداقتي لسيدمان، وكنت طوال الوقت جالسًا على الكرسي الساند الذي كان زوجها يجلس عليه في أثناء الزيارة السابقة، وخُيِّلَ إليَّ أن هذا الكرسي حصن لي يقيني من كل شيء، ثم أعلنت فجأة — وكاد يكون ذلك في منتصف جملة — أن لا بد لي من مبارحة الدار.

فنظرت إليَّ وعلى ثغرها ابتسامة حزينة وقالت: «أتريد الفرار مرة أخرى؟ لكنني لن أسمح لك به في هذه المرة.»

– «أنا آسف، ولكن الدروس … لقد وعدت أليوشا أن أذهب إليه.»

– «إنك تكذب يا عزيزي فيتيا وأنا أعرف ذلك، فلنتحدث بصراحة: لِمَ لا يكون من حقي أن أقضي سهرة مع إنسان، نعم مع إنسان أقرب إلى نفسي من غيره؟»

وكانت العَبَرات المكبوتة قد أخذت تخنق صوتها، فعدت إلى الجلوس، وشرعت تقص عليَّ شيئًا من تاريخ حياتها، فلمَّا تحدثت به زال ما كان بيننا من تباعد، ولم أرَ فيها إلا فتاة بائسة يفيض لسانها بما ينطوي عليه قلبها من أسباب شقوتها.

وعرفت من قصة كلافديا أنها كانت في السنة التاسعة من عمرها حين شبَّت الثورة، وأنها ابنة أسرة موسرة تعلمت على يد مدرسين خصوصيين ومربيات، وقُبِضَ على أبويها في الأشهر الأولى من الثورة ثم أُعْدِمَا بعد وقت قصير في مذبحة عامة، قُتِلَ فيها الرهائن من الطبقات الموسرة، وذهبت كلافديا لتعيش مع خالة لها عجوز في عُلِّية مظلمة في البيت الذي كان من قبل قصر أسرتها، وقُضِيَ عليهما أن تقاسيا في هذا المسكن شظف العيش الذي كانت تعانيه الطبقات المحرومة «السابقة» طريدة العدالة الخارجة على القانون، التي انحطَّت مكانها، ولم تُعْطَ كلافديا الصغيرة حق الذهاب إلى المدرسة ولا حق العمل، وكانت هي وخالتها تعيشان من بيع ما أخفيتا من بقايا متاعهما القديم.

وقالت لي: «إني أعرف أن الشبان الشيوعيين أمثالك لم ينظروا قط إلى صورة الأشياء من خارجها؛ ولذلك فإنكم لا تستطيعون أن تتصوروا معنى ما يشعر به من يُحَقَّرون، ومن لا يحميهم القانون، ومن يحسون أن بلادهم في غير حاجة إليهم، وخاصة إذا كانوا صغارًا، إن الفقر مؤلم لكل إنسان، فما بالك بوقعه على من نعموا بالراحة ورفاهة العيش؟»

وأحبت كلافديا وهي في السابعة عشرة من عمرها شاعرًا يكبرها بمثل سنها، وذهبت إليه لتعيش معه، وقالت: إن الأشهر القلائل التي قضتها معه كانت أقرب أيامها إلى السعادة الحقة، ولكنه اختفى فجأة، وبقيت هي إلى ذلك اليوم لا تعرف ما حدث له، وكان فتاها من المعارضين للنظام الجديد، وهي تظن أنه يقيم الآن في أحد معسكرات الاعتقال إن كان لا يزال حيًّا.

– «وكنت جميلة يغازلني كثيرون من الشبان، ولكنهم بلا استثناء كانوا شبانًا من طبقتي، أي من أطفال الماضي، ولما كنت قد قاسيت كثيرًا وسئمت الحياة التي كنت أحياها فقد كنت أتوق إلى شيء من الأمن والطمأنينة، وأرى أن خطيبي، إذا قُدِّر لأحد أن يخطبني، يجب أن يحمل بطاقة الحزب. ثم التقيت بالدكتور سمرين في يوم من الأيام، وانقبضت نفسي من صورته، ولكن كان من أسباب فخري أن شيوعيًّا وأن شابًّا معروفًا ينتمي إلى السلطة الحاكمة يهتم بأمري، وأحبني حب من يهابني ويحنو عليَّ، ولكن عن بعد، أما أنا فقد راعني وسحرني إخلاصه الشبيه بإخلاص الحيوان.

وكان أكثر ما أحمده له طيبة قلبه، ولم أختلف أنا وخالتي في أن له روحًا جميلة، رغم أنه أحدب وشيوعي، وأخشى أن يكون هذان العيبان في نظر خالتي صنوين، وظل يتردد على بيتنا أكثر من عام، ويأتي لنا بالطعام والكساء، ويعلمني بعض الدروس دون أن يقول لي في خلال العام كله شيئًا عن عواطفه نحوي، وبلغ من أمره أن استطاع الحصول لي بطريقة ما على بيان.

وبينا كنت في يوم من الأيام أعزف له بعض المقطوعات التي يحبها من وضع كشيكووسكي قلت له: إني أعرف أنك تحبني، وأنا لا أحبك ولكني أعجب بك وأحتاج إلى حمايتك ورفقتك، فلِمَ إذن لا نتزوج؟ وجلس الرجل في مكانه جامدًا كالمصعوق، وهو مغتبط، لا يصدق ما سمع وقد غلبه الحياء، وأظن أنه كان يعرف الحقيقة وإن حاول أن يطردها من عقله، وتلك الحقيقة هي أن فتاة من الأسر التي كان لها شأن، طريدة القانون، وطفلة من أطفال الماضي قد قبلت من فرط يأسها مخلوقًا مشوهًا قبيح المنظر.»

وختمت حديثها بقولها: «فانظر الآن يا فيتيا، ما أقل ما تعرفون من الحقائق أيها الشيوعيون الماهرون! إنكم لا تعرفون كم ألفًا من نساء الروس اللاتي أُخْرِجْنَ من بيوتهن وابتعد الناس عنهن بسبب أصلهن، لم يجدن لهن عاصمًا إلا أن يتزوجن بالأرستقراط الجدد، أي الشيوعيين والعمال، وقد وجد بعضهن السعادة، ولكني وا أسفاه لست من هؤلاء السعيدات، وليس في وسعي أن أنسى من قضوا على الشعب وعلى جميع ما كنت أحبه أشد الحب، وأُعنى به كل العناية، ليس في وسعي أن أنسى هؤلاء أو أن أعفو عنهم.

إن مَنْ كان مثلي لا بد أن يشعر بالوحدة، واعتقادي أن هذا أشد ما يؤلمني في حياتي، آه من هذه الوحدة! إننا ندَّعي أننا من الحزب ولكننا نحيا في نفوسنا حياة خفية لا يعرفها أحد غيرنا، ولقد حاولت أن أقوم بعمل من الأعمال، وعرضت أن أعلم الموسيقى، وخُيِّلَ إليَّ أن ولاة الأمور قد اهتموا بهذا، اهتموا به حتى أجبت عن الأسئلة المكتوبة التي قُدِّمت إليَّ وعرفوا منها أني من الأشخاص السابقين.»

ولم أخرج من المنزل إلا بعد منتصف الليل.

وقالت لي وهي تودعني عند الباب: «فلنفترق صديقين يا فيتيا، ولا تظن بي السوء، إني بائسة، ولا أرى شيئًا أمامي إلا الوحدة الأبدية، ورجائي إليك أن تأتي إلينا أحيانًا لترانا حين يكون الدكتور سمرين في المنزل، فهو مدرس ماهر وأنا أعرف أنك شديد الإعجاب به.»

وكان إعجابي بسمرين من حيث هو أستاذ ومن حيث هو رجل هو الذي حال بيني وبين الاعتداء على حياته العائلية.

وكنت أتردد في بعض الأحيان على منزل الرفيق «ف»، وهو موظف أوكراني يشغل منصبًا كبيرًا في رياسة تفتيش العمال والفلاحين، وكان وهو في أواخر العقد السادس من عمره من أعضاء الحزب القدامى، حصل على قسط وافر من التعليم، ويعرف معظم كبار رجال الثورة معرفة شخصية، وإذا ذَكر لينين وتروتسكي ولونا تشارسكي وزبنوفيف وغيرهم ذكرهم بأسمائهم الأولى دون ألقابهم، وكانت زوجته سيدة شمطاء الشعر تبدو عليها أمارات الرقة والحنان، وتذكِّرني على الدوام بكربسكايا أرملة لينين.

وكنا إذا انفردنا نحن الثلاثة بأنفسنا، لم يجد الرفيق «ف» مناصًا من التحدث إلينا في الشئون السياسية، ومهما كانت بداية الحديث، سواء كان عن المسرح أو عن كتاب جديد أو عن دراستي، فسرعان ما كان ينتقل هو إلى البحث في المشاكل الزراعية، والإرهاب المسلط على رفاقه القدماء، والسرعة التي يسير بها التنظيم الصناعي، وكان يُخيَّل إليَّ أن الآراء التي يدلي بها طبيعية معقولة مع أنها لو جاءت من إنسان غيره لصدمتني صدمة عنيفة، وكان يشير عرضًا إلى أنباء لم أكن أصدقها من قبل، بل كنت أظنها «شائعات تذاع ضد الثورة»، ولكنه كان يذكرها كأنها من الحوادث العادية التي تقع في كل يوم، وكان منصبه الرسمي يتيح له الاطلاع على الفظائع التي تُرْتَكَب في القرى، وعلى مقاومة الفلاحين، والقبض على الناس جملة، والتحدث عنها كأنها من الأمور التي يعرفها الناس جميعًا.

ومهما يكن من أمر الرفيق «ف»، فقد عمل دون أن يعرف على أن ألتقي بجوليا، وذلك أنه أهدى إليَّ في يوم ما تصريحًا بمكانين في مقصورة في مسرح الأوبرا لمشاهدة مسرحية شيوشيوسان، فاصطحبت إليها ألكسي كارنوخوف، وكان في المقصورة المجاورة لنا سيدتان ذواتا جمال بارع وملابس أنيقة، وعرفت من فوري أن إحداهما كانت مريضة في مصحة كيف حيث كنت أقضي دور النقاهة بعد الكارثة التي حلَّت بي على الحدود الإيرانية.

فهمست في أذن رفيقي قائلًا: «هذه جوليا ميخائيلفنا زوجة «ر».»

فصاح مندهشًا: ««ر»!»

وكان من حقه أن يدهش، فقد كان «ر» من أكبر الموظفين في الحكومة الأوكرانية، وكان رجلًا عظيم السلطان يعرف الناس أنه من أقرب المقربين لستالين نفسه، وتذكرت وقتئذٍ أنه كان يرسل إلى زوجته الأزهار في صباح كل يوم بالطائرة من خاركوف حين كانت في كيف.

وعرفتني جوليا بطبيعة الحال، وأشارت إليَّ تدعوني إلى الذهاب إليها في فترة الاستراحة بين فصلين، وقلت في نفسي: «ما أجملها من سيدة! وكيف فاتني أن أشاهد هذا الجمال البارع في خاركوف من ثلاث سنين، ألا ما أشد غباوتي وقتئذٍ!» وظللنا طوال الفصل نتبادل النظرات، وكانت هي تبتسم إليَّ من فوق الحاجز ولا تخفي سرورها، حتى أخجلني هذا وإن لم أحاول أن أخفي إعجابي بها.

وكانت المسرحية الغنائية سخيفة مملَّة للغاية، وُضِعَت بحيث تلائم الآراء السائدة وقتئذٍ، ومُلِئت بالعبارات الطنانة الرنانة التي ألفها الناس في تمجيد الثورة، ولكنني ظللت طوال حياتي إذا ذُكِرَ شيء من سخافاتها، عادت إليَّ ذكرى حبي لجوليا، وكانت هي متوسطة القامة، أكبر مني قليلًا، ذات جمال فاتن وشعر ذهبي مجدول في غدائر سميكة معقودة في شكل تاج على رأسها كأنه إطار من الذهب البراق يحيط بمعارفها الفاتنة.

ولما أُسْدِلَ الستار ذهبنا إلى مقصورتها وعرَّفتها بألكسي، وعرَّفتنا هي بصديقتها ماري، وأخذنا نتحدث الحديث الذي يجري عادة بين المعارف الجدد الذين لم يَزُل ما بينهم من حرج، ولكن هذا اللقاء تخلله شيء من اهتياج المشاعر، وأحاط به جو من التوتر لا علاقة له بموضوع الحديث.

وبقينا في مقصورتهما خلال الفصل الثاني، وقبل أن ينتهي هذا الفصل همست جوليا قائلة: ولِمَ نبقى إلى نهايته المملة؟ فلنذهب إلى بيتنا ونتناول بعض العشاء.» ووافقنا على هذا من فورنا.

ولما خرجنا من المسرح صرفت جوليا السيارة الكبيرة التي كانت في انتظارها، وقالت: إنا إذا عدنا إلى المنزل في مِزْلقتين كان ذلك أَدْعَى إلى السرور، واخترنا من بين الصف الواقف أمام دار الأوبرا مِزْلقتين من أنظف المزالق، وركب ألكسي وماري واحدة وركبت أنا وجوليا الأخرى، ولا تزال صورة هذه المركبة منقوشة في ذاكرتي بجميع تفاصيلها واضحة المعالم حتى هذه الساعة، وما زلت أذكر هذه الليلة الباردة الصافية البراقة لفَّها الثلج المتلألئ، وأذكر فتات الثلج تتطاير من حوافر الخيل وهي تعدو بنا في غير جلبة، وأذكر سحب البخار الخارج مع أنفاسنا، وأحس بيد جوليا في يدي فوق ركبتينا تحت طنفسة الفرو.

وتحدثت إليها عن معهدنا، وعن حياتي في المصنع وفي الحزب، وحدثتها عن ألكسي وعن سائر رفاقي الذين يقيمون معي في الحجرة، وقاطعت نفسي وسط هذا الحديث الذي لا يهدف إلى غاية وصِحْت: «ما أجمل كل شيء في هذه الليلة!» والتقت شفتانا بقبلة.

وتحولت بنا العربة بعد قليل إلى شارع جانبي، ووقفت أمام بيت صغير من طابقين قائم وراء سور عالٍ، شبيه بالمساكن الخاصة التي كان يسكنها التجار الأثرياء في الأيام الخالية، ووقف حارس مسلح عند باب البيت، وأحست ماري كما أحس ألكسي أننا نريد أن نكون وحدنا، فأصرا على أن يذهبا إلى مطعم، وفتحت جوليا الباب بمفتاح مزلاج ودعتني إلى الدخول.

وأضاءت الأنوار فألفيتني في أجمل بيت وقعت عليه عيني، فقد فُرِشَت أرضه بالطنافس الشرقية، وعُلِّقَت على جدرانه الستر المزركشة والصور الزيتية، وانتشرت في حجراته الثريات البلورية والأرائك الوثيرة والمناضد البراقة من خشب الكابلي، وكان كل ما فيه ينطق بثراء أصحابه، وإن كان في ترتيبه شيء من التحفظ يدل على حسن الذوق.

ووقفت في وسط هذه العظمة منبهرًا بادي الحيرة.

وضحكت جوليا وقالت وهي تلقي عنها دثارها المتخذ من جلد الفقمة: «تلك حقائق يا عزيزي، وليست صورًا في دار خيالة.»

فأجبتها: «ولكني ما كنت أتصور أن شيئًا من هذا لا زال له وجود في خارج المتاحف.»

دعك من هذا يا فيتيا، إن في بلدنا أشياء كثيرة لا يدور بخلدك أنها توجد فيه، هيا بنا إلى المطبخ وأعنِّي على تناول لمجة، فإني أكاد أموت جوعًا، فالخدم في خارج الدار الليلة، وهو في موسكو ليشهد مؤتمرًا أو شيئًا من هذا القبيل.

ورأيت المطبخ فزادني إحساسًا بأن كل ما فيه أقرب إلى أن يكون من نسج الخيال، لقد كان جوه كله مشبعًا بالوفرة والمتعة، فقد امتلأت خزائنه بالأواني الخزفية الجميلة، وصفَّت فيها الأواني البلورية يحمل بعضها شعار القياصرة، وقامت على إحدى المناضد الجانبية غلاية براقة كبيرة، ولما فتحت المثلجة الضخمة أبصرت فيها من المأكولات الشهية ما عاد بذاكرتي إلى ما كان من المثلجات في قبو جدتي في ألكسندروفسك، وتمثلت ما بين هذا وذاك من فروق، وخُيِّلَ إليَّ أني هنا في عالم آخر أبعد ما يكون عن الفقر المدقع والحرمان اللذين أصبحا من مستلزمات حياتنا السوفيتية.

ولما عدت إلى حجرتي في منزل الطلاب صباح اليوم الثاني، لم أكد أجد من الوقت ما يكفي للاغتسال وحلق الذقن قبل الذهاب مسرعًا إلى المعهد، ولم تكن المحاضرات التي أُلْقِيَت طوال اليوم تجد فيَّ إلا طالبًا نعسان غافلًا ذاهلًا لا يسمع ما يقال ولا يعي شيئًا مما يسمع؛ ذلك أن أفكاري جميعها كانت مع جوليا، وقلت لنفسي من فرط الدهشة: «إن في العالم إذن حبًّا من أول نظرة.» ولكن لِمَ تكون محبوبتي امرأة متزوجة، ومتزوجة فضلًا عن هذا بزعيم من زعماء حزبي وبلدي؟

وعاهدت نفسي على ألا أزور جوليا بعد ذلك اليوم، وكنت في الوقت نفسه أعجب كيف أستطيع الحياة في الأيام القليلة الباقية على الموعد الذي حددناه للقائنا.

وقلت لنفسي في حزم وجفوة في أثناء محاضرة عن علم الغازات وضغطها وحركتها: «إن سلوكك يا كرافتشنكو ليشبه سلوك إحدى الشخصيات في رواية فرنسية رخيصة، ما لك ولهذه المهزلة؟! وماذا تكون عاقبها؟»

وبُحْتُ بسرِّي إلى ألكسي في تلك الليلة، وأدرك من فوره أني لم أكن أطيق المزاح، فأخذنا نتحدث حديثًا جديًّا، وكان مما قاله لي أنه عرف من ماري أن جوليا بائسة من زمن طويل، وأنها لا تحب زوجها العظيم، وأن من أكبر أسباب بغضها له أنها تكره قسوته على الشعب، وحياته المترفة، وعدم اكتراثه بما تعانيه جمهرة الشعب من شقاء.

وكان مما قالته له ماري: «لست أنكر أن هذا يبدو لك كأنه منظر من مناظر مسرحية «بيت العرائس» لإبسن، ولكن الواقع أن جوليا تحس بأنها سجينة، وتقول إنها لا ترى فرقًا بين أن تكون زوجة ﻟ «ر» أو زوجة لأحد أعضاء البيت المالك السابقين، وتظن أن حياتها معه سخرية بآلام الشعب الروسي.»

وقابلت جوليا مرارًا في خلال الأسابيع التي أعقبت هذا اللقاء الأول، وسألتها ذات ليلة عن زوجها فاعتذرت عن الجواب، وقالت والدمع يفيض من عينيها: «أعفني من الجواب في هذه الليلة يا عزيزي، وسنجد في غيرها وقتًا طويلًا نتحدث فيه؛ لأني لا أريد أن أفسد علينا الليالي الأولى التي نقضيها معًا.»

وكنا ذات مرة نسير معًا في الحديقة الواسعة المسوَّرة الواقعة خلف بيتها، بعد أن أُزيل الثلج من طرقاتها وفُرِشَت برمل جديد.

وقلت لها وألححت في قولي: «لا، إن من الخير أن تكشفي لي عن أمرك؛ ذلك أن «ر» ليس زوجك فحسب، بل هو أيضًا زعيم من زعماء حزبي.»

فقالت: «لستُ من أعضاء الحزب، ولكني كنت أشعر من بادئ الأمر بميل إليه أو على الأقل بميل إلى الثورة، وكان أبي من رجال العلم ومن كبار الأحرار، آه! لقد نسينا كلمة الأحرار يا فيتيا، ونحن نسخر منها إذا نطقنا بها، ولكن كل سنة تمر بنا تزيدني إجلالًا لها، إجلالًا لها بالمعنى الذي كان يفهمه منها أبي على الأقل. لقد كان أبي يفهم منها حب العامة، والعدالة التي تشمل جميع الناس، وبفهم منها فوق هذا كله احترام الناس جميعًا رجالًا كانوا أو نساءً، وكان يعلي من قيمة الحياة، ولعلنا قد نسينا هذا كله، ولكني أعتقد أن هذه المبادئ هي التي كانت تهدف لها الثورة.»

فقلت لها: «إن هذا لمن أعجب الأمور، لقد كان أبوك من رجال العلم أما أبي فعامل بسيط في أحد المصانع، وكان أحدهما يسمي نفسه حرًّا ويسمي الآخر نفسه ثوريًّا، ولكنك حين تحدثينني بما كان يعتقده أبوك أكاد أسمع في حديثك حديث أبي نفسه.»

– «ليس في هذا شيء من الغرابة، إن زوجي يدعو للاشتراكية بين العمال الكادحين، ويهيب بهم أن يثبِّتوا دعائمها في المستقبل، ولكنه يعيش الآن في الحاضر لا في المستقبل، ولعله فيما بينه وبين نفسه يرى أن في اشتراكية اليوم ما يفي بغرضه، وأي حق لنا في هذه المتعة كلها؟ (قالت هذه الكلمات الأخيرة وهي تشير بيدها إشارة شملت الحديقة والقصر المترف ومعطفها المصنوع من الفراء.) على حين أن الملايين لا يجدون ما يسد رمقهم، وعلى حين ترى معسكرات المساجين تزداد اتساعًا وقبحًا في كل يوم؟ وقد لا تصدقني إذا قلت لك إني أبغض هذا النهم في الزعماء، وهل اتفق لك أن عرفت بطريق المصادفة ما يحدث في القرى في هذه الأيام؟»

– «يؤلمني يا جوليا أني أعرف أكثر مما أريد أن أعترف به لنفسي.»

– «لا يدهشنك مني أن أتحدث إليك على هذا النحو، إن عواطفي هذه ليست سرًّا خافيا على «ر»، فكثيرًا ما أفصحت له عن رأيي في هذا كله، ولكنه إذا سمع هذا سخر مني وقال إنني طفلة بلهاء واهمة أطلق العنان لعواطفي، وأدعي أن أحدًا لا يضار بهذا، وأن الزعماء يعملون وينقبون، ومن حقهم أن يحيوا حياة راضية هنيئة، ولكني لا أشك في أنه مخطئ في قوله هذا؛ لأن الزعماء الذين لا ينقصهم في حياتهم شيء سرعان ما ينسون ألم العذاب ويصبح حديثهم عن التضحية مجرد رياء.

وإني لأشعر يا عزيزي بأننا قوم مخدوعون، وأن على أبصارنا غشاوة فلا نبصر ما يحدث من حولنا، حتى ليُخَيَّل إليَّ أحيانًا أن ما كان يعانيه الشعب من استغلال وهمجية في أيامه الماضية كان أنبل قصدًا مما يعانيه في هذه الأيام؛ ذلك أن المسيطرين عليه لم يكونوا يدَّعون على الأقل أنهم رجال مبادئ ومُثُل عليا، ولم يكن منهم من يسمي عمله هذا اشتراكية، إن أمثالك من الشبان الشيوعيين لسعداء حقًّا؛ ذلك أنكم لا تزالون تؤمنون بمبادئكم، ولا تعرفون شيئًا عن الدسائس القذرة، وعن الصراع القائم بين كبار الزعماء في سبيل السلطة.

وهل تعرف ما يدور من معارك تتقزز منها النفوس للاستيلاء على بيت ريفي في الغابات الفضية القريبة من موسكو، أو بيت شتوي كان يملكه في يوم من الأيام أمير من تجار القفقاس؟ ألا ما أكثر ما يذاع من أكاذيب وأباطيل! إني قريبة من هذا كله بحكم مركزي الذي أوجدتني فيه الظروف، حتى ليُخَيَّل إليَّ أحيانًا أني أكاد أختنق منه، وما أشبهني في هذا الوضع بإنسان في حمأة يزيد تورطًا فيها كلما حاول التخلص منها.»

ولم يخالجني أدنى ريب في إخلاص جوليا رغم ما بدا لي من مغالاة في أقوالها.

ثم تشجعت فقلت لها: «لو أنكِ كنتِ شديدة الحب لزوجك لما رأت عينك هذا، وأرجو ألا تسيئي فهم قولي إذا ما ذكرت لك أن سخطك السياسي قد لا يكون إلا صدًى لسخطك الشخصي.»

وسكتت جوليا وهي تفكر برهة طويلة ثم قالت بعد هذا التفكير: «لا، لست أظن أن هذا هو السبب، لقد كنت حتى في السنين الأولى من حياتي الزوجية أنكر على «ر» وعلى أصدقائه العظماء الحياة التي يحيونها، والطريقة التي يتحدثون بها، وشدة احتقارهم للشعب الذي يستغلونه ويمتصون دماءه، وكنت أحس من أول الأمر أنني أشبه برقيق الأرض في مزرعة رجل من أصحاب الحول والطول.»

– «ولِمَ إذن لا تفارقين زوجك، وتتخذين لك عملًا، وتعيشين من أجل مُثُلك العليا؟ إني أحبك وأظنك تحبينني، فما الذي يمنعنا أن نعيش معًا؟»

– «لا يا فيتيا، ليس الأمر سهلًا كما تظن، فأنا أعرف الكثير مما لا تعرفه أنت، وليس فرار امرأة في مثل مركزي بالأمر اليسير، إذ ليس في وسعي أن أفارق زوجي وأختفي في غمار الشعب المجهول، لقد كنت طول حياتي شديدة القرب من ذوي السلطان؛ ولهذا فإنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي إذا أقدمت على هذا العمل، وأرجو ألا تطلب إليَّ أن أصرح لك بأكثر مما صرحت به، وإذا كنت تحبني حقًّا فلا تردني عنك، وهذا كل ما أريده منك.»

وكان ما أشارت إليه من عالم السلطان غير المحدود والدسائس التي لا تقف عند حد، عالمًا أجهله كل الجهل ولا أستطيع قط أن أفهمه، وما من شك في أن روسيًّا من السوقة يقع في حب أميرة من البيت المالك لا بد أن يشعر ببعض ما كنت أشعر به وقتئذٍ.

وكثيرًا ما قابلت جوليا في بيت صديقتها ماري بعد عودة زوجها من موسكو، ولم يكن خافيًا عليَّ أن زوجها يعلم بأنها تحيا حياتها الخاصة، وأنه كان يغمض عينيه عما تفعل، وكنا في لقائنا نتحدث عن أملنا في أن نعيش معًا جهرة كما يعيش الزوجان، ولكن لم يكن منا من يصدق هذا القول؛ ذلك أن اسم «ر» كان يبرز كثيرًا في أعمدة الصحف، فهو اليوم يلقي خطبة وغدًا يوقِّع مرسومًا، وأخذت الألسنة تلهج بذكره «لقد قال «ر» هذا، وفعل «ر» ذاك.» ومن أجل هذا كان مركزه السامي وسلطانه القوي، ومهابته في جميع القلوب، كان كل هذا يبدو لي كأنه حواجز قائمة بيني وبين جوليا حتى في تلك اللحظات التي كنت أحتضنها بين ذراعي.

ثم تبدلت الأحوال فجأة؛ ذلك أنني استُدْعِيت للمثول أمام لجنة الحزب المركزية، واستقبلني من أعضائها رجل يُدْعَى الرفيق شلكين مساعد رئيس قسم المستخدمين.

وقال لي: «يا رفيق كرافتشنكو، لقد أصدر الحزب قرارًا يأمرنا فيه بأن نوائم قدر المستطاع بين عمل المهندسين الآن وبين تجاربهم السابقة، ولقد كنت قبل أن تلحق بالمعهد تعمل في صناعة التعدين، أليس كذلك؟»

– «بلى، وكنت في مصنع بتروفسكي-لينين.»

– «ها أنت ذا ترى بنفسك، وأي معنى في تدريبك على صنع الطائرات على حين أنك بدأت العمل بداية موفقة في صناعة التعدين؟»

فأجبته في وهن: «ولكني أفضل العمل في الطيران.»

– «ربما كان هذا، ولكني لا أظنك تنكر أن هذا التفضيل لا يعدو أن يكون مسألة شخصية محضة.» ثم التفت إلى أحد أمناء السر وقال له: «اعمل على نقل الرفيق كرافتشنكو إلى معهد التعدين في دنيبروبتروفسك.»

وقضيت بعدئذٍ عدة ساعات أطوف في بستان سمسكايا، لا أبالي بالأوحال التي تتراكم في أواخر الربيع، وأسائل نفسي كيف يعرف الحزب أن الأمر ليس مجرد انتقال من الطيران إلى التعدين، بل هو انتقال من الحياة مع جوليا إلى الحياة بعيدًا عنها، ولم يدُرْ قط بخلدي إلا بعد زمن طويل أن الحزب، أو على الأقل بعض أعضاء الحزب، قد عرفوا ذلك الأمر، وسواء أكان ذلك أم لم يكن فقد بدا لي أن قرار الحزب قرار عادل في جوهره.

وتحدثت إلى جوليا تلفونيًّا وأطلعتها على الخبر، واجتمعت بها عدة مرار قبل سفري، وكان اجتماعنا في كل مرة اجتماعًا عاصفًا، أذرفت فيه الدموع مدرارًا، وألححت عليها أن تسافر معي مهما تكن النتائج، وخُيِّلَ إليَّ في بعض الأحيان أن عزيمتها قد وهنت، وأنها قد تتبعني بالفعل، ولكن الأسباب التي تحول بينها وبين عملها هذا — أيًّا كانت هذه الأسباب — أقوى مما تستطيع التغلب عليها.

«لا تطلب إليَّ هذا، ولا تقسُ عليَّ يا فيتيا، إني لا أستطيع أن أفعل، وإن كانت الحياة بعيدة عنك ستكون موتًا حيًّا، لا تطلبه إليَّ؛ فحسبي ما بي من آلام.»

وخرجت مع صديقي ألكسي في مساء اليوم السابق لسفري، وقضينا عدة ساعات نسير في شوارع خاركوف، ووعدني أن يوافيني على الدوام بأنباء جوليا، وأفضيت إليه بعزمي على أن تلحق هي بي، فإذا لم يكن ذلك في الأيام القريبة فلا أقل من أن يكون بعد فراغي من دراستي في المعهد حين يكون في وسعي أن أتزوج.

وجاءت إلى المحطة في صباح اليوم الثاني جوليا وماري، كما جاء أيضًا رفاقي في حجرتي وغيرهم من الأصدقاء؛ ليودعوني وقت سفري، وتحدرت الدموع على خدَّي جوليا، وتظاهر كل من كان حاضرًا بأنه لم يرَها، ولم يدُرْ قط بخلدي وقتئذٍ أنني لن أراها بعد تلك الساعة.

وكتبت إليها مرارًا من دنيبروبتروفسك ولكنني لم أتلقَّ منها جوابًا، وألححت على ألكسي أن يتوجه تلقاء مسكن «ر» ففعل، ودق الجرس، ففتحت له الباب خادمة، ولما سألها عن مدام «ر» أخذت تنتحب وأجابته بقولها: «إن جوليا ليست هنا، وقد خلت منها الدار.» وأخذت تبكي، ولكنها لم تنبئه بشيء غير هذا، وأخبرته ماري أن جوليا فارقت زوجها بعد عودتي إلى دنيبروبتروفسك بزمن قليل، ولعلها لم تكن تعرف غير هذا، أو لعلها صدرت إليها أوامر مشددة ألا تبوح بغيره.

وأخذ جرح الفراق المؤلم يلتئم رويدًا رويدًا، ولكن الآلام الناشئة من سر الفرار الخفي وما كان يحوم حوله من شكوك ظلت تنتابني على الدوام. وحدث في إحدى السنين التي أعقبت ذلك الوقت أن ترامت إليَّ إشاعة غامضة فحواها أن جوليا ميخائيلفنا تعمل مدرِّسة في مدرسة في إحدى المقاطعات البعيدة بعد أن أطلقت على نفسها اسمًا مستعارًا، ولكني لم يكن في وسعي أن أتحقَّق من صدق هذه الشائعة، ولعله كان من القسوة بعد ذلك الوقت الطويل أن نهتك أستار الماضي، أو أن نزبل ما تراكم فوقه من أنقاض على مدى الأيام.

١  شركة مؤلَّفة من عدة شركات Trust.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤