مقدمة المترجم

قد تكون الفلسفة الخالصة ميدانًا يعترف بوجوده المشتغلون به، ولا يجدون صعوبة في رفض الحجج التي يحاول بها الآخرون إثبات أن هذا ميدان عتيق لم يعد له ضرورة في حياة الإنسان الحديث، ولكن الأمر يختلف حين يكون متعلقًا «بفلسفة شيء ما»، أعني فلسفة علم من العلوم مثلًا، أو فلسفة العلم عامة. ففي هذه الحالة لا يعود الميدان وقفًا على المشتغلين بالفلسفة وحدهم، بل يتدخل فيه المشتغلون بالعلم أيضًا، وينبغي أن تكون لهم فيه كلمتهم المسموعة. ولا بد أن تجد منهم مَن يؤكد أن علمه ليس بحاجة إلى «فلسفة»، أعني أنه ليس بحاجة إلى عملية التفكير الانعكاسي التي لا تعدو أن تكون تحليلًا وتشريحًا لما هو واقع في العلم، أو لما تم وقوعه، ولا يمكن أن تسهم في تقدم العلم بجديد؛ فالعلم ذاته يسير في طريقه قُدمًا، وينهض كل يوم على أيدي علمائه، أما فلسفة العلم فتقتصر على إلقاء نظرة راجعة إلى ما كان أو ما هو كائن، وأقصى ما تصل إليه هو أن تحلل ما هو بالفعل أمر واقع، دون أن تملك من أمر تغييره شيئًا. ألا تَمضي الرياضيات في طريقها إلى الأمام بفضل علماء الرياضة، دون أن تجني شيئًا ممن يتحدثون عن فلسفتها؟ وهل يؤثر «فلاسفة التاريخ» في مجرى التاريخ، أم أن التاريخ تصنعه الأحداث والأشخاص الذين يوجهونه، دون أن «يتفلسفوا» حوله؟ وهل أفاد العلم الطبيعي شيئًا من المجلدات الضخمة التي كتبت عن «فلسفة العلوم»، أم أن هذا العلم يُصنَع في المعامل، لا في أذهان المتفلسفين؟

هذا رأي لا ينكر أحد أن له أنصاره العديدين، الذين قد يتركون الفلسفة وشأنها في ميدانها الخاص، ولكنهم يأبون عليها التدخل في ميادين أخرى لن يكون لها فيها — حسب رأيهم — إلا تأثير معوق. وبطبيعة الحال فإن هناك ردودًا كثيرة يمكن أن توجه إلى أنصار هذا الرأي، منها، مثلًا، أن فلاسفة الرياضيات كان لهم بالفعل تأثيرهم في سير العلوم الرياضية (رسل، وويتهد) وفلاسفة التاريخ قد أحدثوا بالفعل تغييرًا في مجرى التاريخ (هيجل، وماركس)، وأن أعظم علماء الفيزياء في عصرنا الحاضر كانوا في نفس الآن علماء وفلاسفة في ميادينهم الخاصة (أينشتين، ودي بروليي … إلخ) ولكن هناك ميدانًا خاصًّا يدور فيه صراع حاد بين أنصار الممارسة الخالصة وأنصار التفلسف: ذلك هو ميدان الفن.

فالتفكير الفلسفي في الفن أمر لا يعترف به معظم الفنانين، بل لا يعترف به كثير من النقاد الفنيين الذين يمارسون هذا التفكير ذاته في عملهم دون وعي منهم. وإذا كان أنصار التفلسف قد يتمكنون من إقناع خصومهم في الميادين التي ضربنا لها من قبل أمثلة، فإنهم في ميدان الفن بعينه يجدون أنفسهم إزاء صعوبة من نوع فريد؛ ذلك لأن الفن هو مجال الإبداع الفردي، وهو ميدان العبقرية التلقائية التي تتجاوز القواعد ولا تعترف بالقيود. ألست ترى الفنان يسخر من مجرد البحث النظري في ميدانه؟ ألا تجد الموسيقيَّ العبقري يثور على ما يتلقاه من تعليم منظَّم، ولا يقبل منه إلا أدنى حد، ثم تتفجر طاقاته الخلاقة فتطغى على كل ما تلقاه قبل ذلك من أصول وقواعد؟ وإذا كان الفنان ينظر إلى التعليم النظري في صميم ميدانه على هذا النحو، فكيف تراه ينظر إلى محاولة «التفلسف» في هذا الميدان، أعني إلى البحث النقدي عن مجموعة من المبادئ العامة التي تسري على الفن من حيث هو ظاهرة، ويُفترض أن كل اتجاه فردي ليس إلا تجسُّدًا جزئيًّا لها؟

إن أحدًا لن يستطيع أن ينكر أن البحث الفلسفي قد لقي في ميدان الفن مقاومة أشد مما لقيه في أي ميدان آخر. وما زال الكثيرون إلى اليوم ينكرون «هذا الشيء» المسمى بفلسفة الفن، مؤكدين أن كل ما هنالك إنما هو «فن» فحسب؛ فإما أن تكون من الخالقين المبدعين، وإما أن تكون من المشاهدين المتذوقين، أما تلك الفئة الثالثة، فئة «المتفلسفين»، فلا يمثل نشاطها إلا سفسطة لفظية تخفي عنا الوجه النابض بالحياة للتجربة الفنية ذاتها. إنها عمل أناس عاطلين، عجزوا عن الاندماج المباشر في الفن، فأخذوا يدورون حوله بتحليلاتهم اللفظية العميقة التي لا تضيف آخر الأمر نغمة واحدة أو خطًّا واحدًا إلى تجاربنا الفنية.

هذا الرأي لا يقال بدافع مهاجمة الفلسفة بقدر ما يقال بدافع الحرص على الاحتفاظ للفن بحيويته وتلقائيته، والرغبة في الابتعاد عن كل ما يعوق مساره الحر الطليق؛ فهو، بالاختصار، رأي يقول به أصحاب نوايا طيبة. وما دامت النوايا طيبة، فلا بد أن يكون هناك مجال للتفاهم. وبالفعل يعد الكتاب الذي نقدم ها هنا ترجمته حديثًا طويلًا موجهًا إلى المشتغلين بالفن، ممارسة ونقدًا، محاولًا تحقيق التفاهم بينهم وبين المشتغلين بالتفلسف في هذا الميدان.

وليس من مهمة هذه المقدمة أن تقدم إلى القارئ تلخيصًا للموضوعات التي نوقشت في هذا الكتاب، أو النتائج التي توصل إليها. ومع ذلك ففي استطاعتي أن أقول، باطمئنان تام، إن المؤلف قادر على إقناع أي قارئ بأن البحث الفلسفي والجمالي في مشكلات الفن له قيمته، لا من حيث هو تحليل فكري فحسب، بل لأنه يزيد من استمتاعنا بالموضوعات الفنية، ويوسع فهمنا لها، ويفتح أمام الناقد والمتذوق آفاقًا جديدة يطل منها على ميدان الفن.

وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى مسألة واحدة يؤكدها المؤلف بإلحاح، وهي ضرورة اتخاذ العمل الفني ذاتها محورًا لكل ما يقال في ميدان النقد، وأساسًا لكل تذوق. هذه القاعدة قد تبدو بديهية لا تحتاج إلى أي تأكيد. ومع ذلك فلو أمعنا النظر في دلالتها، كما يوضحها هذا الكتاب بدقة كاملة، لوجدنا أنها تنبه المتذوق والناقد معًا إلى شيء يغيب عنهما في كثير من الأحيان؛ فالمؤلف يحذر من نسيان العمل الفني ذاته، والإغراق في تفاصيل متعلقة «بالحياة الواقعية»، لا ترتبط مباشرة بالعمل الذي نتذوقه أو ننقده. وصحيح أن هناك أنواعًا من الفنون، كالروايات والمسرحيات بوجه خاص، تحيلنا في كثير من الأحيان إلى ميدان الحياة الواقعية، ولكن من الواجب ألا تخرج عن نطاق العمل، وننتقل إلى مجال الواقع، إلا بقدر ما يكون ذلك عونًا لنا على فهم ما هو موجود في العمل ذاته. ومعنى ذلك، ببساطة، أن تلك الأعمال النقدية التي تستطرد في الكلام عن شخصية الفنان، أو وقائع حياته، أو ظروف مجتمعه، دون أن تربط بين ما تقوله وبين العمل الفني ذاته، ودون أن توضح بطريقة مقنعة تأثير هذه الوقائع في العمل وكيفية انعكاسها عليه — لا تعدو أن تكون استطرادات ذات قيمة تاريخية أو نفسية أو اجتماعية، ولكنها ليست نقدًا فنيًّا بالمعنى الصحيح.

والواقع أن المؤلف لا يمل من تكرار هذه النصيحة، وهي ضرورة اتخاذ العمل الفني ذاته، سواء من حيث العناصر المتضمنة فيه، ومن حيث الكل المتكامل الذي تؤلفه هذه العناصر، محورًا لكل نقد وكل تذوق. وفي استطاعتنا أن نتحدث عن انفعالات الفنان الشخصية أو عن بيئته أو عن أحوال عصره كما نشاء، بشرط أن نكون قادرين على إيجاد روابط واضحة بين ما نقول به وبين تركيب العمل الفني ذاته. أما أن «نشطح» في أحاديث نفسية أو تاريخية أو اجتماعية، ونتخذ من العمل الفني مجرد وسيلة لاستعراض معلوماتنا في هذه الميادين، دون أن نستطيع ربطها بالعمل الفني، ثم نظن بعد ذلك أننا نقدم نقدًا فنيًّا، فإن هذا دون شك وهْم كبير، بل إن المبالغة في الاستطراد مع العجز عن بيان أوجه الارتباط بينه وبين الموضوع نفسه، تشوه عملية التذوق الفني ذاتها؛ إذ إن كثيرًا من الناس يظنون أنفسهم قادرين على تذوق أعمال معينة لمجرد كونهم يستطيعون أن يتحدثوا عن سيرة الفنان المبدع أو عن الظروف الاجتماعية للعصر الذي كان يعيش فيه، مع أن هذا كله لا تكون له قيمة، من وجهة النظر الجمالية، ما لم يرتكز على فهم أصيل للعمل الفني ذاته، وقدرة حقيقية على الاندماج فيه، وعلى استغلال كل هذه الوقائع الخارجة عن نطاق العمل في إلقاء مزيد من الضوء عليه.

والحق أننا لو طبقنا هذا المعيار على طريقة كتابة النقد الأدبي، والفني، وعلى طريقة التذوق في هذه المجالات، لوجدنا أن قدرًا كبيرًا منه ينبغي أن يستبعد على أساس أنه دراسات تاريخية أو نفسية أو اجتماعية قد تكون لها قيمتها في هذه المجالات الأخيرة، ولكنها لا تساعد على تذوق العمل الفني ذاته بطريقة أفضل، ولا تزيدنا فهمًا لعناصره.

ومع ذلك فإن اتخاذ الموقف المتطرف المضاد هو أمر لا يقل عن ذلك ضررًا، بل إنه يكاد يكون مستحيلًا من الناحية العلمية؛ فقد يُفهم من الملاحظات السابقة أنه كلما اكتفى الناقد أو المتذوق بالعمل ذاته، واستغنى عن العناصر الخارجة عنه، كان نقده أو تذوقه أفضل، ولكن الواقع أن أفضل الحالات هي تلك التي يركز فيها المرء انتباهه على العمل ذاته، ويستغل كل العناصر الخارجة عن العمل في إلقاء مزيدٍ من الضوء عليه. أما الاستغناء عن هذه العوامل تمامًا، والاعتقاد بأن التأمل الخالص كافٍ وحده، فهو، في رأينا، موقف مستحيل عمليًّا، فضلًا عن أنه مخالف لطبائع الأشياء؛ ذلك لأننا لا نستطيع أن نجد في حياتنا الواقعية ذلك المتأمل الخالص الذي يستحوذ عليه الانتباه للعمل ذاته إلى حد ينسى معه كل العوامل الأخرى المنتمية إلى مجال «الحياة الواقعية»، والتي قد تكون مرتبطة بالعمل الفني من قريب أو من بعيد. وحتى لو أمكن أن تتحقق هذه الحالة، فما أظن أنها هي الحالة المثلى لتذوق الفن؛ إذ إنها تضفي على الفن نوعًا من الانفصال والانعزال والتجرد، وتجعله ظاهرة قائمة بذاتها، مكتفية بنفسها عن كل ما عداها، فتتجاهل بذلك الموقع الحقيقي للفن داخل حياة متكاملة.

ومن جهة أخرى فإن هذا التأمل الخالص المتجرد للفن يتنافى مع وحدة الكائن الإنساني ذاته؛ ذلك لأن الإنسان، سواء أكان فنانًا مبدعًا أم متذوقًا للفن أو ناقدًا له، لا بد أن يكون له كيانه الموحد، الذي يؤثر كل جانب منه في بقية الجوانب ويتأثر بها. ومهما كان اهتمام المرء بالفن وانشغاله به، فلا بد أنه سيبدي هذا الاهتمام بوصفه «إنسانًا» متعدد الجوانب، ولن يستطيع أبدًا أن يفصل، على نحو قاطع، بين صفة «الفنان» فيه وسائر صفات «الإنسان».

ولا بد لكل من قرأ هذا الكتاب بإمعان أن يعترف بأن المؤلف قد عالج بما فيه الكفاية موضوع ارتباط الفن بسائر جوانب النشاط الإنساني، بل لقد بدا في بعض المواضع ميالًا إلى النظرة الشاملة المتكاملة إلى الفن. ولكن الميل الغالب عليه هو تأكيد أهمية النظرة الخالصة إلى الفن، أي تأمل العمل الفني لأجل تأمله فحسب. وكما قلت من قبل، فإن مثل هذا التأكيد يمكن أن يكون فيه نفع عظيم، ولا سيما في الأوساط الثقافية التي يدور قدر كبير من النقد والتذوق الفني فيها «حول» العمل الفني دون أن يتغلغل فيه من داخله؛ فموقف المؤلف يمثل في هذا الصدد رد فعل مفيدًا غاية الفائدة، على الاتجاه إلى «الالتفاف» حول الأعمال الفنية بدلًا من مواجهتها مباشرة.

ولعل من المفيد أن نعرض، في هذا المقام، التعليلات التي يقدمها المؤلف لازدياد أهمية النظرة «الخالصة» إلى الفن في عصرنا الحاضر؛ ذلك لأن هذا العرض يقدم إلينا أنموذجًا لفكرة صائبة ترتكز على أسباب باطلة، أو لموقف سليم يقدم له تعليل متهافت؛ فالمؤلف يرى أن التطور الحديث للفن يتجه إلى مزيد من العزلة للفنان عن المجتمع.١ وهو يذهب إلى أن فنان العصر الحديث لم يكتسب اعترافًا من المجتمع بكيانه من حيث هو فنان، إلا عن طريق انعزاله عنه: فالفنان الحرفي في العصور الوسطى والقديمة كان، بوصفه صانعًا، مندمجًا في المجتمع، ولكن لم يكن له كيان مستقل بوصفه فنانًا. أما فنان العصر الحديث فإنه اكتسب اعتراف المجتمع في نفس الوقت، الذي استقل فيه عنه، ولم يعد يخدم أهدافًا دينية أو شعائرية أو سياسية، بل أصبحت له شخصيته المستقلة، وصار إنتاجه خاضعًا لدوافعه الخاصة، لا لعوامل مفروضة عليه من المجتمع الخارجي.

هذا التعليل في رأيي يفتقر إلى الدقة، سواءً من الناحية المنطقية ومن الناحية التاريخية؛ فصحيح أن الفنان لم يعد في العصر الحديث واحدًا ممن يؤدون حرفة يحددها المجتمع ويتحكم في شروطها، بل أصبح ينتج كلما أحس بالرغبة في الإنتاج، ويمارس نشاطه إرضاءً لذاته. كل هذا صحيح، ولكنه لا يدل على الإطلاق على أن الفنان أصبح «منعزلًا» عن المجتمع، بل إن هذه التلقائية التي أصبح الفنان يمارس بها عمله، هي ذاتها التي زادته ارتباطًا بالمجتمع في كثير من الأحيان؛ فحين كان الفنان مجرد أداة في يد الكنيسة مثلًا لم يكن يستطيع أن يشارك في قضايا مجتمعه مشاركة واعية، أي أن اندماجه كان في هذه الحالة خارجيًّا أو آليًّا فحسب. أما عندما أصبح الفنان يبدع بوحي من ذاته، فقد أدى اكتمال شخصيته إلى توثيق الروابط بينه وبين القضايا الإنسانية لمجتمعه، لا إلى فصم هذه الروابط.

وإذن فالاعتقاد بأن هناك اتجاهًا حديثًا إلى ازدياد الانفصال والتباعد بين الفنان وبين مجتمعه، وبأن هذا الاتجاه هو الذي أدى إلى زيادة الاهتمام بالنظرة الخالصة إلى الفن، هو اعتقاد أقل ما يقال عنه إنه يتنافى والواقع التاريخي. والأصح أن يقال إن الاتجاه إلى مزيد من الاهتمام بتأمل الأعمال الفنية «من داخلها» هو رد فعل على النزعة النفسية والاجتماعية المفرطة، التي ظهرت بوضوح في النقد والتذوق الفني في العصر الحديث.

وعلى الرغم من أن المؤلف قد أخطأ في تعليل الظاهرة التي نحن بصددها، فإنا نستطيع أن نستشف من معالجته للموضوع حلًّا معقولًا للإشكال الذي تثيره هذه الظاهرة؛ فليس هناك، في واقع الأمر، تضاد بين «النظرة الخالصة» إلى الفن وبين النظرة النفسية أو الاجتماعية إليه، أو بين ما يسمى أحيانًا بنظرية «الفن للفن» و«الفن للمجتمع»، بل إن في استطاعة المرء أن يأتي بتحليلات اجتماعية ونفسية كما يشاء، بشرط أن يوضح بطريقة مقنعة كيف ترتبط هذه التحليلات بعناصر تنتمي إلى صميم العمل الفني ذاته. وفي هذه الحالة تكون الارتباطات الاجتماعية (أو النفسية) للفن مؤدية إلى فهم أعمق لما هو متضمن في داخله، وتكون النظرة الاجتماعية (أو النفسية) إلى الفن مكملة، لا مناقضة، للنظرة الخالصة إليه.

•••

وأود في ختام هذه المقدمة أن أشير إلى صعوبة رئيسية واجهتها في ترجمة هذا الكتاب، وهي الصعوبة المتعلقة بالألفاظ الإنجليزية التي تترجم كلها بكلمة «الجمال» ومشتقاتها؛ فمن الشائع ترجمة لفظ (Aestheties) بعلم الجمال، ومع ذلك فإن المؤلف يخصص فصولًا كاملة لإثبات أن هذا العلم يمكن أن يتناول القبح، أو التنافر، بقدر ما يتناول الجمال، أي أن الفن لا يتخذ من الجمال وحده موضوعًا له، ولكن لفظ «علم الجمال»، من جهة أخرى، أشد تأصُّلًا في لغتنا الحالية من أن يستطيع المرء الاستغناء عنه نهائيًّا. ولذلك فقد لجأت، في المواضع التي يؤكد فيها المؤلف وجود موضوعات أخرى للفن غير الجمال، إلى استخدام لفظ «الإستطيقا» بدلًا من «علم الجمال»، لكي يتسنى القول إن الإستطيقا تبحث في الجمال والقبح معًا. أما في المواضع التي لم يكن لفظ «الجمال» يهدد بأن يثير فيها التباسًا، فقد استخدمت تعبير «علم الجمال».
كذلك تظهر صعوبة أخرى متعلقة بالتعبير الإنجليزي (fine arts)، الذي أصبح من السائد ترجمته ﺑ «الفنون الجميلة»، مع أنه قد يكون من الضروري أحيانًا تحديد الفارق بين الصفة (fine) والاسم (fineness) من جهة وبين لفظ (beauty) وكذلك لفظ (aesthetic) من جهة أخرى. وقد كنت أشعر بقصور التعبير في الحالات التي اضطررت فيها إلى استخدام لفظ «الجمال» للدلالة على كل هذه المعاني المتباينة. وآمل أن يتفق المشتغلون بالفنون الجميلة على مصطلحات تعفي الباحثين من مثل هذا الحرج. ولي ملاحظة أخيرة، هي أن المؤلف كثيرًا ما كان يوجه كلامه إلى «الطالب» بينما تعمدت في الترجمة أن أغير هذا اللفظ بحيث يكون الكلام موجهًا إلى القارئ، ذلك لأن الكتاب في رأيي ليس موجهًا إلى الطلاب فحسب؛ ففي الكتاب من المعلومات القيمة، ومن التحليلات العميقة، ما يجعله ذا فائدة غير قليلة للباحث وللقارئ المثقف، فضلًا عن الطالب. وفي اعتقادي أنه لو تنبه المشتغلون بالفن، ممارسةً ونقدًا وتذوقًا، إلى هذا الكتاب، وتعمقوا قراءته، لساعد على تبديد كثير من الأوهام التي ترسبت طويلًا في النفوس، ولأدى إلى أن يكتسب تفكيرهم وتعبيرهم وحديثهم في هذا الميدان مزيدًا من العمق، وهو في رأيي كسب غير هين.
القاهرة
فؤاد زكريا
ديسمبر ١٩٦٧م
١  انظر في هذا الجزء، الفصل الثاني، ص٣١-٣٢ من الأصل الإنجليزي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤