الفصل الثالث عشر

الفن والأخلاق

هذا الفصل لا يعالج موضوعًا في علم الجمال، وإنما هو يعالج موضوعًا، أو على الأصح مجموعة متشابكة من الموضوعات، في الفلسفة الأخلاقية، وأعني بها: هل الأعمال الفنية تغير شخصية المشاهد إلى الأحسن أو إلى الأسوأ، وتؤثر بذلك في سلوكه الأخلاقي، وإذا كان الأمر كذلك، فهل نستطيع نتيجة لهذا أن نحكم على هذه الأعمال على أسس أخلاقية، مثلما نمتدح الناس أو نذمهم — كما في حالة قديسِي الأخلاق وأشرارها — أو النظم والأوضاع الاجتماعية، الديمقراطية أو مشكلة الإسكان غير الصحي؟ وهل من حقنا، على وجه التحديد أن ننظم، بوسائل سياسية وقانونية، خلق الأعمال الفنية ونشرها، حتى لو وصل ذلك إلى حد حظر أعمال معينة؟ أم أن الفن، في خلقه وفي تذوقه معًا، ينبغي أن يُعفَى من الحكم الأخلاقي والرقابة الأخلاقية؟

إن الموقف الجمالي يدربنا على الانتباه إلى العمل «لذاته فحسب»؛ ففيه نهتم بالخصائص الباطنة للعمل، وقيمتها بالنسبة إلى الإدراك الباطن. أما الأخلاق فتهتم بالعلاقات بين العمل وأشياء أخرى — ومن ثَم فإنها تؤكد نتائج الفن — أي تأثيره في السلوك، وفي النظم الأخرى في المجتمع، وأوضاع الحياة البشرية بوجه عام؛ فالأخلاق تعيد العمل إلى علاقاته المتبادلة التي أخرجه منها الاهتمام الجمالي.

وعلى ذلك فإن علم الجمال والأخلاق يبحثان في خصائص مختلفة للموضوع الفني، ومن هنا فليس من المبالغة القول إنهما يتحدثان عن شيئين مختلفين، ولهذا السبب كان في استطاعتنا أن نتحدث، دون تناقض أو امتناع، عن «حالة سرطان جميلة»، أو عن «لص فنان»، فهذان التعبيران معًا يشيران إلى خواص خارجية وداخلية أو باطنة معًا.

وكما سنرى فيما بعد، فإن أولئك الذين حاربوا المعركة القديمة العهد حول «الفن والأخلاق» يؤكدون بدورهم التمييز بين الخصائص الجمالية والأخلاقية؛ ذلك لأن كل طرف في النزاع يذهب إلى أن الطرف الثاني يتجاهل خصائص بارزة في الفن الجميل؛ فأولئك الذين يؤكدون أن الفن ليس موضوعًا للتنظيم الأخلاقي يرون أن واضعي الأخلاق الصارمين، ذوي السحنة المقطبة، عاجزون عن تذوق الفن جماليًّا، أو يتجاهلون عمدًا قيمه بالنسبة إلى التأمل، أما الأخلاقيون فيرون أن خصومهم أشد إغراقًا في الخيال وابتعادًا عن الواقعية من أن يعترفوا بالتأثيرات الملموسة للفن في الحياة البشرية، أو مفتقرون إلى المسئولية في رفضهم تنظيم هذه التأثيرات من أجل تحقيق السعادة للمجتمع.

•••

ويبدو أن هذه المسألة لم تَعُد في عصرنا هذا مسألة حيوية إلى الحد الذي كانت عليه في الماضي، وبطبيعة الحال فإن مشكلة الرقابة لم تنتهِ، ونحن نرى آثار الرقابة الصارمة في الاتجاه الشمولي الحديث، كما تظهر من آنٍ لآخر في مجتمعنا قضايا هامة تتعلق بالرقابة على الكتب والروايات السينمائية، ويمكن القول إن للمشكلة بعض الأهمية في نوعي المجتمع السائدين، وذلك لأسباب متعارضة؛ فأهميتها في المجتمع الشمولي ترجع إلى أن الرغبة في المحافظة على النظام تتوقف على التيقظ في الإشراف على التفكير والتعبير، كما أن أهميتها في المجتمع الديمقراطي ترجع إلى اهتمامنا بالحقوق الفردية ورغبتنا في مقاومة أي تعدٍّ عليها، ومع ذلك فالفن ليست له في الوقت الراهن تلك الأهمية الأخلاقية التي تتسم بها نظم وأساليب اجتماعية أخرى؛ فمجتمعنا يثور بعنف أشد من جراء الجوانب الأخلاقية للنشاط الاقتصادي، كالتقييد المجحف للتجارة وأحوال الأجور والعمل، وما إلى ذلك، كما أننا نسمع الكثير عن «اللوائح الأخلاقية» للمهن المختلفة، وعن مشكلات مثل تحديد النسل والقتل دون ألم بدافع الشفقة، كذلك فإن المناقشات الحامية تدور حول المسائل السياسية والقانونية من وجهة النظر الأخلاقية.١

فإذا كان ما قلته الآن صحيحًا، فلماذا أصبحت مشكلة «الفن والأخلاق» مشكلة ثانوية نسبيًّا؟ هذا سؤال من أسئلة التاريخ الاجتماعي، يتميز بالاتساع الشديد، ولست أملك إلا أن أقدم بضع إجابات ممكنة عنه.

والإجابة الأولى غير مشجعة إلى حد ما، ولكن فيها على الأرجح قدرًا كبيرًا من الحقيقة، وأعني بها أن الفن الجميل أصبح في المجتمع المعاصر نشاطًا جانبيًّا ضئيل الأهمية إلى حد ما، ومن الممكن تجاهله دون خوف من العواقب؛ إذ إن تأثيره في حياتنا أصبح بسيطًا نسبيًّا. فارتباطاتنا السياسية والاقتصادية والدينية والقومية أصبحت أهم إلى حد بعيد. لذلك فإن الكثيرين يأخذون بالنظرة الشائعة إلى الفنانين ومحبي الفنون على أنهم مخلوقات وديعة شاذة في أشد الحاجة إلى حلاقة للشعر.٢ ولقد سار تضاؤل الأهمية الاجتماعية للفن جنبًا إلى جنب مع نمو «الفهم التجزيئي للفن الجميل»،٣ أي انفصال الفن عن أوجه النشاط الاجتماعية الأخرى، كالدين والعمل، وبطبيعة الحال فليس هذا الحكم صحيحًا صحة كاملة، كما تشهد الأناشيد الدينية وأغاني العمل ومقطوعات السلام الوطني، إلخ، ولكن هذه ليست ما نعنيه عمومًا عندما نتحدث عن فن الموسيقى، بل إننا نعني مؤلفين موسيقيين أفرادًا يعملون لحسابهم الخاص (ونادرًا ما يتمكنون من إعالة أنفسهم بموسيقاهم وحدها). كما ننظر إلى مؤلفاتهم الموسيقية على أنها موضوعات لا تؤدي أية وظائف اجتماعية، بل توجد لكي تُسمَع فحسب.
فماذا نقول عن الطرف الثاني في مشكلتنا، وهو الأخلاق؟ نستطيع في هذا الصدد أن نقترح فكرتَين مُمكِنتَين؛ الأولى هي أن المعايير الأخلاقية في مجتمعنا ربما كانت قد أصبحت من المرونة — أو من التهاون — إلى حد لم يعد الفن معه يضرها، حتى لو كانت أقوى تأثيرًا مما هي عليه؛ ذلك لأن تصوير السلوك الجنسي غير المشروع أو الأساليب الاقتصادية الخادعة في الأفلام السينمائية لن يسبب ضررًا كبيرًا لمجتمع يتغاضى بطريقة ضمنية عن هذه التصرفات، أو يقرها، وهناك فرض آخر قد لا يكون أقرب إلى الحقيقة، ولكنه قطعًا أنفع من الوجهة الإرشادية، وأعني به أن معاييرنا الأخلاقية لم تصبح أكثر تراخيًا، بل أصبحت أكثر تسامحًا وإنسانية؛ فنحن لم نعد جامدين متزمتين إلى الحد الذي كان عليه الأسلاف البيوريتانيون، لأننا لم نعد واثقين تمامًا من الصحة المطلقة لمعتقداتنا؛ فقد أصبحنا الآن نفهم النظم الأخلاقية للحضارات الأخرى وأسباب تمسك الناس بها. وأصبح فهمنا لأسباب الجريمة والانحراف في حضارتنا أفضل؛ لذلك فإننا لا نميل الآن إلى استخدام صفة «اللاأخلاقية»، واتخاذ تدابير باسم الأخلاق. وأخيرًا، فإن المجتمع الأمريكي «تعددي»، وهو يضم كثرة كبيرة من المعتقدات والعادات الأخلاقية، بل من أساليب الحياة الكاملة. ويكفي في هذا الصدد أن نقارن الشاب البوهيمي الذي يعيش في حي «جرينتش فيليج»٤ بأفراد مجتمع ريفي في الوسط الغربي من البلاد، أو بأحد سكان الضواحي من الطبقة العليا، والواقع أن أي مجتمع صغير محكم الروابط لا بد أن يكون لديه قانون أخلاقي مشترك محدد المعالم. أما الثقافة المعقدة، اللامتجانسة، مثل ثقافتنا، فلا بد أن تضم عددًا كبيرًا من القوانين الأخلاقية؛ فالأخلاق لها معانٍ كثيرة جدًّا لأناس كثيرين جدًّا، ومن هنا فمن غير الممكن استخدامها لحفز الناس على الاهتمام بنقد الفن والرقابة عليه.

لهذه الأسباب وكثير غيرها دون شك، لم تكن مشكلة «الفن والأخلاق» مشكلة رئيسية في عصرنا، ومع ذلك فإن هذه مشكلة قديمة العهد، وما زالت لها بعض الأهمية. ومن الممكن أن يؤدي تحليلنا للمفكرين السابقين الذين اندمجوا في هذا الموضوع بحرارة، إلى زيادة فهمنا للوجه الحالي للمشكلة. كما أن هذا التحليل يساعدنا على أن نفهم بصورة أكمل، المكانة التي كانت للفن في حياة البشر، والدور الذي قد يصبح له في المستقبل إذا أصبح تنظيم المجتمع مختلفًا عما هو عليه الآن.

وعلى الرغم من أن مناقشتنا ستدور في مجال الأخلاق، فإننا سوف نستعين فيها إلى حد بعيد بدراستنا لعلم الجمال، فمن المستحيل أن نتحدث بطريقة واعية عن العلاقة بين الفن والأخلاق ما لم نكن نعرف شيئًا عن طبيعة الفن الجميل، وعن الإدراك الجمالي وكيف يختلف عن التجربة المعتادة، وعن قيمة التأمل الجمالي، فبهذا وحده يمكننا أن نقرر ما يحق وما لا يحق للأخلاق أن تطلبه من الفنان الخلاق والمشاهد الجمالي.

(١) دور الفن في المجتمع الفاضل

تعد محاورة «الجمهورية» لأفلاطون أول وصف منظم لمدينة فاضلة في الفكر الغربي، ولكنها لا تزال أهم وصف من هذا النوع. «فالجمهورية» تقف على رأس كل قوائم «الكتب الكبرى» تقريبًا في تراثنا الحضاري. وعلى الرغم من أنها كتبت قبل الميلاد بما يربو على ثلاثمائة عام، فقد كان لها تأثير عميق حتى يومنا هذا. وترجع قدرتها على إلهاب خيال الناس وإثارة إعجابهم إلى ذلك العرض التفصيلي الذي قدمته لرؤيا تتميز عادة بأنها غامضة غير محددة المعالم، ألا وهي الوصول إلى أفضل حياة ممكنة للإنسان.

وتصور «الجمهورية» مجتمعًا لا تترك فيه إدارة دفة الحياة للصدف أو للهوى المتقلب؛ فالحياة الخيِّرة للفرد لا يمكن أن تتحقق إلا في مجتمع منظم أحسن تنظيم؛ ومن هنا فمن الواجب ألا تسلم مقاليد الحكم في المجتمع لأولئك الذين يكتسبون السلطة بالطرق المألوفة؛ أي الغوغائية والقوة الحربية … إلخ. فأمثال هؤلاء الناس لا تتوافر لهم القدرات التي هي ضرورة لا غناء عنها من أجل توجيه المجتمع والواقع أن القضية التي يدافع عنها أفلاطون هي، من ناحية معينة، قضية بسيطة، بل واضحة، وهي أن من الواجب ألا يمسك بزمام الحكم إلا من كان مؤهلًا لذلك، وللإنسان في داخل نفسه القدرة على توجيه حياته على نحو من شأنه تحقيق غاياته الأساسية، تلك هي قدرة العقل، وفي استطاعة المعرفة التي يمنحنا إياها العقل، أعني معرفة ما هو خير بحق الإنسان، وأن تنقذنا من أنواع الاختيار العمياء، القصيرة النظر، التي تهدم نفسها بنفسها آخر الأمر، والتي نقوم بها في سعينا من أجل السعادة. وإذن، فليحكم الدولة أولئك الذين توافرت لهم معرفة عقلية بما هو خير لها؛ فجمهورية أفلاطون هي مجتمع يحكمه الحكماء — أعني «الفلاسفة الملوك» المشهورين — الذين يبتغون في حكمهم سعادة جميع أفراده، وليست محاورة الجمهورية إلا تعبيرًا عن أمنية «حياة العقل»، وهي في الوقت ذاته تردد ذلك التنبيه الجاد، ألا وهو أن حياة العقل هي وحدها التي يمكن أن تكون الحياة السعيدة آخر الأمر.

وتتسم محاورة الجمهورية، في عدد من المواضع، بالتجريد الشديد، بل إنها قد تصبح أحيانًا صوفية. غير أن قدرًا كبيرًا من المحاورة قد كُرِّس لمشكلات عينية مألوفة كالتعليم والزواج، ويعرض أفلاطون بالتفصيل كيف ينبغي أن يمارَس حكم الفلاسفة الملوك، غير أن بعض اقتراحاته المحددة لا يتماشى تمامًا مع اتجاهات كثير من القراء المحدثين. مثال ذلك أن السلطة السياسية لا تتركز إلا في أيدي الحكام الفلاسفة، الذين يؤلفون أصغر الطبقات في الجمهورية، ولا يسمح لهؤلاء بأن تكون لهم أسر أو ملكية خاصة، كما أن البرنامج التعليمي يُخطط ويُنفذ بقدر كبير من الدقة، أما العاجزون جسميًّا أو عقليًّا فيُحكم عليهم بالموت. ويرد سقراط، المتحدث بلسان أفلاطون، على الاعتراضات التي توجه إلى هذه المقترحات بإشارة إلى أن «هدفنا في إقامة دولتنا هو ضمان أعظم سعادة ممكنة للمجتمع في مجموعة»٥ وهذا أمر ينبغي علينا أن نضعه في اعتبارنا على الدوام، فإذا كان صحيحًا أن الحياة في هذه الجمهورية هي أفضل حياة متاحة للإنسان، فلا بد لنا أن نقبل ما يبدو أنه منفر فيها؛ ذلك لأنه لو كان أفلاطون على حق، لكنا نفقد الكثير، عندما يسود حياتنا العقم والشقاء نتيجة لعدم استرشادها بالعقل.
أما اقتراحات أفلاطون بشأن الفنون فغير مُستساغة بوجه خاص في نظر القارئ الحديث؛ ذلك لأنه يدعو إلى برنامج لتنظيم الفن يبلغ من القسوة والصرامة أشد مما بلغه أي برنامج كهذا في الفكر الغربي. وهناك فقرة مشهورة في محاورة الجمهورية ينبئنا فيها أفلاطون بما يرى أن من الضروري عمله لأي فنان يرفض الخضوع للتنظيم الاجتماعي:
«علينا أن ننبئه كذلك بأن أمثاله لا يُسمَح بوجودهم في دولتنا؛ إذ إن القانون يحظر ذلك، وهكذا سنرحله بعد أن نسكب على وجهه العطر ونزين جبينه بالأكاليل، إلى دولة أخرى.»٦

ولا يقتصر أفلاطون على طرد هؤلاء الفنانين من الجمهورية، ولنلاحظ أنه لا يطرد جميع الفنانين، كما يقال عنه أحيانًا، بل إنه يتحدث عن هؤلاء الفنانين باحتقار شديد. ولا شك أن تهكمه في الفقرة التي اقتبسناها الآن واضح، وقبل هذه الفقرة مباشرة كان يطلق على هؤلاء صفات مثل «أذكياء» «ومعجزون»، والواقع أن أفلاطون، في دفاعه الحار عن حياة العقل، قد هاجم كثيرًا من مظاهر الحمق والشر، ولكنه احتفظ للفنانين بأعنف هجماته.

والحق أن القارئ الذي لا يشعر بالنفور من هذا الموقف، يحار له، فكيف ينفعل أفلاطون إلى هذا الحد ضد الفنانين، من بين سائر الناس جميعًا؟ ألا توجد أخطار أخرى أشد كثيرًا تهدد الجمهورية؟ وهناك سبب آخر للحيرة؛ فلو كان ذلك الذي يطرد الفنانين فيلسوفًا شديد الجفاف، أو مفكرًا ليست لديه حساسية جمالية، لكان الأمر مفهومًا، حتى لو لم يكن مقبولًا. غير أن أفلاطون ليس فيلسوفًا عظيمًا فحسب، وإنما هو أيضًا — باتفاق الآراء — فنان عظيم؛ فمحاوراته، ولا سيما محاورات الفترتين الأولى والوسطى من حياته، هي أعمال أدبية كبرى ذات مستوى رفيع، وفيها سحر خلاب، وخيال، وقوة درامية ووضوح في الشكل، فكيف استطاع فنان عظيم، يعيش — فضلًا عن ذلك — في عصر من أعظم العصور الخلاقة في التاريخ، أن يحمل على زملائه الفنانين بكل هذه القسوة؟

•••

أول ما ينبغي أن ندركه هو أن أفلاطون يأخذ الفنون مأخذ الجد الشديد. وقد تحدثنا منذ قليل عن الأهمية الضئيلة نسبيًّا للفنون في المجتمع المعاصر، وأشرنا إلى انفصال الفن عن الوظائف الاجتماعية الأخرى. أما في المجتمع الأثيني، في العصر الذي عاش فيه أفلاطون، فكانت الفنون قوة اجتماعية كبرى، والحق أن تأثيرها كان شاملًا إلى حد أن اليونانيين لم يضعوا التمييز الذي نعرفه حديثًا بين (الفنون الجميلة) والفنون النافعة. وفضلًا عن ذلك كان الأدب والموسيقى والرقص مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالعقيدة والتعليم؛ إذ كان الشعراء الكلاسيكيون، مثل هوميروس وهزيود، مصادر هامة للإيمان الأخلاقي والديني، وعلى ذلك فقد كان هذا التأثير الهائل للفنون، واعتقاد أفلاطون أن تأثيرها هذا سيئ في معظم الأحوال، هو الذي جعله يقترح في محاورة الجمهورية اتخاذ أمثال هذه التدابير الصارمة.

ولا شك أن تعليم الصغار أمر له أهميته الحاسمة في المدينة المُثلَى؛ ففي أثناء الطفولة يتكون الطبع الذي سيحدد مستقبل الشخص طوال حياته، فإذا شئنا أن يشب الصغار مواطنين صالحين في الدولة، فلا بد أن تكون أول المؤثرات التي يتعرضون لها مؤثرات صالحة … ومن هنا فلا بد من الإشراف بدقة على تعليمهم. على أن الأطفال في أثينا، خلال عصر أفلاطون، كانوا يتعرضون لمؤثرات مستمرة من هوميروس وهزيود، اللذين صورا جميع ضروب السلوك الشرير في آلهة العصر القديم وأبطاله، فلا مفر إذن من أن يكون تأثيرهما في الطفل الذي يسهل تشكيله مفسدًا، فإذا كان طبعه، وبالتالي سعادته كلها في المستقبل، مهددًا بالخطر، ألا ينبغي عندئذٍ وجود بعض الضوابط على ما يسمح له بقراءته؟ هل «ندع أطفالنا يعيرون أسماعهم لأية أقصوصة يرويها أي شخص، وتتلقى أذهانهم آراء هي في الأغلب مضادة تمامًا لما نريدهم أن يكونوا عليه حين يشبون؟»٧ لقد انتقد الكثيرون فكرة الرقابة عند أفلاطون على أساس أنها حد من الحرية. ومن الواضح أنها تحد من الاختيار بالفعل ولكن أية «حرية» تلك التي تؤدي إلى فساد الطبع، وتهدم سعادة المجتمع؟ هذا هو رد أفلاطون، وهو رد ينبغي أن يؤخذ بجدية، حتى لدى أشد أنصار «الحرية» تحمسًا.
ولا يريد أفلاطون أن يتعرض البالغون أيضًا، فضلًا عن الأطفال، لأعمال فنية ذات موضوع مذموم.٨ وفي نهاية الأمر يضيق نطاق الموضوع المسموح به إلى حد بعيد:
«إننا لا نستطيع أن نقبل في دولتنا من الشعر إلا ذلك الذي يشيد بفضائل الآلهة والأخبار من الناس.»٩

إن أسهل وسيلة لنقد الفن على أساس أخلاقي هي أن نوجه هذا النقد إلى موضوع الفن، وأوضح السبل التي يمكن أن يكون الفن بها لاأخلاقيًّا هي أن يعرض السلوك اللاأخلاقي فحسب، غير أن انتقادات أفلاطون لا تقف عند حد الموضوع، بل إن كل بعد آخر من أبعاد الفن — المادة الحسية، والشكل، والتعبير — يقع تحت طائلة نقده.

إن أفلاطون يعترف بأن المواد المستخدمة في الفن يمكن أن تكون مصدرًا للذة حسية كبرى. ولنقل مرة أخرى إنه لم يكن غافلًا عن قوة الفن. غير أن اللذة الحسية ليست كافية لتبرير الفن، وإنما ينبغي أن نبحث دور الفن في النمط الكامل للوجود؛ فأولئك الذين يدافعون عن الشعر ينبغي أن يثبتوا أنه «ليس مجرد مصدر اللذة، بل هو مفيد للمجتمع والحياة البشرية».١٠ بل إن قدرة الفن على منحنا اللذة إنما تزيد من خطورته؛ إذ إن استجابة الناس للفن تكون أقوى، وبالتالي يكون تأثرهم به أعظم، عندما يخلب العمل الفني لهم.
كذلك فإن الإيقاعات الموسيقية وغيرها من ألوان القوالب تترك انطباعها في النفس. وإذن فلنا الحق في حظر القوالب المتراخية المفتقرة إلى التنظيم. ولا يعترف أفلاطون إلا «بالإيقاعات الملائمة لحياة الشجاعة وضبط النفس».١١ وهو يحظر تلك المؤلفات الموسيقية التي تعبر عن «الثمل، والتخنُّث، والخمول».١٢
على أن الأهمية الأخلاقية لا تقتصر على أنواع معينة من التأثير التعبيري؛ فإذا كان العمل معبرًا على الإطلاق، فإنه يثير الانفعال، ولقد كان الفنان الشعبي في أيام أفلاطون، كما هو في أيامنا هذه، يسعى إلى التلاعب بانفعالات الجمهور، وكانت أعماله تتيح للمشاهد أن يستمتع بما نسميه اليوم «فاصلًا جيدًا من البكاء»، ولكن حياة العقل تقتضي أن تظل الانفعالات خاضعة لتحكم التفكير العقلي. وليس معنى ذلك أن تقمع الانفعالات كلية؛ إذ إن أفلاطون ليس زاهدًا، ولكن الواجب أن تتجنب التطرف أو التهور؛ لأنها لو تطرفت أو تهورت لقضت على حكم العقل، وهدمت بالتالي السعادة البشرية. وفي هذه النقطة بعينها يتدخل الحكم الأخلاقي في مجال الفنون؛ فالشعر «يثير الجزء الخسيس في النفس ويغذيه، وبذلك يعرض العقل ذاته للدمار، ويقيم في نفس الفرد حكمًا فاسدا».١٣ وهنا نجد مرةً أخرى أن التأثير اللاحق للتجربة الجمالية في بقية جوانب الحياة هو الذي يضايق أفلاطون؛ فإذا أطلقنا العنان لانفعالاتنا أثناء مشاهدتنا المسرحية، فإن شخصيتنا الكاملة تتأثر تأثُّرًا سيئًا. «إن الشعور بالألم، الذي تزيده رؤية شقاء الآخرين قوة، يكون من الصعب التحكم فيه عندما يصيبنا نحن».١٤
على أننا لا نستطيع أن نثق في قدرة الفنانين على إخضاع أعمالهم للنظام السليم؛ فهم يتغافلون عن المشكلات الكبرى المتعلقة بسعادة المجتمع، لأنهم في عمومهم لا يهتمون إلا «باجتذاب الجمهور». وحتى لو لم يكونوا كذلك، فإنهم مخلوقات لا عاقلة؛ فنشاطهم الخلاق ضرب من «الجنون»،١٥ ومن هنا فإن أعمالهم ينبغي ألا تُنشر بين الجمهور إلا بعد أن يختبرها ويقرها المسئولون عن المجتمع.١٦ كذلك لا يمكن أن تكون للفنان حرية تجربة قوالب وأساليب جديدة. فما إن تتضح الفائدة الأخلاقية لقوالب فنية معينة، حتى تُحظر كل التجديدات.١٧
فإذا جمعت بين كل هذه الاقتراحات معًا، لاتضح لك مدى تضييق أفلاطون للحرية الفنية والجمالية، ومع ذلك، فعلى الرغم من أنه يقتطع من الفن قدرة كبيرة، فإنه لا يستعيض عن ذلك بعدد صغير فقط من الأعمال الفنية «المفيدة» أخلاقيًّا، ولو اعتقدت ذلك لأخطأت فهم نظريته؛ ذلك لأن أفلاطون يدافع عن طريقة كاملة في الحياة تتصف في نظره بالقيمة الجمالية؛ فمواطنو الجمهورية سيعيشون في بيئة يغمرها التناسق والانسجام، وفي هذه البيئة لا تقتصر السمات الجمالية على ما نسميه «الفنون الجميلة»، بل إن من الممكن غرس هذه السمات الجمالية في كل شيء، «في فن التصوير وكل فن إبداعي آخر، كالنسج والتطريز والعمارة وصنع الأثاث».١٨ وعلى حكام الدولة ألا يسمحوا «بالرذيلة، وبالتهور، والوضاعة، والخشونة»١٩ في أي إنتاج للقريحة البشرية، والحق أن من واجبنا، قبل أن نصدر حكمنا على أفلاطون، أن نتريث ونتذكر كل ما هو مهوَّش «ومزيف» في فن «الإعلان»، وفي الأدوات اليومية التي يستخدمها الناس في مجتمعنا الحديث.
وكما أن الوضاعة الفنية تفسد النفس، فإن النظام والجمال يهذبانها. وهكذا فإن الصغار سيعيشون ويتنقلون في بيئة يمكنهم فيها أن «يجنوا الخير من كل ما يحيط بهم، ويتأثروا بكل الأعمال الطيبة التي تتبدى لأعينهم وآذانهم».٢٠ وعندما يتحدث أفلاطون هنا عن «الخير» فإنه لا يعني القيمة الجمالية فحسب؛ فهو، كغيره من اليونانيين عامةً، لم تكن لديه تلك الفكرة الحديثة عن «الجمالي» من حيث هو مقولة متميزة، بل إنه يميل إلى التوحيد بين القيم الأخلاقية والجمالية؛ لأنها تشترك معًا في النظام والانسجام».٢١ وعلى ذلك فعندما «يجني الصغار الخير» من كل ما يتصلون به من الموضوعات، فإن طبيعتهم الأخلاقية تغدو أفضل؛ وينمون في أنفسهم ذلك التوازن النفسي الذي هو أساس لكل حياة فاضلة سعيدة؛ «(فالإيقاع) والانسجام متغلغلان في أعماق النفس، ويستحوذان عليها تمامًا فيضفيان … توافقًا على الروح والبدن».٢٢

•••

ومع ذلك فأغلب الظن أن هذا لن يرضي القارئ الحديث، بل سيقول: «جميل جدًّا أن نتحدث عن «الأعمال الرفيعة» وكيف أنها تعلو بالنفس، ولكن ماذا نقول عن بقية نظرية أفلاطون؟ لقد كمم أفواه الفنانين وفرض قيودًا قاسية على التذوق الجمال، وهو قد سلبنا بعضًا من أعز قيمنا، باسم «الأخلاق» و«مصالح الدولة» (وهو تعبير له وقع مشئوم على أذن الإنسان الحديث).»

فإن كان هذا هو النقد، فإن هناك أمرًا واحدًا ينبغي أن نستيقنه: فما هو وجه الاعتراض بالضبط؟ هناك احتمالان: (١) هل الاعتراض مُنصَب على أي نقد أخلاقي وإشراف اجتماعي على الفن؟ (٢) أم أنه مُنصَب على البرنامج الخاص للتنظيم الاجتماعي الذي وضعه أفلاطون؟

(١) إننا نعيش في عصر ومجتمع يُعلي من قدر الحرية الفردية. وعلى ذلك فإن من المتوقع من القارئ أن ينفر من نظرية أفلاطون. ولكن ينبغي علينا في هذا الموضوع، كما في غيره من موضوعات الفلسفة، أن نختبر معتقداتنا اختبارًا نقديًّا، وقد يكون علينا أن نتوخى أكبر قدر من الحرص في اختبار تلك المعتقدات التي نتمسك بها بأكبر قدر ممكن من الاقتناع، فهل يُلزمنا إيماننا بالحرية الفنية والجمالية بأن نأخذ بالرأي القائل بأن مِن الواجب عدم فرض قيود على الفن؟ وهل نستطيع الدفاع عن هذا الرأي ضد أفلاطون؟

إن ما يقوله أفلاطون يتلخص فيما يلي: الحياة الخيَّرة لا يمكن تحقيقها إلا إذا سلكنا في ضوء العقل؛ فهي لن تأتي عفوًا أو نتيجة لاختيار لاعقلي، وعلى ذلك فمن الواجب إخضاع كل أوجه نشاطنا لسيطرة العقل، وأي أوجه نشاط تقضي على «صحة الروح» — على حد تعبير أفلاطون المجازي — يمكن، بل يجب، أن تُستهجن أخلاقيًّا؛ ذلك لأن هذه الأفعال تولد الشقاء للفرد وعدم الاستقرار للمجتمع. ولما كان مثل هذا النشاط يقف حائلًا دون تحقيق مثل الإنسان العليا، فإن في هذا الكفاية لإدانته.

والواقع أن الإشراف الأخلاقي على الحياة يشمل جميع النظم الاجتماعية الكبرى. ألسنا نعتقد، في عصرنا هذا، أن الزواج والحياة العائلية، وأحوال العمل والنظام التعليمي، تخضع لقدر معين على الأقل من الإشراف الاجتماعي؟ وإذن، فلم لا يخضع الفن بدوره؟ ولماذا يكون للفن امتياز خاص لا يناله أي نظام آخر؟ إن الأمر كما يعبر عنه أفلاطون قرب نهاية محاورة الجمهورية، هو أن «الأمر خطير حقًّا، وهو أخطر مما يتصوره معظم الناس، فعليه يتوقف تحول الإنسان إلى الخير أو إلى الشر، ومن هنا فإن من واجبنا أن نقاوم إغراء الشعراء، مثلما نقاوم إغراء المال أو الحياة أو الشهرة، إذا ما حضَّنا على إغفال العدالة والفضيلة».٢٣

ولو استطعنا أن نعزل الشعر والفنون الأخرى عزلًا تامًّا عن بقية جوانب الحياة، لسحب أفلاطون اعتراضاته على الأرجح. غير أن كل ما في حجته من قوة إنما يرتكز على استحالة القيام بمثل هذا العزل؛ فقراءة قصيدة أو سماع قطعة موسيقية يؤثر في الطبع، ولا سيما عند الصغار، بل إننا نعترف بهذه الحقيقة حتى في عصرنا الراهن، الذي أغلق الأبواب على الفن إلى حد بعيد. ألسنا نمنع أطفالنا من قراءة كتب معينة ومشاهدة أفلام سينمائية معينة؟ إن من الصفات الأساسية للموقف الجمالي أنه لا يهتم إلا بالموضوع الحالي للوعي، ولكن تأثيرات الإدراك الحسي الجمالي تتجاوز التجربة الجمالية ذاتها. ولنذكر أن الشخص الذي يضع تصميمًا لمجتمع مثالي ليس مجرد متذوق جمالي، بل ينبغي عليه أن يأخذ في اعتباره النتائج الفردية والاجتماعية للفن، حتى لو لم يكن المتذوق الجمالي يفعل ذلك.

(٢) ومع ذلك، فحتى لو سلَّمنا بالحاجة إلى بعض التنظيم للفن، فقد نظل نرفض البرنامج الخاص الذي عرضه أفلاطون. فإذا أمكننا أن نثبت، كما حاول أفلاطون أن «الجمهورية» هي بالفعل أفضل حياة ممكنة للإنسان، فأغلب الظن أننا سنضطر عندئذٍ إلى قبول الرقابة وكل ما عداها. وهل يستطيع أحد أن يستكثر ثمنًا كهذا في سبيل تحقيق المثل الأعلى؟ إننا سنقول عندئذٍ، مع ويل روجرز Will Rogers «يكفيني أني سأنال الأفضل».

على أن كثيرًا من النقاد يعتقدون أن أفلاطون أخفق في التدليل على وجهة نظره، وهم في عمومهم يرون، إما أن المدينة الفاضلة لا يمكن تحقيقها فعليًّا، وإما أنها، حتى لو تأسست، لكانت بعيدة عن أن تكون نظامًا اجتماعيًّا مثاليًّا، ولا شك أن التوسع في عرض حججهم سيبعدنا عن موضوعنا الأصلي. ولذلك فمن الواجب بحث مقترحات أفلاطون الخاصة بالفن في ذاتها.

إن الاقتراح الخاص بالرقابة الصارمة هو من الأمور التي تجعل نقاد أفلاطون يتشككون في قيمة الحياة في مدينته الفاضلة. ولقد شهدنا في القرن العشرين نظمًا شمولية أكثر مما نحتمل، وفي كثير من الأحيان توصف الحياة اليومية في هذه المجتمعات بأنها باهتة رتيبة إلى حد الإملال، والواقع أن للمرء الحق في أن يخشى هذه الرتابة الشاملة بقدر ما يخشى الاضطهادات وضياع الحرية، وليس من المحتمل أن تكون مدينة أفلاطون الفاضلة بمنأًى عن هذه الرتابة؛ ففيها يضيق الخناق بشدة على موضوعات الفن وأشكاله وأساليبه، فما أكثر ما يضيع، نتيجة لذلك، من الطابع الذي نحس به للحياة! إن الخيال الواسع الأفق للفنان، عندما يسمح له بالانطلاق حرًّا، يضفي على حياتنا رونقًا وجدة. أما في المدينة الفاضلة فإن الفن خاضع للتراث التقليدي إلى حد بعيد. ألن يؤدي به ذلك إلى أن يصبح ثقيلًا مملًّا؟ إننا نعرف إلى أي حد يصدق ذلك على الفن الوطني الحماسي والإرشادي، ويمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى التصوير السوفيتي الذي كُرس قدر كبير منه لتحية أبطال الثورة وتخليد ذكرى أحداثها التاريخية، كما يمكننا أن نشير إلى الفن العقيم الذي أنتجته ألمانيا في عهدها النازي، وهكذا لا يكاد يكون من الممكن ظهور شعر قوي غني إذا كان يقتصر على «مدح الآلهة والأخيار من الناس».

وإذن فمن المؤكد أنه ستحدث خسارة هائلة، بل خسارة لا تعوض، في القيم المحسوسة للمتعة الجمالية. هذا من جانب المشاهد الجمالي، ولكن الرقابة الأفلاطونية ضارة إلى حد أعظم بالفنان نفسه. فلدى الفنان القدرة على العمل الخلاق، والرغبة فيه. ويُعَد تحقيق قدراته وإخراجها إلى حيز التنفيذ أمرًا حيويًّا بالنسبة إليه. ولا بد أن يعاق نمو شخصيته إن لم يستطع أن يطلق العنان لأفكاره الخلاقة: إذ إن في كبت الرغبات الخلاقة إيقافًا لنمو الإنسان، وهو عند بعض الفنانين أشبه بحرمانهم من الهواء أو الغذاء. وفضلًا عن ذلك فإن هذا يؤدي إلى عزل الفنان عن تكوين علاقة مثمرة مع واحد من أهم العوامل المؤثرة على فنه، وهو جمهوره، فكثيرًا ما تكون الاستجابة الواعية والنقد العميق عاملين لهما قيمة لا تقدر، يعينان الفنان في عملية النقد الذاتي، وبالتالي في النهوض بفنه؛ فالجمهور يتيح للفنان أن يقيس ما أحرزه من نجاح أو إخفاق. على أننا لا نستطيع أن ننتظر من الجمهور في المدينة الفاضلة أن يقوم بهذه الوظيفة؛ إذ إن ذوقه لا بد أن يكون محدودًا؛ ذلك لأن الذوق لا ينمو ويتسع نطاقه إلا إذا تعرض المدرك لأعمال فنية كثيرة ومتنوعة، وليس من المستبعد أن يصبح الذوق فجًّا جاهلًا نتيجة للرقابة، ولو كان على الفنان أن يقدم أعماله إلى الرقابة قبل أن يستطيع نشرها، فأغلب الظن أن أجرأ تجديداته لن يسمح لها بأن تُختَبر من خلال استجابة الجمهور لها.

والواقع أن حظر أفلاطون للتجديد هو واحد من أقسى القيود التي يفرضها على الفن؛ ذلك لأن الفن الجميل يزدهر بالتجريب، وعدم اقتناع الفنان بالتراث الموجود يؤدي إلى تطوير أشكال جديدة، كالرواية والقصيد السيمفوني، وكذلك إلى ظهور أساليب جديدة، ولنتصور ما كانت الحضارة البشرية ستفقده لو أن اقتراح أفلاطون وُضع موضع التنفيذ في أية فترة من فترات تاريخ الفن. إن من واجبنا أن نسلم بأن بعضًا من أعظم أعمالنا الفنية قد خُلق عن طريق استخدام قوالب وأساليب تقليدية. كما ينبغي أن نسلم بأنه حدث في عصرنا هذا إغراق متطرف في التجديد لأجل التجديد، ومع ذلك يظل من الصحيح أن الفن السكوني المتحجر يشل الفنان ولا يقدم للمشاهد إلا زادًا هزيلًا.

ولقد بلغ من اهتمام أفلاطون بالنتائج البعيدة المدى للفن أنه لم يدرك، على ما يبدو، قدرة الفن على إثراء التجربة المباشرة. إنه بالطبع يعترف بأن الفن يستطيع أن يثير الانفعال والخيال، ولكنه يرفض هذين الأخيرين بوصفهما «لذة» و«اهتمامًا بالشهوات»؛ فهو يتجاهل القيمة الكامنة للاستجابة الجمالية.

ولعل أوضح دليل على ذلك لا يتمثل في اقتراحات أفلاطون ذاتها، بل في الروح التي يعرض بها هذه الاقتراحات، فحتى لو فسرنا نظريته بأشد التفسيرات تعاطفًا، وحتى لو افترضنا أن الرقباء سيكونون إنسانيِّين عقليِّين إلى حد يفوق البشر، فقد رأينا أن الفن ذاته سيعاني خسارة كبرى. ومع ذلك لا يبدو أبدًا أن أفلاطون حزين لهذه الخسارة، بل إنه يطرح جانب ذلك الاعتراض في المرات القليلة التي أثير فيها خلال المحاورة، ولكن ذلك الذي يود أن يحرم الحياة من كل هذا القدر من ثرائها، ينبغي أن يبين لنا أنه يفهم مقدار ما يتم التنازل عنه، وينبغي أن يبدي الأسف والندم. غير أني لا أعتقد أن أفلاطون قد فعل ذلك، وهذا يؤدي بنا إلى الشك في قدرته على معرفة الحق الذي يستند إليه الفن في مطالبته لنفسه بمكان تحت الشمس. إن أحدًا لا يستطيع أن يشك في أن أفلاطون كان شاعرًا بحق الأخلاق في تنظيم الحياة البشرية في سبيل سعادة البشر. غير أن مشكلة «الفن والأخلاق» بأسرها تنحصر في بحث حقوق الأخلاق وكذلك حقوق الفن، وفي وضعهما كل مقابل الآخر وإعطاء كل منهما حقه، لا في ترك أحدهما يطغى ببساطة على الآخر، وهكذا فإن موقف أفلاطون من الفنون، وهو الموقف الذي كان غير مكترث تارة ومتحجرًا تارة أخرى، يكشف عما تتسم به نظريته من افتقار إلى التوازن والإنصاف.

وسوف نرى في هذا الفصل فيما بعد (القسم ٣) إن كان من الممكن وضع نظرية في التنظيم الأخلاقي تكون أقرب من هذه إلى ما يمكن قبوله.

•••

إن مفارقة الفنان العظيم الذي يصدر حكمًا صارمًا، بل قاسيًا، على الفنون، تواجهنا مرة أخرى في حالة الروائي الكبير ليو تولستوي؛ ففي ختام كتابه «ما الفن؟» يتساءل أيهما الأفضل: وجود الفن الحديث كله، بما فيه من فن جيد وفن رديء، أم عدم وجود فن على الإطلاق؟ وهو يجيب عن هذا السؤال بقوله: «أعتقد أن كل شخص أخلاقي عاقل سيحكم في هذه المسألة مثلما حكم فيها أفلاطون في محاورة «الجمهورية» … فالأفضل ألا يكون هناك فن على الإطلاق.»٢٤
والواقع أن بعض ما أخذه تولستوي على الفن يوازي ما أخذه عليه أفلاطون، ومن هذين المفكرَين اللذين كان لهما تأثيرهما الكبير نستطيع أن نتعلم كيف كانت الإدانة الأخلاقية للفن تتم عادة؛ فتولستوي يدين الفن الذي يعد موضوعه غير لائق أو شريرًا، والذي يثير بالتالي انفعالات تستحق أن تُقمع. وهكذا يرى أن قدرًا كبيرًا جدًّا من الفن الحديث يتغذى على مشاعر «الغرور، والرغبة الجنسية، والضجر من الحياة»٢٥ وفضلًا عن ذلك فإن القرن التاسع عشر، شأنه شأن الفترة التي عاش فيها أفلاطون، كان عصر فوران وتجديد هائل في الفنون. ويندد تولستوي بشدة، كما ندد أفلاطون، بظهور أشكال فنية جديدة.٢٦ وهو، مثل أفلاطون أيضًا، يرفض الفكرة القائلة إن الفن يوجد من أجل ما يجلبه من لذة، ويرى أن الخطأ الأساسي الذي ارتكبه الفن مند عصر النهضة هو أنه كرس نفسه لهذا الهدف وحده؛٢٧ فالعالم الحديث يطلق اسم «الجميل» على كل ما يعطي لذة منزهة عن الغرض، غير أن الجمال لا يستطيع أن يبرر ذاته، بل ينبغي أن يقاس تبعًا لمقتضيات الأخلاق. «وكلما ازداد استسلامنا للجمال، ازددنا ابتعادًا عن الخير»٢٨ وسوف نرى بعد قليل الأسس التي يرتكز عليها تولستوي في انتقاداته هذه، على أن هناك انتقادًا واحدًا عند تولستوي، ربما كان هو الانتقاد الذي كان تولستوي أعمق شعورًا به من بين كل الانتقادات الأخرى، لا نجد له نظيرًا عند أفلاطون. هذا الانتقاد يعكس قلقًا شديدًا على «الإنسان العادي» وحبًّا عميقًا له، وهو موقف أقرب صلة إلى العالم الحديث منه إلى العالم القديم؛ فتولستوي يحمل مرارًا وتكرارًا على «ضياع أرواح بشرية غالية»٢٩ في سبيل الجهود الفنية، فمن الملاحظ أولًا أن الفنانين يبددون حياتهم محاولين اكتساب السيطرة على المادة التي يستخدمونها، كما يبددونها في عملية الخلق؛ ذلك لأن دارسِي الفنون جميعًا ينبغي أن يقضوا ساعات لا نهاية لها في التدريب والتحضير، «فتنحط هممهم إلى حد لا يعودون معه يصلحون لأي شيء سوى النفخ في الأبواق والتجول ممسكين بحربة ومرتدين أحذية صفراء.»٣٠ ولكن الأهم من ذلك أن أداء الأعمال الفنية وعرضها يقتضي جهدًا لا حد له من أناس ليسوا هم أنفسهم بفنانين، فبعض هؤلاء الناس يشتغلون في حرف مرتبطة بالفن، كإعداد المسرح، والطباعة … إلخ، ولكن عددًا أكبر من هؤلاء بكثير ليست لهم حتى صلة غير مباشرة بالفنون، هؤلاء هم العمال الذين يقدمون الأساس الاقتصادي الذي يرتكز عليه الفن، والذين ينتجون ضرورات الحياة. وعلى ذلك فإن الفنان، الذي ليس منتجًا مثلهم، هو طفيلي من الوجهة الاجتماعية؛ فالفن (الجميل) لا يمكن أن يقوم إلا على عبودية جماهير الشعب.٣١

هذا انتقاد قد يتعجب بعض القراء لقصوره وغبائه، فيقول: «إن على الفنانين طبعًا أن يبذلوا جهدًا شاقًّا في عملهم، غير أن هذا ليس حجة عليهم، فلنتصور ما ينتجونه، ومدى ما يسهمون به في الحضارة. إن من المؤكد أن عملهم يبرر ذاته أضعافًا مضاعفة. أما عن اتهام الفن بأنه ترف اقتصادي، فما الذي يمكننا أن نجنيه بتحويل الفنانين إلى القيام بأعمال «منتجة»؟ إن الفن هو ذلك النوع من «الترف» الذي لا تكاد الحياة بدونه تكون جديرة بأن تعاش.»

هذا الاعتراض على تولستوي يفترض مقدمًا قيمة الفن الجميل ومكانه. غير أن هذا الافتراض هو بعينه المشكلة موضوع البحث؛ فتولستوي، شأنه شأن كل كبار النقاد الاجتماعيين، يرفض قبول ما يأخذه المجتمع في عصره قضية مسلمة، وهو يصر على إثارة «السؤال عما إذا كان من الصحيح أن الفن شيء طيب وهام إلى كل هذا الحد».٣٢ وهو يرد على هذا السؤال من خلال فهمه للوظيفة الخاصة للفن؛ ففي رأيه أن الجزء الأكبر من الفن الحديث ينبغي أن يُدان، ومن هنا فإن رأيه لو كان مقبولًا، لفقد الاعتراض قوته.

•••

لقد سبق لنا أن درسنا جانبًا واحدًا من نظرية تولستوي في الفن، ورأينا أن الفن عنده هو النقل المتعمد للانفعال من الفنان إلى المشاهد، أو أن قيمة الفن تقاس بدرجة «العدوى». على أن هذا لا ينبئنا بشيء عن الانفعالات الخاصة التي ينقلها الفن؛ فتولستوي، كما رأينا من قبل، يعترف بأن هذه الانفعالات يمكن أن تكون شديدة التنوع. وهذا كله يتمشى مع الفهم الجمالي للفن، أي النظر إلى العمل على أنه موضوع للانتباه المنزه عن الغرض، وتقديره على أساس ما نشعر به خلال الاتصال الجمالي، ولكنا عندما ننتقل إلى الفهم الأخلاقي للفن عند تولستوي، نجد أن الدلالة الجمالية للعمل تتضاءل، وربما اختفت نهائيًّا.

إن تولستوي، شأنه شأن جميع النقاد الأخلاقيين، ينظر إلى الفن في إطاره الاجتماعي؛ فهو يرى أن أعظم فن كان دائمًا ذلك الذي يعكس «الإدراك الديني»٣٣ لعصره، ويستخدم تولستوي صفة «الديني» للدلالة على فكرة «معنى الحياة»٣٤ ومثلها العليا؛ فالفن يستطيع أن يقوم بدور حيوي في نشر الدين؛ إذ إنه لما كان هو وحده «لغة الانفعالات»، فإنه قادر على نقل الانفعالات المرتبطة بالمثل العليا لعصر معين. «ولا بد أن تحل محل (المشاعر) الأقل شفقة والأقل ضرورة لسعادة البشر، (مشاعر) أخرى أكثر شفقة وأشد ضرورة لهذه الغاية. هذا هو هدف الفن».٣٥ وهنا يُعَد الفن أداة للإصلاح الاجتماعي والأخلاقي.
غير أن الجزء الأكبر من الفن الحديث قد أخفق في هذا المجال، فبدلًا من أن ينشر «أسمى المشاعر وأفضلها»،٣٦ كرَّس جهوده لجلب اللذة فحسب، ولكي يحقق هذا الغرض، استغل الانفعالات المرتبطة بالجنس، فالفن الحديث قد أدار ظهره لما يَعُده تولستوي «الإدراك الديني» الأساسي في عصرنا، وهو إخاء الناس جميعًا الذين يجمعهم الحب ويتساوون أمام إله المسيحية، ويرى تولستوي أن «المهمة التي يتعين على الفن تحقيقها» هي جعل شعور الحب المتبادل «هو الشعور المعتاد للناس والغريزة المتأصلة فيهم»٣٧ ومن ثَم فلا يمكن السماح في الفن إلا بنوعَين من الانفعالات فقط؛ هما انفعالات المسيحية و«المشاعر البسيطة للحياة المعتادة، وهي المشاعر المتاحة للناس جميعًا بلا استثناء».٣٨ وكما رأينا في مناقشتنا السابقة، فإن تولستوي يرى أن فنًّا كهذا يمكن أن يتذوقه الجميع دون تدرُّب وتعوُّد، ودون مساعدة من النقد الفني، مثل هذا الفن إذن قادر على أن يؤلف بين الناس.
ويرى تولستوي أن التأثير الأخلاقي و«الديني» للفن هو مقياس جودته، وهو يطبق هذا المعيار بكل دقة، ويصل إلى نتائج بعثت خيبة الأمل في نفوس معظم قرائه؛ ذلك لأنه يحمل على بودلير في الشعر، والانطباعيين (impressionists) في التصوير، وفاجنر وبرامز وريشارد شتراوس في الموسيقى؛٣٩ وذلك، قبل كل شيء، لأن جدة أعمالهم أو غموضها يجعلها بعيدة، من وجهة النظر الانفعالية، عن أفهام الإنسان العادي، كما يرفض تولستوي روائع مثل «دون كيخوته» «وبيكويك»، ولكنه يحتفظ «بكوخ العم توم».٤٠ ولعل الحكم الذي أثار أعظم قدر من الضجة من بين أحكامه جميعًا، هو ذلك الذي أصدره على سيمفونية بيتهوفن التاسعة؛ فهو يرى «دون شك» أنها «ليست عملًا فنيًّا جيدًا».٤١

•••

لقد ذكرت، في معرض انتقادي لأفلاطون، أن حقوق الأخلاق وكذلك حقوق الفن ينبغي أن تُحترم، وأن أحدهما لا ينبغي أن يدفعنا إلى تجاهل الآخر ببساطة. وأود أن أسلك هذا الطريق نفسه في انتقادي لتولستوي، ونظرًا إلى التشابه بين النظريتين، فإن في وسعنا المضي بسرعة أكبر في تحليلنا لتولستوي.

وليس من الضروري هنا، كما لم يكن من الضروري في حالة أفلاطون، أن نستخف بحق الأخلاق، بل إننا سنتفق جميعًا على الأرجح على أن إخاء الإنسانية مثل أعلى يستحيل الإقلال من شأنه، وربما أصبح لهذا المثل من الضرورة، في وقتنا الحالي، أكثر مما كان له في الوقت الذي دون فيه تولستوي آراءه، أي منذ نصف قرن، فإذا ما قبلنا هذا الإخاء مثلًا أعلى، فلا مفر لنا من قبول كل الوسائل المؤدية إلى هذه الغاية، وعلى ذلك فمن واجبنا أن نقبل ونشجع كل فن يؤلف بين الناس في ولاء وحب متبادل.

غير أننا عندئذٍ نقبل هذه الأعمال على أسس أخلاقية، ومع ذلك فمن الممكن تقويم الفن على أسس أخرى، من أهمها قيمته الجمالية فليس ثمة تناقض في القول إن العمل الواحد مفيد أخلاقيًّا وتافه أو ضئيل القيمة، بل إن الواقع أن كثيرًا من الأعمال البسيطة العاطفية التي تصدى تولستوي للدفاع عنها إنما هي من هذا النوع.

إن تولستوي يقول في ختام كتاب «ما الفن؟»: «لقد كانت غايتي الوحيدة من كل ما كتبت هي أن أهتدي إلى معيار واضح معقول أحكم به على مزايا الأعمال الفنية»٤٢ ولكن أي مزايا يقصد؟ من المؤكد أنها ليست مزايا العمل بوصفه موضوعًا للتأمل المنزه، بل إن تولستوي لا يفكر إلا في تأثير العمل في بث انفعالات معينة؛ فهو يتجاهل أفلاطون ذاته. وهذا هو السبب الأساسي في شعورنا بخيبة الأمل من جراء تنديد تولستوي بأعمال معينة مثل سيمفونية بيتهوفن التاسعة، ودون كيخوته، وكذلك رواياته العظيمة أيضًا، وهو أمر جدير بالملاحظة، فحتى لو لم نكن نشارك في الحكم المعتاد على هذه الأعمال، فإننا نشعر بأن تولستوي يرفضها لأسباب باطلة أو تعسُّفية.

وإذا كان تولستوي متحيزًا في تجاهله للقيمة الجمالية، فقد كان متحيزًا أيضًا — عند الطرف الآخر — في مبالغته في التأثير الأخلاقي للفن؛ فهو يقول في الجملة التي اقتبستها من قبل، إن الفن ينبغي أن يجعل الحب الأخوي «هو الشعور المعتاد للناس جميعًا، والغريزة المتأصلة فيهم». وعلى هذا النحو يعمل الفن على تحطيم الحواجز التي تفرق بين الناس. وإذن فتولستوي يقترح، كما رأينا من قبل، نوعين من الفن — ذلك الذي يعبر عن انفعالات المسيحية، وذلك الذي يعبر عن المشاعر البسيطة للحياة «المعتادة».

ولكن كيف يمارس مثل هذا الفن تأثيره في المشاهد؟ هب أنه يشعر بهذه الانفعالات أثناء التجربة الجمالية، فهل يترتب على ذلك بالضرورة أن تكون هذه الانفعالات هي المسيطرة عندما يتخذ قراراته الأخلاقية، ويحيا، عمومًا، حياةً من نوع خاص في تجربته غير الجمالية؟ إن مجرد التعرض لتأثير انفعالات المسيحية و«الحياة المعتادة» لا يضمن أن تصبح هذه الانفعالات هي «الغريزة» التي نسلك على أساسها، وهنا ينبغي أن نذكر أنفسنا بطبيعة الموقف الجمالي، حتى لو كان تولستوي قد نسيه؛ فهذا الموقف ينطوي ضمنًا على إحساس بالتجرد من الشواغل العملية، ومن هنا فليس من المحتمل أن يؤثر الفن في الشخصية بنفس الطريقة التي تؤثر بها الدعوة الأخلاقية أو الإرشاد الديني؛ ذلك لأن الأخيرَين يتعلقان صراحة «بالحياة»، وبأفعال وسمات محددة للشخصية. ولما كانت للأخلاق والسياسة والدين أهمية عملية في نظر المشاهد، فإن الدعاية التي تقوم بها يمكن أن تدفعه إلى تحطيم الحواجز أو تغيير طريقته في الحياة … ولكن مثل هذا الالتزام غير موجود في الفن، ولو بدا العمل الفني موجَّهًا بوضوح في ميدان الأخلاق أو الدعاية لفقدنا اهتمامنا الجمالي به.

ولقد سبق أن وصفنا «اعتقادنا» بالعمل في الفصل السابق بأنه «موافقة مؤقتة».٤٣ ولهذا السبب كان في استطاعتنا أن نقدر الأعمال المرتكزة على المسيحية والأعمال المرتكزة على الإلحاد معًا، أو تلك التي تعبر عن الانفعالات «المعتادة» وتلك التي تعبر عن انفعالات نادرة غريبة؛ فالأعمال الفنية تعبر عن مُثُل عُليا وانفعالات شديدة التنوع، لا يمكننا أن ننقلها معنا إلى مجال حياتنا الأخلاقية. وسلوكنا العملي يرتكز على أساس ما نؤمن به «حقًّا»، لا على أساس ما «وافقنا عليه» من أجل التجربة الجمالية. وربما كان رأي تولستوي يغدو أقوى لو أنه دعا إلى الاقتصار على العرض العلني للأعمال التي تنقل «أسمى المشاعر وأفضلها»؛ ذلك لأن التعرض المتكرر لأمثال هذه الأعمال قد يكون له تأثير نفسي أعظم بكثير في الجمهور، كما كان أفلاطون يعتقد. ومع ذلك فإن تولستوي، على خلاف أفلاطون، رفض الرقابة، التي يصفها بأنها «نظام لا أخلاقي ولا عقلي»٤٤ (ومن الجدير بالذكر أن تولستوي ذاته، شأنه شأن معظم الكتاب الروسيين الكبار في القرن التاسع عشر، قد عانى من الرقابة الشديدة التي كانت تُطبق في ذلك الحين).

وأخيرًا فإن تولستوي يبالغ في تقدير قوة الفن؛ لأنه يتجاهل جميع القوى الأخرى التي تؤدي إلى التضامن أو التنافر الاجتماعي في العالم الحديث، إذ يبدو صحيحًا بصورة مؤكدة أن تأثير الفن في شئون الناس أقل بكثير من تأثير العوامل الاقتصادية والسياسية والعنصرية والدينية، سواء أكنا برحب بهذه الحقيقة أم نأسف لها، فمن الممكن تمامًا أن يتذوق شخص تشرب بالديانات الشرقية عملًا فنيًّا يعبر عن الإيمان المسيحي. أما أن يؤدي به ذلك التخلي عن عقيدته الموروثة فهذا أمر مختلف كل الاختلاف، وبالمثل فإن تولستوي يتجاهل مظاهر الكراهية العنصرية والمنافسات الاقتصادية التي تفرق بين الناس، والواقع أن رموزًا مثل الأعلام والشعارات والأنماط القومية هي ناقلة للانفعالات على نحو أقوى بكثير من الموضوعات الفنية، ولا بد لأي برنامج واقعي يرمي إلى تحقيق المثل الأعلى عند تولستوي، من أن يأخذ كل هذه العوامل التي أغفلها تولستوي بعين الاعتبار.

إن كتاب «ما الفن؟» سيظل واحدًا من أكثر الكتب غرابة في تاريخ علم الجمال والأخلاق … فاتجاهه خاطئ إلى أبعد حد في استبعاده للقيم الجمالية للفن، ومبالغته في قيمته الأخلاقية، ومع ذلك فهو وصية عجوز حالم أشبه بالقديس، يدعو إلى مجتمع فاضل للجميع.

(٢) الحياة لأجل الفن

لا شك أنك سمعت من قبل عبارة «الحياة لأجل الفن». هذه العبارة كانت قد استخدمت لأول مرة في بداية القرن التاسع عشر وكانت تلخص بإيجاز ذلك المفهوم الذي سيطر على قدر كبير من علم الجمال الحديث، وهو مفهوم التنزه الجمالي؛٤٥ فشعار «الفن لأجل الفن» (أو الفن للفن) يقول إن العمل يوجد لكي يقدر لذاته، لا لأي غرض آخر، ومن هنا فإنه يمثل احتجاجًا على أولئك الذين يجعلون الفن خادمًا لهدف آخر، وهو مُوجَّه ضد الأخلاق، مثل أفلاطون وتولستوي، الذي يؤكد النتائج النفسية والاجتماعية للفن، وهو يعلن تحرر الفن من النزعة الإرشادية والدعاية: «فليس ثمة شيء اسمه كتاب أخلاقي أو لا أخلاقي، بل إن هناك كتبًا جيدة التأليف وأخرى رديئة التأليف، وهذا كل ما في الأمر».٤٦ كذلك فإن شعار «الفن لأجل الفن» إنما هو رد على من يعيبون على الفن كونه «عديم الفائدة»، فلماذا يكون الفن مرغوبًا فيه لأجل شيء، إذا كان مرغوبًا فيه لذاته؟ وهذا يصدُق بوجه خاص حين يقف أولئك الذين يؤكدون «فائدة» الفن مدافعين عن ثقافة آلية هي في أساسها قبيحة وعقيمة، ولقد كان شعار «الفن لأجل الفن» صيحة تجمُّع للفنانين والنقاد الذين ثاروا على الروح التجارية في عصورهم، ووضعوا في مقابل السعي المتواصل إلى اقتناص المال والطموح العملي، النشاط الوحيد الذي بدا في نظرهم ذا معنًى، ألا وهو الاستمتاع المباشر، المكتفي بذاته، بالقيمة الجمالية. ومن هنا فإنهم سخروا من فكرة «عدم منفعة» الفن: «إن الفن حرية، وترف، وإثمار، وازدهار للروح المتحررة من الشواغل العملية والتصوير، والنحت، والموسيقى، لا تخدم شيئًا على الإطلاق».٤٧

إن شعار «الفن لأجل الفن» يساعد على إعادة التوازن الذي أخلَّ به أفلاطون وتولستوي؛ فالإصرار على أن الفنون «لا تخدم شيئًا على الإطلاق» هو تصحيح للاعتقاد بأن الفن أداة مفيدة للإصلاح الأخلاقي؛ إذ إنه يؤدي إلى عودة انتباهنا إلى القيمة الكامنة للفن الجميل.

وإلى هذا الحد نستطيع أن نعد «الفن لأجل الفن» دفاعًا عن التجربة الجمالية للفن. غير أن شعار «الفن لأجل الفن» أصبح يعني أكثر من ذلك، إذ أصبح يدل على طريقة كاملة في الحياة. وعند هذه النقطة يصبح نظرية من النظريات التي تندرج تحت موضوع «الفن والأخلاق».

•••

كان لأفلاطون وتولستوي فهمهما الخاص للحياة الفاضلة للإنسان. وهما يجعلان القيمة الجمالية للفن خاضعة لهذا المثل الأعلى. كذلك فإن عبارة «الفن للفن»، في معناها الأوسع، تحدد أيضًا معالم مثل أعلى للحياة، هذا المثل الأعلى يتسم ببساطة أشبه ما تكون بالطفولية، فالحياة الخيرة هي تلك التي نحيا فيها كل لحظة من التجربة بعمق وثراء، وهي بالتالي خير لمجرد ممارستها فحسب. ومن هنا فإن أنموذج الحياة الخيرة هو التجربة الجمالية، وهكذا تحول الآن شعار «الفن لأجل الفن» إلى «الحياة لأجل الفن»، أو على نحو أدق، الحياة المكرسة للاستمتاع الأصيل.

إن الحياة عندما تكون عملية، فإن الحاضر فيها يخدم المستقبل، ويتطلع المرء فيها إلى الأمام، آملًا أو طامعًا، ويحيا كل يوم فيها وفي ذهنه ما قد يسفر عنه ذلك اليوم فيما بعد، ولكن عندئذٍ قد يمضي اليوم بأكمله دون استمتاع بلحظة واحدة، وقد يستنفد المرء أيامه بأكملها في السعي المتواصل وراء ما ينتظر حدوثه، والأسوأ من ذلك أن الحاضر قد يُضحَّى به، لا من أجل المستقبل، بل من أجل النظام المتكرر الممل الرتيب؛ فنحن نذهب ونجيء دون وعي في عالم أصبح معتادًا ومألوفًا إلى حد مفرط،٤٨ بحيث فقدت المناظر والأصوات والأشكال المحيطة بنا كل ما فيها من طرافة وإثارة.

وإذن فقد حان الوقت الذي نذكر فيه أنفسنا بأن الحياة ينبغي أن تكون خيرة لمجرد أننا نحيا فيها. وهذا هو ما أعلنته حركة «الفن لأجل الفن» إزاء الحضارة الصناعية في القرن التاسع عشر. فمن الواجب أن نرى ونسمع بحماسة، وأن نحيا بحيوية وشعور دافق.

وقد ظهر أبلغ تعبير عن هذه العقيدة في نهاية القرن التاسع عشر، في «الخاتمة» المشهورة لكتاب وولتر باتر Walter Pater «عصر النهضة The Renaissance» وما أكثر أجيال الشباب التي تأثرت بهذا المقال! إنه من ذلك النوع من الأشياء التي لن يجد المرء أفضل من أن يكتشفها بنفسه، ومع ذلك فسوف أقتبس هنا أشهر الفقرات، تاركًا للطالب أن يقرأ المقال بأكمله إذا شوَّقه إلى ذلك ما سنقدمه من نماذج:
«إن الغاية ليست هي ثمرة التجربة، بل هي التجربة ذاتها … والفلاح في الحياة إنما هو أن يحترق المرء دائمًا بهذا اللهيب الحاد، الذي هو أشبه بالجوهرة النفيسة، ويبقى على هذه النشوة … وفي الوقت الذي يذوب فيه كل شيء تحت أقدامنا، فإننا نستطيع أن نمسك بزمام أي انفعال رائع … يبدو أنه يحرر الروح لحظة واحدة ويرفع آفاقها، أو نتمسك بأية إثارة للحواس. إن فرصتنا الوحيدة تكمن … في الحصول على أكبر قدر ممكن من النبضات في الوقت الواحد «وأبدع مصدر لهذه التجربة هو» حب الفن لذاته … إذ إن الفن يأتي إليك وقد اعترف صراحة بأنه لا يزمع إعطاءك إلا أرفع مستوى للحظاتك وهي تمر، وذلك من أجل هذه اللحظات فحسب.»٤٩
هذا هو الرد الذي تقدمه نظرية «الحياة لأجل الفن» على اتهام أفلاطون للفن بأنه مفسد، واتهام تولستوي له بأنه مبدِّد؛ فالفن أقدر الأشياء جميعًا على تبرير وجوده الخاص، «وإذا كان النشاط الجمالي هو ذاته مرض على نحو مباشر، بدلًا من أن يسعى إلى تبرير مستمد من مجال خارج عنه، فإن له هذا المركز الفريد الذي لا يحتاج فيه لشيء غيره، وهو في واقع الأمر النمط النموذجي للشيء الوحيد الذي يمكن أن يبرر أي شيء آخر».٥٠
ويقدم كلايف بل Clive Bell، الناقد الشكلي، ردًّا حاسمًا على مشكلة «الفن والأخلاق» في العبارات الآتية: «إن الفن فوق الأخلاق، أو الأصح أن نقول إن كل فن أخلاقي لأن … الأعمال الفنية وسيلة مباشرة للخير، فبمجرد أن نحكم على شيء بأنه عمل فني، نكون قد حكمنا عليه بأنه ذو أهمية قصوى من الوجهة الأخلاقية، ووضعناه بعيدًا عن متناول يد الداعية الأخلاقي … إن الفن خير لأنه يعلو بنا إلى حالة من النشوة أفضل بمراحل من كل ما يستطيع الداعية الأخلاقي البليد الحس أن يتصوره؛ وفي هذا وحده الكفاية.»٥١

•••

لقد سلمت جدلًا، عند مناقشتِي لأفلاطون وتولستوي، بصحة مثلهما الأخلاقية العليا، ولكني حاولت أن أثبت أنهما يتجاهلان القيم الكامنة للتجربة الجمالية. أما في حالة النظرية التي نعرضها الآن، فإن هذه القيم بعينها هي التي تصبح المثل الأخلاقي الأعلى ذاته، فهل يمكن الاعتراض على هذا الرأي دون تناقض مع النقد السابق؟

فلنلاحظ أولًا أن باتر، في جملته الأخيرة المشهورة، يتحدث عن «لحظات» الحياة. فرأيه في الحياة يؤكد خيرية كل «لحظة» فردية؛ وهو يود أن يحشد «أكبر قدر من النبضات» في الحياة. ولما كان أنموذج الحياة جماليًّا، فإن كل لحظة تعد مستقلة منطوية على ذاتها. فإن كانت حيوية غنية، كانت قادرة على تبرير ذاتها.

والآن، ينبغي علينا أن نعود بذاكرتنا إلى أفلاطون. وينبغي أن نتذكر أن كل لحظة تتداخل في اللحظة التالية، بل في بقية الحياة بأسرها في الواقع، وتؤثر فيها، وبقدر ما يكون لكل لحظة تأثيرات سببية، فإنها لا تكون منطوية على ذاتها، حتى لو نسيَ المشاهد الجمالي ذلك. إن ما نمر به في لحظة معينة هو شيء عابر، أو «لحظي» (momentary) بعبارة أدق، ولكن أمام الإنسان كل ما بقي من حياته لكي يحياه، وهناك العلاقات المتبادلة بين أية لحظة معينة وحياة الآخرين الذين يتأثرون بها. ومعنى ذلك أن اللحظة الواحدة قد تكون طيبة في معاناتها ذاتها، وسيئة أو حتى مهلكة في نتائجها.
إن فكرة «الحياة لأجل الفن» تركز اهتمامها على الحاضر وحده، وبالتالي تنظر إلى الحياة على أنها سلسلة من التجارب غير المترابطة، ومع ذلك فإن كان من الصحيح أن تجاربنا يرتبط بعضها ببعض، فإن من أبسط مظاهر الفطنة أن نفكر في الغد. ومن الناس من يغرقون في الحاضر على حين أن البناء الكامل لحياتهم سائر نحو الانهيار. وهذا بعينه ما فعله رتشارد الثاني في مسرحية شيكسبير؛ فالاستغراق الجمالي يمكن أن يؤدي إلى تجاهل الواجبات العائلية أو الالتزامات نحو الوطن، وقد يؤدي إلى نمو شخصية المرء بوصفه إنسانًا مثقفًا مسئولًا. لقد قال «بل Bell» إن الفن هو خير في ذاته إلى حد أننا «لا نحتاج إلى الاهتمام بأية نتيجة أخرى من نتائجه الممكنة».٥٢ ولكني أجد من الصعب الاعتقاد بأن صوت الحكمة هو الذي يتحدث في هذا الصدد؛ فكلنا قد تعلمنا — وأسفنا عندما تعلمنا — أننا إذا لم «نهتم» بنتائج تجربة ما، فكثيرًا ما تتراكم هذه النتائج وتجلب لنا المتاعب في الوقت الذي يكون فيه أوان عمل أي شيء إزاءها قد فات.

وقد عبر سانتيانا عن هذه الفكرة بقوله:

«إن كل دافع، لا المزاج الجمالي وحده، بريء وغير مسئول في أصله، ونفيس في أعينه الخاصة؛ غير أن كل دافع أو اندفاع، وضمنه الاندفاع الجمالي يكون شرًّا في نتائجه، إذا كان يجعل الانسجام في المجرى العام للحياة مستحيلًا، أو كان يؤدي إلى تشتت الروح ودمارها.»٥٣

وإذن فالأخلاق، بمعنى الاهتمام الحريص بالنتائج البعيدة المدى، لازمة لتجنب مثل هذه النتائج السيئة، وإنه لمن العقيم أن يحاول المرء استبعاد الأخلاق. وحين أقول ذلك، فإني لا أنكر الخير الكامن في التجربة الجمالية، بل إني قد أكدت ذلك مرارًا وتكررًا طوال هذا الكتاب … ولكن هذا لا يترتب عليه أن يكون الفن، كما قال «بل»، «بعيدًا عن متناول يد الداعية الأخلاقي». ومن الجائز أن أفلاطون وتولستوي أفرطا في تأكيد سيطرة الأخلاق على الحياة، وبذلك حرما التجربة من إثرائها وحيويتها، غير أن محاولة إعفاء الفن والتجربة الجمالية من كل إشراف أخلاقي إنما هي، ببساطة، استبدال لتعصب بتعصب آخر.

وأنا أطلق اسم «مغالطة النزعة الجمالية the fallacy of aestheticism» على الرأي القائل بضرورة تأمل كل تجربة وتقديرها جماليًّا فحسب، والحق أن هناك مشكلات أخرى أهم من الطابع الجمالي للحياة، كثيرًا ما تُثار أمامنا بإلحاح، ولا سيما في هذا العالم الذي تتعرض فيه القيم البشرية دائمًا للخطر. ومن هنا فإن إعلاء الطابع الجمالي فوق كل شيء آخر لا يقل في ابتعاده عن المعقولية عن إعلاء اكتناز المال أو التقاليد الموروثة فوق كل شيء آخر.
إن لدي إبسن بطلة درامية هي هيدا جابلر Heda Gabler لها شخصية مريضة مهتزة، وعندما تحض هذه البطلةُ لوفبرج Lovberg العالمَ الشابَّ الذي ينتظره مستقبل باهر، على قتل نفسه، تقول له «… أصغ إليَّ، هلا حاولت أن … أن تفعلها بطريقة جميلة؟»٥٤ وعندما تعلم بانتحاره، كان أول ما خطر ببالها هو أن تسأل إن كان قد أطلق الرصاص على نفسه «في المعبد»، أي «بطريقة جميلة».٥٥ وقد تجد هذا موقفًا سخيفًا أو متصنعًا أو يدعو إلى الاشمئزاز، ولكن أيًّا كان الأمر، فمن الواضح أن المطالبة بإعلاء «الجمال» فوق كل شيء آخر ليست على الدوام أمرًا مستحبًّا أو قادرًا على تبرير ذاته.
بل إننا لا نحتاج إلى الاستشهاد بالروايات الخيالية لإيضاح رأينا؛ فلدينا شهادة أوسكار وايلد، ذلك المفكر الجمالي الذي كانت آراؤه تلخيصًا للقرن التاسع عشر وخاتمة له، فبعد أن أذلته محاكمته، وفي الوقت الذي كان فيه في السجن، كتب نقدًا شديدًا لطريقته السابقة في الحياة، قال فيه إنه كان في حياته السابقة يعامل «الفن كما لو كان هو الحقيقة العليا، والحياة على أنها مجرد ضرب من الخيال».٥٦ والحق أن أحدًا لم يعرض ضحالة النزعة الجمالية واختلالها من حيث هي طريقة في الحياة بنفس القوة التي عرضها بها أوسكار وايلد.
إن شعار «الحياة لأجل الفن» يذكرنا بما ننساه في كثير من الأحيان، وهو أن الحياة لا تكون جديرة بأن تعاش ما لم تسفر عن بهجة أو متعة كامنة. وكما يقول الفيلسوف إسبينوزا في عبارة رائعة، فإنه «لا يمكن أن يكون هناك من السرور والمتعة أكثر مما ينبغي». غير أن النظرية هدم نفسها بنفسها عندما تحمل على كل اهتمام بنتائج تجربتنا؛ فالساعي وراء الجمال لا يستطيع تحقيق قيمه دون تخطيط دقيق إلا إذا كان حظه حسنًا بدرجة ليس من حق إنسان أن يتوقعها، ولكن حتى لو حدث ذلك فسوف يُضطر إلى أن يهتم بالنتائج مثلما يهتم بالعناصر المباشرة، أو على حد تعبير باتر Pater، سيكون عليه أن يهتم. بثمار التجربة، مثلما يهتم بالتجربة. وحتى لو ابتسمت الآلهة لهذا الساعي إلى الجمال، فسوف يتعرض لتلك التهمة الحادة التي وجهها تولستوي، ألا وهي أنه طفيلي على أولئك الذين يشْقَون لكي يجعلوا طريقته في الحياة ممكنة.

إننا لا نستطيع أن نتطلع إلى المستقبل عندما يكون اهتمامنا جماليًّا. وليس الدرس الذي نتعلمه من ذلك هو أن من الواجب عدم اتخاذ وجهة النظر الجمالية بأية حال — كما يريد الداعية الأخلاقي الصارم — بل هو أن الموقف الجمالي ليس هو الموقف الوحيد الذي ينبغي أن يواجه المرء به العالم.

•••

لقد كان حديثنا حتى الآن مُنصَبًّا على التوتر بين الطريقتين الأخلاقية والجمالية في الحكم على العمل الفني، وأود الآن أن أوضح نتائج هذا النزاع في الحكم على عنصر واحد من عناصر العمل، وهو الموضوع الذي يصوره العمل الفني.

ولعل القارئ يذكر أن أفلاطون قد انتقد الشعراء الكلاسيكيين. لتصويرهم رذائل الآلهة، وهناك اتهامات مماثلة كانت توجه إلى الفنانين على مر القرون حتى يومنا هذا؛ ففي القرن الثامن عشر، انتُقد هوجارث Hogarth لتصويره للإباحيين والعاهرات؛ وفي القرن التاسع عشر، حوكم فلوبير لأن روايته «مدام بوفاري» أظهرت البطلة في علاقات زنا؛ وفي القرن العشرين هوجمت أفلام سينمائية نظرًا إلى موضوعاتها الإباحية أو غير المكترثة بالمقدسات؛ فالأخلاق تنظر بقلق إلى النتائج. والحجة هنا هي تلك التي عرضها أفلاطون، وهي أن مشاهدة هذه الأعمال لها نتائج ضارة؛ لأن المعايير الأخلاقية للمدرك تضعف، وبالتالي يصبح سلوكه شرًّا.

وهناك عدة ردود ممكنة على هذه الحجة.

فمن الممكن أن يشار أولًا إلى أن الموضوع ليس عنصرًا واحدًا في العمل، وأن العمل الكامل هو الذي ينبغي أن يقدر ويحكم عليه جمالية، ولو حكمنا على أساس الموضوع وحده، لكنا أشبه بمن يتخذ الحياة الواقعية «أنموذجًا»، لأننا نتجاهل كل ما يجعل العمل موضوعًا جماليًّا متميزًا. وما أشبه ذلك بالقول إن ماكبث مجرد قصة عن عدد كبير من جرائم القتل، فمن الممكن تصوير الشر في عمل رديء وفي عمل عظيم.

على أن هذا النوع من الإجابة لا يؤثر في الداعية الأخلاقي كثيرًا؛ ذلك لأنه، على الرغم من أن أفلاطون قد انتقد الموضوع المحسوس والشكل لأسباب أخلاقية، كما أن تولستوي فعل هذا الشيء نفسه بالنسبة إلى التعبير الانفعالي، فإن موضوع العمل الفني هو ما يهم الداعية الأخلاقي قبل كل شيء؛ فالعناصر المحسوسة قد تكون بريئة أخلاقية؛ والشكل قد يكون جماليًّا «خالصًا» بالقدر الذي يتمناه أي واحد من أنصار النزعة الشكلية، ومع ذلك فإن قوام الموضوع هو طباع كائنات بشرية وسلوكهم، وتلك هي الأمور التي نصفها بأنها «خير» و«شر»، و«حق» و«باطل»، لذلك فإن لها علاقة واضحة بحياتنا غير الجمالية، ولو سلمنا بأن الفن يمكن أن يحكم عليه أخلاقيًّا على أي نحو، فعندئذٍ ينبغي أن نسلم بأن الموضوع الذي يعالجه العمل الفني مجال يصح للنقد الأخلاقي أن يتدخل فيه، أيا كانت طبيعة بقية العمل.

والرد الثاني على الداعية الأخلاقي يؤكد بدوره أنك لا تستطيع الحكم على أساس الموضوع وحده، ولكنه يواجه اتهام الداعية الأخلاقي بطريقة أقرب إلى الطابع المباشر؛ ذلك لأنه يبين أن الأهمية الأخلاقية للعمل تتمثل أيضًا في الموقف الأخلاقي الذي يتخذه الفنان من الشر، فما لم يكن العمل إرشاديًّا بصورة واضحة، فإن هذا الموقف يكون موجودًا في العمل بصورة ضمنية، «كالحقيقة» الفنية، ومع ذلك فإن موقف الفنان هو عادة واضح بما فيه الكفاية، فهل هناك أي شك في أن جويا (في «أهوال الحرب») أو بيكاسو (في «جويرنيكا Guerinca») يدينان فظائع الحرب التي يصورانها؟ أو أن المصور جورج جروس George Grosz كان يصدر حكمًا مريرًا على الفساد والانحلال السائدين في ألمانيا خلال العشرينات من هذا القرن؟ إن الفنان يكشف لنا عن وجه الشر، ولكنه لا يفعل ذلك إلا لكي يبين لنا مدى قبحه، وإذا لم نجرد الموضوع، وبحثنا أيضًا في الاتجاه الذي يعبر عنه نحو هذا الموضوع، لاستطعنا أن ندرك إلى أي حد يعد العمل أخلاقيًّا بحق.
وهذا يصدق حتى على أشد الأعمال تمرُّدًا أو إذهالًا. وربما كان أكثر الأعمال شذوذًا وإغرابًا في الأدب الحديث هو مجموعة قصائد بودلير المسماة «أزهار الشر Les Fleurs du mal»؛ فهي تحفل بأوصاف لسلوك جنسي لا يليق ذكره عادة، ولموضوعات نجدها عادة منفرة، وقد حوكم بودلير في عام ١٨٠٧م وأدين بسبب هذه القصائد. غير أن مكانته بوصفه شاعرًا أخذت تتزايد باطراد طوال الأعوام المائة الأخيرة. وفي وسعنا اليوم أن ندرك على نحو أفضل مما أدرك معاصروه أن «كل ما أراده كان … التعبير عن نفوره من الخطيئة والرذيلة التي يتعرض لها الإنسان، وحزنه على البؤس الذي تؤدي إليه وضاعته».٥٧ وكما هتف بودلير، فإن «الكتاب ينبغي أن يحكم عليه ككل، وعندئذٍ سيسفر عن أخلاقية هائلة!»٥٨

ولكن هناك مع ذلك فئتَين أخريَين للأعمال الفنية: هما تلك التي يقر فيها الشر ضمنًا، وتلك التي لا يدينه فيها ولا يقره.

ومن الصعب أن نجد أمثلة للفئة الأولى؛ فالأعمال التي يبدو أنها أمثلة لها، مثل أعمال بودلير أو الروائي الفرنسي هوسمان Huysmans، يتضح لنا بعد تحليلها أنها إدانة خافية للشر؛ فهذه الأعمال توقظ الجمهور من غفلته الأخلاقية، وبالتالي تزيد من حساسيته للشر. ولو كانت هناك أية أعمال يقر فيها الفنان ما يعتقد هو وجمهوره أنه شر، لاضطررنا على الأرجح إلى القول إن الإدراك الجمالي يقتضي «الموافقة المؤقتة» على اعتقاداته، ومع ذلك فمن الواجب أن نطبق مرة أخرى التمييز بين الممارسة الجمالية وبين الحكم الأخلاق؛ ففي الحكم على مثل هذا الفن تبدو قضية الداعية الأخلاقي هي الأقوى.

وتثير الأعمال التي يصور فيها الفنان الرذيلة ولكنه يمتنع عن الحكم عليها مشكلة أكثر طرافة، فمثل هذا الفن هو في رأي الداعية الأخلاقي غير مفهوم، وقد يكون أسوأ من ذلك؛ فهو يصر على ضرورة إدانة الشر حيثما ظهر، وإلا لكان هناك تسامح مع الشر، وأدى ذلك حتما إلى تشجيعه.

وعند هذه النقطة تستشيط العقلية الجمالية غضبًا؛ فالداعية الأخلاقي، من وجهة نظر هذه العقلية الجمالية، لا يفهم وظيفة الفن؛ إذ ليس هدف الفنان هو أن يصدر حكمًا، بل إن هذا أمر ينبغي أن يترك للقاضي ورجل الدين. وإنما يحاول الفنان الإمساك بزمام التجربة والتعبير عنها بطريقة موحية، مؤثرة، صادقة. والواقع أن الفساد والرذيلة إنما هما جزء من العالم، فلهما إذن أهميتهما في ذاتهما، والفنان تستهويه شخصية الشرير، ودوافعه السوداء البغيضة، وربما استهوته الضخامة الهائلة للشر المتأصل فيه. وهو يحاول أن يندمج في الشر ويعبر عما ينبغي أن يكون عليه إحساس المرء إذا كان شريرًا.

«أما عن الشخصية الشغوفة بالشعر … فإنها ليست ذاتها، بل ليست لها ذات وإنما هي كل شيء ولا شيء؛ فليست لها شخصية، بل هي تستمتع بالنور والظلمة، وهي تعيش في متعة، سواءٌ أكانت هذه المتعة ظالمة أم عادلة، رفيعة أم منحطة، غنية أم فقيرة، وضيعة أم سامية، وهي عندما تتصور ياجو تشعر بنفس السرور الذي تشعر به عندما تتصور إيموجين Imogen، والشيء الذي يصدم الفيلسوف الفاضل، يبهج الشاعر المتقلب.»٥٩

هنا يرتفع مرة أخرى شعار «الفن لأجل الفن»؛ فالفنان ذو النزعة الجمالية «بمعزل عن الخير والشر»، وهو يتذوق المتعة الانفعالية المثيرة للخيال في التجربة وفي كل تجربة. أما الاعتبارات الأخلاقية فهي ببساطة خارجة عن الموضوع.

وقبل وقت كثير من محاكمة بودلير، أدين فلوبير على أساس أخلاقية «مدام بوفاري» (ومن الواضح أن عام ١٨٥٧م كان عامًا سعيدًا بالنسبة إلى خلفاء أفلاطون من الفرنسيين). ولقد قال البعض، دفاعًا عن الرواية، إن البطلة الزانية، على أي حال، ماتت ميتة أليمة سابقة لأوانها، ولكن هذا أمر خارج عن الموضوع في نظر حركة «الفن لأجل الفن»، فمن الممكن أن تقوم أعمال مماثلة بتصوير الشر وهو يعيش هنيئًا مدى الحياة. وإنما المهم هو أن فلوبير كان يحاول تصوير تصرفات شخصية مفرطة في الرومانتيكية، تشعر بخيبة الأمل، وتقيدها بيئة اجتماعية كئيبة من بيئات الطبقة الوسطى، وإنه لمن العسير أن نجد في الرواية أدلة على أنه كان يحمل على سلوك بطلته أو يقرها، بل إنه يبدو كما لو كان يقول «إن إما بوفاري هكذا» ويجعلنا نفهم مشاعرها ونشاركها إياها.

(٣) مطالب الفن ومطالب الأخلاق

للمفهوم الثاني الذي نستخدمه في هذا الفصل، وهو «الأخلاق»، معانٍ متعددة، وإذا شئنا أن نقوم بتحليل وافٍ لها، فإننا نحتاج إلى وقت يساوي على الأقل ذلك الذي كرسناه من قبل لتحليل «الفن». ومع ذلك، علينا أن نعترف بغموض هذا اللفظ؛ ذلك لأن الحل الذي سنأتي به لمشكلة هذا الفصل يتوقف على فهمنا للفظ «الأخلاق».

يُستخدَم لفظ «الأخلاقي» في كثير من الأحيان للإشارة إلى التزامات ومحظورات معينة لها قوة هائلة خاصة، كما في قولنا «كن مخلصًا لوطنك»، أو «لا تكذب» … إلخ، ويعلق غير الأمريكيين أحيانًا على هذا الأمر قائلين إن الأمريكيين قد ضيقوا نطاق معنى هذا اللفظ بحيث أصبح يقتصر على السلوك الجنسي، أي أن لفظ «اللاأخلاقي» يدل على الإباحة الجنسية. وعلى أي حال فإن هذا المعنى الأول للفظ «الأخلاقي» يقتصر تطبيقه على مجالات معينة فقط للنشاط الإنساني: هذه المجالات تشمل عادة العلاقات العائلية، والالتزامات التعاقدية في المعاملات الاقتصادية والوفاء بالوعد … إلخ، فضلًا عن السلوك الجنسي. وهناك أنواع أخرى من السلوك لها أهمية أقل، ولا تخضع للأوامر الأخلاقية. ومن هنا كان التمييز بين «الطباع manners» والأخلاق.

كذلك يبدو أن الفن والتجربة الجمالية، يقعان خارج المجال الأخلاقي؛ فنحن لا نتحدث عادةً عن الواجبات الفنية والجمالية كما نتحدث عن الواجبات المتعلقة بانتماء الفرد إلى أسرة، أو عقيدة، أو أُمة، فإذا قلنا إن الفنان «كان ينبغي عليه أن يستخدم وسيطًا آخر»، أو أنك «ينبغي أن تشاهد المسرحية»؛ فنحن لا نعتقد أن هذا استخدام أخلاقي للفظ «ينبغي»؛ ففي هذه الجمل يفتقر لفظ «ينبغي» إلى الطابع الصارم الحاسم الذي يتسم به لفظ «ينبغي» الأخلاقي، كما في قولنا «ينبغي أن تقول الصدق». وهكذا يبدو أن اللغة الجارية تبارك الانفصال بين الفن والأخلاق، ويبدو أنها تقول ضمنًا إننا، في مجال الفن والمتعة الجمالية، نستطيع أن نأخذ «إجازة أخلاقية»، وقد استخدم بعض المدافعين عن حركة «الفن لأجل الفن» هذا النوع من الحجج. فهم يقولون إن «الأخلاق تسري على أولئك المشتركين في أوجه النشاط اليومية المتعلقة بحياة الأسرة والنشاط الاقتصادي، ولكنها لا تسري على أولئك الذين لا يريدون أن يكون لهم شأن بأوجه النشاط هذه».

وهناك معنًى آخر للفظ «الأخلاقي» يرتبط بالمعنى الأول ارتباطًا وثيقًا، ويجعل الأخلاق معادلة لما يقره المجتمع. ويتضح مظهر الإقرار الاجتماعي في المكافآت والعقوبات التي تُعزَى إلى مختلف الأفعال وسمات الشخصية. وفي هذا المعنى بدوره يطالب المدافعون عن الفن بإعفائه من تطبيق شروط الأخلاق؛ فهم يدعون أن الفنان ينبغي ألا يقيد بما هو مألوف أو متواضَع عليه؛ ذلك لأن لديه بصيرة وجرأة، والفن يؤدي إلى الانطلاق والتحرر، لا إلى الجمود، بل إن الفنان قد يخالف الأخلاق التقليدية في سبيل أخلاق لها معنى مختلف أرفع من معناها العادي، أعني في سبيل مثل أعلى لا يشيع قبوله بعدُ في المجتمع، ولكنه أسمى من العرف السائد؛ فروايات ديكنز وتوماس هاردي تتحدى الأساليب القانونية والاجتماعية السائدة في أيامهما. وهناك روائيون أقرب عهدًا أخذوا يتشككون في أسلوب حياتنا بأسره؛ فالأخلاق، بمعنى «الإقرار الاجتماعي»، لا يمكنها أن تشرع للفن.

•••

غير أن هناك معنًى آخر أكثر تحررًا للفظ «الأخلاق». وقد أوضح «رالف بارتون بري Ralph Barton Perry» هذا المعنى، ثم حاول أن يبين كيف يمكن تبرير التنظيم الأخلاقي للفن. ويلاحظ بري أن رأيه مشابه إلى حد بعيد لرأي أفلاطون في «الجمهورية».٦٠ ومع ذلك فإن القارئ الذي يشعر بالنفور من روح التزمت القاسية عند أفلاطون، سيجد على الأرجح أن بري أسهل استساغة.
يقول بري أولًا إن أي شيء يكون «خيرًا» إذا كان المرء يبدي به اهتمامًا، أي إذا كان موضوعًا للسعي أو الرغبة. ولو أخذنا أي اهتمام بعينه على حِدَة لوجدناه لا يقل في براءته الأخلاقية عن جوع الطفل الرضيع أو حب استطلاعه غير أن رغباتنا لا توجد منعزلة، وإنما تتفاعل بعضها مع البعض، والأهم من ذلك أنها كثيرًا ما تتصارع بعضها مع البعض، فقد يؤدي تحقيق إحدى الرغبات إلى إحباط رغبة أخرى. وهكذا فإن ما يكون في ذاته خيرًا، قد يكون شرًّا في علاقاته المتبادلة. «إن خيرية الفعل لا يمكن أن يحكم عليها دون إشارة إلى كل الاهتمامات المتأثرة به، سواء بطريقة مباشرة أم بطريقة غير مباشرة».٦١ ولو تركت اهتماماتنا لتحقق ذاتها دون ضبط أو اعتدال، لكانت النتائج مهلكة؛ فكثيرًا ما تكون أقوى الرغبات هي أشدها تدميرًا.
عند هذه النقطة، تظهر الأخلاق؛ «فالأخلاق لا تعدو أن تكون الاختيار الحتمي بين الانتحار وبين الحياة الممتلئة، وعندما تتصارع الاهتمامات أو المصالح بعضها مع البعض، تجعل مشروع الحياة مغامرة شاقة، عقيمة، عديمة الجدوى على أحسن الفروض».٦٢
ومهمة الأخلاق هي الإقلال من الصراع بين الاهتمامات «بعضها مع البعض» إلى أدنى حد ممكن (إذ إن من المستحيل القضاء على هذا الصراع قضاء تامًّا)؛ فالأخلاق تنظم الاهتمامات أو المصالح بحث تصبح «مترابطة وموحدة»؛٦٣ فهي تحد من الرغبات التي تهدد رغبات أخرى، وفضلًا عن ذلك فإنها تحدث نوعًا من «الاشتراك» في المصالح أو الاهتمامات، تستطيع هذه الأخيرة في ظله أن تساعد وتدعم بعضها البعض، وهكذا فإن تحقيق اهتمام أو مصلحة واحدة لا يعوق تحقيق الأخرى، بل إنه في الواقع يسهم في هذا التحقيق. وعلى ذلك فإن موضوع الاهتمام لا يكون «خيرًا من الوجهة الأخلاقية» إلا عندما يكون الاهتمام مؤيدًا باهتمامات أخرى.٦٤
إن الأخلاق بالمعنى الذي يفهمها به «بري» لا تقتصر على مجالات معينة للنشاط، كما هي في معناها الذي ناقشناه عند بداية هذا القسم، وهي ليست اهتمامًا واحدًا ضمن عدة اهتمامات أخرى، وإنما هي الاهتمام الشامل الذي يشرع للحياة كلها. غير أنها ليست تمسُّكًا مُتحجِّرًا بالتراث، أو نزعة تطهُّرية (بيوريتانية) متزمتة (وقد عرَّف ﻫ. ل. منكن H. L. Mencken ذات مرة البيوريتانية بأنها «الخوف المستحكم من أن يكون شخص ما، في مكان ما، سعيدًا».) فالأخلاق لا تكبت الرغبات لمجرد كونها تُعَد أي رغبة، وكل رغبة، شريرة، بل إن الأخلاق تضع نفسها في خدمة حياة مليئة سعيدة، وإشرافها أمر لا مفر منه نظرًا إلى هذه الحقيقة التي لا مفر منها، وهي الصراع بين مصالحنا أو اهتماماتنا؛ «فليس في وسع أحد أن يتحرر من حكم الأخلاق».٦٥
فلتطبق إذن نظرية بري هذه على مشكلتنا في هذا الفصل، وستجد أن في استطاعتك توقُّع إجابته مقدمًا:
«إن الفن خاضع للنقد الأخلاقي؛ لأن الأخلاق ليست أكثر ولا أقل من القانون الذي يتحكم في المجال الكامل للاهتمامات، والذي يكون فيه الفن وكل شيء طيب آخر ممكنًا.»٦٦

فالأخلاق تنظم كل اهتمامات الإنسان، والفن واحد من هذه الاهتمامات. وهو لا يستطيع أن يطالب لنفسه بالحصانة من إشراف الأخلاق، أكثر مما يستطيع أي اهتمام آخر أن يطالب بمثل هذه الحصانة. وفضلًا عن ذلك، فالفن، كما أكد تولستوي، لا يمكن ممارسته إلا عندما يلبي الحاجات غير الفنية، من اجتماعية واقتصادية. ولما كانت أوجه النشاط هذه تحتاج إلى الأخلاق، فلا بد أن يكون الفن مدينًا لها؛ فالفن ينتفع من الأخلاق، وبالتالي فإن عليه التزامات لها.

ويدرك بري، بنفس الوضوح الذي يدرك به أي نصير من أنصار نظرية «الفن لأجل الفن»، أن الحكم الجمالي لا يمكن إرجاعه إلى الحكم الأخلاقي، وأن من الواجب عدم الخلط بين الاثنين. ومع ذلك، فإن الداعية الأخلاقي لا يكون قد وقع في خلط كهذا إذا ما حكم على الفن «على أسس أخلاقية»؛٦٧ فحكمه يعلو دائمًا على حكم الناقد الجمالي، لا لأنه أرهف حسًّا من الوجهة الجمالية، بل لأنه يتحدث باسم الحياة بأسرها، لا باسم جزء واحد منها.
وفي استطاعة القارئ أن يرى بنفسه إلى أي مدى يتسم هذا التفكير بالطابع الأفلاطوني، ومع ذلك فإن نظرية بري أكثر إنسانية وأشد مرونة في تطبيقها: بمراحل من نظرية أفلاطون، وعلى الرغم من أنه يؤيد مطالب الأخلاق فإنه، يعترف بمطالب الفن اعترافًا كاملًا. فهو يقول إن الاهتمام الجمالي، أي «الاهتمام بمجرد تأمل الأشياء، وبمجرد إدراكها، أو الشعور بها، أو التفكير فيها، أو تخيلها»،٦٨ يمكن أن يكون مصدرًا لرضاء لا حدَّ له. فالفن يعطينا «عائدًا متصلًا من الخير».٦٩ ويترتب على ذلك أن أي حظر يُفرَض على الفن، مهما كانت مبرراته الأخلاقية، ينطوي على خسارة مؤسفة في القيم، وفضلًا عن ذلك فإن بري لا يماثل أفلاطون في تزمته في تطبيق الضوابط الأخلاقية؛ فهو لا يحدد مجموعة قليلة من الموضوعات المسموح بها للفن، ولا يحظر التجديد في الفن، وهو قطعًا لا يحبذ طرد الفنان الخارج على العرف الشائع من المجتمع.
ولقد كان موقف بري مرنًا لأن نظريته الأخلاقية كانت ذات نزعة نسبية؛ فالمعيار الأسمى هو التكامل المتوافق للاهتمامات. أما كيف يمكن تحقيق ذلك، فيتوقف على الموقف الخاص الذي يتخذ فيه القرار؛ فعند اختلاف المواقف، تدعو الحاجة إلى اتجاهات مختلفة في السلوك، ومن المستحيل فرض قواعد مطلقة للسلوك في كل المواقف؛ ففي بعض المجتمعات، وفي بعض فترات التاريخ، قد تدعو الحاجة إلى رقابة لا تقل صرامة عن تلك التي دعا إليها أفلاطون، وفي أوقات أخرى، عندما لا يكون في الفن تهديد للاهتمامات أو المصالح غير الجمالية، لا تلزم أي رقابة على الإطلاق، ومن هنا فإن اقتراحات بري لم توضع بنفس الصرامة التي وضعت بها اقتراحات أفلاطون، بل إني لأقول إن بري لم يكن خائفًا بقدر ما كان أفلاطون؛ فهو لا يشعر بالحاجة إلى ضوابط صارمة يفترض أنها تحمي المجتمع من كل الشرور المقبلة؛ فهو يبدأ بإعطاء الاهتمام الجمالي أكبر قدر ممكن من الحرية، ولا يفرض ضوابط إلا عندما يصبح الفن خطرًا واضحًا على «الحياة الخيرة»، حياة «السعادة المتوافقة».٧٠

•••

وأود أن أختم مناقشتي لهذا الموضوع بتقديم بعض الملاحظات في موضوع الرقابة، متخذًا من نظرية بري أساس لهذه المناقشة.

إن الحجج التي قدمها أفلاطون وبري، وعيوب نظرية «الحياة لأجل الفن»، تُظهِر على نحو قاطع، في رأيي، أن الفن لا يستطيع أن يطالب لنفسه بمركز مميز؛ فمن الواجب أن يُحكم عليه، ويُراقب، في ضوء تأثيراته في الحياة عامة، شأنه شأن كل نشاط بشري آخر؛ فإذا بلغ ضرر هذه التأثيرات حدًّا يطغى معه على لذة المتعة الجمالية، كان الضبط الاجتماعي في صورة الرقابة ضروريًّا. ويبدو لي أن هذا لا يعدو أن يكون مثلًا لمبدأ لا حاجة إلى التدليل عليه، ألا وهو أن القيم الأعظم لا ينبغي أن يُضحَّى بها في سبيل القيم الأدنى.

هذه النتيجة يسهل إثباتها، بل إن التعبير عنها أسهل، ولكن المشكلات المؤلمة بحق في الرقابة هي تلك المتعلقة بالتنفيذ، أعني متى ينبغي فرض الرقابة، وإلى أي مدى ينبغي استخدامها، وما هي طرق التنظيم المحددة التي ينبغي استخدامها.

ومن الواضح أن الاتجاه، في أي مجتمع ديمقراطي مثل مجتمعنا، ينبغي أن يكون مؤيدًا للفن وضد الرقابة؛ فالخلق الفني نوع حيوي من التعبير عن الذات، وهو بالنسبة إلى بعض الناس أمر لا غناء عنه لكي تكون الحياة سعيدة، ولا بد أن يكون إيماننا بالحرية شاملًا للحرية الفنية بقدر ما يشمل النشاط السياسي أو الديني، فأي عمل من أعمال الرقابة إنما هو حد من الحرية، وبالتالي فهو يتعارض مع واحد من أرفع مثلنا العليا، وقد تكون للرقابة تأثيرات لاحقة ضارة؛ فهي قد تخلق جوًّا من الرهبة بين الفنانين، يؤدي إلى إماتة الرغبة في الخلق لديهم، والأهم من ذلك أنها قد تمهد الطريق للتحكم السياسي في مجالات أخرى للحياة.

كذلك ينبغي أن نتذكر على الدوام أن أي عمل من أعمال الرقابة يجر وراءه خسارة، قد تكون خسارة كبيرة، في الاستمتاع الجمالي؛ فالتجربة الجمالية خير في ذاتها كأعظم ما يكون الخير، ولذا فإن حظر عرض عمل فني أو أداءه علنًا يحرمنا من فرصة الاستمتاع بالقيمة الكامنة فيه.

وفضلًا عن ذلك، فمن الواجب ألا ننسى، مع كل ما يقال عن النتائج الضارة للفن، أن تأثيرات التجربة الجمالية كثيرًا ما تكون نافعة، ولكن مثل هذه التجربة لا يكاد يكون لها أبدًا تأثير مباشر، يترتب عليه أن نهرع إلى أداء عمل فاضل، بل إن التأثير الأخلاقي للفن أعمق وأشمل؛ ففي استطاعة الفن أن يغير شخصيتنا على أنحاء شتى، بحيث أنه عندما يحين وقت السلوك، نكون أحكم وأقدر على الفهم، وفي وسع الفن أن يزيد من فهمنا للدوافع الإنسانية، سواء منها دوافعنا نحن ودوافع الآخرين (وقد تحدثنا عن التراجيديا في هذا الصدد). وهو يستطيع أن يعمق تعاطفنا مع الناس الآخرين. وهو إذ يعرض كل القوى المعقدة التي تدخل في الموقف الأخلاقي الواحد، يستطيع أن يُبدِّد الحيرة الأخلاقية، ويساعدنا على التغلب عليها، ولكن الأهم من ذلك أن الأعمال الفنية تستطيع أن تجعلنا نفكر بعمق في معتقداتنا الأخلاقية، ونتخذ منها موقفًا نقديًّا. وكما رأينا من قبل؛ فإن الكوميديا كثيرًا ما تكشف عن سخافات الأخلاق الشائعة ومتناقضاتها، مثل هذا الفن يحضنا على التماس مثل عليا أكبر معقولية وصحة، وبهذا المعنى يقوم الفن بتقديم «أسئلة أخلاقية» لا «إجابات أخلاقية».٧١ فهو إذن حافز على الاستنارة الأخلاقية.

من هذه الأفكار نستنتج أن الرقابة في مجتمع مثل مجتمعنا ينبغي ألا يُلتَجأ إليها إلا نادرًا، وبحذر، وفي حالات الضرورة القصوى، ولكن لا يمكننا أن نستنتج من ذلك أن من الواجب عدم الالتجاء إلى الرقابة أبدًا.

ذلك لأن تأثير الفن يمكن أن يكون ضارًّا بقدر ما يكون نافعًا، وهناك طرق لا حصر لها يستطيع بها الفن أن يعمل على هدم السعادة الشخصية والاجتماعية؛ فهو قد يفسد الطبع، ولا سيما بين الصغار، إذ يوجه الدوافع نحو سلوك غير مشروع ومضاد للمجتمع، وهو قد يشكك في المثل العليا التقليدية ذات الضرورة الحيوية بالنسبة إلى النظام الاجتماعي؛ وفي أوقات الأزمات السياسية أو العسكرية، قد يكون الفن داعيةً إلى الفتنة أو التخريب.

والأرجح أن الضرر الأكبر يأتي من موضوع العمل الفني، وقد استمعنا إلى دفاع نصير الفن القائل إن الموضوع ليس إلا عنصرًا واحدًا في العمل الفني، وأن من الواجب ألا نفصل بينه وبين الكل. غير أن هذه حجة في صف التذوق والنقد الجمالي الواعي، ولكنا الآن نتحدث عن الوجه الأخلاقي للعمل، فمن الجائز أن يكون الجمهور الذي يشاهد العمل منتبهًا إلى الموضوع وحده، ومن الجائز أن يتأثر به تأثرًا ضارًّا؛ ذلك لأن عددًا كبيرًا من الناس يبدو، على أية حال، من أنصار نظرية «المحاكاة» دون أن يشعر بذلك، فإذا كانت تأثيرات مشاهدة الموضوع واضحة الضرر، فليس من المفيد أن نقول إن الجمهور لم ير العمل الفني على ما هو عليه في حقيقته؛ فالتأثيرات موجودة، وإذا ظل العمل الفني يعرض على الناس فسوف تتضاعف. وإنه لَيكون من المؤلم بوجه خاص أن يحظر العمل الفني في مثل هذه الظروف؛ إذ إن الخطأ خطأ الجمهور أكثر مما هو خطأ العمل ذاته، ولكنا رأينا أن كل رقابة تؤدي إلى الحظر مؤلمة، ومع ذلك فلا بد أن يكون هدفها هو مراعاة صالح الحياة في مجموعها.

والواقع أن ارتقاء الذوق الجمالي للجمهور ليس إلا واحدًا من العوامل التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، فإذا كان المرء يأخذ بوجهة النظر النسبية، فإن ممارسة الرقابة أو عدم ممارستها لا بد أن يتوقف على حقائق الموقف الخاص، وهذه الحقائق شديدة التعقيد في كل الأحوال تقريبًا، فليس من المحتمل أن تكون للعمل الفني، في ذاته وبذاته، تأثيرات تؤدي إلى الفتنة أو الفساد، وإنما الواجب أن ينظر إليه في ضوء المناخ العام للرأي الأخلاقي والسياسي والاجتماعي في ذلك العصر، وهكذا فإن الأعمال الفنية التي يمكن أن يسمح لها بأن تمضي دون تنظيم في فترة معينة من تاريخنا، قد يصبح من المشروع فرض الرقابة عليها في وقت آخر.

إن من الواجب عدم الالتجاء إلى الرقابة إلا إذا أظهرت حقائق الموقف، بقدر معقول من الوضوح، إن تأثيرات العمل يغلب عليها الطابع السيئ، وعلى ذلك فربما كان من القواعد العملية النافعة أن نقول إن الرقابة ينبغي ألا تفرض إلا بعد أن يكون العمل قد عرض على الجمهور، فعندئذٍ فقط يمكننا أن نحصل على أدلة تجريبية على ضرر العمل، وبهذه الأدلة وحدها نستطيع أن نبرر الحد من حرية الفنان والمشاهد، وبطبيعة الحال فإن تطبيق هذه القاعدة يترتب عليه خطر معين، هو أن الرقابة ستأتي متأخرة، بعد أن يكون الضرر قد وقع. غير أن هذه مخاطرة قد يكون علينا تحملها، وإن كان من الواجب أن نفعل ذلك عن وعي. أما الحل الآخر فهو ما يسميه القانون أحيانًا «القيد المسبق»، أي الرقابة قبل العرض العلني للعمل، وهنا تكون الأخطار أعظم، فعلى الرقيب أن يحكم على العمل قبل أن يكون قد وضع تحت اختبار الاستجابة الجمالية والتأثير الأخلاقي، وقد يكون تقدير هذا الرقيب للقيمة الجمالية للعمل أقل مما يستحق، على حين أن تقديره لأضراره الأخلاقية قد يكون أكبر مما يستحق، ولا بد أن تكون فرصة الخطأ أكبر بوجه خاص عندما يكون العمل بأسلوب أو قالب جديد غير مألوف، عندئذٍ تكون الرقابة مرتكزة على التخمين لا الواقع، وتحتاج إلى قدرة على التكهن والتخيل لا حد لها في الرقيب.

وهذا يؤدي بنا أخيرًا إلى السؤال الذي حيَّر الفئران التي أرادت أن تعلق الجرس في رقبة القطة، «فمن الذي سيقوم بهذا العمل؟» إن الرقيب المثالي هو ذلك الذي يجمع بين الاحترام العميق للحرية، والحساسية المرهفة للقيم الجمالية للفن، والتقدير الواعي لمصلحة المجتمع، ولكن، على الرغم من أني دافعت عن الرقابة، فإني أعترف بأن الرقباء الذين عرفهم التاريخ لا يعجبونني كثيرًا، من حيث هم فئة؛ فقد كانوا في كثير من الأحيان، بل ربما كانوا عادة أناسًا ضَيِّقي الأفق محدودِي الأذهان، هؤلاء الناس لم يفهموا مطالب الفن؛ بل إن بعضهم كان يزدري القيمة الجمالية تمامًا. والأسوأ من ذلك أنهم لم يكونوا أفضل فهمًا لمطالب الأخلاق على الإطلاق؛ فالأخلاق كانت في نظرهم شيئًا متحجرًا محافظًا إلى حد التطرف، وهم لم يدركوا الأهمية التي تنطوي عليها إعادة اختبار الأخلاق التقليدية وتحديها، وكثيرًا ما كانوا يخلطون بين تحيزاتهم الخاصة وبين الخير الأخلاقي؛ فهناك رقيب في إحدى مدننا الجنوبية الكبيرة كان في السنوات التي سبقت وفاته القريبة العهد، مشهورًا بقراراته الطائشة اللامعقولة، وكان يرفض عرض الأفلام التي تصور سرقات القطارات؛ لأنه هو ذاته كان في شبابه عاملًا في السكك الحديدية، وقد ضربت في هذا الفصل من قبل أمثلة أخرى مشهورة لحماقات الرقابة، هي اضطهاد اثنين من أعظم الأعمال الفنية في القرن الماضي، وهما «مدام بوفاري» و«أزهار الشر»، ولكن الرقابة ربما كانت أغبى ما تكون عندما تلفت الأنظار إلى أعمال لو لم يكن الرقباء قد أثاروا حولها ضجة لما التفت إليها أحد عندئذٍ تهدم الرقابة نفسها بنفسها؛ إذ إنها تخلق اهتمامًا شعبيًّا بأعمال ضارة أخلاقية، وعندما يكون هذا الاهتمام كبيرًا بما فيه الكفاية فإنه يستطيع عادة أن يجد سبلًا للتحايل على القانون.

إن مشكلة اختيار الرقباء مشكلة هامة وعويصة، غير أنها ليست مستعصية، وهي لا تختلف كثيرًا، عن مشكلة اختيار القضاة؛ فهم بدورهم ينبغي أن يجمعوا بين النزاهة والبصيرة والتعاطف، ولكن هناك بالفعل أناسًا على هذا النحو، ونحن نعرف من هم؛ فأسماؤهم تبرز في تاريخ نظامنا القضائي، كذلك كان هناك قضاة كانت قراراتهم متحيزة، أو ما هو أسوأ من ذلك، ونحن نعرفهم على ما هم عليه. وإذن فليس ثمة جدوى تذكر من المناقشة القائلة إننا لا نستطيع أبدًا أن نجد أي شخص يصلح ليكون رقيبًا. إن وظيفة الرقيب صعبة، ومن الممكن إساءة استغلالها سعيًا وراء السلطة الشخصية أو الكسب، ومع ذلك فإن الديمقراطية الناجحة لا بد أن تنتج أناسًا قادرين على أداء هذا العمل بكفاءة، ولو وصل أي مجتمع ديمقراطي إلى النقطة التي يعجز فيها عن إنتاج أناس كهؤلاء، لكان يواجه مشكلات أخطر بكثير من مشكلة الرقابة في الفن.

•••

وأود أن أضرب مثلًا للتقدير الاجتماعي للفن في أحسن حالاته، وربما كان هو أشهر أمثلة أحكام الرقابة في هذا القرن، وهو حكم القاضي وولزي Woolsey في ٦ ديسمبر ١٩٣٣م في قضية «يوليسيز Ulysses» لجيمس جويس؛ ففي المحاكمة ذهب المدعي إلى أن الرواية مخلة بالآداب العامة، وبالتالي لا يمكن نشرها في البلاد.
وقد بدأ القاضي وولزي بأن عمل حسابًا للمطالب الجمالية في الرواية، فاعترف بالجدة الأدبية للعمل، بل وصف طرق جويس بوضوح وذهن نفاذ.٧٢ وناقش سمات في الكتاب مثل «الألفاظ القذرة»، في علاقتها بمقصد الفنان — أي أنه نظر إلى العمل الفني في كليته — ووجد أن لها تبريرًا في «محاولة جويس الأمينة أن يبين بدقة كيف تعمل أذهان شخصياته».٧٣ وأصدر حكمه على العمل بأنه ناجح من الوجهة الجمالية. غير أن القاضي وولزي لم يقف عند هذا الحد، بل اعترف أيضًا بمطالب الأخلاق، ولكي يقرر إنْ كان من الواجب حماية الجمهور الأمريكي من قراءة الكتاب قال إنه:
«لا يكفي أن يجد المرء، كما وجدت فيما سبق، أن جويس لم يكتب «يوليسيز» وفي ذهنه ما يُسمَّى عادة بالمقصد الإباحي بل ينبغي أن أحاول تطبيق معيار أكثر موضوعية على كتابه لكي أقرر تأثيره من حيث نتائجه، بغض النظر عن المقصد الذي كتب به.»٧٤

وهنا نجد اهتمامًا بالنتائج لا يقل عما يرغب فيه أي داعية أخلاقي. فمقصد الفنان شيء وهو ما لم يتجاهله القاضي وولزي وتأثير العمل من حيث نتائجه شيء آخر، وهو ما لم يكن من الممكن تجاهله بالأحرى، وذلك إذا حكمنا على الأمر على أساس الدور والمهمة التي قام بها القاضي وولزي.

وقد حرص القاضي وولزي، فيما يتعلق بالمشكلة القانونية الرئيسية، وهي ما إذا كانت «يوليسيز» رواية إباحية، على ألا يكون حكمه انعكاسًا «لأهوائه الشخصية الخاصة».٧٥ فحكم بأن القصة، عندما يقرؤها إنسان سويٌّ، لا تؤدي إلى «إثارة المشاعر الجنسية أو الأفكار الشهوانية».٧٦ و«القانون لا يهتم إلا بالشخص السويِّ».٧٧
وها هي ذي الجملة الأخيرة من الحكم: «وعلى ذلك فمن الممكن السماح بنشر «يوليسيز» في الولايات المتحدة.»٧٨

ولعلكم تعرفون أن يوليسيز تُقرَأ الآن على نطاق واسع في الكليات، وبين الجمهور المثقف.

إن مشكلة التوفيق بين مطالب الفن ومطالب الأخلاق هي، على أحسن الفروض، شديدة الصعوبة، وهي تكاد تبدو مستعصية في بعض الأحيان، ولكني أعتقد أنه لو كان كل الرقباء على مستوى القاضي وولزي، لأمكن حلها بكل ما نأمل من تعقل وإنصاف.

المراجع

ريدر: مرجع حديث في علم الجمال، ص٣٣٥-٣٥٦، ٥٢٧–٥٧١.

فيفاس وكريجر: مشكلات علم الجمال، ص٤٨٣–٥٨٣.

جوتشوك: الفن والنظام الاجتماعي، الفصلان ٩، ١٠.

مري، ج كورتني: الأدب والرقابة، ٣٤٩–٣٥١ (مقال).

Murray, J. Courtney, “Literature and Censorship,” Commonwealth, vol. L IV (July 6, 1956).

بري، رالف بارتون: الاقتصاد الأخلاقي، الفصلان الأول والخامس.

Perry, P. B., The Moral Economy (N. Y., Seribner, 1909).

أفلاطون، الجمهورية، الكتب ٢–٤، ١٠.

ريدر، ملفين: «الفنان بوصفه دخيلًا»، ص٣٠٩–٣١٨ (مقال).

Rader, Melvin, The Artist as Outsider,” J. of Ae, and Art Cr., vol. XVI (March, 1958).

ريد: دراسة في علم الجمال، الفصل الحادي عشر.

تولستوي: ما الفن؟

Tolstoy, Leo, What is Art? (Trans. Maude, N. Y., Oxford U.P., 1955).

أسئلة

  • (١)

    لنفرض أنك تقر المبدأ القائل إن الرقابة يمكن في بعض الأحيان تبريرها أخلاقيًّا، فهل تستطيع أن تجد أية أمثلة محددة للرقابة في تاريخ الفن تعتقد أنه كان لها ما يبررها في ظروفها الخاصة؟ (ابحث بالتفصيل الحالات المذكورة في هذا الفصل، أو أية حالات أخرى). فإذا لم تجد أية أمثلة، فهل يترتب على ذلك أن من الواجب التخلي عن الرقابة حتى من حيث المبدأ؟

  • (٢)

    هل تعتقد أن للفنان الحق في الامتناع عن عرْض عمله بعد تقديمه إلى الجمهور؟ وأي الأسباب تبرر هذا التصرف في رأيك؟ وهل تظل هذه الأسباب سارية إذا اتضح أن الجمهور يقدر العمل الفني تقديرًا رفيعًا؟ وهل هناك، عمومًا، أية اختلافات هامة بين امتناع الفنان عن عرض العمل وبين الرقيب الذي يعمل باسم المجتمع؟

  • (٣)

    هل تستطيع أن تجد أمثلة لأعمال فنية يعبر فيها الفنان عن موافقته على ما يعتقد أنه شر؟ وهل تُعَد هذه الأعمال أدنى مرتبة على الدوام من الوجهة الجمالية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يرجع هذا إلى ما يسميه بوزانكيت «ضعفًا في المشاهد»، أي عدم قدرتنا على إدراك هذه الأعمال «بتعاطف» جمالي؟

  • (٤)

    قارن بين هذه القضايا:

    «زيد لا أخلاقي.»

    «هذا السلوك لا أخلاقي.»

    «هذا العمل الفني لا أخلاقي.»

    كيف تختلف هذه القضايا في المعنى؟ وهل القضية الثالثة تستخدم لفظ «لا أخلاقي» استخدامًا مجازيًّا؟

  • (٥)
    «إن الشيء الوحيد المفيد الذي يستطيع المجتمع أن يفعله للفنان هو أن يتركه وشأنه، ويمنحه الحرية …» (بل Bell: الفن، ص٢٥٢).

    هل يستطيع المجتمع أن يفعل للفنان شيئًا أكثر من ذلك؟ ناقش.

١  يفترض المؤلف في هذه الفقرة أن النظام الذي تنتمي إليه بلاده هو وحده الديمقراطي الحريص على الحقوق الفردية، وأن النظم المغايرة له «شمولية». والافتراض، كما هو واضح، ليس مسرفًا فحسب، بل إنه يتجنَّى على الواقع ويخالف الحقائق الصارخة. (المترجم)
٢  يشير المؤلف هنا إلى المظهر الشائع الذي يبدو عليه كثير من المهتمين بالفن، وهو إطالة شعورهم أكثر مما ينبغي. (المترجم)
٣  ديوي: الفن بوصفه تجربة، ص٨. ومن الممكن الانتفاع من قراءة الفصل الأول بأكمله من كتاب ديوي مقترنًا بهذا الفصل.
٤  حي الفنانين والمثقفين في مدينة نيويورك، وهو صورة مشوهة إلى حد ما للحي اللاتيني في باريس. (المترجم)
٥  ٤٢٠ (ص١١٠). وسوف تحدد كل اقتباساتنا من محاورة الجمهورية على أساس الترقيم الموحد للصفحات، يليه بين قوسين، رقم الصفحة في ترجمة كورنفورد Cornford (N. Y., Oxford U.P., 1950).
٦  ٣٩٨ (ص٨٥).
٧  ٣٧٧ (ص٦٩).
٨  ٣٧٩ (ص٧٢).
٩  ٦٠٦ (ص٣٣٩)، قارن محاورة «القوانين»، ٨٢٩.
١٠  ٦٠٧ (ص٣٤٠)، قارن محاورة (القوانين)، ٦٥٥.
١١  ٤٠٠ (ص٨٨).
١٢  ٣٩٨ (ص٨٦).
١٣  ٦٠٥ (ص٣٣٨-٣٣٩).
١٤  ٦٠٥ (ص٣٣٨).
١٥  فايدروس ٢٤٥، أيون ٥٣٣-٥٣٤.
١٦  القوانين، ٨٠١.
١٧  الجمهورية ٤٢٤ (ص١١٥)، القوانين ٧٩٨-٧٩٩.
١٨  ٤٠١.
١٩  ٤٠١ (ص٩٠).
٢٠  نفس الموضع.
٢١  فيليبوس ٦٤، ليسيس ٢١٦.
٢٢  الجمهورية ٤٠١ (ص٩٠).
٢٣  ٦٠٨، ص٣٤٠.
ملحوظة للمترجم: قمنا في هذا الهامش، وفي بضعة هوامش سابقة، بتصحيح إشارة المؤلف إلى الترقيم الموحد لمحاورة الجمهورية؛ إذ إنه اعتمد على ترجمة كورنفورد التي لا تحدد بداية صفحات هذا الترقيم ونهايتها، فكانت النتيجة خطأ المؤلف في بعض إشاراته.
٢٤  المرجع المذكور، ص٢٦١، ٢٦٢.
٢٥  المرجع نفسه، ص٢٥٢.
٢٦  المرجع نفسه، الفصل العاشر.
٢٧  المرجع نفسه، ص٢٣٥.
٢٨  المرجع نفسه، ص١٤١ (الهامش).
٢٩  المرجع نفسه، ص١٥٢.
٣٠  المرجع نفسه، ص٧٧.
٣١  المرجع نفسه، ص١٤٦.
٣٢  المرجع نفسه، ص٨١.
٣٣  المرجع المذكور، ص١٢٥.
٣٤  المرجع نفسه، ص١٢٧ وما يليها.
٣٥  المرجع نفسه، ص٢٣١.
٣٦  المرجع نفسه، ص١٤٣.
٣٧  المرجع نفسه، ص٢٨٨.
٣٨  المرجع نفسه، ٢٤٠.
٣٩  المرجع نفسه، الفصل العاشر.
٤٠  المرجع نفسه، ص٢٤٢.
٤١  المرجع نفسه، ص٢٤٨.
٤٢  المرجع نفسه، ص٢٤٨.
٤٣  انظر ص٥٠١ من قبل.
٤٤  المرجع المذكور من قبل، ص٦٥.
٤٥  جون ويلكوكس: بدايات «الفن للفن» (مقال).
John Wilcox, “Beginnings of L’art pour Part,” J. of Ae. and Art Cr., XI (1953), pp. 30–36.
٤٦  أوسكار وايلد: مقدمة «صورة دوريان جري» في كتاب The Portable Oscar Wilde, ed. by Aldington (N. Y., Viking, 1957), p. 138.
٤٧  جوتييه Gautier ١٨٣٢م، مقتبس في بحث «ويلكوكس» المذكور من قبل، ص٧٧١.
٤٨  انظر من قبل، القسم الثالث من الفصل الثاني.
٤٩  وولتر باتر: عصر النهضة، ص١٩٧، ١٩٨، ١٩٩ (N. Y., Modern Library).
٥٠  برول: الحكم الجمالي، ص١٣.
٥١  «الفن Art»، ص٢٠، ١٠٦.
٥٢  المرجع نفسه، ص١١٥.
٥٣  «اعتراف عام A General Confession» في كتاب «فلسفة جورج سانتيانا»، ص٢٠-٢١.
٥٤  هنريك إبسن: «هيدا جابلر»، ترجمة. (N. Y., Scribner, 1907) Gosse & Archer ص١٥٠.
٥٥  نفس المرجع ص١٦٩.
٥٦  من الأعماق De Profundis في كتاب The Portable Oscar Wilde ص٥١٥.
٥٧  ستاركي: بودلير، ص٣٢٠.
٥٨  مقتبس من المرجع المذكور من قبل، ص٣٢٠.
٥٩  كيتس: «الرسائل»، في المرجع المذكور من قبل، ص١٧٢.
٦٠  رالف بارتون بري: الاقتصاد الأخلاقي The Moral Economy ص١٩١. (N. Y., Scribner, 1909).
٦١  المرجع نفسه، ص١١٢-١١٣.
٦٢  المرجع نفسه، ص١٤.
٦٣  الموضع نفسه.
٦٤  رالف بارتون بري: مجالات القيمة Realms of Value، ص١٠٤، (Harvard U.P., 1954).
٦٥  «الاقتصاد الأخلاقي»، ص٨.
٦٦  المرجع نفسه، ص١٧٤.
٦٧  المرجع نفسه، ص١٧٦.
٦٨  المرجع نفسه، ص١٨٠.
٦٩  المرجع نفسه، ص١٩٢.
٧٠  مجالات القيمة، ص١٠٤.
٧١  سيدني زنك: «التأثير الأخلاقي للفن» (مقال).
Sidney Zink, “The Moral Effect of Art,” in Vivas and Krieger, op. cit., p. 556.
٧٢  جيمس جويس: يوليسيز، ص١١-١٢ من المقدمة.
(N. Y., Modern Library, 1934).
٧٣  المرجع نفسه.
٧٤  المرجع نفسه، ص١٢ من المقدمة.
٧٥  المرجع نفسه، ص١٣ من المقدمة.
٧٦  المرجع نفسه، ص١٤ من المقدمة.
٧٧  المرجع نفسه، ص١٣ من المقدمة.
٧٨  المرجع نفسه، ص١٤ من المقدمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤