الفصل الحادي عشر

القبح في الفن: التراجيديا والكوميديا

تكوِّن المشكلات التي كنا نعالجها حتى الآن أساسًا لكل نظرية جمالية. فالإجابات التي نقدمها عن السؤالين: «ما الإدراك الجمالي؟» و«ما الذي يميز الفن الجميل؟» تتضمن تحليلًا للمفاهيم الأساسية المستخدمة في دراستنا، وتحديدًا للميادين الرئيسية في هذه الدراسة. ولا بد أن تكون هذه الإجابات في متناول أيدينا قبل أن يتسنى لنا بحث مشكلات هذا الفصل والفصلين التاليين، أعني المشكلات الآتية: هل يمكن أن يكون الفن قبيحًا، وإن كان الجواب بالإيجاب، فهل يمكن أن تكون له قيمة جمالية؟ وهل الفن مصدر «للحقيقة»؟ وهل يمكن، أو ينبغي، الحكم على الفن أخلاقيًّا؟

(١) مقولات القيمة الجمالية

يتفق الجميع على أن الأعمال الفنية «جيدة» أو «قيِّمة» بمعنًى ما؛ فهي من الأشياء التي تجعل الحياة جديرة بأن تعاش، شأنها شأن نور الشمس، والطعام الجيد، والحب. وعندما يكون العمل الفني وحدة منظمة، ويكون إلى جانب ذلك مشحونًا بالانفعال والوجدان، يكون تقديرنا له رفيعًا بحق، ولا نكاد نجد ما هو أنفس منه.

وهناك ألفاظ كثيرة متباينة تُستخدَم من أجل إضفاء قيمة على الموضوعات الفنية. صحيح أننا نستطيع استخدام الألفاظ الشائعة في كلامنا العادي عن القيم، كقولنا «هذا العمل جيد» و«هو أفضل من ذاك العمل» إلخ … غير أن معظم الأوصاف التي نستخدمها يقتصر انطباقها على مجال تقدير الفن. وهي تختلف تبعًا لدلاتها على القيمة أو انعدام القيمة، «كالجميل» و«القبيح»، أو على درجة القيمة، «كالعظيم» أو «الرائع» في مقابل «اللطيف» أو «الخلاب»؛ أو تبعًا لنوع القيمة التي تدل عليها هذه الألفاظ، «كالجليل»، و«الهزلي (الكوميدي)» و«التعبيري».

•••

ولا جدال في أن الألفاظ الرئيسية في لغة القيمة الجمالية هي «الجميل» و«القبيح». ولقد كان الرأي التقليدي يَعُد هذين اللفظين ضدين يدلان، فيما بينهما، على جميع الموضوعات الجمالية. «فالجميل»، في أحد معانيه الشائعة، يدل على الأشياء التي نستمتع بإدراكها، أو نشعر بجاذبيتها عندما ندركها، على حين أن «القبيح» يدل على الأشياء الكريهة أو المنفرة. أما النظريات التي تفهم الجمالي من خلال خصائص شخصية «كالانسجام» أو «الوحدة العضوية» (بدلًا من أن ترى فيه موقفًا من مواقف الإدراك الحسي) فتستخدم لفظ «الجميل» للدلالة على وجود مثل هذه الخصائص، و«القبيح» للدلالة على غيابها. وفي كثير من الحالات التي كان يُنظر فيها إلى هذين اللفظين على أنهما شاملان لكل موضوعات الدراسة الجمالية، كانت هذه الدراسة ذاتها تعرَّف بأنها «نظرية الجمال والقبح».

ومع ذلك، فعلى الرغم من أننا ما زلنا في حديثنا المعتاد نستخدم اللفظين على هذا النحو في كثير من الأحيان، فإنهما قد فقدا إلى حد بعيد دورهما التقليدي في لغة علم الجمال، إذ يكشف لنا التحليل عن وجود غموض واشتراك لفظي يستحق النقد في معنى «الجميل» و«القبيح»، ويبين أن من المستحيل اتخاذهما مقولتين رئيسيتين جامعتين مانعتين للقيمة الجمالية، بل إن بعض الفلاسفة، كما سنرى فيما بعد، يكاد يذهب إلى حد استبعاد هذين اللفظين تمامًا من ميدان علم الجمال.

إن أول نقص واضح في لفظ «الجمال» هو ما ينطوي عليه من اشتراك وخلط. ففي كثير من الأحيان ظل هذا اللفظ يُستخدم، في اللغة العادية المألوفة، وكذلك في التفكير النظري الإستطيقي،١ للدلالة على الموضوعات ذات القيمة الإستطيقية. وفي هذه الحالة يكون المعنى المقصود منه هو ذاته معنى «القيمة الإستطيقية». غير أن اللفظ يُستخدَم أيضًا بمعنى أقل اتساعًا، مما يؤدى إلى اشتراك وخلط في لفظ «الجمال». هذا المعنى الأضيق تفرضه علينا الموضوعات التي يتضح أن لها قيمة إستطيقية، وإن كنا نتردد في وصفها «بالجميلة». فبعض الأشياء أقل شأنًا أو أصغر نطاقًا من أن يستحق صفة قوية التأثير مثل صفة «الجمال»، وإنما هو أقرب إلى أن يكون «لطيفًا» أو «خلابًا»، وربما «بديعًا». وفي الطرف المضاد نجد تلك الموضوعات التي هي أكثر من «جميلة»، نظرًا إلى فخامتها وعظمتها. وهنا نستخدم لفظ «الجليل»، الذي سنشرح معناه بعد قليل. ومن ناحية أخرى فإن النكتة المضحكة أو استعراض الأداء البارع قد يبعث فينا لذة إستطيقية، ولكن صفة «الجمال» تبدو غير منطبقة على هذا المجال على الإطلاق. وأخيرًا فإن هذه الصفة تبدو أبعد ما تكون عن الانطباق عندما نهتدي إلى قيمة إستطيقية في أشياء قبيحة بمعنى ما. ألا يجد التأمل الإستطيقي رضاء في لوحة جويا «أهوال الحرب» وفي تمثال رودان «المحظية العجوز»، وفي الدراسات الأدبية عن الحالات المرضية الشاذة وحالات الانحلال، وفي المؤلفات الموسيقية القريبة العهد، التي تستخدم تنافرات ونشازات صوتية تصدم الآذان؟

إن «الجمال»، بمعناه الضيق، لا يدل إذن إلا على واحد من بين عدة أنواع من القيمة الإستطيقية. ويؤدي تحليل اللفظ إلى التمييز بين هذا المعنى وبين المعنى الأوسع، الذي ينصب على الجنس الشامل (أي «القيمة الإستطيقية ذاتها») وهكذا تم الكشف عن الاشتراك والخلط اللفظي الكامن في طريقة الحديث غير النقدية، ولكنا نجد أنفسنا الآن إزاء مشكلة الغموض؛ فإذا أخذنا لفظ «الجمال» بمعناه الضيق، فما هو بالضبط ذلك الذي يميز هذا النوع من القيمة الإستطيقية عن بقية الأنواع؟

ليس من السهل التخلص من غموض لفظ «الجمال» بمعناه الضيق؛ فلو أتينا بتعريف محدد قاطع لما استطاع أن يعبر عن مرونة معنى هذا اللفظ في لغتنا اليومية، ولكن يبدو على أية حال أن اللفظ يدل على بعض المعاني الآتية أو كلها: الجاذبية أو الطرافة الحسية، التعقد الشديد نسبيًّا في الموضوع، القيم الشكلية الواضحة، الموضوع السار أو المفيد من الوجهة الإرشادية، الطابع التقليدي للموضوع، والشكل، والمعالجة. فإن كان هذا صحيحًا، فمعنى ذلك أن اللفظ يدل على عدد كبير من الخصائص التي لا تتمثل كلها في تلك الموضوعات المسماة «بالجميلة». وهناك قدر غير قليل من الشك في أن تكون هذه الخصائص متمثلة في موضوع بعينه. فمتى يكون الموضوع، مثلًا، «معقدًا» لا «بسيطًا» و«تقليديًّا» لا «خارجًا عن التقاليد»؟

والآن، نستطيع أن نفهم لماذا لم يَعُد للفظ «الجمال» دور بارز في النظرية الجمالية؛ فقد حلت محل اللفظ، في معناه العام الشامل، عبارة مثل «القيمة الإستطيقية». ولما كانت هذه المقولة حيوية بالنسبة إلى أي مذهب في علم الجمال، فمن الضروري بحثها بشيء من التفصيل، وتعريفها على أوضح نحو ممكن. وهذا ما تحاول أن تفعله كل نظرية من نظريات الفن التي درسناها من قبل. غير أن هذا لا يصدق على «الجمال» بمعناه الضيق. فمن الجدير بالملاحظة أن كثيرًا من الباحثين المعاصرين في الإستطيقا يكتفي بأن يمر على هذه المقولة مر الكرام، أو يتغاضى عنها تمامًا؛ إذ إنها لما كانت واحدة من بين مقولات أخرى غيرها، فإنها ليست بذات أهمية أساسية. والكثيرون يشاركون الأستاذ «لي Lee» رأيه القائل إن «أفضل استخدام للفظ «الجمال» هو ذلك الذي لا يدل فيه إلا على جزء من المجال العام للقيمة الإستطيقية، وليس من الضروري تحديد نطاق هذا الجزء بدقة، بل إن من الممكن تركه غامضًا بدرجات متفاوتة».٢

وهكذا طرأ تحول هائل على مقولة الجمال، ولكن هناك تغيرًا أعظم طرأ على معنى لفظ «القبيح» وأهميته بوصفه مقولة إستطيقية.

•••

إن التحول يبدأ، كما ذكرت من قبل، عندما يضطر الناس إلى النظر إلى بعض الموضوعات على أنها قبيحة وذات قيمة إستطيقية في نفس الآن؛ فهم يجدون أن بعض الأشياء ليست جميلة بأي معنًى مألوف، ولكنها مع ذلك طريفة أو تجذب الانتباه. ولعل أبرز أمثلة هذه الظاهرة وأكثرها يوجد في فن القرنَين الأخيرَين، الذي عمل على توسيع نطاق الإدراك الحسي الإستطيقي إلى أبعد حد. غير أن من الخطأ، من وجهة النظر التاريخية، أن يتحدث المرء في هذا الصدد عن الفترة الأخيرة وحدها؛ ذلك لأن أرسطو، وهو من أقدم فلاسفة الإستطيقا، رأى أن القبح أساسي للكوميديا.٣ وطوال تاريخ الفن، كان هناك فنانون، كالمصوِّر هيرونيموس بوش Hieronymous Bosh (حوالي ١٤٥٠–١٥١٦م) قاموا، عند تصويرهم لرؤيا شخصية حية، بتجسيد العنصر الشيطاني وجو الموت والمقابر في فنهم. ولقد عبر الباحث الإستطيقي زولجر Solger عن المفهوم الشائع للقبح بقوله: «القبيح … مضاد إيجابيًّا للجميل، ولا يمكننا إلا أن نعدهما متنافرَين تمامًا.»٤ ولكن إذا كان مدلول «القيمة الإستطيقية» يشتمل على الفن القبيح، فعندئذٍ لا يكون القبح «مضادًّا» للجمال بمعناه العام، بل يكون نوعًا من أنواعه. كما أنه ليس «مضادًّا» للجمال بمعناه الضيق؛ إذ إنهما صنوان، من حيث هما نوعان، ضمن أنواع أخرى، للقيمة الإستطيقية.

غير أن القارئ قد يرفض قبول هذه النتيجة. فهل من المعقول أن نتصور الجمال والقبح على هذا النحو؟ أليسا ضدَّين ومتنافرَين، تمامًا، كالحق والباطل، أو الصواب والخطأ؟

إنا نسلِّم بأن الحديث عن «القبح» بوصفه نوعًا من الجمال، أو صنوًا للجمال، له وقع غير مألوف على الآذان. غير أن كل ما يعنيه ذلك هو أن الاستخدام المقترَح لا يتمشى مع الطريقة التي اعتدنا أن نستخدم بها هذين اللفظَين. ومع ذلك فإن عاداتنا اللغوية ليست ثابتة لا تقبل التصحيح، بل قد يكون من الضروري تغييرها عندما تكون هناك أسباب وجيهة لتعديل المعاني الشائعة. فلنختبر الأسباب التي تدعو إلى هذا التعديل بمزيد من الدقة.

•••

إن التغيُّر في المعنى يحدُث، من الوجهة التاريخية، بالتدريج، وهو أمر متوقع، بل إنه كان إلى حد بعيد نتيجة لتطور مقولة أخرى في الفكر الإستطيقي، تجمع بينها وبين القبح أوجه شبه هامة، وأعني بها مقولة الجلال sublimity.
وعلى الرغم من أن معنى «الجليل» قد نوقش منذ عهد بعيد يرجع إلى أيام الرومان القدماء، فإنه اكتسب أهميته، بوصفه مقولة إستطيقية، لأول مرة في القرن الثامن عشر. وهو يعبر عن نوع التجربة الشخصية التي وصفها جون دنيس John Dennis عند نهاية القرن الماضي، في حديثه عن رحلته عبر جبال الألب؛ فهو يقول عن الصخور والمنحدرات الهاوية إنها بعثت فيه «رعبًا بهيجًا، وسرورًا مخيفًا، حتى أنني كنت أرتعد في نفس الوقت الذي كنت أشعر فيه بلذة لا حد لها».٥
ومن الواضح أن أبرز سمات هذه التجربة هو المزج بين المشاعر الإيجابية والسلبية نحو الموضوع، أي «الرعب البهيج» إلخ. فصاحب هذه التجربة لا يشعر ببهجة خالصة، متصلة، بل يمتزج بهذه البهجة نفور وخوف، وهما غير بهيجين. ويتأكد هذا العنصر الأخير عند بيرك Burke، الذي وضع نظرية من أهم نظريات القرن الثامن عشر في الجلال: «(إن الفزع) هو في كل الأحوال قاطبة … المبدأ المسيطر في حالة الجلال».٦ ولكن من الواضح أن هذه التجربة لو كانت تجربة «رعب» فحسب، لما كانت إستطيقية؛ إذ إن مَن يمر بهذه التجربة سيطغى عليه عندئذٍ الاهتمام بسلامته الشخصية، وتتجه رغبته إلى القيام بسلوك علمي. ويدرك بيرك هذه الحقيقة، إذ يقول: «عندما يقترب الخطر أو الألم أكثر مما ينبغي، لا يمكن أن يبعثا فينا أية بهجة، بل يكونان مخيفَين فحسب؛ أما عندما تفصلهما عنا مسافات معينة، ومع إدخال بعض التعديلات، فمن الممكن أن يكونا بهيجين، بل يكونان كذلك بالفعل، كما تشهد تجربتنا اليومية.»٧ والواقع أن رأي بيرك يجد تأييدًا من وقائع تجربتنا عندما ندرك أشياء غير تلك التي تتصف بالجلال. فعندما نقرأ «رواية قتل بوليسية» مثيرة، ونجد فيها عبارات مثل: «وامتدت يد ببطء من وراء ستار الغرفة المظلمة و…» أو نشاهد «رواية رعب سينمائية» نستمتع بخوفنا ويصبح جزءًا من التجربة، ولكن حتى عندئذٍ، يؤدي الرعب إلى شعورنا بعدم الارتياح، وتكون التجربة الكلية مختلطة على نحو غير مألوف.
أما تجربة الجلال فأعقد من ذلك وأروع. ولعلنا نستطيع تلخيصها في كلمتين يتشابه وقعهما في الإنجليزية، وهما «المبجَّل awful» و«الرهيب aweful»؛ فخوفنا يقترن بشعورٍ بالتسامي، كما هي الحال في التبجيل الديني. والموضوع الجليل، على خلاف «رواية القتل البوليسية» يتسم برحابة وروعة تطغى علينا. فهو يشعرنا بالرعب، ولكنه مع ذلك يزيدنا سموًّا. وقد وصف «كانت» هذا الشعور في أواخر القرن الثامن عشر فقال: «(لما كان) الذهن لا يجتذبه الموضوع فحسب، بل ينفر منه دوامًا في الوقت ذاته، فإن الرضاء الذي يبعثه الجليل لا ينطوي على لذة إيجابية بقدر ما ينطوي على إعجاب واحترام.»٨
فأي الموضوعات هي التي تستثير مثل هذه التجربة؟ لقد ضرب مفكرو القرن الثامن عشر في معظم الأحيان أمثلة لها من أشياء ضخمة الحجم، كالسماء الزاخرة بالنجوم، والبحر العاصف، وسلاسل الجبال، ومع ذلك فقد حدثونا أيضًا عن أشياء ليس لها مثل هذا الحجم، وإن كانت لها قوة هائلة، كالبراكين والأعاصير والشلالات.٩ وقد اقترح بيرك، عن حق تمامًا، فئة ثالثة من الموضوعات الجليلة، هي الموضوعات «الغامضة»؛ إذ إن الشعور بالرهبة يمكن أن يثيره ما هو خفي غامض. ومنذ القرن الثامن عشر اتسع معنى «الجليل»: فأشار أ. س. برادلي إلى أننا نتحدث عن «حب جليل» و«شجاعة جليلة».١٠ وفي هذه الاستعمالات الأخيرة تختفي فكرة «الحجم» بمعناها الحرفي تمامًا.
وعلى أية حال فالجليل دائمًا يطغى علينا ويتحدانا. فقد يكون أكثر مما نستطيع إدراكه حسيًّا، كالسماء، أو أبعد عن فهمنا، «كالغامض»، أو قد يعلو على مفاهيمنا المألوفة للخير والشر، كالله. ولا يكفي أن يكون الموضوع كبيرًا فحسب، كحجم الدَّيْن القومي للولايات المتحدة، أو غير مفهوم فحسب، كالتمرين الهندسي الذي يعجز الطالب عن حله، بل إن من الواضح أن الجليل أعقد من ذلك. فلا بد أن نشعر إزاء الموضوع بأننا خائفون أو مبهوتون، وأن نحس أيضًا بأننا «ارتفعنا خارج أنفسنا» عند محاولتنا الإحاطة باتساعه أو بمعناه؛ فالجليل، من حيث هو مقولة للتجربة الإستطيقية، يدل على مجموعة من التجارب المرتبطة فيما بينها، وإن لم تكن تجارب متماثلة. فعندما نستمع إلى قطعة «يوم النقمة Dies Irae» من «القداس الجنائزي» (Requiem) لفيردي، قد يسيطر علينا الشعور «بالفزع» إلى حد ينصرف معه المرء عن الموسيقى لو استمرت الأصوات القاصفة والإيقاع المخيف مدة أطول بكثير. وعندما يقرأ المرء رواية كافكا «الغامضة»، «المحاكمة»، يكون الشعور بالخوف أقل حدة، ولكنه ينتشر طوال استجابة المرء للمغامرات الشبيهة بالكابوس، التي يمر بها البطل. وعندما يفكر المرء في تضحية المسيح بذاته من أجل الإنسان، لا يشعر بالخوف بقدر ما يحس بانفعال أو موقف آخر يرتبط به ارتباطًا وثيقًا — وهو ضآلتنا وضعفنا إزاء هذا الحب اللامتناهي. وفي هذه الحالة بدورها، يكون الشعور بالتسامي، أو ما يسميه برادلي «توسع الذات self-expansion»١١ أوضح مما هو في التجارب الأخرى المتعلقة بالجلال.
والواقع أن تفكير القرن الثامن عشر، بتحويله انتباهه إلى الجليل، إنما كان يبرهن ضمنًا على ضيق نطاق الجمال بوصفه مقولة للقيم؛ فالموضوع الجميل هو ذلك الذي يكتسب رضاءنا ويمنحنا البهجة. ولا يمكن أن يعد الشيء الباعث على النفور أو «الفزع» «جميلًا» بالمعنى المعتاد. وفضلًا عن ذلك فكثيرًا ما تفتقر الموضوعات الجليلة إلى التناسق الشكلي والوحدة، اللذين يرتبطان عادة بالجمال. ومع ذلك، فثمة قيمة في تجربة الجلال. وعلى ذلك فلا يمكن النظر إلى الجمال، كما رأينا من قبل، على أنه المقولة الوحيدة للقيمة الإستطيقية، ولكن من الملاحظ فضلًا عن ذلك أن مشاعر النفور والألم كانت تُعَد في العادة علامات القبح. فإذا كان الجليل، الذي يثير بدوره هذه المشاعر، قد تأكد بوصفه مقولة للقيمة، فلم لا يكون القبح بدوره مقولة كهذه؟ ومن هنا كان من الأمور التي تسترعي الانتباه أن بيرك بدأ يخصص للقبح مكانًا بين المقولات الإستطيقية.١٢ ولقد كان مما شجع بقوة على السير في هذا الاتجاه الفكري، تعلق كثير من فناني القرن التاسع عشر والقرن العشرين بالموضوعات المضحكة المنفرة، سواء في الأدب وفي التصوير، والالتجاء على نطاق واسع إلى أساليب موسيقية مثل الكروماتية chromaticism١٣ والتنافر. وتلك أعمال لا يمكن رفضها فورًا ببساطة؛ إذ إنها لمَّا كانت تبدو مرغوبًا فيها من الوجهة الإستطيقية، وذلك في نظر بعض المشاهدين أو المستمعين على الأقل، فلا بد من إيجاد مكان لها داخل النظرية الجمالية. وكما عبر عن هذه الفكرة فيلسوف معاصر، فإن «الجمال بالنسبة إلى المفكر الإستطيقي يشتمل بالفعل على الجليل، والرهيب، والساخر، والمضحك. فلم لا يشتمل على القبيح أيضًا؟»١٤

•••

ولكن، إذا كان الأمر كذلك، فماذا يكون مصير القبح بمعناه التقليدي؟ ألا توجد موضوعات رديئة من الوجهة الإستطيقية؟ ألا يوجد نقيض «للقيمة الإستطيقية»؟

نستطيع أن نجد في تفكير كثير من مفكري الإستطيقا المعاصرين نوعين من الإجابة عن هذه الأسئلة، وكلا النوعين يتضمن مراجعة جذرية للتقابل التقليدي بين الجمال والقبح؛ فالأول منهما يضيق مجال القبح بأن يحاول إثبات أن ما كان يُعَد في كثير من الأحيان قبحًا ليس قبحًا على الإطلاق. والرأي الثاني، الأشد تطرفًا، ينكر وجود القبح تمامًا. وسوف نبحث كلًّا من هذين الرأيَين على حدة.

•••

إن تاريخ الذوق بأسره، ولا سيما في القرن الحالي، يثبت لنا أن كثيرًا من الأعمال التي كان الناس يرفضونها في البداية نظرًا إلى جدتها، أصبحت تقابَل فيما بعد بالتقدير. فدراما فاجنر الموسيقية «تانهويزر»، التي أثارت فضيحة في أول عرض لها، هي الآن جزء لا يتجزأ من العروض الموسيقية التي يُقبل عليها الجمهور. ومن هنا قيل إن الفنان العظيم ينبغي أن «يخلق جمهوره». ولما كان الذوق يبدو قابلًا للتوسع إلى غير حد، فهل يمكن القول — والحال هذه — إن ثمة شيئًا قبيحًا في ذاته؟

يرى بوزانكيت، في كتابه «ثلاث محاضرات في الإستطيقا Three Lectures on Aesthetic» أن الكثير مما يسمى «قبيحًا» بصورة عامة هو في حقيقته راجع إلى «ضعف المشاهد».١٥ فالأشياء لا تبدو لنا قبيحة إلا لأننا نفتقر إلى القدرات اللازمة لتقدير قيمتها الإستطيقية. ويذكر بوزانكيت أن في هذا النوع من الموضوعات «جمالًا عسيرًا difficult beauty». وقد يكون «العسر» راجعًا إلى واحدة من ثلاث خصائص مختلفة للموضوعات: (١) «التشابك intricacy»، أي التعقد. وفي هذه الحالة يكون كل ما يفعله الموضوع هو أنه «يعطيك، في لحظة واحدة، قدرًا أكبر مما ينبغي، مما أنت على استعداد تام للاستمتاع به لو كان في استطاعتك استيعابه كله»١٦ (٢) و«توتر عالٍ للشعور»١٧ لا يستطيع كثير من المشاهدين تحمله؛ (٣) و«السعة width»، عندما يتحدى الموضوع معتقدات الحياة التقليدية، كالكوميديا الهجائية مثلًا.
والواقع أن بوزانكيت من أبرز ممثلي النظرية الانفعالية التي درسناها من قبل.١٨ وتبعًا لهذه النظرية تنحصر التجربة الإستطيقية أساسًا في الإحساس بالانفعال الذي يعبر عنه الموضوع. وكما رأينا من قبل، فإن أصحاب النظرية الانفعالية يقدرون أي موضوع أو أسلوب فني ما دام معبرًا. على أن المضحك أو المؤلم أو المحزن يمكن أن يكون معبرًا أشد تعبير وأقواه. ولما كان بوزانكيت يعرف «الجمال»، بمعناه الواسع، أي بمعنى «الجدارة الإستطيقية»، من خلال القدرة على التعبير، فإن القبيح، بقدر ما هو معبر، لا بد أن يعد نوعًا من القيمة الإستطيقية.١٩
فلنلاحظ ما قام به بوزانكيت حتى الآن في نظريته عن القبح؛ فهو أولًا قد ضيق مفهوم «القبح» إلى حد هائل إذ نقل كثيرًا من الأشياء التي تُعَد قبيحة في العادة إلى فئة «الجمال العسير». وهو ثانيًا قد وضع القبح ضمن مقولات القيمة، بفضل نظريته التعبيرية. فماذا يكون من أمر القبح بمعناه التقليدي، معنى «انعدام القيمة الإستطيقية aesthetic disvalue»؟
إن بوزانكيت يقترب آخر الأمر اقترابًا شديدًا من الرأي المتطرف القائل إن القبح بهذا المعنى لا وجود له. فلو كان هناك شيء غير جميل على الإطلاق (أي غير معبر)، لما كان مقولة إستطيقية على الإطلاق؛ ذلك لأنه قد عرَّف «الإستطيقا» من خلال «التعبير». فلو كان من غير معبر، فإنه يقع خارج مجال الإستطيقا تمامًا. «فإن كان القبح غير إستطيقي، فإنه لا يكون إستطيقيًّا على الإطلاق، ولا يكون لنا شأن به».٢٠
ولكن، على الرغم من أن بوزانكيت «ميال بشدة» إلى الاعتقاد بأنه «لا وجود لما يسمى بالقبح الميئوس منه»،٢١ فإنه يجعل موقفه مشروطًا إلى حد ما؛ فهو يرى أن بعض الأشياء هي بالفعل «قبيحة إلى حد ميئوس منه». تلك هي الموضوعات المعبرة التي «(تثير) الذهن في اتجاه معين، ثم (تعوقه) في هذا الاتجاه نفسه»؛٢٢ فالموضوع «يبدأ» بأن يكون تعبيريًّا، إن جاز هذا التعبير، ويبدو أنه يفضي إلى مشاعر أخرى يتوقع المرء أن يحس بها. ومع ذلك فإنه يخيب ظننا. فهناك «إيحاء بالتعبيرية ثم تأثير مضاد لها عن طريق تكملة تتعارض معها».٢٣ أي إن الموضوع لا يحقق النوازع الانفعالية التي أطلقها من عقالها. وعلى ذلك فإنه إذا كان «للقبح الذي لا يُغلَب» وجود على الإطلاق، فهو إنما يكون في «الفن المتصنع الذي يفتقر إلى الإخلاص».٢٤

وعلى ذلك فحتى هذا القدر من «القبح الميئوس منه» الذي استبقاه بوزانكيت في نظريته، ليس انعدامًا تامًّا للقيمة الإستطيقية، فحتى الموضوعات «القبيحة إلى حد ميئوس منه»، يُمكِن أن توصف بأنها إستطيقية «بصورة مبدئية»؛ لأنها مُعبِّرة إلى حد ما. فهل تدرك، أيها القارئ، مدى التحوُّل العميق الذي طرأ على مقولة القبح؟ إنها، بمعنًى ما، نوع من القيمة الإستطيقية، وهي بمعنًى آخر خارجة ببساطة عن موضوع الإستطيقا؛ وفي هذا المعنى الذي يشبه المعنى التقليدي «لانعدام القيمة الإستطيقية» شبهًا قويًّا، يكون القبيح قيِّمًا من حيث الإمكان، وإلى حد معين. وهكذا يتعين على بوزانكيت، في مراجعته للمعتقدات الشائعة (في التراث على الأقل)، أن يمضي في طريق مضاد للاستخدام اللغوي الشائع فيه؛ فهو يبين أولًا أن لفظ «القبيح» ليس له معنًى منفرد يسير في اتجاه واحد، كما نفترض في لغتنا غير النقدية، ثم يفترض أن معناه المعتاد ينبغي أن يُعدَّل. ومن الواجب ألا نرفض نظريته لأنه يستخدم الألفاظ «بطريقة شاذة» أي بطريقة مختلفة. وإنما ينبغي أن نفهم نظريته لكي ندرك السبب الذي دعا إلى استخدام الألفاظ على هذا النحو.

ومع ذلك فإن بوزانكيت ليس المفكر الجمالي المعاصر الوحيد الذي يرفض الاستخدام والاعتقاد التقليديَّين؛ فهناك مفكرون آخرون يخطون الخطوة الأخيرة، وينكرون القبح تمامًا؛ فالأستاذ ستيفن س. بيبر Stephen C. Pepper يعرف «الإستطيقي» من خلال «حدس الكيفية intuition of quality».٢٥ ولفظ «الكيفية» الذي يتخذ هنا موقعًا حاسمًا، ليس مما يسهل تعريفه، ولكنا نستطيع القول إن لكل من تجاربنا «كيفية» فريدة ما؛ ذلك لأن التجربة قد توصف بأنها متغلغلة أو متوترة أو «هزيلة» أو عميقة. وفي استطاعتنا أن نشعر بخصائص تجربتنا هذه شعورًا مباشرًا، أي أن «ندركها بالحدس». وفي هذه الحالة بدورها، كما في حالة بوزانكيت، يكون تعريف «الإستطيقي» شديد الاتساع. فلما كانت «الكيفية» تتمثل في كل تجربة، فإن «القيمة (الإستطيقية) تتغلغل في كل حياة … وليس ثمة قيمة إستطيقية سلبية».٢٦ كذلك فإن «بيبر»، مثل بوزانكيت أيضًا، ينسب القبح إلى المجال اللاإستطيقي، وكل ما في الأمر أنه يفعل ذلك بالنسبة إلى «كل» قبح؛ ذلك لأنه، في الحالات التي يكون فيها قبح، يحدث هذا القبح عندما تكون التجربة «مملة أو مؤلمة»؛ «فالقبح هو الاستهجان الأخلاقي لانعدام القيمة الإستطيقية في موقف ما، فهو تقويم أخلاقي أكثر منه جماليًّا».٢٧

وهناك فهم آخر للإستطيقي يسفر عن نتائج مشابهة، ففي هذا الكتاب نظرتُ إلى «الإستطيقي» على أنه موقف من نوع ما، هو موقف «التأمل النزيه المتعاطف»، وهذا رأي يقول به عدد كبير من المفكرين الإستطيقيين المحدثين، على أني ذكرت من قبل أن أي موقف ينطوي على اتجاه إيجابي أو اتجاه سلبي نحو موضوعه؛ فالموقف الإستطيقي يتسم باتجاه متعاطف على الدوام، بمعنى أنه يوجه الانتباه إلى الموضوع و«يقبله». وفضلًا عن ذلك، فنظرًا إلى عدم وجود اهتمام بالمنفعة أو بأي هدف خارجي آخر، فإن العامل الوحيد على الاحتفاظ بانتباهنا هو أننا نجد الموضوع جيدًا في ذاته. ومن هنا فإن معنى «الإستطيقا» ذاته ينطوي على قيمة إيجابية. ولما كان مجال التجربة الإستطيقية بأسره يُعرَّف من خلال «الموقف الإستطيقي»، فإن التجربة الإستطيقية بأسرها تجربة قيمة (إيجابية). وهكذا يمكن الآن التعبير عن إحدى نتائج بوزانكيت على هذا النحو: إذا لم يكن الشيء موضوعًا للانتباه الإستطيقي، فإنه ببساطة ليس إستطيقيًّا على الإطلاق، ولو كان هناك أي شيء يقاوم الإدراك الحسي الإستطيقي مقاومة مطلقة، وعلى نحو «ميئوس منه»، لكان هذا الشيء خارجًا عن نطاق البحث الإستطيقي. وبهذا المعنى لا يكون «القبح» مقولة إستطيقية.

إن المسألة هنا تَنصبُّ على العلاقة المنطقية بين تصوراتنا. فماذا نقول عن الوقائع التجريبية؟ هل توجد فيها بالفعل أية موضوعات «قبيحة إلى حد ميئوس منه»؟ لقد سبق لي أن ذكرت أن «أي موضوع للوعي على إطلاقه» يمكن أن يكون موضوعًا إستطيقيًّا، وأيدت رأيي بأمثلة من تاريخ الفن والذوق. وقد عبر سانتيانا عن هذه الفكرة بقوله: «كل شيء جميل لأن كل شيء قادر على أن يجذب انتباهنا ويخلبه بدرجة ما».٢٨ ولعل هذا قد يبدو رأيًا غريبًا، وربما بدا رأيًا باطلًا، أو منطويًا على مفارقة على الأقل. والواقع أنه لا بد عند هذه النقطة من بحثنا، أن يكون القارئ قد اعتاد غرابة كثير من النظريات المعاصرة في القبح، ولكن لنتأمل الأدلة التي يبدو أنها تقف في وجه هذا الرأي. فلنتأمل الموضوع والمواقف التي تفترض أنها مضادة للإستطيقا «إلى حد ميئوس منه». ألا يجوز أن تحيُّزاتنا و«نظرتنا العمياء» هي التي حالت بيننا وبين اتخاذ موقف إستطيقي منها؟ ربما كانت لهذه الموضوعات ارتباطات بما نعده، عمومًا، وضيعًا أو محظورًا. وربما كانت هذه الموضوعات تثير الكراهية الأخلاقية أو الدينية، كما هي الحال في حظر تصوير الأنبياء في الإسلام. وربما كان ارتباطها بالحياة العملية اليومية أقوى من أن يُسمَح لنا بتأمُّلها في ذاتها. وربما كانت — ببساطة — غير مألوفة لنا، كموسيقى جزيرة بالي، أو أعمال فاجنر وسترافنسكي عند عزفها لأول مرة. وربما كان التحذلق أو الهوى يؤثر فينا، كما هي الحال في موقف كثير من أصحاب «الثقافة» إزاء موسيقى الجاز الأمريكية.
فإذا استطعنا أن نتخلص من أمثال هذه العقبات، بحيث نصل إلى «وعي منزه متعاطف» (وهو أمر بعيد الاحتمال، ما دمنا ضعفاء كسائر البشر) فعندئذٍ يمكننا أن نرى جميع الموضوعات على ما هي عليه من الناحية الإستطيقية. وما دمنا نراها من الناحية الإستطيقية، فلا بد أن نراها أيضًا من ناحية ما فيها من قيمة. فالأدلة على زيادة رقي الذوق واتساع أُفقه بفضل الحركات الفنية الجديدة والتعود الإستطيقي عليها، وكذلك الأدلة على تبايُن ما يقدره أفراد المجتمعات المختلفة، ومختلف الناس في مجتمعنا نحن، أكثر من أن تسمح لنا باستبعاد هذه الفكرة بسهولة. وهذه الأدلة تزيد من تأييد الرأي القائل إنه «ليس ثمة شيء قبيح في جوهره».٢٩

ومع ذلك فلست أود أن أزعم أن هذا الرأي قد تأيد على نحو قاطع. فمن الجائز أني ارتكبت مغالطة المصادرة على المطلوب، وذلك إذا كانت حجتي هي مجرد القول إنه إذا أمكن إدراك كل شيء «بتنزُّه وتعاطُف»، فعندئذٍ لا يكون ثمة شيء «قبيح إلى حد ميئوس منه». ولا بد أن يلاحظ المرء، بعد أن يقال كل شيء، وجود عنصر غريب إلى حد غير مألوف في أية نظرية إستطيقية لا تترك مجالًا لانعدام القيمة. ففي المجالات الأخرى لتجربة القيمة، يوجد على الدوام استقطاب بين القيمة وانعدام القيمة؛ فالأخلاق، مثلًا، تنطوي على الخير والشر، لا على الخير وحده، بحيث يكون كل ما عداه خارجًا عن نطاق الأخلاق.

وقد يستقر رأيك، بعد إعمال الفكر، على أنك لا تستطيع قبول النظريات التي ناقشناها الآن في القبح، ولكنك لا تستطيع أن تصل إلى هذا الرأي إلا إذا فهمت كيف انتهت هذه النظريات إلى نتائجها الخاصة، ولماذا كانت ميالة إلى الابتعاد عن الاعتقاد التقليدي والعرف اللغوي الشائع.

•••

ولكن ينبغي علينا الآن أن نبحث بمزيد من التفصيل مسألة أثارتها مناقشتنا السابقة؛ فقد قلنا إن القبح هو، بمعنًى ما، لا إستطيقي تمامًا. وقلنا إنه بمعنًى آخر مقولة للقيمة الإستطيقية تقف على قدم المساواة مع الجمال (بمعناه الضيق)، واللطف، والجلال … إلخ. فلنعرِّف «القبح»، بمعناه الأخير، بأنه «ما يثير تأمله الإستطيقي ألمًا أو كدرًا». والسؤال الآن هو «كيف يتسنى لنا أن نحتفظ بالموقف الإستطيقي نحو موضوع ما، ونجد فيه قيمة، في الوقت الذي تكون فيه تجربتنا عنه مؤلمة؟»

(٢) «مفارقة» التراجيديا

كانت التراجيديا تثير السؤال السابق بكل حدة طوال تاريخ الإستطيقا والنقاد، فهناك اعتراف شامل بأن التراجيديات الكبرى التي عرفها الإنسان، ولا سيما تراجيديات اليونانيين؛ أيسخولوس وسوفوكليس ويوريبيدس، وتراجيديات شيكسبير، هي من الأعمال الفنية القليلة الشامخة بحق؛ «فأوديب ملكًا»، والثلاثية الأورستية، والملك لير، وهاملت، وماكبث، أعمال هائلة لا يكاد يفوقها في روعتها وقوتها أي شيء عداها في الأدب، بل في أي فن من الفنون الأخرى. وليس من الضروري أن تستخدم صفة «التراجيدي» للدلالة على تقدير معين القيمة، بل إن من الممكن استخدامها لوصف نوع معين من الشكل الأدبي فحسب. ومع ذلك فقد لحقت بهذا اللفظ ارتباطات من العمق والوقار، ومن هنا فإنه يوحي بالقيمة على نحو لا نجده في الأسماء المحايدة الخالصة «للأنواع» الفنية الأخرى، «كالسيمفونية» أو «المنظر الطبيعي»، بل إنه يوحي بقيمة أعلى بكثير مما توحي به ألفاظ شبه تقويمية، «كالكوميدي» أو «الميلودرامي».

ومع ذلك، فلو أخذنا الأمور على ظواهرها، لكان من الواجب أن تكون التراجيديات في نظرنا أقل الأعمال الفنية قيمة؛ ذلك لأن التراجيديا «هي في أساسها حكاية آلام وكوارث تفضي إلى الموت».٣٠ فعلى الرغم من أن أوديب لا يعاني الموت بنفسه، فإنه يُقدَّم إلينا على أنه شخص اقترف أعمالًا يعجز اللسان عن وصفها، هي قتل أبيه، والزواج من أمه، وهو يفقأ عينَيه في نوبة من التقزز من ذاته، ويعاني كمدًا يَهُون إلى جانبه الموت. وثمة ملك آخر، هو «لير»، تسيء إليه بناته بقسوة، وينتهي به الأمر إلى يأس قاتل وفاقة شديدة، ويموت وهو يتطلع إلى جثة ابنته المخلصة الوحيدة، فالتراجيديا تحفل بالحزن، وخيبة الأمل، واليأس الحالك. «إن التراجيديا منظر من مناظر الشر، والشر هو بعينه ما لا نستمتع به. ومع ذلك فنحن نستمتع بالتراجيديا».٣١ هذه هي «مفارقة التراجيديا».
على أن المشكلة ليست مقتصرة على ذلك النوع من الدراما الذي نطلق عليه اسم «التراجيديا». فمن الواضح أن «حكايات الآلام والكوارث» توجد في الفن الروائي بدوره، كما أن هناك كثيرًا من الصور ذات موضوعات مرعبة أو منفرة، كدراسات «روو Rouault» للعاهرات، بل إن لفظ «التراجيدي» يستخدم في وصف الموسيقى، كما هي الحال في «الافتتاحية التراجيدية» لبرامز. ولو كانت أمثال هذه الأعمال تؤلِّف مجرد «جزء جنوني ضئيل» من الفن، لكانت «المفارقة» مشكلة متعلقة بعلم النفس المَرَضي، بحيث يكون من الممكن التخلص منها بالقول إن بعض الناس يجدون لذة مازوشية في التألم. غير أن التراجيديا فن أشمل وأوسع نطاقًا من أن يُستبعد باستخفاف. ومن هنا فإن من المستحيل التخلص من المفارقة المتضمنة في أعمال الأدب الدرامي التي تعد «تراجيديات» بالمعنى الصحيح.

•••

ولكن، ما هي بالضبط طبيعة هذه المفارقة؟ إن المفارقات تنهار أحيانًا عندما يلقي المرء عليها نظرة ثانية. ومن الجائز أن هذا الحكم يصدق على هذه المفارقة بدورها. فقد قلنا إن تصوير خيبة الأمل واليأس أمر مؤلم. فهل يرجع ذلك إلى أن خيبة الأمل واليأس يثيران فينا ألمًا متعاطفًا عندما تصادفهما في «الحياة الواقعية»؟ من الجائز أنهما يؤديان إلى ذلك، ولكن لماذا نستدل من ذلك على أن هذا بعينه هو ما يحدث عندما يصور الشر في الفن؟ إن من الخطأ الساذج — أعني خطأ «المحاكاة البسيطة» في أبعد صورها عن الصواب٣٢ أن نعتقد بأننا نستجيب للأعمال الفنية على نفس النحو الذي نستجيب عليه «لنماذجها»، ومما لا شك فيه أنه لو قاسى صديق أو قريب لي مثلما تقاسي الشخصية التراجيدية، فإني أشعر بالألم، ولكن هناك حقيقة واضحة ينبغي أن نتذكرها، هي أن أوديب ولير شخصيتان خياليتان، ونحن نتخذ موقفنا إزاءهما على أساس أنهما كائنات وهمية، بحيث إن كل ما تفعله هذه الشخصيات وتمر به هو، بمعنًى ما، نوع من الإيهام (make-believe)، ومن هنا لم نكن نحس ألمًا ويأسًا عند قراءتنا عنهم.

من الواضح أن هذه الحجة تتسم بشيء من القوة، وهي تساعد على إلقاء ضوء أوضح على المفارقة. فإن كان ثمة مفارقة في التراجيديا على الإطلاق، فلا بد أن تكون متعلقة بالفن لا «بالحياة»؛ فمن المؤكد أنه لو حدث لشخص تعرفه أن واجه خيبة الأمل والإخفاق، وبالتالي عانى شقاءً مبرحًا، فإن حزننا يكون على الأرجح أشد بكثير مما يحس به المشاهد الإستطيقي. ولنتصور في هذا الصدد مقدار ما نحس به من الأسى عندما يموت أحد أفراد أسرتنا؛ فهل يؤثر فينا موت لير على نحو قريب من هذا؟ ومن جهة أخرى فلو بدا أن صديقًا أو قريبًا يتجه نحو كارثة، فإننا نقوم دون شك باتخاذ تدابير لمساعدته. أمَّا تأمُّل الفن فلا مكان فيه للسلوك العملي. ولقد حدث مرةً أن كانت سيدة شابة ذات حساسية عاطفية مفرطة تشهد عرضًا لتراجيديا «عطيل»، وترقب الشرير باجو وهو يخدع البطل بأكاذيب خبيثة يقود بها القائد المغربي إلى حتفه، فنهضت فجأة في وسط العرض من مقعدها، وصرخت نحو الممثلين في المسرح: «أيها الأسود الضخم الأحمق! ألا تدرك أنه كاذب؟» إن تصرفها هذا ربما كان دليلًا على طيبة قلبها، ولكن من الواضح أنها نسيت أن كل الحوادث «إيهام»، وأنها أتاحت للموقف العملي — بطريقتها الفجة — أن يغتصب الموقف الإستطيقي.

وهكذا فإن الحجة الموجهة ضد المفارقة تؤكد أن الاستجابة الإستطيقية ليست هي ذاتها استجابة «الحياة الواقعية»، ومع ذلك فإنها لو كانت تثبت شيئًا لكان ما تثبته أكثر مما ينبغي؛ ذلك لأنها تؤكد طابع الإيهام في التراجيديا لكي تثبت أننا لا نشعر بأي ألم على الإطلاق أثناء مشاهدتنا للتراجيديا. وهنا نجدها تتعارض مع وقائع تجربتنا. فمن غير المعقول أن تكون مفارقة التراجيديا قد اجتذبت عقول الفلاسفة والنقاد طوال القرون التي مرت منذ أرسطو، مالم يكن مشاهدو التراجيديا قد شعروا بألم متعاطف وتحدثوا عنه. ولو لم تكن هذه حقيقة، لما ظهرت المفارقة أصلًا، ولو لم تكن هذه حقيقة، لكانت استجابتنا للتراجيديا استجابة لذة خالصة. وفي هذه الناحية تكون استجابتنا للتراجيديا أشبه بما نحس به عندما نشاهد دراما عادية تتجاهل الجانب التراجيدي للحياة البشرية، وتصور الحوادث الصغيرة المحدودة التي لا يتمثل فيها شيء من خيبة الأمل المدمرة والألم الممض. والواقع أن اللغة التي نستخدمها في وصف التجربة التراجيدية — ومن أمثلتها: «إنها مؤثرة إلى حد لا يكاد يمكن تحمله» و«إنها تثير حزنًا لا يوصف، كما يقول جلبرت مري G. Murray عن «النساء الطرواديات»:٣٣ و«رعب ينعقد معه اللسان.» كما يقول معلق آخر عن «أوديب ملكًا»:٣٤ هذه اللغة ليست هي تلك التي نستخدمها في وصف استجابتنا للأنواع الأخرى من الدراما، بل إن هناك أشخاصًا لا يستطيعون أن يتحملوا مشاهدة التراجيديا حتى نهايتها، لأن الألم يكون قد اعتصرهم إلى حد يعجزون معه عن التحمل؛ ففى التراجيديا إذن شيء يجعلها مختلفة بصورة واضحة، شأنها في ذلك شأن الجليل، ويفرق بينها وبين الموضوع الإستطيقي الذي يسرنا فحسب، والذي هو أشبه ببستان بديع نستمتع برؤيته.
إن الحجة الموجهة ضد المفارقة تؤكد الفارق بين الألم في «الحياة الواقعية» وبين الألم الذي يصوره الفن؛ فانعزال الفن وعدم واقعيته يخلصنا من الحزن العميق. ولقد رأينا أن هذا القول ينطوي على شيء من الصحة. ومع ذلك فإن الفارق بين الفن وبين «الحياة» يمكن أن يحول إلى الاتجاه المضاد. فلهذا السبب بعينه، أعني كون الفن ليس هو «الحياة»، نجده يضاعف الألم المتعاطف ويزيده تأكيدًا؛ فالتراجيديا تضفي صبغة درامية مضاعفة على محنة البطل، والحوادث المحكمة الترابط التي تؤدي به إلى حتفه، تخلق في المشاهد أحاسيس متزايدة الحدة من الخوف المتشائم، والبلاغة الأدبية تزيد كارثة البطل حيوية وتأثيرًا، كما يحدث عندما يكرر لير كلمة «أبدًا» المشهورة خمس مرات في حديثه الأخير. والحق أن التراجيديا تطغى على أحاسيس المرء وتلح عليها إلى حد يندر أن تصل إليه والحياة ذاتها، ولعلك تذكر ما قاله أرسطو من أن التراجيديا تغفل السرد المجرد، الذي يقتصر على تسجيل الحوادث دون تمييز؛٣٥ فالفنان الأدبي ينتزع «الأعراض» والحوادث غير المرتبطة بالجوهر، والتي تحفل بها الحياة المعتادة، ولا يركز جهده إلا على كشف المصير التراجيدي. وهكذا يكشف عن مأساة الوجود، التي نغفلها إلى حد بعيد عندما تحدث في «الحياة»، وربما كان في هذا تفسير لمسلك السيدة الروسية العريقة التي تحدث عنها وليم جيمس، والتي أثرت فيها إحدى المسرحيات حتى بكت، ولكنها ظلت غير مكترثة بالآلام المبرحة التي يقاسيها خدمها.
إن عدم الواقعية الضمني في الفن يحمينا، على وجه العموم، من أن يستبد بنا الأسى، كما يحول بيننا وبين القيام بسلوك عملي إزاء ما نشاهد. غير أن حيوية الفن وإحكامه تزيد من إيلام التراجيديا؛ «فهي مسرحية، ولكنها ليست مسرحية فحسب».٣٦

•••

وهناك حجة من نوع آخر يمكن استخدامها لتفنيد هذه المفارقة. تلك الحجة بدورها تنكر الحقيقة التي ترتكز عليها المفارقة، ألا وهي أن استجابتنا للتراجيديا مؤلمة؛ فالحجة تقول إن مما يثبت بطلان هذا الرأي أننا نظل نشاهد التراجيديا أو نقرؤها؛ «فاللذة هي الشعور الملازم لاتجاهنا إلى المحافظة على أي شيء أو الاستمرار فيه».٣٧ وعلى ذلك فإن استمرار الاهتمام بالتراجيديا يثبت أن التجربة تبعث فينا لذة لا ألمًا. ولا يمكن وصف التجربة بأنها مؤلمة إلا إذا توقفنا عن المشاهدة.

والأمر هنا متعلق بمعنى «اللذة»؛ فاللذة، شأنها شأن بقية الألفاظ التي تدل على ما نحس به مباشرة في التجربة، ليست مما يسهل تعريفه، بل إن البعض يقول إن هذه الألفاظ لا يمكن تعريفها، بالمعنى الدقيق، على الإطلاق، وأن كل ما يمكننا عمله هو الإشارة إلى أمثلة مما تدل عليه. والقول بأن اللذة تصاحب دائمًا «اتجاهنا إلى الاستمرار» لا ينبئنا بشيء عن نوع الإحساس الذي تكونه اللذة، وإنما الأصح أن هذا القول يصف الظروف التي تنشأ فيها اللذة، ولكن هل ينبغي تصور «اللذة» على هذا النحو؟ إن قدرًا كبيرًا من التجربة الإستطيقية، فضلًا عن التجارب الأخلاقية وغيرها، يثبت أننا في كثير من الأحيان «نستمر ونواصل» نشاطًا معينًا على الرغم من كونه مؤلمًا. والتجربة التراجيدية مثل واضح من أمثلة هذه الظاهرة. أما القول إن التجربة ينبغي أن تكون باعثة للذة لأننا نحرص على استمرارها، فما هو إلا استخدام التعريف يبعث الغموض في الوقائع الواضحة. فالحجة إذن لفظية فحسب.

والواقع أن هذه الحجة تعكس وجهة نظر «مذهب اللذة hedonism»، وهو النظرية القائلة إن اللذة، واللذة وحدها، هي التي يمكن أن تكون خيرًا في ذاته. «ففي نظر القائل بمذهب اللذة تكون التراجيديا سرًّا غامضًا. فما الذي يجعلنا نقيم صنمًا من الحزن في معبد اللذة؟»٣٨ فإذا رفضنا مذهب اللذة، أمكننا أن نقول دون تناقض إن التجربة التراجيدية تبعث الألم واللذة معًا. وهكذا تصبح مفارقة التراجيديا مسألة أمر واقع في أساسها: فما هي القوة الكامنة في التجربة التراجيدية، والتي تدفعنا إلى مواصلة اهتمامنا بالمسرحية، وهو اهتمام يبلغ من الشدة والاستغراق حدًّا ننظر معه إلى التجربة على أنها على أعظم قدر من القيمة؟

•••

وردت في المؤلفات الهائلة العدد، التي كتبت عن نظرية التراجيديا، إجابات كثيرة عن هذا السؤال، ولكنا لا نستطيع أن نبحث هنا إلا بعضًا منها. ومع ذلك في وسعنا أن نستخلص من هذه الإجابات استبصارًا بطبيعة التجربة التراجيدية.

إن المفارقة تنشأ نتيجة لآلام شخصيات التراجيديا. وهذا يؤدي إلى تركيز الاهتمام على عقدة التراجيديا. ولقد سبق لنا أن ذكرنا، عند شرح المفارقة منذ بضع صفحات، أنواع الحوادث التي يشيع وقوعها في التراجيديا، ولكن من المؤكد أن العمل الأدبي، شأنه شأن أي عمل فني، ليس مجرد موضوعه فحسب، بل إن فيه، بالإضافة إلى ذلك، قدرًا كبيرًا من دقة الحس والتنظيم الشكلي. وقد يكون سانتيانا مبالغًا في قوله «إن طريقة المعالجة، لا الموضوع، هي لب التراجيديا»،٣٩ غير أن هذه المبالغة يمكن أن تكون ذات دلالة واضحة.
فما الذي نجده في التراجيديا، إلى جانب عقدتها؟ قد يكون من الواضح تمامًا أننا نجد فيها شعرًا رفيعًا؛ فقد كان الناس يعجبون دائمًا بما تنطوي عليه المقتطفات المأخوذة من التراجيديات من تصوير حسي خلاب، وخيال حي. ولعل أفضل الأمثلة على ذلك مناجيات هاملت لذاته. ومن هنا قيل إننا نحتفظ باهتمامنا بالتراجيديا نظرًا إلى مستواها الشعري، الذي لا يكون مؤلمًا لنا على الإطلاق، بل نستمتع به مثلما نستمتع بكل شعر عظيم. ويرى الأستاذ باركر Parker، في صدد كل فن يتخذ له من الشعر موضوعًا، لا في صدد التراجيديا وحدها، أن «الخطوط الخلابة، والألوان والأصوات الجذابة، والإيقاعات المثيرة، يمكنها أن تطغى على كل نفور قد نحس به — بدون هذه العناصر — إزاء الموضوع».٤٠

والصعوبة في هذه النظرية، التي تحاول إثبات أن التجربة التراجيدية باعثة للذة، مشابهة تمامًا للصعوبة التي تواجهها تلك النظرية التي تؤكد أهمية عقدة المسرحية، حين تحاول إثبات أن التجربة التراجيدية مؤلمة. فكلا الرأيَين لا يعمل حسابًا إلا لوجه واحد، مأخوذ على حدة، من أوجه العمل الفني الكامل؛ فالشعر في التراجيديا يستخدم في الكشف عن «حكاية آلام وكوارث». ومن الضروري فهم الشعر في صلته بتطور الشخصية وعقدة المسرحية؛ فهو يضفي حيوية ووضوحًا على المأزق الذي تواجهه الشخصية التراجيدية، وعلى آلامها، وحتمية الكارثة. وعندما نتعاطف مع الشخصية التراجيدية ونندمج في مصيرها، لا نشعر بألم متعاطف على الرغم من الشعر، بل بسببه. ولو قُدم إلينا عرض نثري، أو عرض شعري هزيل، لآلام هذه الشخصية، لما استطاع أن يؤثر فينا. فلنتأمل فقرة مثل:

يا ويلتاه! هل حانت نهاية كل شيء
وذروة أيامي وعرق جبينها؟
ها أنا ذا أفارق بلدي وكل دروبه
تأكلها النيران.٤١
هذا شِعر ممتاز، ولكن الناطقة به هي الملكة هيكوبا Hecuba العجوز في «النساء الطرواديات»، وهى تندب تدمير وطنها، وتتأهب لقتل نفسها:
«يا طروادة الحبيبة إلى نفسي،
خذيني معك، في لحظة عذابك، لنموت سويًّا!»

أو لنتأمل بالمثل للفقرة التي تبدأ بالأبيات:

هبي يا رياح، ومزقي خديك! ثُوري! هُبي!
أيتها الجنادل والأعاصير، تدفقي
حتى تغمري أبراجنا، وتغرقي سقوفنا!

هذا حديث الملك لير عند بداية احتضاره في منظر العاصفة في المروج (الفصل الثالث، منظر ٢).

هذه الأبيات تعبر عن أسًى شخصي متدفق، وعلى ذلك فقد لا يكون من الإنصاف استخدامها ضد الحجة التي نعرضها، والتي قد تصدق بالنسبة إلى بقية الشعر التراجيدي. فلنتأمل إذن كلمات عطيل وهو ما زال في أوج نجاحه وحبه، قبل أن تحل به الكارثة. ولعل عطيل هو أكثر أبطال التراجيديا «شاعرية»؛٤٢ فكل ما يقوله يتسم بالحس المرهف وحيوية التصوير، غير أن مجازاته وصوره ليست وشيًا ذهبيًّا شعريًّا، بل إنها تنم عن شخصية الرجل — الرومانتيكي، الساحر، الواسع الخيال، الشغوف أحيانًا بالمبالغة في تصوير أساه. ولا بد أن توضع شخصيته في السياق العام للمسرحية؛ فعطيل هو ذلك النوع من الرجل الذي يمكن أن يتلاعب به ياجو الشرير ويخدعه.٤٣ وهكذا فإن شخصيته جزء لا يتجزأ من مجرى العقدة المسرحية، كما هي الحال في كل تراجيديا. وفضلًا عن ذلك، فإن سحره وجاذبيته الشخصية لا يؤديان إلا إلى زيادة شعورنا بالألم للكارثة التي حلت به. فإدراكنا لنوع الرجل الذي ضاع يزيد من شعورنا بفداحة الخسارة. وربما كان عطيل يفتقر إلى عمق بعض أبطال التراجيديا الآخرين وتعقدهم، ولكنه محبب إلى النفس أثير لديها إلى حد لا يقل عن أي بطل تراجيدي غيره. وعلى ذلك فإن شعر عطيل، مع كل ما فيه من جمال لا يرقى إليه الشك، تزداد فعاليته بفضل الألم والرعب المتغلغلين. في التراجيديا التي هو جزء منها. ولا جدال في أننا نستطيع أن نستمتع بالشعر الذي تنطوي عليه التراجيديا منفصلًا عن الشخصيات وعن العقدة المسرحية، مثلما نستطيع تأمل صورة ذات موضوع على طريقة «بل وفراي Bell and Fry» أي بوصفها نمطًا من الخطوط والكتل؛ فالأعمال الفنية تبلغ من التعقد حدة نستطيع معه أن نلتقط منها ونختار إذا شئنا، ولكن ينبغي أن ندرك بوضوح عندئذٍ أننا أسقطنا من تجربتنا جزءًا كبيرًا. على أن الأستاذ باركر، الذي يرى أن من الممكن التغلب على طابع الإيلام في الموضوع عن طريق العنصر الحسي، يسلم بأن العنصر الحسي «يحول الانتباه إلى ذاته».٤٤ فإذا صح ذلك، كان معناه أن العمل الكامل — أي التراجيديا — ليس هو موضوع الانتباه. ويترتب على ذلك ألا تكون الحجة التي كنا نناقشها نظرية «في التراجيديا» على الإطلاق، وإنما تكون متعلقة بالشعر الدرامي بوجه عام. فإذا لم يؤخذ شِعر التراجيديا على حدة، فإنه عندئذٍ يتشرب الانفعالات الأليمة للتراجيديا. وعلى ذلك فليس في استطاعتنا أن نقبل النظرية القائلة إن «المشاهد يستطيع أن يتحمل أحزان الآخرين ببسالة إذا كانت مقترنة بموسيقى ناعمة وكلمات ملائمة».٤٥

•••

إن مفارقة التراجيديا، شأنها شأن كل العناصر الأخرى في نظرية التراجيديا، ترجع في أصلها إلى كتاب الشعر لأرسطو؛ فهو في مستهل الكتاب يتساءل، في صدد الفن بوجه عام، عن السبب الذي يجعلنا نستمتع بمحاكاة موضوعات ونتألم عندما نشاهدها في ذاتها. وهو يعلل ذلك بأننا نستمتع وبالتعلم. وحين يتحدث أرسطو عن التراجيديا ذاتها، يشير إلى المفارقة ضمنًا بالقول إن التراجيديا تتميز بأنها تثير انفعالي الشفقة والخوف.٤٦ (واللفظ الأخير يترجم أحيانًا «بالرعب») والقول في الآن نفسه إن التجربة التراجيدية تجربة لذة، وإن كانت هذه هي «ذلك النوع» من أنواع اللذة، «الذي تنفرد به» التراجيديا فحسب.٤٧
ومع ذلك فإن أرسطو لا يقدم حلًّا وضحًا للمفارقة. ولقد كان المعتقد تاريخيًّا أن الإجابة تتمثل في مفهوم «التطهر catharsis» لديه؛ ذلك لأن أرسطو يقول إن الشفقة والخوف يثاران، ولكنهما «يطهران»،٤٨ أي يُستبعَدان أو يُطرَدان من المشاهد. ومع ذلك فإن أرسطو، كما تثبت المؤلفات الهائلة العدد التي خُصصت لتفسير هذه الفكرة، لم يوضح على الإطلاق المقصود بالتطهر، ولا كيف يؤدي هذا التطهر عمله، وإنما هو يتحدث عنه بإيجاز، ولا يفسر أسباب التطهر، أو لماذا كان التطهر باعثًا للذة. ومن الجائز أن أرسطو كان يعني أننا نشعر بالراحة بعد الاضطراب الانفعالي الشديد، أو أن من المفيد أخلاقيًّا استبعاد هذين الانفعالين، ولكن هذا التفسير بدوره مجرد تخمين.

أما مفهوم «التعلم» فيقدم إلينا مفتاحًا أعظم قيمة، وإن كان علينا في هذه الحالة بدورها أن نوسع فكرة أرسطو المقتضبة ونتجاوزها. فمن الممكن النظر إلى «التعلم» على أنه يتضمن شيئين مختلفين: (١) التعرُّف، عن طريق المحاكاة، على «الأنموذج» الذي تصوره، بحيث نقول — على حد تعبير أرسطو: «نعم، إنه ذاك!»، (٢) اكتساب الحكمة. وكلا الأمرين يساعد على تفسير اهتمامنا بالتراجيديا.

إننا ندرك، دون تحويل اهتمامنا من العمل إلى «الحياة»، أن التراجيديا تصور الناس الذين نصادفهم في التجربة الإنسانية المشتركة، والشواغل التي تهمنا فيها؛ فهي تنتزع العناصر السطحية والعارضة، التي تصبغ العلاقة المتبادلة بين الحوادث في «الحياة» بصبغة الغموض.٤٩ وهكذا ندرك أن الحياة تكون على هذا النحو لو تأملناها بوضوح معقول. «فالواقع» في التراجيديا يستغرق اهتمامنا على نحو يعجز عنه التأليف الروائي والخيال «الهروبي». ومن هنا قال بيرك، الذي أشرنا في القسم السابق إلى نظريته في الجلال، عن التراجيديا.
«أعتقد أنني سأكون على خطأ كبير إذا عزوت أي قدر كبير من رضائنا الذي نحسبه في التراجيديا إلى الفكرة القائلة إن التراجيديا خداع … فكلما كانت أقرب إلى الحقيقة، وزادتنا ابتعادًا عن كل فكرة عن الخيال، كانت قوتها أكمل.»٥٠
ومما له أهمية حاسمة أيضًا، نوع الواقع الذي «نتعرف عليه» في التراجيديا؛ فالتراجيديا تتناول أعمق ما لدى البشر من الشواغل وأقوى ما يحسون به من المشاعر. وهي تتناول أهم ما في الحياة وأكثره تأصلًا بالنسبة إلينا. ألسنا نجد عددًا كبيرًا من أعظم التراجيديات اليونانية والشيكسبيرية معًا تتركز حول العلاقات العائلية — مثل أوديب، والثلاثية الأورستية، وأنتيجونا، وميديا، وهاملت، ولير؟ وهكذا تكتسب التراجيديا شمولًا في المعنى، وقوة انفعالية في نفس الآن. والواقع أن ما أطلق عليه ماثيو أرنولد اسم «الجدية الرفيعة high seriousness» يتمثل في التراجيديا بدورها، نظرًا إلى اهتمامها بالمشكلات الأخلاقية والدينية؛ فالصراع التراجيدي ينشأ نظرًا إلى محاولة البطل تحقيق أرفع مثله العليا. وهكذا يكون الأمر هنا متعلقًا بأمر أبعد ما يكون عن التفاهة والبساطة: إذ هو يتعلق بالقيم التي تضفي على الحياة هدفًا وجدارة.
وفضلًا عن ذلك فإن البطل التراجيدي «مماثل لما يوجد بالفعل في الحياة»؛ فأرسطو، كما رأينا من قبل، يقول إنه «إنسان مثلنا». وليست التراجيديا كالميلودراما، بل إن شخصياتها ليست هي الفضيلة المجسمة، وليست هي الشر بأحط مراتبه؛ فالبطل التراجيدي «شخص ليس مفرطًا في الخير والعدل، ومع ذلك فإن نكبته لا ترجع إلى رذيلة أو انحطاط فيه»؛٥١ فالخير والشر يتبادلان التأثير بخفاء في شخصيته، ويجعلانه نمطًا حافلًا معقدًا من البشر. وإيماننا بتصرفاته يزيدنا قربًا منه.
ولما كان استغراقنا المتعاطف في التراجيديا يتركز على البطل، فلنمضِ في بحث شخصيته أبعد من ذلك. إن الإنسان الشرير أخلاقيًّا يبعث فينا النفور، والإنسان الخير أخلاقيًّا، كبطل المأساة، يستثير تعاطفنا ويبعث فينا الشفقة عندما يقاسي. والشخص الخير هو ذلك الذي يقوم بأفعال يؤمن بصوابها، فعندما يقتل أورست أمه، أو عندما يقتل عطيل ديدمونة، يعتقد كل منهما أن سلوكه له ما يبرره. وقد يبدو ماكبث، من بين جميع الشخصيات التراجيدية، أوضح مثل من أمثلة الشخصية الشريرة، أعني تلك التي تختار عمدًا أداء أفعال شريرة، ولكن على الرغم من أنه يجعل من الشر خيرًا له، فمن الواضح — بصورة مؤلمة — أنه لا يستطيع أن يحول نفسه إلى كائن لا رحمة في قلبه، ولا ضمير له: «كان أفضل لي أن أعرف أفعالي، لا أن أعرف نفسي» (الفصل الثاني، ١). وقبل قيامه بقتل دنكان، وكذلك بعد قتله إياه، أحس بوخز الضمير كأشد ما يكون حدَّة، وتمثلت له أفعاله بصورة حية ملموسة، وأخذت تؤرقه، وحال إحساسه بالذنب بينه وبين جني ثمار شروره، وفقدت الحياة في نظره طعمها وقيمتها: «كل شيء ليس إلا لهوًا وغرورًا؛ أما الشهرة والرفعة فقد ضاعتا إلى الأبد» (الفصل الثاني، ١). وبالإضافة إلى هذا، استحدث الشاعر عددًا كبيرًا من الأساليب الدرامية التي تؤدي إلى الاحتفاظ بتعاطفنا مع ماكبث.٥٢

وتؤدي «واقعية» التراجيديا، و«جديتها الكاملة»، واندماج المشاهد بتعاطف مع البطل — وهي كلها نقاط وردت إشارة إليها في كتاب الشعر — إلى استمرار اهتمامنا بتكشف التراجيديا؛ فنحن لا نملك إلا أن نسمع، على الرغم من أن التجربة مؤلمة. والواقع أن الشر والألم الكامنين في التراجيديا، وتعاطفنا مع البطل، هما بعينهما اللذان يجعلان التجربة أليمة إلى حد ما، وعلى الرغم من ذلك فإن الاهتمام الإستطيقي الملحَّ يظل مستمرًّا.

وهنا نصل إلى «التعلم» بمعناه الثاني، أي معنى اكتساب «الحكمة». ويذكر الأستاذ دوكاس Ducasse أن التراجيديا تُكسبنا «حكمة هي أنفع أداة لنا في معالجة الحوادث التراجيدية (المأساوية) أو توقِّيها. ويكون شعورنا هذا باكتساب الحكمة مباشرًا بمعنى الكلمة، ولذلك فإنه يبعث فينا لذة، هذه اللذة هي في اعتقادي العنصر الأساسي الذي تتألف منه اللذة التراجيدية.»٥٣

على أنه ليس من السهل تقديم وصف دقيق لمضمون مثل هذه الحكمة. فمن النادر أن نجد تعبيرًا صريحًا عنها، كما هي الحال عندما يعلق الكورس اليوناني على دلالة حوادث المسرحية، أو عندما يقول إدجار، في «الملك لير»، إن:

على الناس أن يتحملوا
رحيلهم من هنا، كما يتحملون مجيئهم إلى هذا العالم؛
فالنضج هو كل شيء (الفصل الخامس، ٢).

على أن الحكمة التي نعتز بها كل الاعتزاز في التراجيديا، لا تُعرَض عادةً كما تُعرض الحِكم في دراسة عن الأخلاق أو القيم البشرية، وإنما هي متضمنة في الأفعال والأقوال العينية للشخصيات. وكما يقول دوكاس، فإن «شعورنا هذا باكتساب الحكمة يكون مباشرًا تمامًا». والواقع أن للحكمة التراجيدية قوة انفعالية وتخيلية يفتقر إليها التعبير الذي يستخدم طريقة السرد الخالص. ومن هنا فإن أي تلخيص لها بالنثر لا يمكن، في أحسن الأحوال، إلا أن يكون تقريبيًّا. وفضلًا عن ذلك فإن من العسير الاهتداء إلى أي رأي واحد عن المصير الإنساني، يكون مشتركًا بين جميع التراجيديات؛ فكُتاب المسرحية اليونان يختلفون فيما بينهم، كما يختلفون بدورهم عن شيكسبير، فيما يتعلق — مثلًا — بالأهمية النسبية للشخصية الإنسانية، و«المصير» اللاشخصي الذي يعلو على الأشخاص، في إحداث الكارثة التراجيدية. وعلينا أن نحرص على عدم محو هذه الفوارق عندما نتحدث عن «التراجيديا» بوجه عام. وأخيرًا فإن من الممكن وجود عدة تفسيرات مختلفة «لمعنى» التراجيديا الواحدة، وهو أمر متوقع في حالة الأعمال الفنية الزاخرة العميقة.

والآن يمكننا، بعد أن نعمل حسابًا لكل هذه التحوُّطات، أن ننتقل إلى البحث عن «الحكمة» التي تشيع نسبتها إلى التراجيديا. فالتراجيديا، كما لاحظنا من قبل، تتناول أعمق التزامات الإنسان وأهمها. وهي تصور مصير أولئك الذين يحاولون تحقيق أعز قيمهم. وعلى ذلك فإن الحكمة لها بالضرورة دور في التراجيديا؛ ذلك لأن «الحكمة» كانت تُفهم بصورة عامة على أنها نوع خاص من المعرفة — هو معرفة قيم الحياة؛ فالمرء يكون حكيمًا إذا كان يستطيع التمييز بين الخير الأصيل الباقي وبين الخير الظاهري الخادع. والمرء يكون حكيمًا إذا نظر إلى العالم بتنزه، بلا تحيز لغرض، ومن زاوية سليمة، ولم تجرفه مظاهر الحماسة الهوجاء. وهي تتضمن الفهم السليم لقدرات المرء وحدوده؛ فالحكمة ليست مجرد معرفة واقعية، وإنما هي أهم نوع من المعرفة يمكن للناس امتلاكه. ونحن نكتسبها من التراجيديا عن طريق مشاهدة التصوير الدرامي لعواقب الافتقار إلى الحكمة.

ومن الخصائص المشتركة بين أبطال التراجيديا اليونانية، تلك الصفة التي تسمى في اليونانية hybris، أي الاعتداد المفرط بالذات، والغرور والخيلاء. ولا يمكن القول إن هذه الصفة في ذاتها هي سبب الكارثة التي تصيب البطل؛ إذ إن التراجيديا أعقد من هذا بكثير. ومع ذلك فإن هذا الغرور جزء من شخصية عدد كبير من الأبطال الذين ينبغي أن نتذكر أنهم كانوا أناسًا أخيارًا من الناحية الأخلاقية، ومن ثَم فإن هذا الغرور يؤثر في سلوكهم ويشوهه. فحتى على الرغم من كون البطل يسلك دفاعًا عن قيمه، فإن سلوكه يفسد نتيجة لاعتداده المفرط بنفسه. وهذا يصدق على بروميثيوس في «بروميثيوس مقيدًا»، وعلى بطل تراجيديا «آجاكس» الذي تدفعه الآلهة الى الجنون لأنه يملك الشجاعة ولكنه لا يملك الحكمة.

أما أشهر شخصيات التراجيديا اليونانية، وهو أوديب، فلا يكاد يكون من الممكن وصفه بأنه «مسئول» عما قاساه، لأنه مُسَير منذ البداية، عن طريق النبوءة إلى قتل أبيه والزواج من أمه. وهو فضلًا عن ذلك يسهل سلسلة الأحداث التي تنتهي بالكشف عن خطاياه، محاولًا أداء واجبه بوصفه ملكًا؛ ذلك لأن من الضروري أن يهتدي الى قاتل أبيه حتى يرفع الوباء عن طيبه. ومع ذلك فإن غروره عامل ساعد على التعجيل على الاكتشاف الذي قضى عليه. فهو يحث الشاعر الأعمى تيرسياس على كشف الحقيقة، ومع ذلك يرفض قبولها بعناد. وهكذا يقول أوديب لترسياس:

إن ذهابك يعني ذهاب متاعبنا معك.

وهو يرتاب في كل من حوله، إلا ذاته. وعندما يتضح أن أوديب الملك هو ذاته مرتكب الخطايا، يكون في ذلك دليل على مدى بطلان الاعتداد الزائد بالنفس، ومدى قصور حكمة الإنسان وضعفها. هنا لا نجد «درسًا أخلاقيًّا» مباشرًا كذلك الذي نجده في الكتب، وإنما تواجهنا المسرحية بتحذير خطير، وتتحدانا أن نعمل دائمًا على دراسة أنفسنا، واختبار «حدودنا التراجيدية» من جديد.

ويُسفر مصير كريون، خليفة أوديب على العرش، في تراجيديا «أنتيجونا» عن حقائق مماثلة؛ ذلك لأن كريون لا يود إلا أن يدافع عن مملكته عندما يصدر أمره بعدم دفن الخائن الذي سقط في المعركة، ليكون مصيره عبرة لغيره، فيؤدي ذلك إلى دخوله في صراع مع أنتيجونا، التي لديها التزام إلهي وعائلي بدفن أخيها. ويقدم كريون حججًا مقنعة دفاعًا عن تصرفه. ومع ذلك فإنه بدوره يتلقى، مثل أوديب، تحذيرًا من الاعتداد المفرط بالذات:

لا تُرَبِّ في صدرك رأيًا واحدًا لا يتبدل
أو تعتقد أن الصواب ليس إلا ما تقول.

وفي آخر الأمر يؤدي سلوك كريون — وهو سلوك بطل تراجيدي — إلى موت زوجته وابنه. وعند نهاية المسرحية يندب «العاقبة المريرة للقرار الذي يبدو حكيمًا» وينعى على نفسه «حمقه». ولنقل مرة أخرى إن هذا لا يعني أن تصرُّف كريون كان «خطأ»، فتلك مسألة تختلف فيها الآراء. ومع ذلك فإنا نرى كيف يمكن أن يفسد «الاعتداد بالذات» تصرفات «إنسان خيِّر»، وكيف أن الأفعال التي يقوم بها المرء في سبيل مثله العليا يمكن أن تجر عليه أوخم العواقب؛ فمضمون «التعليم» هنا هو التواضع الأخلاقي.

كذلك يعتقد «لير»، كما يصوره شيكسبير، أنه تصرف تصرفًا سليمًا عندما تبرأ من ابنته كوردليا، وقسم المملكة بين أختيها ريجان وجونريل؛ ذلك لأنه عندما دعا ثلاثتهن إلى الحديث عن حبهن له، أعلنت ريجان وجونريل عن حبهما بنفاق، على حين أن كوردليا اكتفت بقولها «لا شيء يا سيدي» (الفصل الأول، ١). ولم يكن سلوك لير شريرًا بصورة واضحة. ولنتذكر هنا ما قلناه من أن التراجيديا لا شأن لها بحالات الشر المتأصل في النفوس. فتراجيديا «الملك لير» تعالج تجربة أخلاقية أعقد وأهم بكثير، هي تلك التي يلحق فيها الضرر برجل خير في أساسه نتيجة لافتقاره إلى الحكمة. فالملك لير يعلي من قدر امتيازات الملكية — وهي النفاق والفخامة — فوق القيمة الباقية من الحب. وهذا ما تدل عليه المسابقة البلاغية المصطنعة التي أجراها بين بناته، والقرار الذي اتخذه بناء عليها. وعندما تعجز كوردليا عن إرضاء غروره الملكي، ينصرف «بتهور ممقوت» (الفصل الأول، ١) فهو يفتقر إلى الحكمة في إعلائه للقيم الزائفة فوق القيم الصحيحة، وفي التصرف دون روية وتدبر. وهو يخون نفسه بقدر ما يخون كوردليا، إذ يقول عنها:

لقد أحببتها كأعظم ما يكون الحب، وكنت آمل أن أنال الراحة في ظل رعايتها (الفصل الأول، ١).

ويؤدي تصرف لير إلى عذابه الطويل الذي لا يطاق، وإلى موت كوردليا البريئة.

ولقد كنا نتحدث عن الحكمة التي نكتسبها، بوصفنا متفرجين، عند مشاهدتنا لنتائج افتقار البطل إلى الحكمة، ولكن ينبغي علينا أن نتحدث أيضًا عن الحكمة التي يكتسبها البطل ذاته، والتي نشاركه إياها؛ فالشخصية التراجيدية ليست، كالكثيرين منا، إنسانًا يمر بالمحنة دون أن يطرأ عليه تغير كبير ودون أن يصبح بفضلها أكثر حكمة مما كان، كما نقول عادة، فلو كان كذلك، لما كان هناك شيء يعوض من الآلام التي يمر بها، والتي تجعلنا نشعر بحزن متعاطف معه. وعندئذٍ يكون جو الحزن الذي تثيره التراجيديا جوًّا لا يكاد يكون من الممكن تحمله، ويكون البطل التراجيدي مفتقرًا إلى العظمة والنبل اللذين نحس بهما في استجابتنا له، ولكن الأصح كما قيل مرارًا، إنه «يتعلم من خلال الألم». وهو يتعلم، بدرجات متفاوتة، أهم ما ينبغي عليه، وعلى كل البشر، أن يتعلموه، ألا وهو طبيعة الحكمة وأهميتها.

ولنعد إلى «لير» لنضرب به مثلًا لهذا. فعندما بدأت ريجان وجونريل تكشفان عن وجههما الحقيقي، بعد أن دانت لهما المملكة، وتعاملان لير بازدراء، كان رد فعله مزيجًا من الغضب العاجز والإشفاق على الذات:

سأنتقم منكما انتقامًا
سيقول عنه العالم … سأفعل أشياء …
لا أدري ما هي بعد …
إن لدي كل الحق في البكاء، ولكن هذا القلب
سيتمزق إلى مائة ألف قطعة
قبل أن أبكي (الفصل الثاني، ٤).
ولكنه يكتسب، وهو ينصهر في بوتقة العذاب الأليم، عطفًا وحكمة عميقة.
فقلبه يتجه إلى:
البؤساء المساكين العراة، أينما كنتم.
ويلوم نفسه قائلًا:
لكَم أهملت ذلك!
وعنيت بالمظهر والأبهة (الفصل الثالث، ٤).

وهو يتحدث بمرارة شديدة عن الادِّعاءات الفارغة للملكية: «الكلب يطاع وهو في منصبه» (الفصل الرابع، ٦). وعن النفاق الذليل الذي كان يبدي به من قبل أشد الاهتمام: «… قالوا لي إنني كل شيء؛ إنها أكذوبة — فالعلة الضئيلة تجعلني أرتعد.»

والأمر الذي له أقوى دلالة، هو أن اعتداده الأعمى بنفسه أخذ يحل محله التنزُّه والتجرُّد الذي يتيح له إدراك حماقته السابقة؛ فهو يستطيع الآن أن يرى مدى القسوة التي أساء بها إلى كوردليا، ولذا يقول لها:

لو أن معك لي سمًّا لتجرعته (الفصل الرابع، ٧).

ومرة أخرى يسألها الصفح في حديث رائع الجمال (الفصل الخامس، ٣). وحين يموت، تكون آخر فكرة تخطر بذهنه مُنصبَّةً عليها.

وحتى تلك الشخصيات التراجيدية التي تقترب إلى أقصى حد من نمط الرجال العمليين، مثل آجاكس وعطيل، تحاول التفكير في الكارثة التي حاقت بها، و«فهم معناها». وفي آخر مرة نرى فيها أوديب، أي في «أوديب في كولونوس» تراه رجلًا يتسم بوقار مهيب، مليئًا بالحكمة الناضجة المتزنة.

إن آلام البطل التراجيدي هائلة، ولكن عظمته هائلة أيضًا؛ فهو شخصية تُرسم على نطاق واسع — في استجاباته الانفعالية، وفي تأكيده لقيمه بكبرياء، وفي قدرته على «التعلم». وهو في واقع الأمر تراجيدي (أسيان) أكثر منه شخص يدعو إلى الرثاء (pathetic)، مثلما يكون الإنسان عندما تصيبه كارثة أو مرض لا علاقة له بأفعاله، ولا يؤدي إلى تغيير في شخصيته؛ فاستجابتنا إزاء البطل التراجيدي ليست استجابة شفقة خالصة، بل أن نبله عامل هام من العوامل المؤدية إلى ذلك السمو المترفع الذي نحس به في نفس الوقت الذي نشاطره فيه أحزانه.
وأخيرًا، ينبغي أن نتأمل البناء الشكلي للتراجيديا لكي يساعدنا في التخلص من المفارقة. وهنا أيضًا نسترشد بما جاء في كتاب الشعر، فأرسطو، كما يذكر القارئ، يؤكد «الضرورة السببية» التي تضم كل عناصر عقدة المسرحية في تعاقب محكم. فعقدة التراجيديا ليس لها طابع المسلسلات المتقطعة، أي أن الأحداث «لا تتوالى دون تعاقب محتمل أو ضروري».٥٤ بل إن الأفعال جميعها تؤدي إلى الخاتمة بقوة لا تُرَد. هذه الوحدة الشكلية تؤدي إلى خبرة جمالية من الإثارة والإحكام التام؛ فحركة المسرحية تستحوذ تمامًا على المشاهد، الذي يترقب ذروتها باهتمام بالغ، ويصل استغراقه في الحوادث حدًّا من الاكتمال، وانتظاره لذروتها حدًّا من الحيوية، يتيح له تقبل الألم الذي هو جزء لا يتجزأ من التراجيديا؛ «فمن الممكن الاستمتاع بالصراع والتضارب ذاتهما، وإن كانا مؤلمَين، عندما تمارسهما بوصفهما وسيلة للكشف عن تجربة».٥٥ فالتراجيديا، على الرغم من كل ما فيها من ألم، لها القدرة على الاستحواذ على انتباه المشاهد إلى حد لا يصل إليه سوى القليل من ضروب الفن الأخرى.

•••

لقد بحثنا لتونا بعضًا من أهم الإجابات التي تردُّ على «مفارقة التراجيديا»، ولكل من هذه الإجابات قدر من الصحة؛ إذ إن كلًّا منها يرتكز على الوقائع الملاحظة في الأدب التراجيدي، وبخاصة موضوعه، وشكله، ودلالته التعبيرية، كما يرتكز على وقائع الاستجابة الإستطيقية للتراجيديا. ونظرًا إلى أن هذه النظريات ليست متناقضة منطقيًّا فيما بينها، فمن الممكن استخدامها سويًّا في تفسير قيمة التراجيديا، فقد يحدث أن تطغى شدة اللذة على الألم الذي نشعر به في استجابتنا التراجيدية، وقد لا يحدث ذلك. وربما كان هذا أمرًا يتفاوت من شخص إلى آخر. وعلى أية حال، فإن هذه المسألة لا تكون لها أهمية إلا بالنسبة إلى نظرية في القيمة ترتكز على فكرة اللذة. والشيء الذي يهمنا جميعًا هو أن من الممكن أن تكون التجربة التراجيدية عظيمة القيمة على الرغم من إيلامها، كما أن مما يهمنا أن نعرف كيف يحدث ذلك. وعلينا ألا نحاول تجاهل الألم أو استبعاده؛ إذ إنه كامن في الوجه التراجيدي لوجود الإنسان؛ «فأوديب» و«لير» «حكايتان عن العذاب والكوارث». وهما ليستا من نوع الميلودراما، أو الكوميديا التي نقرؤها باستخفاف. وعلى الرغم من كل ما فيهما من إيلام، فإنهما من أعظم ما نملك من روائع الأعمال الفنية.

إن هذه التراجيديات تظل تحديًا باقيًا للبصيرة العقلية واتساع الأفق الانفعالي لكل منا. وليس للطالب أن يتوقع معرفة سريعة منذ البداية بهذه الأعمال، بل إن عملية الاستزادة من التعرف بالتراجيديات وتقديرها هي عملية ليست لها نهاية. ومع ذلك فإن المرء ينمو من الوجهة الإستطيقية والانفعالية خلال هذه العملية التي تكون بهذا الوصف مجزية إلى غير حد.

(٣) القناع الكوميدي

ولكن لماذا نبحث في الكوميديا، من بين سائر الموضوعات، في فصل مخصص «للقبح في الفن»؟ إن الكوميديا تعتمد على «الطرب البريء»، فهنا نخلع عنا تلك الشواغل الجادة التي تعتمد عليها التراجيديا، ونستسلم للدعابة؛ فكل ما فيها مضحك، وبالتالي فإن كل ما فيها يبعث لذة، ومن المُحال أن يكون هناك ما هو أكثر منها اختلافًا عن التراجيديا.

ومع ذلك فإن المفكرين، منذ أقدم عهود التفكير الإستطيقي، قد تنبَّهوا إلى النواحي التي تقرب بينها وبين التراجيديا على نحو لا يخلو من المفارقة؛ فالفيلسوف الكبير الأول، سقراط، يدلي بعبارة فيها تلميح خفي إلى هذا التشابه.٥٦ وفي عصرنا الحاضر علَّق الكاتب الفكاهي المشهور جيمس ثيربر James Thurber على هذا الموضوع بقوله: «إن أقرب شيء إلى الفكاهة هو المأساة (التراجيديا).»٥٧ وإنه لمن الأمور الجديرة بالانتباه أن نرى كم من أوصاف أحد هذين النوعين الأدبيين يمكن أن تنطبق بنفس المقدار على الآخر، كما هي الحال مثلًا في «تلك الحدود الضيقة التي لا تتعداها قدرة الإنسان على التنبؤ بالأمور … والتي تقف على الدوام حائلًا في وجه آمال الإنسان؛ فربما كان هذا هو لب الكوميديا الإنسانية».٥٨ ولو رجعنا بذاكرتنا إلى ما قلناه في القسم السابق من هذا الفصل لأحسسنا أيضًا بالميل إلى أن ننظر إلى هذه الصفة على أنها «لب» التراجيديا.
لقد كان أرسطو هو الذي أدرج الكوميديا صراحةً، في كتاب الشعر، ضمن مشكلة القبح الفني؛ «فالكوميديا هي … محاكاة الأشخاص أدنى مرتبة، ولكن ليس بالمعنى الكامل للسوء؛ إذ إن المضحك ما هو إلا فرع من فروع القبح؛ فقوامها نوع من النقص أو القبح ليس مؤلمًا ولا هدامًا … فالقناع الكوميدي قبيح مشوه، ولكنه لا ينطوي على ألم».٥٩
وإذا كان أرسطو قد كتب بحثه الشامل في الكوميديا، فإن هذا البحث لم يصلنا على أية حال. ومع ذلك فليس من العسير أن نجد أمثلة للقبح الكوميدي كما يصفه هو، في أدب عصره والعصور اللاحقة؛ فأرسطو يتحدث عن نقص في الشخصية «ليس مؤلمًا ولا هدامًا»، أي أن هذا لا بد أن يكون نوعًا من الانحراف أو الحمق له نتائج غير ضارة نسبية، على خلاف الحمق التراجيدي. وتلك صفة نلمسها في الشخصيات المألوفة للكوميديا؛ «كالفشَّار»، والكذاب، والمهرج، والجبان؛ فهؤلاء يعانون «نقائص» في الشخصية، وهم بغيضون أخلاقيًّا. وعندما نصادفهم في «الحياة» يسببون لنا ألمًا، أو حرجًا على الأقل. والحق أن قليلًا من الناس يسببون لنا من المتاعب بقدر ما يسببه أولئك الذين نعلم عن يقين أنهم كذابون، كما أننا نشعر بالغضب أو السخط نحو الجبان، فلماذا لا تتملكنا هذه المشاعر؟ بل لماذا نضحك عندما نصادف أشخاصًا كهؤلاء في الكوميديا؟ إن من الممكن أن يكون القبح الكوميدي جسميًّا أيضًا؛ فكثيرًا ما نجد تشويها جسميًّا لدى الشخصيات الكوميدية، ولنذكر في هذا الصدد «كرش» فولستاف وأنف دورانتي٦٠ والحَوَل في عينَي بن تيربن Ben Turpin … فكيف نضحك على هذه الغرائب؟ بل كيف نضحك على حوادث تتصف عادةً بالإيلام، كالتعثُّر والوقوع، في حالة الممثل الهزلي، المرحوم جو فرسكو Joe Frisco؟

وفضلًا عن ذلك فإن الشخصية الكوميدية، شأنها شأن البطل التراجيدي، كثيرًا ما يجد نفسه واقعًا في مواقف الهزيمة وخيبة الأمل؛ فهو يستهل سلسلة حوادث لا يستطيع السيطرة عليها، وإنما يخضع لها، وعلى الرغم من أن آلامه ليست آلام بطل تراجيدي، فإنه يعاني خوفًا وحزنًا. وكثيرًا ما تقع عليه إهانات جسمية، تتفاوت ما بين الضربة القاضية المتكررة في الاستعراضات الهزلية المعروفة، وبين غمر فولستاف في النهر، ووقوع شابلن في براثن الآلات في رواية «الأزمنة الحديثة». ولا جدال في أن القارئ يستطيع أن يتذكر عددًا لا يحصى من الأمثلة الأخرى. على أن الإهانة الجسمية تحزننا عندما نصادفها في «الحياة الواقعية»، ولا سيما إذا كنا نعد الضحية بريئة، مثلما تكون الشخصية الكوميدية عادةً. وهنا يُثار السؤال مرة أخرى: لماذا «لا ينطوي القناع الكوميدي على ألم»؟

إن ما نحن بسبيل البحث عنه هو «نظرية في الكوميديا». فلنبدأ بأن نلاحظ أن هذه ليست هي ذاتها «نظرية في الضحك»؛ ذلك لأن هناك قدرًا كبيرًا من الضحك لا تثيره الكوميديا؛ فكثيرًا ما يضحك الناس عندما يشعرون بالحرج، أو عندما يكونون في حالة هستيرية، أو عندما يدغدغهم أحد، أو بسبب «الغاز المضحك».٦١ أما أسباب هذا النوع من الضحك فهي متروكة لعالم النفس أو علم وظائف الأعضاء. ومهمتنا هنا هي تحليل الأدب الكوميدي من حيث هو موضوع إستطيقي، من أجل الإجابة عن سؤالنا.
وقد يحتج بعض القراء على ذلك قائلين: «ولكن السؤال لا يكاد يحتاج إلى جواب، فهو سؤال مصطنع يكاد يجيب عن نفسه بنفسه. فمن الطبيعي ألا ننشغل أبدًا بالجبان الكوميدي أو بأحزان شابلن، إذ إننا لا نأخذهما أبدًا مأخذ الجد. فالأمر كله «دعابة»،٦٢ وإذن فمن حقنا أن نضحك.»

هذا اعتراض وجيه. فهو لا يؤدي إلى التخلص من سؤالنا، بل يؤدي إلى ما هو أفضل من ذلك، أي يبدأ في الإجابة عنه؛ ذلك لأن من الواجب أن نتذكر، كما في الحالة المشابهة في التراجيديا، أن الموضوع الذي يصوِّر — أي عيب الشخصية أو سوء المعاملة جسميًّا، ليس هو العمل الفني كله، بل إن هناك جميع العناصر الأخرى التي تدخل في العمل الفني وتميزه، والتي تفرق بينه وبين «الحياة». ومن هنا فإن الاستجابة العملية تُستبعد من مجال الكوميديا؛ فالسيدة الشابة التي أشرنا إليها من قبل، والتي قامت باستجابة عملية لمسرحية «عطيل»، ربما كانت حمقاء بما فيه الكفاية، ولكن أليس مما يفوق هذا حمقًا بكثير أن يحاول المرء إنقاذ الشخصية الهزلية من المأزق الذي وقعت فيه؟

يكفينا هذا دفاعًا عن وجهة النظر التي نسبْتُها إلى القارئ المفترض. ومع ذلك فليس في وسعنا أن نتوقف عند هذا الحد، فلماذا تشجع الكوميديا على التجرد والانفصال الإستطيقي إلى هذا الحد الواضح؟ وما الذي تتميز به الشخصية الكوميدية، والموقف الكوميدي، ويحول بيننا وبين أخذهما مأخذ الجد؟ وما هى بالضبط «حالة» المشاهد الإستطيقي أو موقفه إزاء الكوميديا؟ هذه الأسئلة، التي هي توسيع للسؤال الأول، هي التي ينبغي أن نتصدى لها الآن.

•••

إن المؤلفات التي كُتِبَت عن نظرية الكوميديا لا تكاد تقل في كثرتها عن تلك التي كتبت عن نظرية التراجيديا، وفي هذه الحالة أيضًا لا نستطيع أن نتحدث إلا عن عدد من النظريات الرئيسية. فلنبدأ بالنظرية التي سيطرت على التفكير في الكوميديا طوال القرن الحالي، وهي النظرية التي عرضها الفيلسوف برجسون في كتابه «الضحك Le rire».
يقبل برجسون النتيجة التي ينتهي إليها الإنسان في موقفه الطبيعي، وهي النتيجة التي أوضحناها منذ قليل، وأعني بها أن المشاهد لا يأخذ الكوميديا مأخذ الجد؛ ثم يعمل برجسون على التوسع في هذه النتيجة؛ فنحن لا نضحك على الشخص الذي نشعر نحوه بالعطف أو الشفقة. ومن هنا فإن من الواجب، في حالة الكوميديا، كبت الانفعال المتعاطف، على عكس ما يحدث في التراجيديا. «إن الموقف الكوميدي يقتضي نوعًا من التخدير المؤقت للقلب. فهو يهب بالعقل، لا أكثر ولا أقل».٦٣ والواقع أن رأي برجسون يعيد إلى أذهاننا الحكمة الشائعة: «الحياة مأساة (تراجيديا) في نظر مَن يشعرون، ومهزلة (كوميديا) في نظر من يفكرون.» وهناك دليل يؤيد رأيه هذا، وربما كان في استطاعتنا جميعًا أن نؤمن عليه، هو أننا لا نضحك عادة على الشخص إلا عندما نشعر بأننا منفصلون، أو حتى منعزلون عنه. وما إن تبدأ في «الشعور بالأسف» نحوه، حتى تتوقف عن الضحك.
ويمضي برجسون أبعد من ذلك في تحليل موقف المُشاهد من الشخصية الكوميدية؛ فهو موقف القاضي. ونحن نقرر أن سلوك الشخصية الكوميدية خطأ لأنه مضاد للمجتمع، ونعاقبه على ذلك عن طريق «إذلاله» بضحكنا.٦٤ فما الذي يتصف به سلوك الشخصية الكوميدية، مما يبرر حكمنا هذا؟ هنا نصل إلى لب نظرية برجسون.
إن الحياة تتألف من مواقف لا تكف عن التغير. ونحن نواجه مطالبها بنجاح عن طريق تكييف فكرنا وسلوكنا تبعًا للمواقف الجديدة، فلا بد لنا من أن نكون مرنين واسعي الحيلة. وعلينا ألا نتشبث بأنماط ثابتة من السلوك عندما تكون بيئتنا المتغيرة قد جعلت هذه الأنماط عتيقة بالية، وهو ما يحدث دائمًا بالفعل. ولكن هذا بعينه هو ما تفعله الشخصية الكوميدية. فبدلًا من أن تكون مرنة قادرة على التكيف، نراها تتصف بعيب واضح هو «الجمود الآلي»؛٦٥ فهذه الشخصية تسلك بطريقة ثابتة، أشبه بطريقة الآلات. أي أن الكوميديا تتمثل في «تطبيق الآلية على الحياة».٦٦ والمجتمع لا يمكن أن يتسامح مع الآلية؛ إذ لا يُكتب للمجتمع بقاء إلا إذا كان الناس فيه من المرونة بحيث يتكيف بعضهم مع البعض. ومن هنا كان في الضحك تقويم وإصلاح اجتماعي، يندد بالشخصية الكوميدية ويسعى إلى إصلاحها.٦٧
والواقع أن برجسون يعرض نظريته هذه ببراعة فذة. وإن المرء ليدهش إذ يتأمل عدد جوانب الكوميديا التي يمكن إدراجها تحت فرضه هذا وإيضاحها بواسطته؛ فهناك أولًا التكرار، وهو من أكثر الأساليب الكوميدية شيوعًا؛ فرأي بجرسون يترتب عليه، بصورة مباشرة تقريبًا، أن تكرار عبارة أو سطر في محادثة يمكن أن يكون مضحكًا. (ومن أساطين فن المحادثة المتكررة الممثل الهزلي جاك بيني Jack Benny)؛ فالتكرار يكشف عن آلية المتكلم، الذي يتشبث بفكرة معينة على الرغم من تغير الظروف. وفضلًا عن ذلك، فلما كان الكوميدي شخصًا عقيمًا يعجز عن مواجهة مطالب الحياة، فلا بد لنا أن نتوقع منه الرجوع إلى حالة الحلم أو غيرها من أساليب «تكييف الأمور تبعًا لطريقته الخاصة في التفكير».٦٨ والمثل الكلاسيكي على ذلك هو دون كيخوته، غير أن هناك أمثلة متعددة أخرى، مثل شابلن في رواية «الجري وراء الذهب The Gold Rush».
ولما كانت الشخصية الكوميدية تفتقر إلى القدرة الخلاقة على التكيف، التي يتميز بها الإنسان «الحي»، فإنها في كثير من الأحيان تبدو أشبه «بالشيء»٦٩ منها بالشخص؛ فنحن نراها وهي تُدفع هنا وهناك، أو تُضرب، أو يُلقى بها في الهواء، أو تتدحرج الكرة. وهذا بدوره يساعد على تعليل عدم تعاطف المشاهد معها. فكيف يمكننا أن نشعر بالاهتمام نحو «شيء»؟
وأخيرًا فإن برجسون يدلي بملاحظة غاية في الدقة عن طبيعة الشخصية الهزلية بالقياس إلى البطل التراجيدي؛ فالشخصية الهزلية تعاني «نقصًا»، كما قال أرسطو، ولكن برجسون يشير إلى أن هذا ليس نقصًا يفسد طبيعتها الكاملة. وهنا يتحدث برجسون عن شخصية هزلية تتصف «بالأمانة التامة»، ولكنها «غير اجتماعية».٧٠ وهذا الخطأ «تافه»؛ لأنه لا يشوه أمانتها الأساسية. ويمكننا أن نستشهد أيضًا بمثل آخر، هو تشارلي، في كوميديات شابلن الأولى، الذي ظل في صميمه إنسانًا طيبًا، وإن كان يسلك بغباء وتخبُّط. وبعبارة أخرى، فإن العناصر المختلفة للشخصية الكوميدية لا يؤثر بعضها في بعض، ولا يتفاعل بعضها مع بعض. أما في التراجيديا فنجد، على العكس من ذلك، أن العيب الذي تتسم به الشخصية «يجتذب مختلف طاقات الرجل ويستوعبها، ويحولها ويبتلعها».٧١ وحسبنا في هذا الصدد أن نتأمل كبرياء أوديب، وطموح ماكبث، وغرور لير.
وهنا أيضًا يساعدنا برجسون على تفسير انفصالنا عن الشخصية الكوميدية؛ فكون شخصية البطل التراجيدي تكشف بوضوح عن تداخل دوافعه ورغباته وتشابكها، يعني أنه كائن بشري معقد و«حقيقي». أما الشخصية الكوميدية فأقل تعقيدًا بكثير، وبالتالي فهي أقل إقناعًا. ويظهر ذلك بكل وضوح حين لا تكون الشخصية الكوميدية إلا «نمطًا عامًّا»،٧٢ لا فردًا متميزًا مثل هاملت. مثل هذه «الشخصيات النمطية» الكوميدية كثيرًا ما تكون مجرد «افتعال بُعثت فيه الحياة»،٧٣ على حد تعبير مونرو؛ فهي تجسُّد متحرِّك لسمة واحدة فقط من سمات الشخصية. أي إنها جبن ولا شيء غيره، أو نفاق ولا شيء غيره، وهكذا دواليك؛ فكل كلمة تقولها، وكل فعل تفعله، إنما هو مظهر هذه السمة الواحدة بعينها. ولما كانت تفتقر إلى الشخصية الزاخرة المرنة، فإنها لا تصبح أبدًا واعية بنقائصها.٧٤ فهي، على حد التعبير الأثير لدى برجسون، «شاردة الذهن» إلى آخر لحظة. وعلى القارئ أن يقارن هذا الافتقار التام إلى نمو الشخصية وإلى «التعلم»، بما يحدث في حالة البطل التراجيدي، كما وصفناه من قبل.

لقد حاولت أن أعرض أساسيات نظرية برجسون. وإنه لمن المحال الإحاطة هنا بكل الأفكار القيِّمة التي تضمنها كتاب «الضحك». وإني لأوصي الطلاب بالحرص على قراءة هذا الكتاب.

ولكن، ما مدى كفاية نظرية برجسون؟ إنها نظرية زاخرة خصبة بلا جدال.

ومع ذلك فمن الضروري تكملتها، بل والتنازل عنها، في مواضع معينة، من أجل نظريات أخرى، إذا ما أردنا أن نقدم عرضًا يشمل كل جوانب الإنتاج الكوميدي.

فمن الملاحَظ، أولًا، أن طبيعة الموقف الكوميدي تصرف المشاهد عن الاندماج فيه. ولقد تحدثنا من قبل عن «واقعية» الموقف التراجيدي و«جديته البالغة». أما المواقف الكوميدية فهي بعيدة الاحتمال تمامًا، إذا ما قيست بمعايير «الحياة الواقعية»، لا سيما حين تتحول إلى هزل مقصود لذاته (فارس farce) وخيال غير واقعي؛ فهي تزخر بالمصادفات المفرطة، ولو تأملنا رواية موليير الهزلية «مقالب سكابان Les Fourberies de Scapin» لوجدناها تتألف أساسًا من حادث غير معقول تلو الآخر، فلا بد لنا أن نأخذ مثل هذه الكوميديا «مأخذ الهزل»، لأنها بعيدة كل البعد عن العالم الذي نأخذ فيه الأمور مأخذ الجد. ويتجلى ذلك بوضوح في تلك الكوميديات التي ينطوي موضوعها على مشكلات إنسانية هامة، كالقتل مثلًا؛ ففي مسرحية «الزرنيخ والتطريز القديم Arsenic and Old Lace»، نجد سيدتَين عجوزَين مخبولتَين تقتلان عددًا كبيرًا من الرجال بدافع العطف. وفي هزلية «ثيربر» الكلاسيكية «لمسة Touche» يقوم مبارز بقطع رقبة خصمه بضربة بارعة واحدة، ولكن هنا أيضًا نجد الموقف يبلغ من بعد الاحتمال حدًّا هائلًا، وتكون «النغمة» أو الجو العام للعمل ذا طابع لا يبلغ من الوضوح حدًّا يستحيل معه على الاستجابة الأخلاقية أن تجد فرصة لتأكيد ذاتها.

وفضلًا عن ذلك فإن الوحدة المحكمة للعقدة التراجيدية لا توجد في معظم الكوميديات. فبناء كثير من المسرحيات الكوميدية، حتى عندما لا تكون الحوادث المكونة لها مغرقة في الخيال، من ذلك النوع الذي يسميه أرسطو «مفككًا». فهو مجموعة متعاقبة من المأزق لا يوجد بينها ارتباط داخلي محكم. ولما كانت الكوميديا تفتقر إلى التوتر البنائي والوحدة التي تتسم بها التراجيديا، فإن «الذروة» فيها كثيرًا ما تكون متكلفة؛ فهي «نهاية سعيدة» عشوائية تمامًا، أو انطلاقًا أشد أو أكثر صخبًا من كل ما وقع في المسرحية من قبل؛ فافتقار العقدة الكوميدية إلى التحدد يحول بيننا وبين الاستغراق المفرط.

هذه الملاحظات تتمشى تمامًا مع رأي برجسون القائل إنه لا مكان للتعاطف في تقدير الكوميديا. ومع ذلك فهناك نظريات أخرى في الكوميديا عملت على تحدي هذا الرأي من اتجاهَين متعارضَين؛ فقد قيل من جهة إننا نكون في الكوميديا أكثر انعزالًا حتى مما ذهب إليه برجسون. فعندما نضحك، لا نعبأ بقيم المجتمع، ولا نؤنِّب الشخصية الهزلية، وإنما نرى ضعف الشخصية الكوميدية وحمقها، ونستمتع بإحساس سارٍّ بتفوقنا عليها؛ فنحن نشعر، على حد تعبير «هبز Hobbes» المشهور، «بمجد مفاجئ» يعبر عن نفسه بالضحك.
ومن جهة أخرى ذهب كثير من المفكرين إلى أن برجسون وهبز كانا يفهمان الكوميديا بطريقة أضيق مما ينبغي؛ ذلك لأنه، على الرغم من أن كلًّا منهما قد يفسر، بطريقة مختلفة إلى حد ما، سبب ضحكنا على الشخصية الكوميدية، فإن أحدًا منهما لا يستطيع أن يفسر السبب الذي يجعلنا في كثير من الأحيان نضحك مع الشخصية الكوميدية، وهي حقيقة لا سبيل إلى إنكارها. والواقع أننا نفعل ذلك إذا لم يكن لدينا «تخدير القلب» الذي يتحدث عنه برجسون. فلنرجع بذاكرتنا إلى «المحتال الظريف» أو «النصاب»، الذي يظهر كثيرًا في الكوميديا، أعني مثلًا تلك الشخصية الأسطورية في الأدب الشعبي الألماني «تيل أويلنشبيجل Till Eulenspiegel». إنه يزدري الموضوعات الاجتماعية والأخلاقية بالانتقام منها. وعندما نقدر حيله، فنحن لا ندافع عن المُثل العليا للمجتمع، كما يقول برجسون، بل إن ما يحدث هو العكس؛ إذ إننا لا نستطيع أن نضحك إلا إذا تجاهلنا مفاهيمنا الأخلاقية المعتادة. ومع ذلك فإننا نبدي لذلك استعدادًا تامًّا، نظرًا إلى ظرف الشخصية الكوميدية وحيويتها؛ فطبيعته المحبوبة تكسبنا لصفها، بحيث نستمتع معه «بإجازة من الأخلاق». وإذن فالضحك في هذه الحالة راجع إلى سرورنا الطاغي، وإحساسنا بالتحرُّر من قيود الحياة اليومية. ويرى أنصار هذه النظرية أنها تعلل قدرًا كبيرًا من أنواع الدعاية «المكشوفة» أو «الإباحية».

كذلك فإن النذل الكوميدي الذي تحدَّثنا عنه الآن يشكل صعوبة أخرى بالنسبة إلى نظرية برجسون؛ فهو يُبدي في سلوكه براعة عظيمة، بدلًا من أن يسلك بطريقة «آلية» أو «جامدة». إنه واسع الحيلة إلى أبعد حد في التآمر من أجل ارتكاب سوءاته، وفي التخلص من القضاة ذوي الوجوه المقطبة. وعلى هذا النحو أيضًا يكتسب تعاطفنا، ويحول بيننا وبين اتخاذ موقف التعالي.

وما إن نسلم بأننا نتعاطف أحيانًا مع الشخصية الكوميدية، حتى نجد أن من الممكن، بل من الواجب، التخلي عن الرأي القائل إنه دائمًا «شخصية نمطية» لها بعد واحد. ويغدو تعاطفنا أعظم ما يكون عندما تكون هذه الشخصية إنسانًا معقدًا «حقيقيًّا». فعندئذٍ يصبح فردًا له كيانه الخاص، وبذلك يتحدى حكم برجسون القائل إن الشخصية الكوميدية إنما هي «نمط». وربما كان فولستاف، في مسرحية شكسبير «الملك هنري الرابع» (الجزء الأول)، هو أبرز الأمثلة على ما نقول؛ فهو شخصية متكاملة محببة إلى النفس إلى أبعد حد. إنه قطعًا كذاب، و«فشَّار»، وجبان، ولص، ولكنه ليس أية واحدة من هذه الصفات فحسب. وعلى الرغم من أن له «نقائص»، فإن هذه النقائص ليست «مؤلمة أو هدامة» لعدة أسباب. ومع أنه نذل بمعنى الكلمة فإنه يكتسب تعاطفنا بظرفه ومرحه الطليق. وهو يحتفظ بصورة مصطبغة بصبغة مثالية ساذجة عن شخصيته (الفصل الثاني، ٤). وعلى الرغم من كل رذائله، فليس فيه شر أو قسوة، ونحن لا نصدر عليه حكمًا أخلاقيًّا لأنه هو ذاته يقنعنا بأنه بمعزل عن الخير والشر. وأخيرًا، فإن فيه نوعًا من الإخفاق الطفولي الذي يثير العطف، بحيث نستطيع أن نقول، كما يقول الأمير هنري: «إننا لا نود أن نضحك عليه، بل ينبغي أن نشفق عليه» (الفصل الثاني، ٢). وهكذا فإن فولستاف يؤثر فينا إلى حد يجعلنا نتعاطف معه أعظم التعاطف.

أما مدى عمق تعاطفنا، فهو أمر يمكن قياسه على أساس استجابتنا لمشهد من أغرب المشاهد في تاريخ الأدب كله، أعني «نبذ» فولستاف المشهور عند نهاية الجزء الثاني؛ ففي هذا المشهد يذهب فولستاف إلى «وستمنستر آبي» ليحيي صديقه القديم، الأمير هال، الذي تُوِّج منذ قليل ملكًا باسم هنري الخامس. غير أن الملك ينبذه بألفاظ قاسية مؤلمة:

لست أعرفك، أيها العجوز: اركع مصليًا،
أليس عارًا أن يغدو صاحب الشعر الأشيب أحمق مهرجًا …
ويلجم فولستاف، حتى لا يعود قادرًا إلا على التمتمة: «مولاي، مولاي»، ويموت، كسيرَ القلب، بعد ذلك بوقت قصير؛ فكثير من القراء يجدون مشهد الرفض مؤلمًا إلى أبعد حد.٧٥ وفي هذا الدليل، لا على أن الكوميديا مؤلمة؛ إذ ليس ثمة شيء مضحك في المشهد — بل على أن بعض الشخصيات الكوميدية تكتسب تعاطفنا.

•••

كانت مناقشتنا للكوميديا حتى الآن ترمي إلى الإجابة عن السؤال: «لماذا لا ينطوي «القناع الكوميدي» على ألم؟» وكان اهتمامنا الأساسي منصبًّا على كوميديا الشخصيات، بينما كان اهتمامنا بأنواع الكوميديا الأخرى عارضًا. كما أننا لم نتحدث بالطبع عن أنواع أخرى من الهزليات، كالتلاعب اللفظي (القافية)، و«التخريف المحض» والتهكم … إلخ، كما أننا لم نستعرض جميع نظريات الكوميديا على الإطلاق؛ فهناك نظرية من أهم النظريات، ينبغي أن نذكرها على الأقل، تعد «عدم الانطباق incongruity» أساسيًّا في كل هزل. ويحدث عدم التطابق عندما تكون الاستجابة لموقف معين بعيدة كل البعد عن ملاءمته، أو عندما تتلاقى مواقف وقيم متباينة كل التباين، كالموقف الوقور والموقف التافه مثلًا، كأن تقول سيدة طيبة للرجل الضئيل الجسم الذي هبط لتوه من كوكب آخر في يوم العيد: «آسفة يا بني، لم يعد لدي شيء من كعك العيد».٧٦
والحق أن المرء، عندما يجد نفسه إزاء ذلك التبايُن الشديد بين نظريات الكوميديا، قد يشعر بالرغبة في القول إن هذه النظريات تزيد عما ينبغي، ولكنك إذا تريثت لتتساءل عن سبب وجود كل هذا العدد الكبير، لبَدَا لك الجواب واضحًا؛ فالكوميديا موضوع معقد غاية التعقيد. وهي تتخذ أشكالًا كثيرة متباينة. وحسبنا أن نتأمل الأنواع المختلفة من الكوميديا الأدبية؛ «كوميديا العادات commedy of manners»، و«الفارس farce»، والتهكم أو الهجاء satire، والكوميديا الرفيعة high comedy، بل والكوميديا التراجيدية tragicomedy. فإذا أضفنا إلى أذلك مختلف أنواع الهزليات — «القافية» والنكتة … إلخ — أدركنا السبب في عدم استطاعة نظرية واحدة أن تفسر جميع أمثلة الهزليات، وسبب اضطرار الباحثين النظريين إلى الالتجاء إلى «البراعة المشوبة بالتحير»٧٧ عندما حاولوا أن يقدموا مثل هذا التفسير الشامل. فقد يكون في استطاعة نظرية هبز أن تفسر بعض أنواع الضحك ذي الأغراض الشريرة على الأقل، ولكنها تنهار عندما يكون الضحك متعاطفًا، وعندما لا نشعر معه بتمجيد للذات. كما أن نظرية برجسون لا تكون كافية عندما تكون الشخصية الكوميدية متعاطفة و«إنسانية»، وهكذا دواليك.

ومع ذلك فليس في وسعنا أن نقتصر على تقسيم مجال الكوميديا إلى ميادين منفصلة، تصلح في كل ميدان منها نظرية معينة؛ ذلك لأن هذه النظريات تتصور الكوميديا على أنحاء تبلغ من الاختلاف حدًّا لا يعود معه «للكوميديا» معنًى موحد لو أخذناها كلها سويًّا. فلن تكون هناك عندئذٍ صفة أو خاصية مشتركة بين جميع أمثلة الكوميديا، بل سيكون علينا أن نعرِّف «الكوميديا» على مستوى عال جدًّا من التجريد، أعي بوصفها «ذلك القالب الأدبي الذي يدفع المشاهد إلى الضحك». وهذا بطبيعة الحال تعريف لا ينبئنا إلا بأقل القليل، والأسوأ من ذلك أنه مضلل؛ لأن هناك أناسًا يضحكون على التراجيديا، فهل من الممكن أن نستبقي لفظ «الكوميديا» بوصفه لفظًا له معناه، ونظل نحترم الفوارق بين الأنواع المتعددة للكوميديا؟

قد يكون من الممكن الاهتداء إلى الإجابة على أساس فكرة «أوجه الشبه العائلية» التي عرضها الفيلسوف المعاصر فتجنشتين Wittgenstein. فلنبدأ بمثال يستخدمه فتجنشتين، ويقول فيه إنه ليست لجميع «اللعبات games» نفس الخصائص المشتركة؛ ففي نطاق اللعبات، «تتجمع أوجه الشبه وتختفي».٧٨ فهناك لعبة من نوع معين تشترك مع لعبة أخرى في سمات معينة؛ وهذه الأخيرة تتشابه مع ثالثة في نَواحٍ معينة ليست هي نفس أوجه التشابه مع الأولى. تلك هي «أوجه التشابه العائلية»، ما دامت «أوجه التشابه المختلفة بين أفراد أسرة معينة، كالبنيان والقسمات ولون العينين وطريقة المشي والمزاج، إلخ تتداخل وتتشابك على هذا النحو ذاته».٧٩ وعلى الرغم من أن فكرة «أوجه الشبه العائلية» لم تظهر لأول مرة إلا في الفلسفة القريبة العهد، فمن الجدير بالملاحظة أن برجسون كانت لديه فكرة تقترب منها كل الاقتراب. فهو قد رفض كل محاولة «لحبس» طبيعة الكوميديا في تعريف، لأن «الكوميديا» (تنتقل) بتدرجات لا تُدرَك من شكل إلى آخر.٨٠ وكلٌّ من هذه الأشكال هو أنموذج، تدور حوله تأثيرات جديدة مشابهة للأشكال الأصلية».٨١

وإذن يمكن القول إنه لا توجد مجموعة من الخصائص المشتركة بين جميع أمثلة الكوميديا، تكفي لتعريف «الكوميديا». ومع ذلك فقد تكون هناك «أوجه شبه عائلية» بين الأنواع المختلفة للكوميديا. فأحد «النماذج» يشتمل مثلًا على سمات اتجاه عابث في الحياة، وعلى «نمط» كوميدي تسلط عليه عيب كالنفاق، وتكرار للحوار؛ ونموذج ثانٍ ينطوي على اتجاه عابث، وعلى نذل ظريف يقدَّم إلى المشاهد انطلاقًا بديلًا عن القيود التقليدية، وتكرار للحوار، ومواقف بعيدة الاحتمال؛ ونموذج ثالث يتضمن اتجاهًا عابثًا، ومواقف بعيدة الاحتمال، وأنواعًا شتى من الضرب والإهانات التي تحل على شخصيات لا كيان لها؛ هي أشبه «بالأشياء» منها بالبشر؛ ونموذج رابع لا يكاد يتضمن إلا مواقف خيالية وتخريفًا لفظيًّا؛ ونموذج خامس ينطوي على موقف نصف جاد إزاء القيم الاجتماعية، نتعاطف فيه مع البطل الذي يقع في مواقف خيالية تكشف عن سخافة التقاليد الاجتماعية؛ ونموذج أخير يشتمل على موقف جاد إلى حد بعيد، وإن لم يكن جادًّا تمامًا، من المُثل العليا الاجتماعية، وعلى نقد لاذع لها يتيح للمشاهد نوعًا من التنفيس، كما يشتمل على شخصيات نتعاطف معها، ومواقف معقولة.

وهكذا ترى إلى أي حد بلغ تعقيد «شجرة نسب» الكوميديا.

ولكن حيثما تبلغ الوقائع من التعقيد ما تبلغه في الكوميديا، فليس من الحكمة تجاهلها في سبيل الوصول إلى نوع من البساطة المزيفة. ولنذكر في هذا الصدد كلمات برجسون الحكيمة: «من العبث محاولة استخلاص كل تأثير كوميدي من صيغة بسيطة واحدة».٨٢

وهناك سبب آخر يدفعنا إلى قبول هذا التعقد في «أوجه الشبه العائلية»، بل والترحيب به؛ ذلك لأن أية سمة من السمات التي كانت توصف تقليديًّا بأنها هي لب الكوميديا، ليست في ذاتها مضحكة؛ «فعدم التطابق» يكون في بعض الأحيان محرجًا أكثر مما هو مضحك؛ و«التكرار» قد يكون مملًّا تمامًا، وأحيانًا يكون جادًّا وقورًا، كما في العهد القديم، وكما في اللازمة المتكررة في قصيدة؛ كما أن نقائص الشخصية، كالجبن، يمكن أن تكون منفرة. وفضلًا عن ذلك فإن كتاب الكوميديا غير الناجحين كثيرًا ما يستخدمون أساليب «كالتكرار» محاولين بها أن يكونوا مضحكين، على حين أن تأثيرها على المشاهد أبعد ما يكون عن ذلك. فما الذي يميز الرذيلة الكوميدية، أو التكرار أو عدم الانطباق الكوميدي، من نظائرها غير الكوميدية؟

لقد اضطر بعض الباحثين النظريين إلى الإتيان برد عاجز على هذا السؤال، هو أن هذه السمات تكون كوميدية عندما تكون مضحكة. ومن الجائز أن المرء لن يستطيع أن يفعل خيرًا من ذلك. وفي هذه الحالة يكون قوام «نظرية الكوميديا» تصنيفًا وتحليلًا لتلك الأشياء التي نجدها في العادة مضحكة. غير أن التحليل، إذا شاء أن يكون مثمرًا، ينبغي ألا يركز الانتباه على سمة واحدة كعدم الانطباق؛ ففي كل فن ينبغي النظر إلى أي عنصر واحد من عناصر العمل في علاقاته المتبادلة بجميع العناصر الأخرى، وكذلك الحال في الأدب الكوميدي؛ فمن الواجب أن نعمل حسابًا لبناء العقدة المسرحية، وللشخصية الكوميدية، والحوار، و«اللهجة» التعبيرية العامة التي تشجع المشاهد على أن يأخذ العمل «مأخذ الهزل». كل هذه العوامل تجعل عدم الانطباق أو التكرار «مضحكًا». وهكذا نجد أنفسنا مضطرين إلى الكلام عن «مجموعات» من السمات الكوميدية. فإذا ما شئنا أن نحتفظ بوحدة الكوميديا، بوصفها مقولة شاملة لأعمال أدبية متعددة ومتنوعة، كان علينا أن نعود إلى الكلام عن «أوجه الشبه العائلية»، وفضلًا عن ذلك فإن أوجه الشبه العائلية في الكوميديا تستطيع أن تعطينا مفاتيح لها دلالتها عند تحليل أعمال جديدة غير مألوفة.

قد يكون هذا أقصى ما يمكننا عمله، ولكنه على أية حال ليس بالشيء الهيِّن؛ ففي وسعنا أن نعرف عن الكوميديا كثيرًا من المعلومات الصحيحة والهامة حتى لو كان من الصعب — أو من المستحيل على أسوأ الفروض — الإجابة عن السؤال «ولكن، ما الذي يجعلها مضحكة؟» فالتحليل ماضٍ في طريقه. وخلال ذلك ستظل طبيعة الكوميديا، على حد تعبير واحد من أدق دارسيها، هي «تلك المشكلة الصغيرة، التي تبرع في إحباط كل جهد يبذل لحلها، وتنزلق بعيدًا، وتهرب، ثم تعود لكي تتراقص أمامنا ثانية».٨٣

مراجع

ريدر: مرجع حديث في علم الجمال، ص١١٤–١٢٦، ٢٢٣–٢٢٦.

فيتس: مشكلات في علم الجمال، ص٥٤٨–٦٠٧.

كتاب الشعر لأرسطو.

برجسون: الضحك.

Bergson, Henri, Langhter, Trans. Brereton and Rothwell (N. Y., Macmillan, 1911).

بوزانكيت: ثلاث محاضرات في علم الجمال، المحاضرة الثالثة.

Bosanquet, Three Lactures on Aesthetics.

برادلي: محاضرات أكسفورد في الشعر، ص٣٧–٦٥، ٢٤٧–٢٧٥.

Bradley, A. C., Oxford Lectures on Poetry, London (Macmillan, 1926).

جارفن: مشكلة القبح في الفن، ص٤٠٤–٤٠٩ (مقال).

Garvin, Lucius, “The Problem of Ugliness in Art,» Philosophical Review, vol. LVII (July, 1948).

لي: الإدراك الحسي والقيمة الإستطيقية، الفصل العاشر.

Lee, H. N., Perception and Aesthetic Value (N. Y., Prentice-Hall, 1938).

باركر: تحليل الفن (الفصل الرابع).

Parker, The Analysis of Art.

ريد: دراسة في علم الجمال (الفصل الثالث عشر).

Reid, A Study in Aesthetics.

ستولنيتز: القبح في الفن (١–٢٤).

Stolnitz, Jerome, “On Ugliness in Art,” Phil. and Phen. Research, vol. I (Sept., 1950).

ستولنيتر: ملاحظات عن الكوميديا والتراجيديا ٤٥–٦٠.

“Notes on Comedy and Tragedy,” Phil, and Phen. Research, vol. XVI (Sept., 1955).

أسئلة

  • (١)

    هل ينبغي أن تكون هناك مقولة للقبح في كل نظرية إستطيقية وافية، وبأي معنًى، أو معانٍ، لكلمة «القبح»؟ علل إجابتك.

  • (٢)

    هل هناك أية موضوعات تعد «قبيحة بدرجة ميئوس منها»؟ وهل يرجع حكمك إلى أي سبب من الأسباب المذكورة في ص٤١٧؟ وإن لم يكن، فما هو في رأيك سبب قبح هذه الموضوعات؟

  • (٣)

    أي النظريات التي درسناها من قبل (في الفصول من ٥ إلى ٨) يمكن تطبيقها، في رأيك، على أنفع وجه ممكن في تحليل التراجيديا؟ قدم المبررات لإجابتك.

  • (٤)

    هل «التعاطف» الإستطيقي شرط ضروري لتذوق رواية «الفارس» أو الكوميديا التي يكون الدور الرئيسي فيها الشخصية ذات بعد واحد؟ وبأي معنًى نستخدم عندئذٍ لفظ «التعاطف»؟

  • (٥)

    هل تعتقد أن فكرة «أوجه الشبه العائلية» يمكن تطبيقها على مفهوم «الفن الجميل»؟ وإن كان الجواب بالإيجاب، فكيف يكون ذلك؟

١  كان من الضروري استخدام لفظ «الإستطيقا» في هذا الفصل حتى لا يختلط الأمر على قارئ الترجمة العربية بين «علم الجمال» وبين لفظ الجمال كما ينتقده المؤلف. (المترجم)
٢  الإدراك الحسي والقيمة الإستطيقية ص٩٨.
Lee, Perception and Aesthetic Value.
٣  كتاب الشعر، ٥، ٧-٨.
٤  اقتَبس هذا التعريف برنارد بوزانكيت في كتابه «تاريخ علم الجمال» ص٣٩٧.
Bernard Bosanquet, A Hist. of Aesthetic (N. Y., Meridian, 1957).
٥  اقتَبس هذا النص صمويل مونك Samuel H. Monk في كتابه: «الجليل: دراسة النظريات النقدية في إنجلترا في القرن الثامن عشر»، ص٢٠٧.
The Sublime, A Study of Critical Theories in XVIIIth Century England (N. Y., Modern Language Association of America).
٦  اقتبسه مونك في الكتاب السابق، ص٩٣.
٧  المرجع نفسه، ص٩١.
٨  نقد ملكة الحكم Critique of Judgment، ص٨٣.
٩  تُناظِر هاتان الفئتان، على التوالي، «الجليل الرياضي» و«الجليل الدينامي» عند كانت.
١٠  «الجليل» في محاضرات أكسفورد في الشعر (Oxford Lectures on Poetry)، ص٤٤.
١١  المرجع نفسه، ص٥٢.
١٢  قارن مونك، المرجع نفسه، ص٢٠٨.
١٣  يطلق اسم «الأسلوب الكروماتي» على الأسلوب الحديث في التأليف الموسيقي، الذي يرتب السلم الموسيقي على أساس اثني عشر من أنصاف الأصوات، بدلًا من الأصوات السبعة التي يتألف منها السلم «الذياتوني». والأول يخرج عن مبادئ التوافق المألوفة، ويمكن أن يسفر عن أصوات تعد خشنة بالنسبة إلى الأذن التي اعتادت الطريقة التقليدية في التأليف الموسيقي. (المترجم)
١٤  و. ت. ستيس W. T. Stace: «معنى الجمال The Meaning of beauty» ص٨٢ (London, Richards & Toulmin, 1929).
١٥  المرجع المذكور، ص٩٥.
١٦  المرجع نفسه، ص٨٩.
١٧  المرجع نفسه، ص٨٩.
١٨  انظر الفصل السابع من قبل.
١٩  المرجع نفسه، ص١٠٣.
٢٠  المرجع المذكور، ص٩٧–٩٩.
٢١  المرجع نفسه، ص٩٩.
٢٢  المرجع نفسه، ص١٠٤.
٢٣  المرجع نفسه، ص١٠٥.
٢٤  المرجع نفسه، ص١٠٦.
٢٥  (أساس النقد في الفنون) The Basis of Criticism in the Arts ص٥٦.
٢٦  المرجع نفسه، ص٥٨.
٢٧  الموضع نفسه.
٢٨  «الإحساس بالجمال» The Sense of Beauty ص٩٨.
٢٩  المرجع نفسه، ص٩٦.
٣٠  برادلي: «التراجيديا الشيكسبيرية» Shakespearean Tragedy ص٧.
٣١  هنري ميرز: «التراجيديا: نظرة إلى الحياة» ص٦.
Henry A. Myers, Tragedy: A View of Life (Cornell U.P., 1956).
٣٢  انظر من قبل الفصل الخامس، القسم الأول.
٣٣  «النساء الطرواديات» في كتاب «خمس مسرحيات ليوريبيدس Five Plays of Euripides) ترجمة جلبرت مري (نيويورك، مطبعة جامعة أكسفورد، ١٩٣٤م) ص٦. وجميع الاقتباسات التي سترد في هذا الفصل فيما بعد مأخوذة عن هذه الترجمة.
٣٤  سوفوكليس: «المسرحيات السبع The Seven Play» ترجمة ليويس كامبل Lewis Campbell (لندن، مطبعة جامعة أكسفورد، ١٩٣٠م)، ص١٥ من المقدمة. وجميع الاقتباسات التي سترد في هذا الفصل فيما بعد مأخوذة عن هذه الترجمة.
٣٥  انظر ص١١٧ وما يليها من قبل.
٣٦  ل. أ. ريد: «دراسة في الإستطيقا، ص٣٤٣.
L. A. Reid, “A Study in Aesthetics” (N. Y., Macmillan, 1954).
٣٧  لي: الإدراك الحسي والقيمة الإستطيقية، ص٧٨-٧٩.
Lee, Perception and Aesthetic Value.
٣٨  بيبر: أساس النقد في الفنون، ص١٧.
Pepper: The Basis of Criticism in the Arts.
٣٩  الإحساس بالجمال، ص١٦٩.
٤٠  ديويت باركر: مبادئ الإستطيقا، ص٨٥.
De Witt H. Parker, The Principles of Aesthetics 2nd ed. (N. Y., Crofts, 1947). ومع ذلك ينبغي أن يقارن القارئ ص٨٥-٨٦.
٤١  النساء الطرواديات، نفس الموضع السابق، ص٧٤.
٤٢  برادلي: التراجيديا الشيكسبرية، ص١٨٨.
٤٣  ولكن، فيما يتعلق «بمسألة عطيل»، قارن برادلي، المرجع المشار إليه، المحاضرات ٥-٦؛ وف. ر. ليفيس F. R. Leavis المسعى المشترك. The Common Pursuit (N. Y., George Stewart, 1952)، ص١٣٦–١٥٩.
٤٤  الموضع نفسه.
٤٥  ميرز Myers، الكتاب نفسه، ص٨
٤٦  كتاب الشعر، ٦، ص٩.
٤٧  المرجع نفسه، ٦، ص٩.
٤٨  المرجع نفسه، ١٤، ص١٨.
٤٩  انظر من قبل الفصل الخامس، القسم الثاني.
٥٠  اقتبس هذا النص إيرل واسرمان: متع التراجيديا (مقال).
Earl R. Wasserman, The Pleasures of Tragedy,” ELH, A Journal of English Literary History, XIV (1947), p. 303.
٥١  المرجع المذكور، ١٣، ص١٦.
٥٢  قارن: واين بوث: «ماكبث بوصفه بطلًا تراجيديًّا».
Wayne C. Booth, “Macbeth as Tragic Hero,” Journal of General Education, VI (1951), pp. 17–25.
٥٣  فلسفة الفن Philosophy of Art، ص٢٥٣.
٥٤  المرجع المذكور من قبل، ٩، ص١٤.
٥٥  ديوي: «الفن بوصفه تجربة»، ص٤١.
٥٦  انظر محاورة المأدبة لأفلاطون، ٢٢٣.
٥٧  ماكس آيستمان: الاستمتاع بالضحك.
Max Eastman, The Enjoyment of Laughter (N. Y., Simon and Schuster, 1936) ص٤٣٢.
٥٨  د. ﻫ. مونرو: مناقشة (حجة) الضحك.
D. H. Monro, Argument of Laughter (Melbourne U.P., 1951).
٥٩  المرجع المذكور، ٥، ص٧-٨.
٦٠  جيمي دورانتي، ممثل هزلي أمريكي مشهور بضخامة أنفه غير العادية. (المترجم)
٦١  يطلق اسم «الغاز المضحك Laughing gas» على أول أكسيد الداينيتروجين، وهو غاز يستخدم أحيانًا مخدرًا في طب الأسنان، ويسبب استنشاقه الضحك أحيانًا. (المترجم)
٦٢  انظر «أيستمان»، المرجع المذكور من قبل، ص٣، ١٥–١٧.
٦٣  بجرسون: «الكوميديا» في كتاب «الضحك»، ترجمة إنجليزية بقلم Brereton and Rothwell (N,Y., Macmillan, 1911)، ص٥.
٦٤  المرجع نفسه، ص١٩٧.
٦٥  المرجع نفسه، ص١٠.
٦٦  المرجع نفسه، ص٣٢.
٦٧  المرجع نفسه، ص١٣٤.
٦٨  المرجع نفسه، ص١٨٥.
٦٩  المرجع نفسه، ص٥٨.
٧٠  المرجع نفسه، ص١٣٨.
٧١  المرجع نفسه، ص١٧٢.
٧٢  المرجع نفسه، ص١٤٩، ١٦٣.
٧٣  المرجع نفسه، ص١١٦.
٧٤  المرجع نفسه، ص١٤٦.
٧٥  انظر مقال: «رفض فولستاف» في كتاب برادلي «محاضرات أكسفورد في الشعر»، ص٢٤٧–٢٧٣.
٧٦  أجرينا على المثل الأصلي الذي أورده المؤلف تعديلًا بسيطًا حتى يلائم القارئ العربي. (المترجم)
٧٧  مونرو، المرجع المذكور، ص١٦.
٧٨  لودفيج فتجنشتين: «أبحاث فلسفية Philosophical Investigations»، ترجمة أنسكوم (N. Y., Macmilan, 1953) Anscombe، ص٣٢ﻫ.
٧٩  المرجع نفسه، ص٣٢ ﻫ.
٨٠  المرجع المذكور من قبل، ص٢.
٨١  المرجع نفسه، ص٣٧.
٨٢  المرجع نفسه ص٣٦.
٨٣  برجسون، المرجع المذكور من قبل، ص١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤