مقدمة

في هذا الكتاب ما أنا بقاض، ولا يسرني أن أكونه.

لأنني لا أحسن التسوية بين الخصمين في قضية الطغيان والحرية الإنسانية. وأحمد الله أنني خصم قديم فيها منذ نيف وثلاثين سنة؛ أي في السن التي يراع فيها بعض الناس بمظاهر السطوة والاقتحام، والتي يخيل إليهم فيها أن الشجاعة والبغي شيء واحد، وأن العزة هي إذلال الآخرين، وأن بُعد الذكر هو حسبُ الإنسان من المجد، ولو كان ذِكرًا بالفتك والشر والإيذاء.

فمنذ نيف وثلاثين سنة كان لي شرف الخصومة في هذه القضية الخالدة، وكنت أبحث في أعماق نفسي فلا أحس فيها غير المقت والازدراء لأولئك الذين سمَّوْهم عظماء التاريخ لأنهم طلبوا المجد والشهرة من طريق الغزوات والفتوح، وقاسوا عظمتهم بمقدار احتقارهم «للإنسان».

وقد صدرت في مصر كتب وعجالات أشاد أصحابها يومئذٍ بتمجيد هؤلاء العظماء وفي طليعتهم نابليون الأول، فكتبت١ أقول:

… يعظم مثل نابليون في عيون الهمل بقدر استهانته بأرواح الناس، وتكبر قيمة حياته بمقدار استصغاره لحياتهم، وليس هو من قبيل أولئك العظماء الذين يكبرون وزان ما لهم من المقدرة على تهذيب الناس وإصلاح شئونهم، وليس في طاقة العامي أن يتصور كيف أن رجلًا يُميت الألوف لا يكون أهلًا للإجلال والتبجيل.

… نابليون رجل من مجانين المطامع، أولئك الذين تملك عليهم الأثرة عقولهم فلا تدع فيها موضعًا لغير أطماعهم وشهواتهم. لا يدور بخلَدهم إحساس لغيرهم أو أمل غير أملهم، فلا يحسبون أن في الوجود أرواحًا تجِب صيانتها غير أرواحهم، أو أن لسواهم أملًا يحرص عليه كما أن لهم أماني وآمالًا.

… لقد جعلوا نابليون مثالًا لقوة الإرادة، ويظهر أنها أقل صفات نابليون قبولًا للمنازعة في رأي الناس، على أني لا أظن رجلًا يأتي مثل هذه الأعمال مطلق الإرادة أو مختارًا بأتمِّ معنى الاختيار.

فالإرادة عند جماعة السيكولوجيين قوتان: قوة دافعة تغري صاحبها بالإقدام وتهوِّن عليه العوائق، وتكون هذه القوة على نهايتها عند المجنون الذي لا يكاد يهم بأمر إلا فعله، ولا يتضح له نهج إلا سلكه، غير متدبر في العواقب ولا حاسب حساب العوائق.

وقوة مانعة تقعد بالنفس عن كل ما تهم به، فلا يكاد صاحبها يُقدِم على أمر لفرط توجُّسه وكثرة ما يمثل له وسواسه من أسباب الفشل والخيبة، وهي عند الممرورين الموسوسين على أشد ما تكون.

والإرادة الصادقة هي الموازنة بين هاتين القوتين، والمداورة بينهما آنًا إلى هذه وآنًا إلى تلك، كما تقضي به الحال، وأتم أشكالها حسن الترجيح بين الدواعي والموانع، وتقديم عامل الإقدام في موطن الإقدام، أو عامل الإحجام في موضع الإحجام.

وما كان نابليون قوي الإرادة بهذا المعنى، ولكنه كان رجلًا قوي طموح الأمل شديد اندفاع المطامع، حتى لقد ينسى وهو ناهض إلى أمله ما لا ينبغي أن ينساه المجرَّب الحكيم، ولولا ذلك ما صرعته مطامعه صرعات، آخرها تلك الصرعة التي أوقعته في يد هدسن لو.

ثم ختمت ذلك الفصل قائلًا:

إن من طبع المرأة الضعيفة والولد الصغير أن يستكينا إلى القوة حيث كانت، وهما اللذان يُعجبان بالقوي ولا يطيقان أن ينظرا أثر قوته في نفع النوع الإنساني والإضرار به. أما الناقد الاجتماعي فيجب أن يكون أبعد من ذلك نظرًا وأصدق حكمًا.

وما أشبه أخلاق الجمهور بأخلاق المرأة والطفل؛ فإنه لينتظر من يتألَّه عليه فيعبده، وقد كان ذلك شأنه مع نابليون.

كان هذا الرجل يسبح في لُجَّةٍ من الدم والناس تنظر إليه فلا يعنيهم من أمره إلا أن يشاهدوا براعته في السباحة.

كان يهدم المدن ويدمِّر الأقاليم ويدكُّ الممالك وهم ينظرون من كل ذلك إلى خبرته بصف المربعات العسكرية، ودربته على تنظيم المواقع وإطلاق النيران.

لقد مضى زمان تلك العظمة، وحق على الكتاب في هذا العصر أن يُعوِّدوا الناس إكبار العظمة التي يجمل بهم إكبارها …

هذا، ونابليون هو نابليون.

والفرق بينه وبين طغاة الحرب الحاضرة كالفرق بين المارد والأقزام.

والخطر منه وهو في حوزة التاريخ ممتنع كل الامتناع، إلا أن يكون خطر القدوة والإيحاء.

فاليوم والخطر قريب، والعالم قد مضى عليه مائة ونيف وعشرون سنة بعد حروب نابليون، والناس يحق لهم أن يربحوا ولا يخسروا من تجارب هذه السنين، لا يطيب لي أن أقضي اليوم حيث خاصمت بالأمس، ولا أرى من واجب الكاتب أن يحكم ويقول: هذه أسباب الحكم، بل أرى واجبه الذي لا واجب له غيره أن يخاصم ويقول: هذه أسباب الخصومة. وأن يتحرى الصدق في خصومته والاستقراء الصحيح في بيانه؛ لأن الخصم الصادق في قضية الطغيان والحرية الإنسانية أعدل من القاضي الذي لا يميل هنا أو هناك في هذه القضية.

والخصومة الصادقة هي التي أَعَدَّ بها القارئ في هذه الصفحات.

١  الجريدة في السابع من شهر يوليو سنة ١٩١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤