الفصل العاشر

التعبير

(١) طبيعة التعبير

ليست هذه هي المرة الأولى التي نتحدث فيها عن «التعبير»؛ فقد ظهر هذا المفهوم في عدة فصول سابقة. والواقع أن لفظ «التعبير» من أكثر الألفاظ، إن لم يكن أكثرها بالفعل، شيوعًا في اللغة التي نتحدث بها عن الفن في عصرنا الحالي. ولنتصور كم من المرات سمعت فيها عبارات مثل «هذا الفنان يعبر عن كذا» أو «العمل معبر بوضوح»، وربما كان لك معلمون سألوك: «ما الذي يعبر عنه هذا العمل في نظرك؟» وقد ظهر لفظ «التعبير» والألفاظ المشتقة منه في تحليلنا للإبداع الفني (الفصل الرابع) وللنظرية الانفعالية (الفصل السابع)، والمادة والشكل (الفصل التاسع). فلنذكر أنفسنا بما أكدناه حتى الآن عن «التعبير».

لنقل في البداية إن اللفظ غامض، فمن الممكن أن يشير إلى عملية الخلق الفني التي تؤدي إلى ظهور العمل، أو إلى سمة كامنة في العمل ذاته. وسوف يبحث هذا الفصل في التعبير بوصفه بُعدًا من أبعاد الفن، كالمادة والشكل. وبعبارة أخرى فإن المعنى الثاني هو الذي يهمنا هنا؛ فالأفكار والانفعالات التي يمر بها الفنان خلال التعبير (بالمعنى الأول) والتي ينبئنا عنها في يومياته، ورسائله … إلخ، قد تساعد على تفسير القدرة التعبيرية للعمل. وهي لا يمكن أن تساعد على ذلك إلا إذا اتضح أنها متضمنة في العمل بصورة أو بأخرى. ولا يمكننا أن نعلم إن كانت ماثلة في العمل عن طريق مجرد دراسة ما يقوله الفنان عن أسباب نشاطه الإبداعي، أو قراءة وصف معين لحياته. فمن الجائز أن يكون الفنان قد عجز عن أن يدمج في الموضوع الفني ما فكر فيه أو أحس به، كما أن الدراسات التاريخية قد تؤدي بنا إلى البحث عن أفكار ومشاعر ليست، ببساطة، موجودة في العمل.

وإذن فمن الواجب أن نتذكر مرة أخرى أن منشأ العمل شيء والعمل ذاته شيء آخر. ومن ثَم فإن ما يعبر عنه العمل لا يمكن أن يُعرف بادئ ذي بدء إلا بالوعي الجمالي المباشر. وبعد ذلك يمكن أن يسعى التحليل النقدي، المبني على ما تهتدي إليه التجربة الجمالية من نتائج، والذي يمكن أن يستعين بالتاريخ، وسيرة الفنان … إلخ، إلى وصف الدلالة التعبيرية للعمل.

وهذا يؤدي إلى أمر آخر ينبغي أن نتذكره، وهو أن ما يعبر عنه العمل خاص بالعمل ذاته. وقد رأينا في الفصل السابق أن المادة والشكل والتعبير يعتمد كل منهم على الآخر، فليس لواحد منهم وجود بمعزل عن الآخر. والمضمون التعبيري لأي عمل لا يكون على ما هو عليه إلا بسبب العناصر المادية، والتنظيم الشكلي، والموضوع، وهي العناصر التي يؤدي تجمُّعها إلى تكوين العمل الخاص. ومن هنا فلا يمكن لأي وصف لفظي أن يصور التعبير بدقة، أو يكون بديلًا عنه. إن الألفاظ قد تصف، كما هي الحال في قولنا إن «الموسيقى حزينة» و«القصيدة عميقة التفكير». وقد تكون أمثال هذه التعبيرات صحيحة وذات معنًى واضح، ولكنها لا تجعلنا، ولا تستطيع أن تجعلنا نشعر بالطابع الخاص «للحزن»، الذي تعبر عنه الموسيقى، بل إن هذا أمر لا ندركه إلا بالاستماع إلى الموسيقى ذاتها.

لقد رأينا أن العمل حين يكون معبِّرًا لا يكون علامة على ما يعبر عنه، ولا مجرد سبب للأفكار والانفعالات التي يثيرها في المدرك. فالسبب، كالدواء أو وخز الدبوس، هو شيء يؤدي إلى تجربة من نوع معين. غير أن هذه التجربة شيء مختلف عن سببها، ونحن نشعر باختلافها هذا. أما العلامة أو العرض (symptom) كحمرة الخجل أو الضحك، فتؤدي بنا إلى أن نستدل على أن هناك شعورًا بانفعال معين، ومع ذلك فالعلامة متميزة عما نشعر به؛ ففي استطاعتنا أن ندرك العلامة ونقوم بالاستدلالات اللازمة دون أن نشعر نحن أنفسنا بالانفعال. وإذن فليست العلاقة بين العمل الفني وما يعبر عنه كالعلاقة بين العلامة وما ترمز إليه أو بين السبب وما يؤدي إليه.

ولكنا لم نقل بعد ما هو التعبير، مع أن هذا ضروري إذا شئنا أن نفسر الدور الذي يقوم به، إلى جانب المادة والشكل، في تركيب الفن. وهو ضروري أيضًا لأن الناس في هذه الأيام كثيرًا ما يطالبون بضرورة «تعبير» العمل الفني عن شيء. فما الذي يعنُونه حين يقولون ذلك؟ إنهم لا يستخدمون لفظ «التعبير» دائمًا، فربما سمعتهم يحتجون بقولهم «لست أفهم ما يقوله العمل» أو «لست أرى لهذا كله معنى». ومن الواضح أن كل هذه العبارات إنما تشير إلى العنصر التعبيري في العمل.

ومع ذلك فإن إيضاح طبيعة التعبير ليس بالأمر الهين. فعلى حين أن «الشكل» يعاني من وجود معانٍ كثيرة،١ فإن المشكلة في لفظ «التعبير» هي غموضه — فمن العسير صياغة معنًى واحد واضح للفظ. وقد يبدو لك هذا أمرًا مستغربًا، ما دام لفظ «التعبير»، كما لاحظنا من قبل، من أكثر ألفاظ لغتنا الفنية تداولًا. ومع ذلك فكثيرًا ما تكون الألفاظ التي يشيع استخدامها على أوسع نطاق في مجتمع معيَّن أو عصر معيَّن؛ هي بعينها الألفاظ الغامضة. ومن الجائز أن السبب الذي جعل استخدامها شائعًا إلى هذا الحد هو أن معناها لم يحدَّد ويخصص بدقة. وحسبنا في هذا الصدد أن نتذكر ألفاظ مثل «الديمقراطية» و«الحرية» في لغة السياسة، أو «المطلق» و«النسبي» في المناقشات الأخلاقية الحديثة.

وقد بذلت في الآونة الأخيرة محاولات منهجية لتحليل معنى «التعبير»، ولكن من الجائز أن أي تعريف من هذه التعريفات لم ينجح نجاحًا كاملًا. وسوف تظهر لنا، كلما مضينا في مناقشتنا قُدمًا، الصعوباتُ المحيطة باستخدام هذا المفهوم. فإذا لم يكن أولئك الذين يتحدثون عن «التعبير» يذكرون شيئًا عن هذه المشكلات، فقد لا يكون ذلك راجعًا إلى أنهم حلوها، بل إلى أنهم قد تجاهلوها.

فلنبدأ بالعودة إلى ذلك المشاهد الذي يشعر بخيبة الأمل، والذي ظل يتساءل بعد أن استمع إلى العمل أو رآه: «ما الذي يعبر عنه؟» إنه يقول إن في العمل شيئًا لا يستطيع التوصل إليه، شيئًا لا يفهمه، ولكن على الرغم من ذلك، فإنه يستطيع الوصول إلى بعض جوانب العمل وفهمها. تلك هي الخصائص التي لا تؤلف المضمون التعبيري للعمل، فما هي؟

إذا كان العمل قطعة موسيقية، فمن الممكن أن يعرف صديقنا هذا المقام الذي كتبت به، وأن يتمكن من التعرُّف على كل نغمة في المدوَّنة الموسيقية وسماع كل الأنغام عندما تُعزَف؛ وفي استطاعته معرفة النمط الشكل التقليدي الذي كُتب به العمل، مثل قالب السوناتا مثلًا. وإذا كان العمل لوحة، استطاع أن يرى الألوان ويتعرف على الموضوع، وهو «صَلْب المسيح» مثلًا. وإذا كان رواية، أمكنه أن يفهم الألفاظ وأن يتعرف أيضًا على الموضوع أو ما يتعلق به الكتاب.

وإذن فمن الممكن أن نعرف الأوجه غير التعبيرية للعمل عن طريق إدراك العمل فحسب. ففي استطاعتنا أن نحس بالمادة، ونتعرف على الشكل، وندرك الموضوع. ومع ذلك كله يظل الموضوع جامدًا لا حياة فيه؛ فهو لا «يقول لنا شيئًا». فما أتفه أن نعرف أن سيمفونية موتسارت رقم ٤٠ من مقام صول الصغير، وأن رواية «يولسيز» لجويس تحكي ما يحدث خلال يوم من أيام حياة إنسان.

فما الذي تفتقر إليه تجربة المشاهد؟ إنها تفتقر إلى الوعي بسمات العمل التي لا تعطى مباشرة للإدراك. فلنفرض أن الموسيقى «تعبر عن المرح» (وإن لم تكن تعبر عن ذلك لهذا المستمع بعينه). في هذه الحالة لا يكون «المرح» شيئًا يستطيع إدراكه مباشرة، كأصوات الأوركسترا؛ فهو يسمع الأصوات بكل وضوح، ولكن «المرح» شيء مختلف عنها بدورها؛ فهو ليس كالصوت «المرتفع» أو «الناعم»، أو كاللون الخاص بآلة معينة، بل إن «المرح» ليس صفة سمعية على الإطلاق. أو لنفرض أن قطعة كيتس الشعرية «السيدة الجميلة القاسية القلب La Belle Dame Sans Merci» تعبر عن حالة مريرة من الحزن الناتج عن الحب المفقود، عندئذٍ ستجد أن القطعة الشعرية ذاتها لا تتحدث في أي موضع عن «حالة مريرة … إلخ»، وإن كانت تقول «ولا طيور تغني». فما تعبر عنه يظهر من خلال الأصوات أو الصور أو الألفاظ. وهو شيء يزيد عن هذا كله. فلا بد إذن من أجل تذوُّق المضمون التعبيري، من أن نفعل أكثر من مجرد الرؤية أو الاستماع أو القراءة. لا بد أن نجرب تلك الإيحاءات وتلك الارتباطات التي لا «تُقال» وإن كانت تنبثق عما «يقال» وتميزه.
ومن الممكن أن يعبر العمل عن: (١) صور، (٢) أو انفعالات، (٣) أو أفكار؛ فالقسم الختامي من قصيد رسبيجي Respighi النغمي «أشجار الصنوبر في روما The Pines of Rome» يبعث في الذهن صورة جنود رومان يسيرون بمشيتهم العسكرية خلال «طريق آبيا». ويستطيع المستمع أن «يرى» ما لم يكن من الممكن «عرضه»، بالمعنى الحرفي، عن طريق الموسيقى. وهنا أيضًا نجد أن الموسيقى لا يمكن أن تكون «حزينة» أو «مَرِحة» بالمعنى الحرفي؛ فالكائنات العضوية الحاسَّة، كالبشر، هي وحدها التي يمكن أن تكون لها انفعالات وتشعر بها، ومع ذلك فمن الممكن أن تبدو القطعة الموسيقية وكأن هناك حالة نفسية أو انفعالًا محدد المعالم يشيع فيها. كما أن الرواية يمكن أن تعبر عن «فكرة» موضوعية، على الرغم من أنها لا تصرح بها في أي موضع؛ فكثيرًا ما يُنظر إلى «يوليسيز»، لجويس على أنها تعبر عن عزلة الإنسان الحديث واغترابه. وهي تفعل ذلك عن طريق قيامها بوصف يوم من الأيام التي يمر بها يهودي في أيرلندا، نسي مفتاحه بحيث لا يستطيع دخول بيته. وكثيرًا ما تتلاحم الصور والانفعالات والأفكار التي يعبر عنها عمل ما، كما يحدث حين ترمز صورة إلى فكرة معبر عنها، ويكون لها في الوقت ذاته طابع انفعالي مميز خاص بها.
وحين يكون العمل معبِّرًا بالنسبة إلينا، «تبعث فيه الحياة»، ويصبح مشحونًا بإثارة تخيُّلية إذ يوحي بأكثر مما يصوره صراحة. وهو يكتسب عمقًا ورنينًا من أصدائه الانفعالية؛ فسيمفونية موتسارت من مقام صول الكبير لا تعود مجموعة من الأنغام المتعاقبة، بل تكون «غنائية» أو «مشحونة بالانفعال»، وربما «أسيانة». وتساعدنا الدلالة الذهنية للعمل على الإجابة عن سؤالنا الأصلي: «ما معنى هذا كله؟» فعلى حين أن «يوليسيز» تبدو في كثير من الأحيان مفككة مهلهلة لأول وهلة، فإنها عندما تُقرأ بوصفها تعليقًا على محنة الإنسان الحديث تصبح ذات معنًى، معين.٢
ولنستمع إلى سانتيانا وهو يقول: «في كل تعبير يمكننا أن نميز بين حدين؛ الأول هو الموضوع المعروض بالفعل، وهو اللفظ والصورة، والشيء المعبر. والثاني هو الموضوع الموحى به، والفكرة اللاحقة، والانفعال أو الصورة المثارة والشيء المعبر عنه.»٣ وقد يبدو من ذلك أن المدرك يشعر «بموضوعين» مختلفين. كما أن مناقشتنا السابقة تبدو وكأنها تعني ضمنًا هذا الشيء عينه؛ فقد قلت إن التعبير ينشأ عن «ما يدرَك أو يوحَى به» عن طريقه، وكأن المرء يستمع إلى الأنغام أو يتأمل الألوان ثم يشعر، بالإضافة إلى ذلك، بانفعال أو تخطر بذهنه فكرة.
غير أن هذا لا يتمشَّى مع وقائع التجربة الجمالية؛ فنحن نميز، تحليليًّا، بين «الحد الأول» و«الثاني» لكي نوضح طبيعة التعبير بوصفه عنصرًا من عناصر الفن، ولكن ليس ثمة تمييز كهذا في الممارسة الفعلية للعمل. فما يعبر عنه، هو في نظر المشاهد، جزء لا يتجزأ مما هو مُعطًى للإدراك. وكما يقول سانتيانا، فإن «الحدين» «يندمجان في الذهن».٤ ولهذا السبب كان من الطبيعي، ومن المألوف أن نقول «الموسيقى مرحة أو متوثبة»، وإن كان هذا، لو شئنا الدقة، تعبيرًا ممتنعًا؛ ففي هذه الحالة تكون طريقتنا في الكلام إيضاحًا للتجربة التي نشعر بها؛ فعندما تكون الموسيقى معبِّرة، يكون «المرح» جزءًا لا يتجزأ من الأصوات، بقدر ما تكون درجتها من حيث الارتفاع أو الانخفاض، أو لون الآلات التي تنقل هذه الأصوات. وإذن فلن يلتبس علينا الأمر نتيجة للكلام عن «حدين»، ما دمنا نتذكر أن هذا الكلام يُستخدَم لأغراض التحليل، وأن التحليل النظري مختلف كل الاختلاف عن التجربة العينية.٥
أما إذا لم يكن الحدان «مندمجَين في الذهن»، فعندئذٍ لا يمكن أن يوصف العمل بأنه معبِّر. «فقد أتلقى رسالة حافلة بالأخبار السارة، دون أن يكون من الضروري أن يبدو الورق، أو الكتابة، أو الأسلوب، جميلًا في نظري. فلن تصبح الصفة التعبيرية جمالًا في نظري إلا إذا خلطت بين الانطباعات، ومزجت الرموز ذاتها بالانفعالات التي تثيرها، ووجدت في نفس الكلمات التي أسمعها مرحًا وعذوبة.»٦ وقد يعرف شخص معيَّن كل نغمة في مدونة موسيقية، كما قد يعرف، عن طريق مواضعات أسلوبية وإشارات من المؤلف الموسيقي، مثل: «العزف بحيوية زائدة molto vivace» أن العمل يفترض أنه يعبر عن المرح والحيوية، ولكن إذا ظل المضمون التعبيري مثيرًا عن الأصوات المسموعة، فلا يمكن القول إن الموسيقى معبِّرة بالنسبة إليه؛ «فالحدان» لا يكونان في نظره كيانًا واحدًا، وموضوعًا تعبيريًّا.

ومن الممكن ألا تكون التجربة جمالية، ومع ذلك نشعر بأن «الشيء المعبِّر» وما يعبر عنه واحد؛ فمن الممكن أن يكتسب الموضوع دلالة تخيلية وغيرها، دون أن يكون موضوعًا جماليًّا. مثال ذلك أننا حين نقول «الثلج يبدو باردًا.» نشوه المعنى الحرفي بطريقة تقرب من قولنا «الموسيقى مرحة.» فلو شئنا الدقة لأمكن القول إن الثلج يبدو لامعًا أو مدببًا، ولكن لا يمكن أن يحس ببرودته سوى حاستنا اللمسية وشعورنا بالحرارة. ومع ذلك فإن التعبير معقول ومفهوم تمامًا؛ فالبرودة المتخيلة أصبحت جزءًا من مضمون التجربة، شأنها شأن اللمعان المرئي. كذلك فإن البيت الذي يعيش فيه المرء طويلًا يمكن أن يصبح معبرًا عن صور وانفعالات. فكل قطعة من الأثاث، وكل غرفة، يمكن أن «تتشرب» بطابع تعبيري مميز.

فلماذا كانت هذه التجارب غير جمالية؟ إن الإجابة هنا، كما في بقية أجزاء هذا الكتاب، ترتد إلى معنى لفظِ «الجمالي»، أي موقف «الانتباه المتعاطف المنزه عن الغرض». فمن الممكن أن يكون إدراك البيت أو الثلج جماليًّا، إذا اتخذنا هذا الموقف وحافظنا عليه؛ فنحن نستطيع أن نتأمل الموضوعات الطبيعية، كالثلج أو الأشجار، بل نتأملها بالفعل، مركزين انتباهنا على صفاتها التعبيرية. وكثيرًا ما تحدث «رؤية» لملمس الشيء عند تذوق عمل نحتي، كما تحدث عند إدراك الثلج، ولكن هذا الأمر ذاته هو الذي قد يؤدي ألا تكون تجربتنا جمالية. فإدراكنا أن «البيت حزين»، حين يعني أن كل ما فيه مشبع بحالات نفسية وصور معينة، لا يكون بالضرورة إدراكًا جماليًّا. وقد يقول هذه الكلمة، بعد موت إنسان عزيز، شخص لا يود أن يستغرق انتباهه في منظر البيت وهو حزين. وعندئذٍ يكون الموقف الذي تعبر عنه الجملة عمليًّا لا جماليًّا، وهو قرار الرحيل عن البيت أو الانتقال منه. فما هو معبر لا يتعيَّن أن يكون جماليًّا.

ومع ذلك فإن القدرة التعبيرية للأشياء — أي ما توحي به للخيال والانفعال والفكر — هي بلا شك أوضح ظهورًا في التجربة الجمالية منها في الأنواع الأخرى للتجربة. وهذا راجع إلى طبيعة الإدراك الجمالي. فحين نكون «عمليين»، نود أن ندرك الأشياء بسرعة وبطريقة اقتصادية حتى نستطيع أن نسلك بطريقة فعالة. وعندئذٍ لا نتوقف عند الأشياء إلى الحد الذي يكفي لإدراك طابعها التعبيري. أما الإدراك الجمالي فيتوقف عند الموضوع حتى يمكن أن تظهر قدرته التعبيرية وتصبح ملموسة. وهذا يصح بوجه خاص، بالطبع، حين يكون الموضوع عملًا فنيًّا؛ ذلك لأن المادة، والشكل، والموضوع، تُختار عندئذٍ بطريقة متعمدة من أجل استغلال إمكاناتها التعبيرية.

•••

والآن نصبح على استعداد لمواجهة الاتهام القائل إن الاهتمام بالدلالة التعبيرية يؤدي إلى تجاهل للأبعاد المادية والشكلية والتمثيلية للعمل. فتبعًا لهذا الرأي — الذي هو رأي واسع الانتشار — تصبح أوجه الفن هذه، بالنسبة إلى الشخص الذي يهمه التعبير، مجرد وسائل لإثارة صور وانفعالات؛ «فالموضوع الإدراكي، وإن يكن دون شك شرطًا ضروريًّا «للتأثير» الجمالي، ما هو إلا أداة يثار بها الشعور».٧
ولو لم يكن العمل يزيد عن ذلك، لما كان موقفنا جماليًّا بالمعنى الصحيح، بل إن العمل لا يمكن أن يوصف عندئذٍ بأنه معبر بمعنى الكلمة، وذلك إذا استُخدمت كلمة «معبر» بالمعنى الذي أشرنا إليه من قبل؛ ذلك لأننا لو استخدمنا العمل مثيرًا للشعور، فإنا لا ندر كه عندئذٍ لذاته. وفي هذه الحالة يمكن أن يؤدي «حمام دافئ» نفس الغرض، كما يقول هانسليك. ولو استُخدم العمل على هذا النحو، فإنه يكون حينئذٍ سببًا للأحوال النفسية، إلخ، ولكنه لا يعبر عنها؛ فالحالات النفسية والصور التي يمر بها المدرك في تجربته تصبح منفصلة عن أصوات الموضوع الفني أو ألوانه. والخطر الأكبر في هذه الحالة هو أن المشاهد يصبح مستغرقًا في حالاته الانفعالية الخاصة، بحيث يقذف بالعمل ذاته بعيدًا إلى هامش الانتباه. وحين تتخذ هذه التجربة أشد صورها تطرفًا وسوقية، تصبح «عاطفية مبتذلة sentimental»، أي أن المرء يشعر فيها بانفعالات لا تتناسب مع المضمون التعبيري للعمل، إذ لا أساس لها في العمل ذاته.
إن ما يعبر عنه العمل لا يمكن أن يُعرف إلا بانتباه دقيق للتنظيم الشكلي للمادة والموضوع؛ فالقدرة التعبيرية لا تحيا إلا في الخطوط والأنغام، وفي الكلمات والحوادث التي يعرضها العمل علينا. وهي ليست، بالنسبة إلى الإدراك الجمالي، «نتيجة» لها، كما أنها تقف معها على قدم المساواة. وقد أحسن الأستاذ «أيكن Aiken» التعبير عن هذا المعنى إذ قال: «إن العلاقة بين الموضوع وبين الانفعال «المعبر عنه» ليست على الإطلاق علاقة وسيلة بغاية، بل هي علاقة عنصرين يدعم كل منهما الآخر داخل كل مترابط.»٨ ولو عدت بذهنك إلى قطعة «زوراخ» النحتية التي جاء ذكرها في الفصل السابق، لتذكرت أن السطح الحسي والأساليب الشكلية للعمل تؤكد كلها دلالته التعبيرية، ولكن هذه الأخيرة بدورها تزيد من الجاذبية الحسية للعمل وتجعل الموضوع خلابًا «حيًّا».

ويترتب على ذلك أن الأوصاف التي تحدد ما يعنيه، العمل — كالقول إن «سيمفونية بيتهوفن التاسعة تعبر عن الإخاء بين البشر» وإن «روايات توماس هاردي تثبت أن الإنسان لا يستطيع التحكم في مصيره» — يمكن أن تكون مضللة إلى حد بعيد. فمن حقنا أن نرتاب فيها لسببين؛ أولهما أن أمثال هذه العبارات توحي بأن الدلالة التعبيرية هي الشيء الوحيد الهام في العمل، ومن ثَم فهي توحي بأن الشكل والمادة والموضوع ما هي إلا وسائل البلوغ هذه الدلالة. وقد رأينا منذ قليل مدى خطأ هذا الرأي. وقد أصبح هذان البيتان الموجزان للشاعر المعاصر أرشيبالد مالكيش شهيرين:

القصيدة ينبغي ألا تعني
بل ينبغي أن تكون.٩

فالكيان الكامن للعمل هو المهم، وما يعبر عنه العمل أو «يعنيه» يكمن في صميم نسيجه وتركيبه؛ ولا يمكن أن يكون «المعنى» شيئًا منفصلًا عن العمل. والسبب الثاني هو تلك الحقيقة التي ينبغي ألا نمل من تكرارها، وهي أن أي تلخيص لفظي للمضمون التعبيري للعمل لا يمكن أن يكون فيه الكفاية. وهذا هو ما حدا بالمؤلف الموسيقي الذي سُئل عن معنى قطعة موسيقية كان قد فرغ لتوِّه من عزفها، إلى العودة إلى «البيانو». وعزفها مرة أخرى.

(٢) التعبير والترابط

كيف يحدث أن تكون الأشياء معبرة لنا؟ وكيف يحدث أن يكون لها في نظرنا «معنًى» يزيد عما ندركه مباشرة؟ ولمَ لا تكون النغمة المعينة مجرد موضوع محسوس له درجة معينة من الارتفاع الصوتي، ولون نغمي معين، بل تكون أيضًا شيئًا «بهيجًا» أو «حزينًا»؟

هذه الأسئلة متعلقة بأصل القدرة التعبيرية. فليس من شك في أن الأشياء معبرة، ولكن لمَ كانت كذلك؟ إن أمثال هذه الأسئلة، كما سنرى فيما بعد، تدفعنا إلى إعادة النظر في معنى «التعبير» كما عرضناه في القسم السابق.

يقدم سانتيانا إجابة بسيطة عن هذا السؤال. فهو يرى أن كل تعبير راجع إلى «الترابط (أو التداعي) association»؛ «فالحد الأول» يكتسب تعبيرًا لأنه يرتبط، في ذهن المدرك، بتجارب سابقة. ويلصق «معنى» هذه التجارب و«لونها» بالموضوع، بحيث يبدو كامنًا فيه. وما دمنا على وعي بالثغرة النفسية بين الموضوع وارتباطاته، فإنه لا يكون ذا قوة تعبيرية. فعندئذٍ نقدر الموضوع، كما نقول صراحة، «لما فيه من ارتباطات»، ولكن عندما «يفلت» الانفعال أو الفكرة الموحى بها من الذاكرة، و«يتشتت» في الشيء المدرك،١٠ فعندئذٍ يكون هناك تعبير.

ومن هنا، فعلى الرغم من أن سانتيانا يؤكد، بقدر ما يؤكد أي مفكر آخر، أن «الحدين» هما في نظر المدرك حد واحد؛ فإنه يرى أن «الحد الثاني» ينضاف دائمًا من الذاكرة والمخيلة.

فهل يؤدي ذلك إلى تفسير التعبير؟ من المؤكد أن سانتيانا يفسر قدرًا كبيرًا منه، بل إن الترابط هو أوضح مصدر للقدرة التعبيرية، وربما كان أكثر هذه المصادر شيوعًا. ولقد كان المثل الذي ضربناه من قبل، وهو «البيت حزين»، مثالًا لهذا «الدمج» بين التجارب الماضية والحاضرة. كما أن راية أية دولة لم تكن لتثير في مواطنيها كل هذه المشاعر لو لم تكن تبدو لهم تلخيصًا لتراث أمتهم ومثلها العليا. وقد رأينا من قبل أن «الترابط المندمج» يمكن أن يزيد من قوة الإدراك الجمالي.

ولكن الرباط قد لا يكفي لتفسير كل تعبير، بل إنه حتى في الحالات التي يكون فيها الترابط واحدًا من العوامل التي تسهم في التعبير، فقد لا يكون في ذاته كافيًا لإحداث التعبير.

إن التعبير — تبعًا لنظرية سانتيانا — لا ينشأ إلا من التجربة الماضية. ومع ذلك، ألا يوجد في الموضوع المدرك ذاته شيء يعد مسئولًا عن دلالته التعبيرية؟ أليست فيه سمات كامنة تجعله معبرًا، في مقابل تلك الواقعة التاريخية الخاصة بقيام المشاهد بالربط بينه وبين شيء آخر في تجربته الماضية؟ إن سانتيانا يقول إن «الأشياء التي هي في ذاتها محايدة»١١ قد تصبح معبرة، ولكن عالم النفس رودلف آرنهيم يقدم مثلًا حيًّا ذا دلالة بالغة، يُلقي ظلًّا من الشك على رأي سانتيانا؛ فهو يشير إلى الصور الفوتوغرافية للرياضيين أثناء ممارستهم للألعاب الرياضية، كلاعب الكرة وهو يقفز ليضرب الكرة برأسه، والعدَّاء وهو يتخطى الحاجز الأخير قبل وصوله إلى نهاية السباق … إلخ. هذه الصور، كما يقول آرنهيم، كثيرًا ما «تعرض الهيئة البشرية محلقة في الهواء وكأن شللًا مفاجئًا قد أصابها». على أن هذه الصور، وكذلك تلك التي تعبر، في مقابل ذلك، عن «الحركة الحية»، «لديها فرص متساوية في أن ترتبط في ذهن الملاحظ بالتجارب الماضية». ومع ذلك فعندما تبدو الصورة وكأنها «تجمد» الرياضي وهو معلق في الهواء، «نفهم أنها تمثل حركة، ولكنا لا نقتصر على عدم رؤيتها، بل نجدها غائبة بكل وضوح».١٢

أتدرك ما يرمي إليه أرنهيم؟ إن الصورة التي تؤخذ في جزء من الثانية تمثل الرياضي في لحظة واحدة، ومع ذلك فنحن نقول أحيانًا إنها «تعبر عن الحركة». ويفسر سانتيانا ذلك على أساس تجربتنا الماضية؛ فنحن نعلم أن اللاعب معلق في الهواء وأنه سيهبط إلى الأرض، ومن هنا نتخيل الحركة، ولكن لو كان هذا التفسير كافيًا، لكانت جميع هذه الصور معبرة عن الحركة، على حين أنها في الواقع لا تعبر عنها في كثير من الأحيان، كما يقول آرنهيم؛ فكثيرًا ما تبدو الكرة أو اللاعب معلقَين في الهواء وكأنهما من العرائس المشدودة بخيوط؛ فالصورة بأكملها تبدو ساكنة غير معبرة.

وعلى ذلك فلا بد أن يكون هناك شيء يميز تلك الصور التي تتميز بالحيوية والحركة. وفي رأي آرنهيم أن في استطاعتنا أن نفترض أن «القدرة على» الحركة كامنة في النمط البصري ذاته؛ فقوة الخطوط واتجاهها، والوضع الجسمي للاعب، وموضعه من اللاعبين الآخرين ومن الأرض — هذه العناصر وغيرها تثير في داخل الصورة توترًا واندفاعًا، ومن هنا كان من الممكن أن «تعبر عن الحركة». وعندئذٍ نستطيع أن نقول إما (أ) أن الصورة في ذاتها معبرة، وإما (ب) أن التداعي لازم لإعطائنا الإحساس بالحركة، غير أن التداعي لا يكون ممكنًا إلا بسبب النمط الكامن للصورة ذاتها. وسواء اخترنا (أ) أم (ب)، فلا بد لنا من رفض النظرية الترابطية الخالصة.

ويميل آرنهيم إلى الرأي (أ)؛ فهو يقول «إن الخشونة الجامدة للخط الدائري، والمرونة الرقيقة للقطع الناقص، يمكن أن تُستمَد من التركيب الكامن للقوسين.»١٣ وهكذا يمكن القول بأن الترابطيِّين قد وضعوا العربة قبل الحصان؛ فالخطوط والأصوات والألوان معبرة نظرًا إلى سماتها البصرية والسمعية الكامنة. ومن ثَم أصبحت ترتبط بأفكار وانفعالات معينة، ولكنها لم تصبح معبِّرة نتيجةً لهذه الارتباطات. وعلى سبيل المثال، فإن للون الأحمر اللامع البرَّاق طابعًا تعبيريًّا يصبح بفضله مرتبطًا بالانطلاق وانعدام القيود. وليست قدرته التعبيرية شيئًا نضيفه نحن إليه بعد أن نكون قد رأينا سيدات شريرات أو «قرمزيات»، كما يقول التعبير الشائع. فليس المضمون التعبيري شيئًا نتعلمه من التجربة الماضية، وإنما هو شيء نجده في التجربة الحاضرة.
ومن جهة أخرى فإن كثيرًا من الفلاسفة يجدون أن من الصعب القول إن شيئًا معينًا له قدرة تعبيرية «كامنة»؛ ففي استطاعتنا أن نحكم على النغمة بأنها «دوديير» أو على اللون بأنه أزرق؛ لأن هذه صفات «كامنة»، ما دامت طبيعة الأنغام ذاتها تحتم أن تكون لها درجة معينة من الارتفاع، والألوان ينبغي أن تكون متدرجة على نحو ما، ولكن الخط لا يمكن أن يكون «مضطربًا» (وإن كان من الممكن أن يكون متقطعًا)، والقوس لا يمكن أن يكون «هادئًا»، (وإن كان من الممكن أن يكون طويلًا)، فأمثال هذه الصفات التعبيرية تبدو للمشاهد وكأنها «كامنة»، ولكن هذه ليست إلا طريقة مجازية في الكلام؛ فنحن نعزو إلى الشيء «هدوءًا»، لأنه يشبه أشياء مماثلة رأيناها في الماضي، وهذه الارتباطات أصبحت داخلة في لاشعورنا؛١٤ فالصفات التعبيرية «أصداء تتردد لكثرة من التجارب».١٥ وهذه، بطبيعة الحال، نظرية ترابطية، وهي إلى هذا الحد مضادة لنظرية آرنهيم. ومع ذلك فهي لا ترى أن القدرة التعبيرية تنضاف إلى «أشياء هي في ذاتها محايدة» كما يقول سانتيانا؛ فالأشياء لا تكون معبرة إلا عندما تكون لها سمات معينة. والخط يبدو «مضطربًا» لأنه متقطع.
إن الاعتراض الذي عرضناه الآن على رأي آرنهيم ليس إلا اعتراضًا لفظيًّا؛ فهو يرتكز على تحليل للمعاني الصحيحة لألفاظ مثل «هادئ». كذلك فإن رأيه يمكن أن يوجه إليه اعتراض تجريبي، وهو اعتراض من الجائز جدًّا أن يكون قد خطر بذهن القارئ بالفعل؛ فلو كان ما يعبر عنه «كامنًا» حقيقة فيما هو معبِّر، فلا بد أن يدرك الثاني كل من يشاهدون الأول. فكل من أتيح له سماع العمود التوافقي chord أو الخط، لا بد أن يشعر أيضًا بطابعه الانفعالي والتخيلي. وعندئذٍ يمكننا أن نتوقع اتفاقًا عامًّا على السمات التعبيرية للموضوعات، ولكن الواقع أن مثل هذا الاتفاق لا وجود له؛ فالناس يختلفون أشد الاختلاف حول «المعنى» التعبيري لإحدى المسرحيات، أو في وصف ما يسمعونه «في» الموسيقى. ويقدم إلينا الروائي أ. م. فورستر E. M. Forster مثلًا طريفًا، يقول فيه:
«من المعترَف به عامة أن سيمفونية بيتهوفن الخامسة هي أسمى ضجيج تغلغل في أذن الإنسان؛ فهي ترضي كل الأمزجة وتفي بكل الشروط. فسواء أكنت مثل المسر «مونت»، وكنت تدق برجليك خفية عندما يعلو صوت الأنغام … أو كنت مثل هيلين، التي تستطيع أن ترى أبطالًا وسفنًا تتحطم على أمواج الموسيقى، أو مثل مارجريت، التي لا تستطيع أن ترى إلا الموسيقى، أو مثل تيبي، الذي يهتم «بالكنثرابنط» اهتمامًا عميقًا، ويحمل المدوَّنة الكاملة على ركبتيه، أو مثل ابنة عمه الألمانية، الآنسة موزيباخ، التي تتذكر على الدوام أن بيتهوفن «ألماني قح»، أو مثل صديق الآنسة موزيباخ الشاب، الذي لا يستطيع أن يتذكر إلا الآنسة موزيباخ؛ في كل حالة من هذه الحالات، يصبح انفعال حياتك أكثر حيوية، ولا بد لك أن تعترف بأن مثل هذا الضجيج رخيص حقًّا إذ يباع بشلنين.»١٦

هذه الفقرة مأخوذة من رواية، ومقصود منها التسلية بطبيعة الحال، ولكن هل هي تبالغ في تنوع الاستجابة الجمالية؟ أغلب الظن أنها لا تنطوي على أية مبالغة. ألم يحدث لك أحيانًا أن ناقشت عملًا فنيًّا مع أصدقائك، فيتضح لك أنهم «يجدون فيه انفعالات وأفكارًا مختلفة تمامًا عن تلك التي وجدتها»، بل مضادة لها؟ إن تاريخ التفسير والنقد الفني حافل بالأمثلة المماثلة.

هذه الحقائق يبدو أنها تحملنا على العودة إلى نوع من النظرية الترابطية؛ فالسمات التعبيرية للعمل تختلف لأن كل مدرك يقبل عليه، ويدركه، بطريقة مختلفة. ولكل مدرك تاريخ سابق مختلف، واهتمامات مختلفة، ودرجات متفاوتة من الإلف بالعمل، وما إلى ذلك. صحيح أن الفرقة الموسيقية تعزف نفس القطعة سيمفونية بيتهوفن الخامسة، وأن الجمهور يستمع إلى هذه القطعة الموسيقية بعينها ومع ذلك فإن كلًّا منهم «يقرأ» في الموسيقى دلالته التعبيرية الخاصة، تبعًا لذكرياته وخياله. وإذن، فعلى حين أن «الحد الأول» — أي ما يسمع — واحد بالنسبة إلى الجميع فإن «الحد الثاني» — أي ما يُحس به — ليس واحدًا.

ولكن لا بد لنا من أن نثيرها هنا سؤالًا غاية في الصعوبة، وإن يكن سؤالًا لم يجد إجابة مرضية عنه بعد، فهل يسمع المستمعون «نفس» الموسيقى، أعني هل «الحد الأول» واحد بحق بالنسبة إليهم جميعًا؟ هذا سؤال لا يمكننا أن نحصل على إجابة عنه إلا لو كان في استطاعة المستمعين أن يميزوا بين مضمون السماع وبين ما يعبِّر عنه، ثم يقارنوا بعد ذلك بين ما سمعوه فيما بينهم. وكل هذه شروط لا يمكن تلبيتها بسهولة.

ومع ذلك فليس لنا أن نسلم بأن «الحد الأول» واحد دائمًا؛ «فالافتراض القائل إن الأشخاص الذين يختلف إحساسهم بمعنى قطعة موسيقية، يمكن مع ذلك أن يكون لهم نفس الإدراك الحسي بالأصوات، هو، بقدر ما أعلم، افتراض لا يقوم عليه أي دليل».١٧ ونظرًا إلى انعدام المعطيات التجريبية، فليس في استطاعة المرء إلا أن يخمن بإجابة سؤالنا هذا. ولو نظرنا إلى الموضوع على هذا النحو، لبدا من المرجح أن «الحد الأول» لا يكون متمثلًا عندما يكون «الحد الثاني» مختلفًا. ويشير لفظ «متماثل» و«مختلف» في هذه الحالة إلى التجربة التي يشعر بها المدرك بالفعل؛ فالمادة، والشكل، والموضوع، والتعبير، تكون متفاعلة في تجربته الخاصة بالموضوع. والتعبير لا يأتي فقط نتيجة الأبعاد الثلاثة الأخرى للعمل، بل إنه يعمل من جانبه على «تلوينها»؛ فالجو التعبيري السائد في عمل زوراخ النحتي المشار إليه في الفصل السابق يتحكم جزئيًّا في الطريقة التي يبدو بها الرخام لنا. وعندما يكون للعمل الفني دلالة تعبيرية مختلفة بالنسبة إلى «أ» وإلى «ب» فعندئذٍ تكون التجربة الكاملة مختلفة عند كل منهما عنها في الآخر.

وهناك بعض القرائن التي تؤيد هذا الرأي، ومع ذلك فهي لا تعدو أن تكون قرائن، بحيث إن الرأي ذاته تخميني فحسب. فلم يتأكد أحد بعد، على نحو قاطع، إن كان التعبير يمكن أو لا يمكن أن يتفاوت على نحو مستقل عن «الحد الأول»، ولكن هذا يؤدي إلى إثارة مشكلات أهم من هذه.

•••

فكما أن أساليب الشكل لا يمكن أن تُفهم إلا من خلال التجربة الجمالية، فكذلك ينبغي أن يشير التعبير إلى أفكار المدرك ومشاعره؛ فالعمل الفني لا يكون معبرًا إلا عندما يتضح لشخص يتخذ الموقف الجمالي أن هناك صورًا وانفعالات وأفكارًا متضمنة فيه. وهذه نظرة نسبية — إذ تعني أن التعبير إنما يكون بالنسبة إلى مشاهد — ولا بد لها من أن تدفع ثمن النسبية، إذ لا بد لها أن تواجه النتائج الخطيرة التي يبدو أنها تترتب على هذا الرأي المتعلق «بالتعبير».

فلنتأمل ما يستتبعه الفرض القائل إنه كلما اختلفت الصفات التعبيرية في التجربة الجمالية، اختلف «الحد الأول» بدوره. إن «أ» يقول «هذا العمل مرح.» و«ب» يقول «لست أجده كذلك، بل هو يبدو لي حزينًا.» فإن كان الفرض صحيحًا، فإنهما لا يتحدثان عن الشيء «نفسه» على الإطلاق، بل إنهما يكتفيان بسرد مشاعرهما الخاصة. فعندها يقول كل منهما «العمل كذا …» يكون معنى «العمل» مختلفًا؛ فهو يدل على ألوان تُرى بطريقة مختلفة، وعلى أصوات تُسمع بطريقة مختلفة … إلخ.

ولكن لنفرض أن الحد الأول ظل على ما هو عليه بالنسبة إلى «أ» و«ب»، عندما تكون الخصائص التعبيرية مختلفة بالنسبة إلى كل منهما. فإذا كان ما يعبر عنه عمل معين جزءًا من تركيب كلي، فسيظل العمل الكلي مختلفًا في كل حالة.

ولهذا الرأي نتائج منطقية مؤسفة؛ فما نسميه عادةً «العمل الفني» يصبح مفككًا إلى عديد من الموضوعات الإدراكية المختلفة. ولا يمكن أن يتفاهم «أ» و«ب»، ما دامَا لا يتحدثان عن شيء واحد؛ فحديثهما عن الفن أشبه بتلك المحادثات التي يصف فيها شخص مرضه الخاص، ويتحدث فيها الآخر عن دائه هو، ولا يمكن أن يدور أي خلاف حول العمل الفني. فحكم القيمة الجمالي «هذا العمل جميل» ليست له صحة موضوعية؛ إذ إنه لا يشير إلا إلى العمل كما يبدو للمتحدث، ولكنا عندما نقدر الأعمال الفنية ونقدها، نريد أن نتحدث عن شيء «عام»، شيء يشارك فيه الكثيرون.١٨
ذلك إذن هو المأزق الكبير الذي يوقعنا فيه «التعبير»؛ فالصور، والحالات النفسية. والأفكار التي يعبر عنها عمل ما، تشيع فيه الحياة وتضفي عليه «معنًى» كما نقول عادة. ويبدو في نظر المدرك الجمالي أن الدلالة التعبيرية «موجودة» في العمل مثلما يوجد فيه أي شيء آخر. ومع ذلك فإن تحليل معنى «التعبير» يبين أنه ليس «موجودًا» بالمعنى الصحيح في العمل، مثلما يوجد الارتفاع الصوتي في فقرة موسيقية من النوع «الشديد القوة fortissimo» أو تصوير صَلْب المسيح في لوحة. ومما يؤيد ذلك، في الميدان التجريبي، التباين الهائل بين الناس حين يحكي كل منهم ما «يعبر عنه العمل بالنسبة إليَّ». فيبدو أن القدرة التعبيرية شيء يضيفه كل شخص من عنده. وعلى ذلك فلو عُدَّت جزءًا من العمل، لما أصبح في استطاعتنا الكلام عن «العمل»، وإنما عن كثرة لا متناهية من الأعمال فحسب. ومن المؤكد أننا نستطيع أن نواصل ممارسة التعبير في تجربتنا كما كنا نمارسه من قبل. فهذا أمر لن يوقفه التحليل، ولن يستطيع أن يوقفه، ولكن يبدو عندئذٍ أن تقدير «العمل ذاته» ونقده لا يعودان ممكنين.

فلا بد إذن أن تكون لدينا الآن تحفُّظات جادة حول مفهوم «التعبير»، بل ينبغي أن نتساءل: هل يحق لنا أن نستمر في استخدام هذا المفهوم أصلًا، إن كان هذا هو ما يؤدي إليه؟

•••

ولكن من الجائز ألا تكون النتائج المترتبة على «التعبير» هدامة إلى هذا الحد. فمن الصحيح أن الناس «يرون» و«يشعرون» بأشياء مختلفة إلى حد لا نهائي في العمل الفني الواحد، وبالفعل نجد أن سيمفونية بيتهوفن الخامسة «ترضي كل الأمزجة وتفي بكل الشروط». وما هذا إلا مثل للحقيقة المألوفة، القائلة إن الناس ليسوا سواء. وميزة الأعمال الفنية هي أنها تتيح للناس مجالًا فسيحًا يمارسون فيه خيالهم وينطلقون بمشاعرهم.

ومع ذلك فليس من الضروري أن نسلم بأن أية تجربة، وكل تجربة، تكشف بنفس المقدار عن المضمون التعبيري للعمل. فما يعبر عنه العمل للمشاهد يبدو له متضمنًا في العمل. وهذا هو بعينه معنى «التعبير». غير أن تجربته ليست إلا نقطة البداية في الاهتداء إلى ما يعبر عنه العمل. فلا بد من التفكير في التجربة واختبارها. وقد رأينا أن بعض الارتباطات «خارجة عن الموضوع» بالنسبة إلى العمل. ولو استمع صديق الآنسة موزيباخ الشاب، إلى السيمفونية بأكملها بوصفها أنشودة حب واحدة طويلة إلى الآنسة موزيباخ، لما كان علينا أن ننظر إلى طريقته هذه على أنها هي الحقيقة فيما يتعلق بسيمفونية بيتهوفن الخامسة. وإذن، فلنميز بين القدرة التعبيرية للموضوع الجمالي وبين المضمون التعبيري للعمل الفني.

إن هناك بالفعل، على أية حال، عملًا فنيًّا يمكن دراسته ومعرفته وعلى نحو مشترك. ولا بد أن يطبق الادِّعاء القائل إن «العمل يعبر لي عن كذا» على هذا العمل. فهل توصل المدرك حقًّا إلى المضمون التعبيري للعمل؟ إن المضمون التعبيري يرتبط بالمادة الحسية للعمل، وبتنظيمه، وبما يمثله العمل، ويتوقف على ذلك كله. فإذا أردنا أن تكون العبارة المتعلقة بما يعبر عنه العمل صحيحة، فلا بد أن نثبت أن لها أساسًا في العمل. وقد يبين التحليل أن زعم المدرك ليس صحيحًا بهذا المعنى؛ فمن الجائز أن البناء الشكلي لم يُفهم فهمًا كاملًا، ولعلنا نذكر من الفصل السابق مدى التعقد الذي يمكن أن يتصف به العمل الفني؛ كما أن أذن المستمع قد لا تكون حساسة، وقد لا تكون عينه حادة، بحيث تفوته سمة معينة من سمات السطح الحسي، وربما كان قد أساء فهم الموضوع الذي يمثله العمل، نظرًا إلى نقص في معرفته. وكثيرًا ما يكون في إمكاننا أن نبين للشخص أن «قراءته» للعمل مشوهة في جانب معين، أو أن شيئًا معينًا قد «فاته». ونحن نفعل ذلك بأن نشير إلى السمات الموضوعية للعمل. ولو كان قد شعر في تجربته بصور وانفعالات وأفكار معينة أثناء إدراكه للعمل، لكان قد شعر بها في تجربته، ولانتهى الأمر عند هذا الحد، ولكن هذه الصور والانفعالات والأفكار لا يمكن أن تُنسَب إلى العمل بطريقة مشروعة، بوصفها مضمونه التعبيري، إذا أمكن إثبات أنه «أساء قراءتها».

لقد رأينا منذ قليل أن التعبير عن الحركة في صورة فوتوغرافية يتوقف على «القوى» التي يطلقها الأنموذج البصري. وتحليل مثل هذا الأنموذج إنما هو تحليل الصفات في العمل تتميز بأنها «عامة أو مشتركة». وعلى هذا النحو يمضي النقد الفني. فها هو ذا تحليل للوحة بيكاسو «كوب البيرة» (انظر اللوحة رقم ٢٩)، وهي عمل مبكر من أعمال «الفترة الزرقاء» التي تصور شخصية واحدة في «طيف وحدتها»: «إن التأثير المكاني خاضع لنظام ثنائي الأبعاد تمامًا؛ فالافتقار الزاهد إلى كل عوامل الجاذبية التصويرية، والاقتصاد في الوسائل، يؤدي إلى تأكيد التعبير عن الحالة الداخلية. أما عن التكوين نفسه، فإن من السمات المميزة بوجه خاص … تلك التشويهات التي يعد من أسبابها الافتقار إلى المنظور المكاني، ولكن هذه التشويهات تخدم الأغراض التعبيرية، كما هي الحال في تلك اليد المرنة، التي لا رسغ لها، والتي تمسك بكوب البيرة. والألوان الوقور، كالسترة الزرقاء الداكنة على خلفية زرقاء، والشعر البني الباهت، والكوب الرمادي، تتمشى تمامًا مع الأشكال المتقشفة، وتؤكد التعبير عن النقاء الأصيل.»١٩ هذا التحليل للمضمون التعبيري يلجأ إلى إظهار العناصر التي يمكن ملاحظتها على نحو مشترك في العمل، وهي التكوين، واللون … إلخ.

ولما كان المضمون التعبيري مبنيًّا على العناصر الأخرى للعمل، فإنه لا بد أن يكون فريدًا مثلما يكون العمل ذاته. ومع ذلك فالأرجح أن يجد «صديق الآنسة موزيباخ الشاب» أن أية قطعة موسيقية تعبر عن جمال الآنسة موزيباخ؛ فالحب له قدرة على الانتشار فوق كل الموضوعات المحيطة ببيئة المرء، وإضفاء زخرف زاهٍ عليها. وعلى ذلك فالأرجح أن تكون سيمفونية تشايكوفسكي الخامسة، لو أنه استمع إليها، «معبرة» في نظر هذا الشاب، عن نفس ما تعبر عنه سيمفونية بيتهوفن الخامسة تقريبًا. ولسنا نود أن نقلل من قدر الحب، ولكن هذا يدل على أن تجربة هذا الشاب ليست مرشدًا يعول عليه في الوصول إلى المضمون التعبيري. وفضلًا عن ذلك فليس من المستبعد أن يجد أن سيمفونية بيتهوفن الخامسة كلها — سواءٌ منها الحركة البطيئة الشاعرية والحركة الأخيرة المتوثبة — تعبر على نفس النحو عن جمال الآنسة موزيباخ، وفي هذه الحالة بدورها تكون تجربته مشكوكًا فيها.

وإذن فالارتباطات الشخصية والخاصة تمامًا لها خطورتها. فمن الممكن أن تصبح «مندمجة» في العمل الفني. وكما رأينا من قبل، فهذه الظاهرة ليست وقفًا على التجربة الجمالية، ولكنها تؤدي في أغلب الأحيان إلى تشويه إدراكنا للعمل. ولو شئنا أن نظل على إخلاصنا للعمل، لكان الأفضل أن نقتصر على تلك الارتباطات الموضوعية التي يشار إليها في داخل العمل نفسه. وهذه الأخيرة تشمل رموزًا حضارية مثل المسيح على الصليب، وارتباطات طبيعية كالربيع والميلاد الجديد، ومواضعات أسلوبية كالمقام الصغير أو «القفلة» الهابطة. وكثيرًا ما يقدم الفنان ذاته معنًى مميزًا معينًا للرمز، يعمل على توسيعه في داخل العمل، كالحوت الأبيض في «موبي ديك»، والمفاتيح في رواية «يوليسيز» لجويس.

وعلى ذلك فليس من الضروري أن يكون التعبير «إسقاطًا» على العمل لأية ارتباطات قد يتصادف أن أجلبها معي. فمن الممكن إثبات أن له أساسًا في المادة المشكلة. ولنقل مرة أخرى إن «الحد الأول» ليس، كما يقول سانتيانا، «شيئًا محايدًا في ذاته»، بل إن فيه شيئًا يمكن الإشارة إليه والاشتراك في إدراكه، يملك بفضله مضمونًا تعبيريًّا. ولهذا السبب كان في استطاعتنا أن نتحدث، بطريقة مفهومة، عن المضمون التعبيري للعمل، لا عن الحالات والأفكار التي مررنا بها في تجربتنا فحسب، وكان في استطاعة التقدير والنقد أن يرتكزَا على شيء ليس «شخصيًّا» خالصًا. وعلى ذلك فإن ما يهمنا إدراكه هو أن عبارة «هذا هو ما يعبر عنه العمل لي» (وهي عبارة تقال في كثير من الأحيان بلهجة فخور وبطريقة قطعية، وكأن المرء يقول لمن يحادثه: أتحداك أن تخالفني!) ليست حاسمة، ولا تبرر نفسها بنفسها، من حيث هي عبارة متعلقة بالموضوع الفني.

وليس معنى كلامي هذا على الإطلاق أن من السهل القيام بتحليل المضمون التعبيري، بل إن العكس هو الصحيح. كما لا أود أن يُفهم من كلامي أن هناك مضمونًا تعبيريًّا واحدًا، لا ثاني له، هو الذي يمكن الاهتداء إليه في أي عمل بعينه؛ فالأعمال الفنية أغنى، ودلالتها أكثر تعددًا، من أن تسمح بذلك. وما زال أمامنا أن نقول الكثير في هذه الأمور حين نصل فيما بعد إلى مشكلات التقدير والنقد.٢٠

وها هو ذا ما حاولت القيام به: فقد بدا لنا، قبل صفحات قلائل، أن مفهوم «التعبير» قد أدى بنا إلى طريق مسدود. وكان هذا الطريق هو النتيجة التي أسفرت عنها الحجة اللغوية القائلة إن العمل الفني لا يصح أن يقال عنه، بالمعنى الصحيح، إنه «يتضمن» سمات تعبيرية — وكذلك الحجة التجريبية — القائلة إن العمل الفني يعبر عن أشياء مختلفة للناس المختلفين. وقد بدا أن هاتين الحجتَين الوثيقتَي الارتباط تؤديان إلى النتيجة القائلة إن المرء يكاد يستطيع أن يقول أي شيء عن «التعبير» ويظل بمنأًى عن النقد، ولكني حاولت أن أبين أننا نستطيع تجنب هذا الطريق المسدود إذا التجأنا إلى العمل الفني الذي يتصف بأن له وجودًا «مشتركًا بين الأشخاص» أو «موضوعيًّا»؛ فالسمات التعبيرية ليست «محلقة في الهواء»، بل إن لها جذورًا متأصلة في الأوجه المادية والشكلية والتصويرية للعمل؛ فهذه العوامل الأخيرة، عندما تحلل، تقدم شواهد تساعد على نسبة المضمون التعبيري إلى العمل. وكثيرًا ما تتيح لنا هذه الشواهد أن نقول إن العبارات البادئة بالقول: «العمل يعبر عن …» لا تقوم على أساس متين؛ فقد كانت للناس إزاء الموضوعات الفنية، وستظل لهم دون شك، تجارب انفعالية وتخيلية لا حدود لتباينها. وتلك حقيقة لا يستطيع أحد إنكارها، ولكن نتائج هذه الحقيقة ليست شاملة إلى الحد الذي قد يُظن لأول وهلة، فلن تكون هذه النتائج شاملة إذا أمكن القيام بتمييز بين القدرة التعبيرية للموضوع الجمالي وبين المضمون التعبيري للعمل الفني.

على أن من الجائز ألا أكون قد نجحت في إظهار هذا التمييز، بل من الجائز أنه ليس ثمة مخرج من المشكلات التي يثيرها الكلام عن «التعبير». وعلى أية حال فإن هذه المشكلات موضوعات ينصب عليها اهتمام علم الجمال في وقتنا الراهن. والواقع أن الباحثين في علم الجمال لم يبدوا في أي وقت من الاهتمام بلفظ ظل يستخدم على نطاق واسع، وبطريقة غير نقدية، طوال كل هذا الوقت قدر ما يبدونه الآن بلفظ التعبير. ولن يزعم أحد أنه قد تم الوصول إلى إجابة يقبلها الجميع، ولكن مناقشتنا ستكون قد أدت الغرض المقصود منها إذا جعلت القارئ واعيًا بالمشكلات الأساسية في هذا المجال، وإذا جعلته أكثر حرصًا في استخدامه لهذا اللفظ الذي ليس في حقيقته بريئًا كما يبدو؛ لفظَ «التعبير».

•••

وهناك مسألة أخيرة عن «التعبير» يمكن عرضها بمزيد من الإيجاز.

فكثيرًا ما يستخدم الناس عبارة «العمل يعبر عن …» وكأنها حكم قيمة. فإذا كان العمل «معبِّرًا بوضوح» كان جيدًا من الوجهة الجمالية. وفي هذا الصدد نجد تشابهًا بين «التعبير» وبين «الشكل»، الذي يستخدم بدوره لفظًا معبرًا عن القيمة، ولكن يبدو في هذه الحالة أيضًا أن الأفضل هو استخدام اللفظ بطريقة وصفية، وبعد ذلك نميز بين «الجيد» و«الرديء».

ألسنا نجد أن الأعمال الفنية الجيدة والرديئة معًا معبرة من الوجهة الجمالية؟ أليست لها كلها قيمة بسبب قدرتها التعبيرية هذه؟ ولم تكون القطعة الموسيقية جيدة لأنها تعبر عن الحزن مثلًا؟ ألا يمكن أن تكون رديئة من الوجهة الجمالية؟

إن من واجب أولئك الذين يستخدمون لفظ «التعبير» استخدامًا تقويميًّا — وهذا ما يفعله معظمنا في هذه الأيام — أن يتدبروا في هذه الأسئلة إذا شاءوا أن يكون كلامهم وتفكيرهم عن الفن واضحًا. وأغلب الظن أن هناك سببًا معقولًا معينًا لاستخدام لفظ «التعبير» على هذا النحو، حتى لو لم نكن شاعرين بهذا السبب بوضوح تام. فحين يكون العمل معبرًا، تكون له — حسب تعريفه ذاته — دلالة أعظم مما يوحى به «منظره» الحسي وشكله. وبذلك يستحوذ العمل على اهتمامنا. وتكون الصور التي يوحي بها العمل، وكذلك الحالة النفسية والأفكار التي يثيرها، أشد استحواذًا لأنها لا تعرض بطريقة مباشرة؛ فنحن نحس «بالمزيد» فيما ندركه، وهذا يؤدي إلى إثارة الخيال والانفعال والفكر، ونشعر بأنفسنا أكثر انشغالًا بما يمر في تجربتنا، وأقوى تنبهًا إليه، مما يحدث عادة في حالة التجربة غير الجمالية؛ فحين يكون «الحد الأول» متشبعًا «بالثاني»، يكتسب الموضوع ثراءً زاخرًا لا يمكن أن يتوافر له لو كان الموضوع مجرد علامة على شيء متميز عنه.

ولا بد أن هناك شيئًا من هذا القبيل في أذهان مَن يستخدمون لفظ «التعبيري» بوصفه لفظًا معبرًا عن القيمة، ولكن لو كان الأمر كذلك، لما كان التعبير ذاته هو معيار القيمة الجمالية. فالتعبير تكون له عندئذٍ قيمة لأنه يعمل على استبقاء اهتمامنا بالعمل مثلًا. وفي هذه الحالة يكون الاهتمام بالعمل أو الاستغراق فيه هو معيار القيمة، أو قد يكون التعبير ذا قيمة لأنه يسهم فيما يسميه برنسون Berenson «تأكيد الحياة»، عن طريق إثارة ملكات الخيال والانفعال فينا. وبذلك «يشيع الأمل والحماس في إحساسنا بالحياة، ونعيش حياة أعمق وأعظم نضارة، لا من الوجهة المادية فحسب، بل من الوجهة المعنوية والروحية أيضًا، ونحاول بلوغ أعلى قمم قدراتنا».٢١

والواقع أن من المحال أن نفسر كيف يمكن أن يكون العمل الواحد «معبرًا» و«رديئًا» في آنٍ واحد ما لم يكن التعبير مختلفًا هو ذاته عن معيار القيمة، فلو كان الأمر على خلاف ذلك، لكان هذا القول متناقضًا. وهكذا يبين التفسير مثلًا أن العمل، وإن كان معبرًا، فإن ما يعبر عنه لا يستطيع استبقاء اهتمام المشاهد. وبعبارة أخرى فإن أولئك الذين يتحدثون عن «التعبير» يفترضون مقدمًا معيارًا للقيمة ينبغي عليهم أن يتبينوه لأنفسهم ويصوغوه بوضوح.

هذه النتيجة ترتكز على حقيقة أخرى. فعلينا ألا ننسى أن المضمون التعبيري ليس إلا بُعدًا واحدًا للعمل الفني. والعمل الفني الكامل هو الذي يكون جيدًا أو رديئًا من الوجهة الجمالية. فعندما نعزو إليه قيمة (بمعنًى ما)، فلا بد لنا من أن نتحدث عن المادة والشكل، بالإضافة إلى التعبير؛ ذلك لأن المضمون التعبيري لا يكون ذا قيمة إلا لأن الشكل ينظمه ويهذبه. ولو كان الشكل مضطربًا، لما كان مجرد التعبير عن صور وانفعالات وأفكار أمرًا يثير اهتمامنا، بل لكان العكس هو الصحيح؛ ذلك لأن للمادة الحسية والموضوع الذي يعالجه العمل الفني أهميتهما بدورهما. وعلى ذلك فإن التعبير ليس كل شيء، فلا يمكن إذن أن يكون هو مبدأ القيمة في الفن، ولو ظننا أنه كذلك لكان في هذا تشويه شديد لطبيعة الموضوع الفني؛ ذلك لأنه إذا كانت دراستنا لتركيب الفن قد علمتنا شيئًا، فهو أن المادة، والشكل، والتعبير، متساوية في الأهمية، ويعتمد كلٌّ منهم على الآخر، وأن من المحال فهم أي من هذه العناصر أو تقديره إلا في داخل الكيان الكلي الموحد الذي هو العمل الفني.

المراجع

() ريدر: مرجع حديث في علم الجمال، ص٢٥٨–٢٨٢.
() فيفاس وكريجر: مشكلات علم الجمال، ص٢٣٤–٢٣٩، ٣٦٨–٣٨٦.
() فيتس: مشكلات في علم الجمال، ص١٨٦–٢١٧، ٤١٠–٤١٧، ٤١٩–٤٥٤.

آرنهيم، رودلف: الفن والإدراك البصري. الفصل العاشر.

Arnheim, Rudolf, Art and Visual Perception (Univ. of California Press, 1954).

بوسما: «نظرية الفن بوصفه تعبيرًا» (مقال).

Bouwsma, O. K., “The Expression Theory of Art,” in: Philosophical Analysis,” ed. Black (Cornell U.P., 1950) pp. 75–101

ديوي: الفن بوصفه تجربة. الفصل الخامس.

جوتشوك: الفن والنظام الاجتماعي. الفصل السادس.

هوسبرز: المعنى والحقيقة في الفنون. الفصل الثالث.

ريد، ل. أ.: دراسة في علم الجمال. الفصول ٢–٤.

Reid, L. A., A Study in Aesthetics (N. Y., Macmillan, 1954).

سانتيانا: الإحساس بالجمال. الباب الرابع.

توماس، فنسنت، ومورجان، دوجلاس: «مفهوم التعبير في الفن» (مقال).

Tomas, Vincent and Morgan, Douglas, “The Concept of Expression in Art,” in “Science, Language and Human Rights” (Univ. of Pennsylvania Press, 1952) pp. 127–165.

أسئلة

  • (١)

    هل تعتقد أن العمل الفني يمكن أن يكون ذا قيمة جمالية دون أن يكون معبرًا؟ اشرح إجابتك.

  • (٢)

    قيل في هذا الفصل إن الحديث عن «التعبير» قد يجعل من المستحيل على الناس المختلفين أن يتحدثوا عن «نفس العمل الفني». هل يتحتم أن تكون هذه النتيجة بالغة الضرر؟ وهل تقبل أن يتحدث النقاد جميع عما يعبر عنه العمل «لي»؟ ناقش.

    هذه المشكلة تثير المشكلة الأخرى المتعلقة «بموقع العمل الفني»، أي ما إذا كان العمل يُعرَّف على أساس الموضوع الفيزيائي، أو استجابة مدرك واحد، أو فئة من الاستجابات المتماثلة … إلخ … اقرأ بحث مانويل بيلسكي Manuel Bilsky بعنوان «أهمية تحديد موقع الموضوع الفني».
    “The Importance of Locating the Art Object,” Phil. and Phen. Research, XIII (1953) pp. 531–536.
  • (٣)

    كيف ترتبط مشكلات «التعبير» بمشكلة «الارتباط بالموضوع من الوجهة الجمالية» (القسم الخامس من الفصل الثاني)؟ هل هذه المشكلات واحدة بالضرورة؟ ناقش.

  • (٤)

    ادرس لوحة بيكاسو (اللوحة رقم ٢٦) المشار إليها في ص٣٩٢. هل توافق على التحليل النقدي الذي اقتبس في تلك الصفحة؟ وإن لم تكن، فعلى أي نحو تريد تغييره؟

  • (٥)

    اقرأ مقال «بوسما» المذكور في قائمة المراجع. أي الجوانب في معنى «التعبير» يوضحه هذا المقال؟ وهل توجد أية مشكلات متعلقة بهذا المفهوم، نوقشت في الفصل ولكن لم يتناولها «بوسما» بالبحث؟

١  انظر: [الفصل التاسع: المادة والشكل].
٢  لست أعني بالطبع أن هذا هو التفسير الوحيد لهذه الرواية، أو هو أقرب تفسيراتها إلى ما هو مشروع.
٣  «الإحساس بالجمال»، ص١٤٧.
٤  الموضع نفسه.
٥  انظر: فنسنت أ. توماس: «مفهوم التعبير في الفن» (مقال).
Vincent A. Tomas, “The Concept of Expression in Art,” in “Science, Language, and Human Rights” (Univ. of Pennsylvania Press, 1952) pp. 130 ff.
٦  سانتيانا: المرجع المذكور من قبل، ص١٤٩.
٧  هنري ديفد أيكن: «الفن بوصفه تعبيرًا وسطحًا» (مقال).
Henry D. Aiken, “Art as Expression and Surface,” J. of Ae, and At Cr., vol. IV (1945) p. 87.
٨  المرجع المذكور من قبل، ص٨٩.
٩  فن الشعر Ars Poetica في أرشيبالد ماكليش: مجموعة القصائد (الديوان).
Archibald Mac Leish, Collected Poems (Boston, Honghton Mifflin, 1952.) p. 41.
١٠  المرجع المذكور من قبل، ص١٤٦.
١١  المرجع المذكور من قبل، ص١٤٦.
١٢  آرنهيم: الفن والإدراك البصري، ص٣٣٦.
Arnheim, Art & Visual Perception.
١٣  المرجع نفسه، ص٣٦٤.
١٤  انظر: ديوي، المرجع المذكور من قبل، ص١٠١ وجون هوسبرز «المعنى والحقيقة في الفنون» ص٧٢.
J. Hospers, Meaning and Truth in the Arts (Univ. of North Carolina Press, 1946).
١٥  ديوي، الموضع نفسه.
١٦  أ. م. فورستر: نهاية هوارد، ص٣٨.
E. M. Forster, Howards End (N. Y., Knopf. 1943).
١٧  تشارلس هارتشورن: فلسفة الإحساس وسيكولوجيته ص١٨٦.
Charles Hartshorne, The Philosophy and Psychology of Sensation.
وقد اقتبس هذا النص توماس Tomas، في المرجع المشار إليه من قبل ص١٤٠.
١٨  دجلاس مورجان «مفهوم التعبير في الفن» (مقال) ص١٥٩ وما يليها.
Douglas N. Morgan, “The Concept of Expression in Art,” in “Science, Language and Human Rights” (Univ. of Pennsylvania Press, 1952).
١٩  فيلهلم بوك وجيمي سابارتيز: بيكاسو، ص١٢٣.
Wilhelm Boeck and Jaime Sabartès, Picasso (N. Y., Abrams, 1955).
٢٠  انظر الفصل الخامس عشر فيما بعد.
٢١  «علم الجمال والتاريخ»، ص١٥٠. Aesthetics and History.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤