الفصل الخامس عشر

معنى حكم القيمة وتحقيقه

يتخذ حكم القيمة الجمالي الصيغة: «س جيد (أو رديء) من الوجهة الجمالية»، ومن هذا القبيل قولنا إن لوحة بوتيتشللي «ميلاد فينوس» جميلة و«الحرب والسلام» أعظم الروايات و«أشعار إدجار جست E. Guest عاطفية».

وقد ناقشنا في الفصل السابق أغراض هذا النوع من التقدير. وعلينا الآن أن تختبر حكم القيمة ذاته، فحتى التأكيد التلقائي البسيط، مثل: «هذا بديع!» يثير أسئلة خطيرة بالنسبة إلى التحليل الفلسفي. ولو استطعنا أن نجيب عن هذه الأسئلة، لأمكننا إيضاح اعتقاداتنا بشأن تقدير الفن، وعندئذٍ يتسنى لنا أن نجعل أحكامنا المحددة أدق وأصوب.

أول الأسئلة، بالطبع، هو السؤال عن معنى حكم القيمة، ولنبدأ بأن نوضح أن المشكلة لا تنصب على معنى الأوصاف التقويمية المحددة، مثل «جميل» و«قبيح» و«جليل» … إلخ؛ فهذه ألفاظ سبق أن نوقشت الفروق بينها (في الفصل الحادي عشر) وإنما المشكلة هي: أيًّا كانت الصفة التقويمية التي نستخدمها فما الذي نؤكده بالضبط في حكم القيمة؟ وإذا كنا، بكل بساطة، نعزو قيمة إلى العمل، فلماذا يقول الناس في كثير من الأحيان إن شيئًا معينًا «جميل في نظري»؟ هل تعد قيمته صفة للعمل، شأنها شأن أية صفة أخرى، كالحجم مثلًا؟ إذا كان ذلك صحيحًا، فلم هذه الإشارة إلى المشاهد، إن كان الحكم منصبًّا على العمل؟ وهل نذهب إلى حد الموافقة على الرأي الذي يشيع كثيرًا بين الناس العاديين، والذي أصبحت صيغته، بعد أن اصطبغ بصبغة فيها شيء من العمق: «إن الجمال إنما هو في عين الناظر»؟

ما هي بالضبط العلاقة بين القيمة الجمالية، وبين العمل، وبين الشخص المدرك؟ هذه مسألة إن لم تظهر أمامنا بوضوح، فإننا لا نكون — بمعنى الكلمة — عارفين بما نتكلم عنه عندما تصدر أحكام قيمة.

إننا ننطق بالحكم وكأنه حقيقة. فنحن نقول: «العمل يتصف بكذا …»، وكأننا نصف حقيقة عن الأشياء، وكما رأينا في الفصل السابق، فإن الأحكام تستخدم أدوات للإقناع الاجتماعي لحث الآخرين على أن يشاركونا تفضيلاتنا، وربما لحملهم على تغيير تفضيلاتهم. غير أن حكمنا لا يمكن أن يجد إقرارًا من الآخرين إلا إذا كان من الممكن إثبات صحته، أي إذا أمكن تحقيقه، على أن التحقيق يتوقف على المعنى؛ فطريقة اختبارنا لصحة الحكم، والأدلة التي نبحث عنها، والأسباب التي نقدمها تأييدًا له — كل هذا يتوقف على ما نعنيه بالحكم؛ فإن كان الحكم ينصب على العمل، وعلى العمل وحده، فعندئذٍ نبحث عن التحقيق في العمل، وإن كان ينصب على الشخص المدرك، فعندئذٍ ينبغي أن نلتمس الأدلة في مجال آخر مختلف كل الاختلاف.

ومع ذلك فهناك سؤال آخر أهم حتى من السؤال السابق؛ فهل من الممكن القيام بأي تحقيق بالنسبة إلى حكم القيمة؟ إن الحكم، من الوجهة اللفظية، هو بطبيعة الحال جملة إخبارية، ولكن هل هو من نوع «كندا شمال الولايات المتحدة» أو من نوع «مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتَين»؟ وهل يمكن إثباته بأدلة تجريبية، كالحكم الأول؟ إن حكم القيمة هو هذا فحسب، أعني حكمًا عن قيمة، فهل يمكن البرهنة على وجود القيم عن طريق الوقائع؟ لنعد بذاكرتنا إلى ذلك الادعاء الذي نجده في كثير من الأحيان لدى المعلنين عن الأفلام السينمائية: «إن إنتاج الفيلم تكلف أربعة ملايين دولار.» فهل يترتب على ذلك أن الفيلم جيد؟ إن هناك حالات كثيرة في تاريخ السينما تدل على أن الأمر ليس كذلك، فأي نوع من الأدلة إذن يمكنه تأييد حكم القيمة؟

حيثما يكون هناك دليل واقعي، كما في القضية الخاصة بكندا، أو استدلال، كما في القضية المتعلقة بالمثلثات، فإنا نتوقع اتفاقًا، ونحصل عليه؛ فكل من يعنيهم الأمر يقبلون القضية. أما في حالة الفن فإن الاختلاف أمر شائع (لم تتنازع كثيرًا مع صديقك حول مزايا رواية أو فيلم سينمائي أو قطعة موسيقية؟) بل إن من الناس من يأخذون الاختلاف قضية مسلمًا بها، إلى حد أنَّهم يَعدُّون «الاتفاق» حيثما يكون الكلام منصبًّا على الفن أمرًا لا معنى له على الإطلاق؛ ذلك لأنه لا يمكن أن يكون هناك «التقاء بين الأذهان» إلا عندما يمكن تقديم أسباب مؤيدة لوجهات النظر المختلفة؛ فالأسباب توضح صحة بعض الآراء، وبطلان بعضها الآخر. أما في تقدير الفن، فلا نجد شيئًا سوى الآراء الشخصية، ولا يمكن تقديم أسباب، بل لا حاجة إلى تقديم أسباب؛ فرأي كل شخص هو في حدوده الخاصة، نهائي حاسم، لا يقبل المناقشة.

وهذا يؤدي بنا إلى المشكلة الكبرى التالية في هذا الفصل، وأعني بها معنى «الذوق السليم» «والذوق الرديء»؛ فنحن في حديثنا المعتاد، إذا ما سمعنا حكمًا عن شيء ما نتساءل: «حكم من هذا؟» ويكون هذا السؤال تعبيرًا عن الشك في هذا الحكم، ولهذا السؤال، بالنسبة إلى تقدير الفنان، أهمية خاصة؛ ذلك لأن معظم الناس يرفضون أن يصدقوا أن رأي أي شخص في الفن مساوٍ لرأي أي شخص آخر، وعلى ذلك، فعندما يصدر شخص حكمًا جماليًّا، فإنهم يريدون أن يعرفوا بأية سلطة يتكلم، إن كانت هناك سلطة على الإطلاق … ولكنك ترى مدى الأسئلة التي يثيرها هذا الاعتقاد: فما معنى «الذوق السليم»؟ وهل هناك أي تمييز يمكن قبوله بين «الذوق السليم» وبين «الذوق الرديء»؟ ويرتبط بهذين سؤال آخر: هل هناك أي معنًى للكلام عن «تحسين» الذوق أو «تربيته»؟

وهكذا فإنك ما إن تبدأ في التفكير بطريقة نقدية في الحكم الذي يبدو وقعه بسيطًا: «س قيم من الوجهة الجمالية»، حتى تجد نفسك قد وقعت في مجموعة كاملة من المشكلات: فما الذي يعنيه الحكم؟ وكيف يمكن تحقيقه، إن كان ذلك ممكنًا؟ وكيف يمكن التغلب على الخلافات في القيم، إن كان ذلك ممكنًا؟ وهل بعض الأحكام أقوى سلطة من بعضها الآخر؟

هذه أسئلة يُحتَمل أن تكون قد طرأت على ذهنك من قبل، بصورة أو بأخرى، ومن الجائز أنك لم تفكر فيها على مثل هذا النحو الشامل، والأرجح أنك كنت طرفًا في خلاف حول عمل فني بعينه، ولكنك لو تتبعت ما يجره هذا الخلاف وراءه، لأدى بك ذلك إلى إثارة تلك الأسئلة التي ذكرناها الآن، وسوف يوضح هذا الفصل كيف يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة، بطريقة منهجية ونقدية، عن طريق وضع النظريات بعضها في مقابل البعض.

والنظريات التي سندرسها هي: النظرية الموضوعية، والنظرية الذاتية، والنسبية الموضوعية.

(١) النظرية الموضوعية

لاحظنا أن حكم القيمة يتحدث عن العمل الفني وحده. فهو لا ينطوي على إشارة إلى المشاهد، أو على أي شيء آخر ماعدا العمل. وهو يعزو القيمة إلى العمل وكأن الجمال شيء «موجود هناك» في بعض الأشياء، وليس في بعضها الآخر.

والنظرية الموضوعية تقوم على هذا الاعتقاد الذي نجده لدى الذهن العادي. فهي ترى القيمة كامنة في العمل، أي أن القيمة الجمالية «موضوعية» أو «مطلقة» (لذلك تسمى هذه النظرية أحيانًا باسم «النزعة المطلقة».) وعلى الرغم من الغموض الشديد الذي تتسم به هذه الألفاظ، فإن من الممكن أن تكتسب معنى دقيقًا في هذا السياق. فأية خاصية للشيء تكون «موضوعية» أو «مطلقة» إذا كانت غير علائقية nonrelational، أي عندما توجد هذه الخاصية في الموضوع، مستقلة عن وجود أي موضوع آخر. مثل هذه الخاصية تختلف عن خاصية مثل «على اليسار» أو «ابن عم» أو صفة كون الشيء «مرعبًا»؛ ذلك لأن الموضوع لا يمكن أن يوصف بهذه الصفات الأخيرة إلا إذا كان هناك شيء آخر، أعني ما هو على اليمين، أو ابن عم، أو شخص أصابه الرعب، وفي مقابل ذلك توجد القيمة الجمالية مستقلة عن أي شيء آخر، وتظل طبيعتها على ما هي عليه محتفظة بهذا الاستقلال.
وليس المبرر الوحيد الذي ترتكز عليه النظرية الموضوعية هو أننا نستخدم اللغة بنفس الطريقة التي تقول بها هذه النظرية، بل إنها ترتكز أيضًا على حقيقة تجريبية مألوفة، هي أن بعض الموضوعات ترغمنا، لكونها جميلة أو رشيقة في ذاتها، على التطلع إليها؛ فالقيمة الجمالية «تتمثل أمامنا … بقوة طاغية».١ ونحن نشعر كأننا نكتشف شيئًا كان هناك طوال الوقت، وكل ما نفعله هو أن «نفتح عيوننا للجمال» غير أن الجمال كان هناك حتى عندما كانت عيوننا مغمضة.
ويعرض س. أ. م. جود C. E. M. Joad الفكرة الرئيسية في النظرية الموضوعية على النحو الآتي: «إذا … كان الموضوع يملك صفة كونه جميلًا، فلا يمكن أن يؤثر في جماله أي شيء يحدث في الزمن الذي يدركه، أو أي شيء يحدث لهذا الذهن.»٢ وهو يعبر عن نفس الفكرة بطريقة درامية فيقول: لنفرض أن عذراء الكنيسة الستينية، كما صورها رافاييل ظلت موجودة عند مات آخر إنسان: «فهل طرأ على الصورة أي تحول؟ وهل مر بها أي تغير؟ … إن التغير الوحيد الذي حدث هو أنه لم يعد هناك أحد يتذوقها، فهل يعني ذلك أنها، آليًّا، لم تعد جميلة»؟٣ ويهيب جود بعد ذلك بالفهم السليم، وبالحقيقة «التي لا شك فيها، وهي أننا كلنا نعتقد بالفعل أن وجود صورة للعذراء لا يتأملها أحد، وأفضل من وجود بالوعة لا يتأملها أحد».٤
على أن مثل هذه الإهابة بالفهم السليم لها دائمًا أخطارها في الفلسفة، فالفهم السليم ليس مجموعة موحدة من المعتقدات يشترك الجميع في الإيمان بها، بل إن ما نسميه «الفهم السليم» يضم عددًا لا حصر له من المعتقدات المتباينة، التي قد تصل إلى حد التناقض المنطقي فيما بينها. وهذا يصدق على الحالة التي نحن بصددها الآن. فكثير من الناس الذين يأبون الاعتراف بأن لديهم من «الفهم السليم» أقل مما لدى جود بأي مقدار، لا يعتقدون أن «صورة العذراء التي لا يتأملها أحد» أفضل من «البالوعة التي لا يتأملها أحد». وهم يقولون في هذا الصدد: «إذا لم يكن هناك شخص يتأمل، فما الفارق هنالك؟ ولم نتحدث عن «الأفضل» و«الأسوأ» على الإطلاق؟» وهذا الاتجاه بعينه في الفهم السليم هو الذي يهيب به كل الفلاسفة المعارضين للنظرية الموضوعية؛ فأحدهم يقول إن «الموضوع لا يمكن أن يكون له أي نوع من القيمة … لو لم يكن يوجد أي شيء آخر غير هذا الموضوع»٥ وآخر يعرب عن اقتناعه بأن القيم لا يمكن أن تفهم إلا في صلتها بما يشعر به الناس: «إن ما يستحيل تمامًا أن يكون أداة لجلب أية متعة لأي شخص، لا يمكن أن تكون له قيمة على الإطلاق».٦
إن جود يصف هذا المثل المتعلق «بصورة العذراء في مقابل البالوعة» بأنه «حجة مقنعة».٧ ولكن هل هو حجة على الإطلاق؟ لست أعني بذلك «هل هو حجة جيدة»؛ فقد رأينا لتونا أن هذه الحجة ليست مقبولة لدى الجميع. وإنما الذي أعنيه هو: هل هي حجة، بمعنى أنها تقدم دليلًا واستدلالًا يؤدي إلى إثبات نتيجة يدور حولها نزاع؟ وهل الخلاف بين جود وخصوم الموضوعية خلاف حول الأدلة؟ إن كل الأطراف يقبلون الواقعة (الفرضية)، وهي أن صورة العذراء في الكنيسة الستينية توجد عندما لا يوجد إنسان يتأملها، ولكن من المؤكد أن هذا خلاف يدور حول ما إذا كنا سنسمي صورة العذراء لرافاييل «جميلة» أم لا، ولا بد أن تتوقف تسميتنا إياها بالجميلة أو بغير الجميلة على الطريقة التي نقرر بها تعريف «القيمة الجمالية»؛ فليس هذا سؤالًا مماثلًا للسؤال عما إذا كان دواء معين سيشفي مرضًا معينًا، أو ما إذا كان برهان رياضي معين ذا صحة منطقية؛ فالخلاف بين جود وخصومه ليس مما يمكن أن يبت فيه الدليل الواقعي أو الاستدلال الاستنباطي، بل إن من الممكن أن يظلوا على الدوام (وربما ظلوا حتى الوقت الذي لا يعودون فيه موجودين، شأنهم شأن الباقين جميعًا، حسبما جاء في فرض جود)، يتصايحون «هذا جميل» … «هذا ليس جميلًا»، دون أي أمل في حل نزاعهم.

وبعبارة أخرى، فنحن إذا سلمنا بتعريف «القيمة الجمالية» بوصفها صفة موضوعية أو مطلقة، فليس من الممكن المجادلة حول التعريف في ذاته وبذاته؛ فهو ككل تعريف آخر، لا يعدو أن يكون نقطة بداية. ولا بد أن نرى ما يترتب عليه في النظرية الموضوعية بأسرها. فما الذي ينطوي عليه هذا التعريف بالنسبة إلى أساليب تحقيق حكم القيمة، ومعنى «الذوق السليم»، وإمكان تسوية الخلافات المتعلقة بالفن؟ هنا يبدأ ظهور المشكلات الحقيقية؛ ففي استطاعتنا اختبار النظرية من حيث اتساقها المنطقي، ومن حيث الأدلة التجريبية التي يفترض أنها تؤيدها، وفي إمكاننا أن نختبر في ضوئها عملية التقدير والنقد، كما كانت هذه العملية تمارَس تاريخيًّا، لنرى إن كانت النظرية تجعل لهذه العملية معنى، وتقدم أساسًا سليمًا للنقد.

أما النزاع بين «صورة العذراء والبالوعة» فهو نزاع أجوف (ولكن، كم من المرات دخلت في منازعات كهذه؟) وما إن يختفي هذا النزاع من الطريق، حتى تبدأ المشكلات الحقيقية.

وإذن، فلأعرض الآن الأفكار الرئيسية التي تقول بها النظرية الموضوعية وهذه الأفكار إنما هي نتائج مترتبة على النظرة الموضوعية إلى «القيمة الجمالية»: (١) حكم القيمة يمكن تحقيق صحته أو بطلانه، ويكون الحكم صحيحًا عندما تكون الصفة التي يعزوها إلى العمل موجودة بالفعل في العمل. (٢) وعلى ذلك فعندما يختلف شخصان حول قيمة عمل معين، فلا بد أن يكون أحدهما فقط هو المصيب، أما المخطئ فهو ذلك الذي يعزو إلى العمل صفة لا يملكها هذا العمل بالفعل. (٣) «الذوق السليم» قدرة على إدراك صفة القيمة الجمالية، عندما تكون موجودة في موضوع ما، أما «الذوق الفاسد» فهو سمة من لا يملك هذه القدرة. (٤) وعلى ذلك، فبعض الأحكام الجمالية لها سلطة موثوق منها، وبعضها الآخر ليس له مثل هذه السلطة.

•••

على أن هناك حقيقة معينة تذكر على الدوام من أجل تفنيد النظرية الموضوعية، ولعلك تستطيع أن تخمن ما هي، هذه الحقيقة هي أن الناس لا يتفقون على جودة الأعمال الفنية أو رداءتها. فلو كان الجمال «هناك» في الموضوع، فلماذا لا نجده جميعًا فيه؟ ولو أمكن تحقيق أحكام القيمة بطريقة حاسمة، فكيف ظل الناس متمسكين بأحكام مضادة؟ الواقع أننا لا نختلف على شيء بقدر ما نختلف على الفن.

ويظن الكثيرون أن هذه الحجة كفيلة بتفنيد النظرية الموضوعية بطريقة سريعة حاسمة، ولكن الحقيقة — كما سيثبت التحليل التالي — أن وقائع الاتفاق والاختلاف معقدة إلى حد بعيد، والأهم من ذلك أن ما تثبته هذه الوقائع، في صف النظرية الموضوعية أو ضدها، ليس واضحًا بصورة مباشرة.

•••

ينكر بعض القائلين بالنظرية الموضوعية حقيقة الاختلاف بين الناس، إنهم بالطبع يعترفون بأن الناس كثيرًا ما يصدرون أحكامًا متعارضة، ومع ذلك فهم يرون أن الخلافات تتجه «بمرور الزمن» أو «في المدى الطويل» إلى الزوال وتتقارب الأفكار سويًّا. وهناك عدة أمثلة لفنانين، كانوا محبوبين على نطاق جماهيري في أيامهم، ولكنَّ مُضِيَّ الزمن أسدل عليهم ستارًا من النسيان. أما العظماء فيظلون باقين. «إن هناك اتفاقًا ساحقًا … على أن قداس باخ من مقام لا الصغير من أعظم الأعمال الموسيقية التي ألفت، إن لم يكن أعظمها على الإطلاق، وأن «الحرب والسلام» لتولستوي هي أعظم رواية كتبت على الإطلاق.»٨
على أن الإهابة بالأجيال اللاحقة تثير بضعة أسئلة حاسمة؛ فأولًا: ما طول هذا «المدى الطويل»؟ وعند أية نقطة من تاريخ شهرة فنان معين نستطيع القول إنه تم الوصول إلى إجماع في الرأي؟ لا شك أننا نستطيع أن نهتدي إلى فترة كان فيها الرأي النقدي حول أعمال معينة مستقرًّا إلى حد ما، بل قريبًا من الإجماع، ولكن قد تتفق فترة تاريخية لاحقة حول نفس الأعمال أيضًا، فيما عدا أن حكمها يكون مضادًّا تمامًا لحكم العصر الأسبق، والواقع أن شهرة معظم الأعمال، وربما كلها، تتجه إلى التقلب على هذا النحو. «فمنذ عام ٤٠٠ الميلادي حتى عام ١٠٠٠م، كان يبدو أن يوريبيدس قد طرد أيسخولوس وسوفوكليس من الميدان. وفي عام ١٨٤٠م وصف بأنه فج متخبط؛ واليوم (١٩٢٩م) يقف، على قدر ما يمكننا أن نحكم، بين أعظم عشرة شعراء عرفهم العالم».٩ كذلك فإن الأغسطسيين Augustans١٠ كانوا يرون أن بوب ودرايدن هما في الصف الأعلى من الشعراء؛ أما القرن التاسع عشر فكان يرى شعرهما ذا طابع سطحي لا حياة فيه؛ وفي عصرنا هذا أخذت شهرتهما تعود مرة أخرى إلى الصعود؛ فعند أية نقطة من المنحنى الذي يرسمه هذا التطور نستطيع أن نجد إجماع التاريخ؟ لو فضلنا حكم عصر معين على عصر آخر، فما الذي يمنع من أن يكون حكمنا اعتباطيًّا تمامًا؟ لا شك أننا عندئذٍ لن نكون قد أهبنا بالأجيال اللاحقة كلها.
وفضلًا عن ذلك، فحتى القول إن هناك على الدوام اتفاقًا أثناء العصر الواحد ليس صحيحًا بطبيعة الحال؛ فأغلب الظن أن أكثر من قارئ واحد سيعترض على الحكمين اللذين أشرنا إليهما من قبل عن باخ وتولستوي؛ مثال ذلك أن ويلنسكي Wilenski وفراي Fry، في كتابَيهما عن التصوير الفرنسي، تجاهلا تمامًا فن ميليه Millet، على حين أن ماذر Mather يعدُّه «أهم عمل في القرن التاسع عشر».١١
والأهم من ذلك أنه حتى لو اتفق عصران مختلفان، بمعنى أن أحكامهما على عمل معين كانت تدل على استحسانه، فمن الجائز أنهما يعجبان بهذا العمل لأسباب متباينة، بل إن هذا يصدق على كل الحالات تقريبًا؛ فالعصور المختلفة «تبحث عن أشياء مختلفة في العمل»، وبالتالي فإنها «تقرؤه»، وتقدره على أنحاء شديدة التباين؛ فقد كانت «هاملت»، لشيكسبير تلقى إعجابًا طوال ثلاثة قرون ونصف تقريبًا منذ كتابتها، ومع ذلك فقد كانت تُقرأ وتمثل على أنها ميلودراما تحكي قصة مغامرات، أو دراسة لبطل رومانتيكي استبطاني، أو تعليق على النظام الاجتماعي، أو دراما فرويدية، وما إلى ذلك، وبالمثل أثبت الأستاذ «بوس Boas»، بالتفصيل أنه كانت هناك تفسيرات متباينة أشد التباين للوحة «الموناليزا» منذ القرن السادس عشر؛ فقد كانت تقدر في البداية نظرًا إلى حيويتها الطبيعية، أما في القرن التاسع عشر، فأصبحت هي التصوير الغامض، المحير، «للأنثوي الخالد».١٢ فهل يؤدي الإعجاب بهاملت أو الموناليزا على مر القرون إلى تأييد النظرية الموضوعية؟ وهل نستطيع القول إن القرون اللاحقة كانت متفقة، إذا كانت تفسر هذه الأعمال بمثل هذه الطرق الشديدة الاختلاف؟

هذه الأسئلة تؤدي إلى تحويل مناقشتنا في اتجاه جديد؛ فقد ابتعدنا الآن عن المسائل الواقعية المتعلقة بتاريخ الذوق، وانتقلنا إلى مشكلات تحليلية؛ فما معنى «الاتفاق» و«الاختلاف»؟ إننا إذا لم ندرك معناهما بوضوح، فمن العبث الاستشهاد بوقائع تاريخية؛ ذلك لأننا لن نعرف عندئذٍ ما الذي تثبته هذه الوقائع المتعلقة بالاتفاق والاختلاف، وبالتالي فلن نعرف شيئًا عن تأثيرها في صحة النظرية الموضوعية أو بطلانها.

•••

وإذن، فمتى يختلف حكمان تقويميان كلٌّ عن الآخر؟ المفروض أن هذا الاختلاف يحدث عندما يقول شخص: «العمل الفني س جيد» ويقول الآخر «العمل الفني س رديء»، ولكنا لاحظنا منذ قليل أن العمل يمكن تفسيره، وبالتالي فهمه جماليًّا، على أنحاء شتى، ومن ثَم فإنه يقدر على أسس متباينة، وإنه ليبدو أن موضوع كل من الحكمين هو نفسه «العمل الفني س». غير أن هذه العبارة تدل على موضوعات جمالية شديدة التباين، وإذن فهل الحكمان مختلفان حقًّا؟

إن أية قضيتين تكونان، على وجه العموم، مختلفتَين كل عن الأخرى إذا لم يكن من الممكن أن تكونا صحيحتَين معًا. أما في هذه الحالة، فإنهما تتحدثان عن «نفس» الموضوع من ناحيتين مختلفتين، أو عن خصائص متباينة لنفس الموضوع. وإذن فمن الممكن عندئذٍ أن تكونا صحيحتين، وعلى ذلك فإنهما ليستا مختلفتين حقًّا؛ فمن المؤكد أنه لا يوجد اختلاف حقيقي عندما يقول «أ»: «المنضدة بنية اللون» ويقول «ب» «كلا، إنها خشبية». وهذا أمر بادي الوضوح. ومع ذلك فعندما يحدث هذا الشيء نفسه في حديث عن الفن، فإنه لا يكون واضحًا على الإطلاق؛ لأن المتحدثين لا يوضحون كيف يفسرون العمل الفني وكيف يحكمون عليه. «فقد يعجب سامع بالإيقاعات والألحان البديعة لجيرشون Gershwin، على حين أن سامع آخر لا يعجبه الاستخدام الثقيل المفتقر إلى الخيال للصوت «الباص»، ورتابة الأسلوب».١٣ وإذن فالمستمِع الأول يحكم على جيرشون بطريقة فيها استحسان، الثاني بطريقة ليس فيها استحسان، ولكن ألا يمكن أن يكونا معًا على صواب، من نواحٍ مختلفة؟

فلنتأمل حالة أخرى أشد وضوحًا حتى من هذه، يكون الاختلاف فيها لفظيًّا بحتًا. فلنفرض أن «أ» يستخدم عبارة «س عمل جيد» بمعنى «أنا أميل إليه» وأن «ب» يستخدم عبارة «س عمل رديء» بمعنى «أنا لا أميل إليه». فهل هناك تناقض بينهما؟ من الواضح أن كِلا القولين يمكن أن يكون صحيحًا.

وينبهنا «جود» إلى تمييز له أهمية خاصة في أحكام القيم، هو التمييز بين «ما هو جيد وما نميل إليه».١٤ هذا التمييز يناظر، على التوالي، التمييز بين «التقدير» النقدي وبين وجدان القيمة في الفصل السابق. فالحكم المتعلق «بما نميل إليه» ليس إلا وصفًا لمشاعرنا أثناء التجربة الجمالية؛ سواءً أكنا مسرورين أم غير مسرورين، والحكم المتعلق «بما هو جيد»، لا يكتفي بوصف استجابتنا المباشرة، وإنما هو ناشئ عن التفكير العميق في العمل وتحليله. مثل هذا التحليل قد يكشف عن عيوب في العمل لم نرها أثناء «ميلنا» التلقائي إلى العمل. وعلى ذلك فعندما يقوم «أ» بعملية تقويم، و«ب» بعملية تقدير نقدي، فإن معنى حُكمَيهما اللذين يبدوان متعارضَين، وكذلك الأسس التي يصدران بناء عليها هذين الحكمين، يكونان متباينين كل التباين، وهنا أيضًا لا يكون هناك خلاف حقيقي.

وعلى ذلك فإن التعبيرَين اللغويَّين «س جيد» و«س رديء» لا ينبئاننا وحدهما إن كان ثمة خلاف حقيقي، وعلينا أن نتجاوز نطاق ألفاظ الحكم لكي نرى ما الذي تشير إليه عبارة «العمل الفني»، وما هو الادعاء الذي يقال بشأنه، ولنلاحظ أن هذا يصدق أيضًا عندما تبدو الأحكام متفقة فيما بينها، أي عندما يقول كل من «أ» و«ب»: «س جيد». فإذا كانا قد فسَّرا العمل بطريقتين مختلفتين كل الاختلاف، أو إذا كان «أ» يكتفي بوصف «ما يميل إليه» على حين أن «ب» يقدم تقديرًا له مبرراته، فعندئذٍ لا يكونان متفقَين بحق.

ومن هنا فإن مجرد كون عصرَين تاريخيَّين مختلفَين يصفان عملًا فنيًّا بأنه «جيد»، لا يدل في ذاته على شيء، وما لم تختبر أحكامهما بطريقة أدق، فإن هذه الواقعة لا يمكن اتخاذها دليلًا يؤيد النظرية الموضوعية. كذلك فإن مجرد كون فترة معينة تسمي العمل «جيدًا»، على حين أن فترة أخرى تسميه «رديئًا»، لا يثبت في ذاته الكثير، ولا يمكن اتخاذ هذه الواقعة، دون مزيد من التحليل، دليلًا ضد النظرية الموضوعية.

•••

والآن، لنفرض أن صاحب النظرية الموضوعية يود أن يتخذ من وقائع الاتفاق التاريخي دليلًا مؤيدًا لنظريته؛ فلا بد له في هذه الحالة أن يثبت أن الاتفاق حقيقي. وعليه بالتالي أن يثبت أن النقاد في الفترات المختلفة يتحدثون عن نفس الصفة الموضوعية للقيمة الجمالية، ولكن خصوم الموضوعية يشكون في قدرته على أن يفعل ذلك. فهم يستخدمون وقائع تاريخ الذوق في غير صالح القائل بالنظرية الموضوعية.

والطريقة التي يعرضون بها حجتهم هي كما يأتي: إذا كانت توجد في «هاملت» أو «الموناليزا» كل هذه القيم «المختلفة»، فهل يحق لنا القول إن هناك أية صفة واحدة للقيمة؟ ألا يتعيَّن على مفهوم «القيمة الجمالية» أن يكون واسعًا، فضفاضًا، شاملًا لكل شيء، لكي يتسع لجميع القيم التي تجدها العصور المختلفة في العمل؟ بل ألا تصبح «القيمة الجمالية» عندئذٍ مجرد اسم يطلق على واقعة كون العصور المختلفة تجد متعة جمالية في العمل؟ ولكن إذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن يتخلى صاحب النظرية الموضوعية عن نظريته، ذلك أولًا لأن «القيمة الجمالية» لن تعود دالة على صفة معينة محددة «في» العمل. وثانيًا فإن وجود القيمة الجمالية يتوقف عندئذٍ على وقائع التجربة الجمالية، مع أن هذه بعينها هي ما أراد صاحب النظرية إنكاره في البداية.

على أننا لا نستطيع أن نتحكم بمدى قوة هذه الحجة ما لم نستمع إلى دفاع النظرية الموضوعية. فماذا تكون صفة القيمة الجمالية عند هذه النظرية الموضوعية؟ إن كل ما أنبأتنا به النظرية حتى الآن هو أن القيمة «موضوعية» أو «مطلقة»، وهذه سمة تتميز بها القيمة الجمالية، ولكنها ليست وصفًا للطبيعة المحددة لهذه السمة ذاتها، وما لم تقدم إلينا النظرية الموضوعية مثل هذا الوصف، فإن الإهابة بالحكم التاريخي لن تثبت كثيرًا، أو لن تثبت شيئًا. وإذن فعلينا أن ننتظر حتى القسم التالي، الذي تعرض فيه النظرية بالتفصيل.

على أن هناك شيئًا آخر ينبغي لنا أن نبحثه في صدد تاريخ الذوق؛ فلنفرض أننا وجدنا اختلافًا حقيقيًّا حول عمل فني. وبعبارة أخرى فإن «أ» و«ب» لديهما نفس التفسير للعمل، وكل منهما يقوم بتقدير نقدي له، ويستخدم نفس معايير التقدير، ومع ذلك فإن «أ» ينتهي إلى أن «س جيد» و«ب» ينتهي إلى أن «س رديء»، ويتمثل ذلك فيما كتبه أحد النقاد، إذ قال: «أعتقد أن الرواية قد أخفقت لنفس السبب الذي يبدو من أجله أن كثيرًا من النقاد يرفعون من قدرها إلى أقصى حد.»١٥ كما يتمثل في الحالة الآتية: «إن نفس الصفات الموجودة في مانيه Manet والتي اجتذبت دومييه Daumier، هي التي بدت منفرة في نظر كوربيه Courbet.١٦» فهل يؤدي مثل هذا الاختلاف إلى تفنيد النظرية الموضوعية؟

إنه لا يؤدي إلى ذلك بالضرورة؛ ذلك لأنه لا زال من الممكن تمامًا أن يكون أحد النقاد المتعارضين قد عجز عن إدراك سمة القيمة التي توجد هناك في العمل، والقضية «لا توجد قيمة جمالية في س» ليست مما يترتب منطقيًّا على القضية «أ لا يجد قيمة جمالية في س»، فهذه الحجة، التي يستخدمها صاحب النظرية الموضوعية لإنقاذ نظريته هي، من حيث المنطق، سليمة تمامًا.

وفضلًا عن ذلك فإن في استطاعة صاحب النظرية الموضوعية أن يستمر في استخدام هذه الحجة مهما كانت كثرة ما نجده من خلاف واقعي، فقد نجد، كما يقول المثل اللاتيني القديم، أن «هناك من الآراء بقدر ما هناك من الناس.» ومع ذلك سيظل في استطاعة صاحب النظرية الموضوعية أن يؤكد، عن حق، أن هذا لا يؤدي إلى تفنيد نظريته. فمهما اختلف الناس، فإن القيمة الجمالية تظل «موضوعية في داخل العمل». ولو فهمت هذا، لما أدهشك أن تعلم أن جود، ذا النزعة الموضوعية، يعترف صراحة بأن «إجماع الرأي بين الخبراء … لا وجود له … فالأذواق تتغير، وإجماع جيل واحد، بقدر ما يكون قائمًا، كثيرًا ما يقف على طرفَي نقيض مع إجماع جيل آخر».١٧

ومع ذلك فإن حجة صاحب النظرية الموضوعية سلاح ذو حدين؛ ذلك لأنه يقول بالفعل إن الوقائع التجريبية — أي الأحكام الفعلية التي أصدرها الناس ويصدرونها عن الفن — لا تضعف من نظريته، ولكن إذا لم تكن النظرية تضعفها وقائع الاختلاف، فلا يمكن بالمثل أن تقويها وقائع الاتفاق، وإذا كانت النظرية الموضوعية تهيب بالأدلة التجريبية على أي نحو، فعليها أن تقبل جميع الأدلة، سواء منها الإيجابية (الاتفاق) والسلبية (الاختلاف). ولا يمكن أن تقتصر نظرية تجريبية أصيلة على الأدلة الإيجابية وحدها، وتحاول استبعاد الأدلة السلبية من تفسيرها.

ولكن، إذا لم تكن الأدلة التاريخية قيمة، فما السبب الذي يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هناك أية سمة موضوعية للقيمة في الفن؟ وما السبيل إلى معرفة ما إذا كانت موجودة؟ هنا أيضًا ينبغي ألا نتسرع فنستنتج أن النظرية الموضوعية قد «فندت»، بل إن من واجبنا أن نطلب مرة أخرى إلى صاحب النظرية الموضوعية أن يزيد نظريته هذه إيضاحًا.

خلاصة القول إن صحة النظرية الموضوعية أو بطلانها لا يمكن أن تقرره وقائع تاريخ الذوق؛ ذلك لأن اختبار هذه الوقائع يعود بنا دائمًا إلى السؤال الأساسي الحقيقي: «ما هي سمة القيمة الجمالية، وكيف يتسنى لنا أن نعرفها؟» إن وقائع الاختلاف في الحكم قد تجعلنا نفترض عدم وجود سمة موضوعية في القيمة الجمالية على الإطلاق، أو نشك في أنها موجودة، ولكن هذا لا يمكن أن يزيد عن مجرد الشك، ما لم ندرس إجابات صاحب النظرية الموضوعية على أسئلتنا.

كثيرًا ما يحدث في الفلسفة أن يقضي المرء وقتًا طويلًا يفحص الأدلة، ويوضح معالم الحجج، لا لشيء إلا لكي يبين في نهاية الأمر أنها لا تؤدي إلى البت في السؤال الأصلي. وقد كان علينا أن نفعل ذلك بالنسبة إلى الاتفاق والاختلاف؛ لأن الناس كثيرًا ما يظنون أنها هي التي يتوقف عليها مصير النزعة الموضوعية، وقد حاولت أن أبين أن هذه الوقائع، إذا ما اختُبرَت، اتضح أنها معقدة مختلطة، وأنها ليست حاسمة، لا إيجابًا ولا سلبًا؛ فالمعايير الحيوية للنظرية الموضوعية هي: (١) هل يمكنها أن تصف بوضوح سمة القيمة الجمالية، بحيث (٢) تستطيع أن تنبئنا متي تُدرك هذه السمة بطريقة صحيحة؟

لقد كانت هناك، خلال التاريخ الطويل للنظرية الموضوعية، عدة آراء متباينة في سمة القيمة الجمالية؛ هذه الآراء أو النظريات تنقسم أساسًا إلى نوعين: (١) النظريات التي تنكر إمكان تعريف «القيمة الجمالية»، (٢) والنظريات التي ترى أن «القيمة الجمالية» يمكن تعريفها، والتي تحدد هذه القيمة بأنها سمة معينة قابلة لأن توصف، من سمات العمل ذاته، وهي عادةً سمة شكلية.

(١-أ) القيمة الجمالية موضوعية. والموضوعات التي تتصف بها تستلفت انتباهنا إليها؛ وعندما تفعل ذلك، نجد في الموضوع قيمة. أما عن تعريف «القيمة الجمالية» فهذا ما لا يمكن القيام به. فعندما نصادفها نعرفها جيدًا، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن «نعبر عنها بالكلمات»؛ ذلك لأن القيمة الجمالية ليست كأي شيء آخر في العالم، ومن هنا فإنها تتحدى الوصف من خلال التصورات؛ فهي شيء إما أن يدرك ككل وإما ألا يدرك على الإطلاق. ومن هنا فإن من غير الممكن تحليلها.

مثل هذه الصفة، إذا كان لا بد أن تُعرف على الإطلاق، لا يمكن أن تعرف إلا بالحدس. وهذا لفظ يشيع استخدامه، سواء داخل ميدان الفلسفة وخارجه، كما هي الحال مثلًا في كلامنا عن «قوة الحدس عند المرأة»، وهو يدل على الإدراك المباشر، كما في الإدراك الحسي لطعم أو رائحة. وعندما يدرك المتصوف الله بالحدس، فإنه يصف تجربته بعبارات حسية — ومن هذا القبيل عبارة مزامير داود: «تذوق وانظر أن الرب خير»، وعلى ذلك فإن موضوع الحدس لا يعرف بالاستدلال، فعندما يستدل العالم أو ضابط الشرطة على أنه إذا كان الأمر كذا وكذا، فمن المحتمل أن يكون السبب حادثًا معينًا لا يستطيع ملاحظته، فإنه يكون قد وصل إلى استنتاجه هذا عن طريق الاستدلال. أما عندما تدرك المرأة المحبة أو المراهن في سباق الخيل شيئًا «بالحدس»، كأن تدرك الأولى أن الرجل يحبها حقًّا، أو يدرك الثاني أن حصانًا معينًا سيفوز في السباق الرابع، فعندئذٍ لا يمكنهما، على خلاف العالم أو رجل الشرطة، أن يقدما أسبابًا لاعتقادهما، وكثيرًا ما يقولان إنهما «يحسان به» فحسب، وإن كانا في أحيان كثيرة سيقولان أيضًا إنهما «يعرفان ذلك جيدًا». وأخيرًا فالحدس عادةً يَزعُم لنفسه اليقين؛ فهو ينطوي في ذاته على شعور باليقين يستبعد إمكان أن يكون مضللًا، ولو اتخذنا من التجربة الحسية، مرة أخرى، أنموذجًا، لوجدنا أنني عندما أشم رائحة معينة لا يمكن أن أخطئ في طبيعتها. قد أستخدم في وصفها ألفاظًا غير دقيقة؛ بل قد لا أعرف ما هي الكلمات التي أستخدمها؛ وقد أكون على خطأ في الاعتقاد بأن الرائحة تأتي من مكان معين لا من مكان آخر، ومع ذلك فإن الرائحة لها نفس الطابع الذي أشعر بأنه لها، ولو قلت إن إحساسي «غير صحيح» لكان قولك هذا ممتنعًا.

إن هدف الموضوعيين الحدسيين هو وصف طريقة شعورنا بالتجربة الجمالية؛ فقيمة العمل شيء يدرك مباشرة؛ ونحن لا نستدل عليه أو نستنتجه، وعندما ندرك سمة القيمة، لا يمكننا أن نشك في وجودها.

وفضلًا عن ذلك فإن الموضوعيِّين الحدسيِّين يهدفون إلى إرساء التقدير النقدي على أساس معرفي متين؛ فحكم القيمة الإيجابي يكون صحيحًا إذا كان العمل يتصف فعلًا بسمة القيمة؛ والحكم السلبي يكون صحيحًا إذا لم يكن يتصف بها، وفي استطاعتنا أن نعرف بطريقة حاسمة إن كان الحكم صحيحًا أم باطلًا عن طريق معاينة العمل، ومن هنا فإنه إذا اختلف شخصان، كان أحدهما على خطأ، إما لأنه لا يدرك بالحدس تلك السمة الموجودة في العمل، وإما لأن السمة التي يظن أنه يدركها ليست موجودة بالفعل في العمل ذاته. أما الشخص ذو «الذوق السليم» فهو ذلك الذي توافرت له القدرة على إدراك سمة القيمة الجمالية.

•••

فإذا انتقلنا إلى نقد المذهب الحدسي، كان أول سؤال نطرحه هو ذلك الذي كان يوجه دائمًا إلى الحدسيين في أي ميدان من ميادين التجربة، سواءٌ منها التجربة الجمالية والأخلاقية والدينية وتجربة الحب أو أية تجربة أخرى، ألا وهو: «ماذا يحدث لو تضاربت الحدوس فيما بينها؟» لنفرض أن «أ» و«ب» يعتقدان معًا أن الجمال سمة فريدة، لا تُعرف، ولنفرض أنهما معًا يدركان العمل الفني «س» إدراكًا جماليًّا، غير أن «أ» يحكم بأن «س جميل» و«ب» يحكم بأن «س قبيح»، فكيف يمكن حل هذا الخلاف؟ إن المذهب الحدسي، حسب تعريفه ذاته، لا يسمح بتقديم أية أسباب دفاعًا عن أي من الحكمين؛ فالمفروض أن الحدس يدعم نفسه بنفسه، وليس ثمة محكمة استئناف وراءه، ومن هنا فإن المذهب الحدسي يقف حائلًا في وجه كل عملية المناقشة، والالتجاء إلى الأدلة، وهي العملية التي نحاول بها تسوية الخلافات حول القيمة.

قد يرد الحدسي بأن الحكم الذي يصدره الشخص ذو «الذوق السليم» هو الحكم الصحيح، ولكن من الواضح أن في هذا مصادرة على المطلوب؛ ذلك لأن «الذوق السليم» يعرف بأنه «القدرة على إدراك الجمال»، والمشكلة موضوع البحث هي بعينها مشكلة وجود هذا الجمال أو عدم وجوده. فلا يمكننا أن نحدد إن كان «أ» أو «ب» هو صاحب «الذوق السليم» إلا إذا عرفنا إن كان العمل يتصف بالجمال أو لا يتصف به، وما لم تستطع النظرية أن تقدم إلينا معايير مستقلة تتيح لنا التعرف على «الذوق السليم»، فإن كل مشكلة «الذوق السليم» و«الذوق الرديء» تصل إلى طريق مسدود، شأنها شأن مشكلة الأحكام المتضاربة.

هذه هي المفارقة القديمة للمذهب الحدسي: فهذا المذهب يبدأ بوصفه نوعًا متطرفًا من النظرية الموضوعية، ولكنه يتحول إلى «نظرية ذاتية»، فليس ثمة سبيل إلى تحديد صحة حكم القيمة، ومن هنا فإن من المستحيل أن نقرر إن كان أحد الأحكام «أرفع» من الآخر أو «أقوى سلطة» منه.

وقد يقول «أ»، بطبيعة الحال، إن «ب» مصاب «بعمى القيم»، ولكن «ب» قد يرد عندئذٍ بأن «أ» «يتخيل أشياء غير موجودة» وبعد ذلك يزداد هبوط مستوى الأوصاف التي يوجهها كلٌّ من الطرفين إلى الآخر بالتدريج، فتصبح أوصافًا مثل: «عديم الإحساس»، و«سوقي» … إلخ، ونظرًا إلى عدم وجود أدلة أو استدلالات، فمن الممكن أن ينتهي الخلاف إلى شتائم، وإن لم تكن الشتائم قادرة بالطبع على تسوية أي خلاف. والواقع أن المذهب الحدسي يتعرض لهذه النتيجة نظرًا إلى ما يدعيه الحدسي من يقين؛ فالشخص المقتنع بصحة موقفه على نحو لا يتطرق إليه الشك، لن يحتمل الخلاف بسهولة، ولهذا السبب فإن المذهب الحدسي، في جميع المجالات، أدى في كثير من الأحيان إلى مذهب السلطة، أي إلى فرض قرارات شخص معين أو نظام معين عن طريق قمع كل معارضة، فللفن «طغاته» أيضًا، سواء أكان أولئك الطغاة نقادًا من الأفراد أم «أكاديميات».

هذه النزعة الحدسية سرعان ما تؤدي بنا إلى طريق مسدود؛ فالنظرية تحاول الاحتفاظ بالاعتقادات الشائعة في موقفنا المعتاد، وهي الاعتقادات القائلة إن الأحكام الجمالية إما صحيحة وإما باطلة، وإن بعض الناس يتحدثون في الفن بسلطة أعظم من تلك التي يتحدث بها غيرهم، ومع ذلك فإنها سرعان ما تؤدي إلى ظهور أنواع شتى من اللامعقولية، والأسوأ من هذا كله أنها لا تقدم أساسًا للتحليل النقدي. وبذلك لا يكون ثمة سبيل إلى كشف قيمة العمل لأولئك الذين لم يدركوها بعد.

ولكن حتى لو كانت الانتقادات السابقة صحيحة، فلنلاحظ أنها لا تؤدي، في ناحية معينة، إلى تفنيد النظرية؛ فقد يظل من الصحيح أن القيمة الجمالية سمة موضوعية، لا يمكن إرجاعها إلى غيرها، وقد يكون لبعض الناس القدرة على إدراكها، على حين أن هذه القدرة لا تتوافر لغيرهم، ولكن إذا صيغت النظرية على هذا النحو، على أنها مجرد إمكان، فسوف تكون نظرية مختلفة تمامًا، ويكون حقها في أن يؤخذ بها أضعف بكثير؛ فأي شيء ممكن، ما عدا ما هو متناقض مع ذاته منطقيًّا، وما إن تقتصر على القول إن المذهب الحدسي قد يكون صحيحًا، حتى تكون قد أبعدت النظرية عن متناول يد الأدلة المؤيدة أو المعارضة لها.

وإذن فالقول إن النظرية الموضوعية الحدسية لم «تفند»، إنما هو ملجأ يائس أخير، فهذا أمر يسلم به ناقد النظرية، ولكن ذلك لن يحول بينه وبين الوصول إلى النتيجة التي يقول بها، ألا وهي أنه ليس ثمة سبب يدعونا إلى الاعتقاد بأن النظرية صحيحة.

•••

(١-ب) كانت النظرية السابقة تتحرك في دائرة ضيقة؛ فهي تقول إن الجمال ليس إلا الجمال، وإن لم نكن نستطيع أن نقول ما هو هذا الجمال. فإما أن يتعرف عليه المدرك وإما ألا يتعرف، ولا مجال هنا لإبداء أسباب.

وينبهنا واحد من أنصار النظرية الموضوعية المعاصرين، هو الأستاذ «فيفاس Vivas»، إلى عيوب هذه النظرية؛ فهو يقول إن القيمة، تبعًا لهذه النظرية، تصبح «عفوية معجزة تمامًا، لا يدركها إلا من تتكشف لهم بالصدفة، بينما تظل مستغلقة تمامًا على أولئك الذين لا يدركونها على هذا النحو».١٨ غير أن النقد الفني لا يكون ممكنًا إلا إذا كان في استطاعته الإجابة بسمات في العمل «يستطيع أي شخص أن يختبرها بنفسه».١٩ وفضلًا عن ذلك فإن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها أن نتخلص من الأحكام «الذاتية» المبنية على ارتباطات شخصية وعرضية.
وعلى ذلك فإن فيفاس، وإن كان يؤمن بدوره بأن القيمة موضوعية، يريد أن يكون في استطاعته أن يقول عنها أكثر مما يستطيع صاحب المذهب الحدسي أن يقوله، ومن ثَم فإنه يؤكد أن القيمة الجمالية «تتوقف» على «البناء القابل للتمييز discriminable structure»٢٠ للعمل الفني. هذا البناء يمكن أن يُحلَّل ويُناقَش بقدر ما يمكن تحليل ومناقشة أية صفة موضوعية في الأشياء. وعلى الرغم من أن البناء ليس هو ذاته القيمة الجمالية، فإن هذه الأخيرة لا يمكن أن توجد، ولا تكون على ما هي عليه، بدون هذا البناء؛ ففي استطاعتنا أن نشير إلى «التكوين المعماري» لإحدى فوجات (fugues) باخ، ونقول إن العمل جميل نظرًا إلى قالبه.
والواقع أن نظرية الأستاذ فيفاس إنما هي صياغة حديثة لنوع من النظرية الموضوعية ظل منتشرًا على نطاق واسع طوال تاريخ النقد. هذا النوع يرى أن الجمال هو «الجمال فحسب»، كما يقول المذهب الحدسي؛ فهو لا يعرف، ولا يقبل التحليل، ومع ذلك فهناك سمات معينة توجد دائمًا مع الجمال، ولا توجد إلا حين يكون الجمال موجودًا. وإذن فهذه السمات علامات لا تخطئ على وجود الجمال، والإشارة إليها تثبت حكم القيمة على نحو حاسم، ويترتب على ذلك بطبيعة الحال أن الخلاف حول القيمة يمكن تسويته، وفي استطاعتنا أن نطلق على هذه النظرية اسم نظرية «السمات المصاحبة accompanying-properties».

وفي خلال تاريخ هذه النظرية، كانت السمات التي تصاحب الجمال تعد عادة سمات شكلية من نوع ما، وهكذا كان الفن يقدر على أساس «قواعد» «للتكوين» في التصوير، وعلى أساس «التناسب» في النحت والعمارة، و«الوحدة» في الموسيقى.

•••

هذه النظرية أفضل قطعًا من النظرية الموضوعية الحدسية، وذلك للأسباب التي قدمها فيفاس، ولقد قبلها كثير من النقاد طوال تاريخ الفن حتى لو كان ذلك في بعض الأحيان قبولًا لاشعوريًّا، ومع ذلك فإنها تواجه صعوبات خاصة بها.

إن السؤال الأول هو، بطبيعة الحال: «أية سمات هي التي تصاحب الجمال؟» هناك نوعان من الإجابة عن هذا السؤال.

النوع الأول هو تعريف هذه السمات بدقة وتحدد شديدين، وهكذا وضعت في تاريخ العمارة «قوانين» للتناسب، تحدد بدقة رياضية النسب «الصحيحة» بين مختلف الأجزاء في تشريح الجسم البشري. هذه النسب هي السمات المصاحبة للجمال في النحت، ولا بد أن تتجسد هذه السمات في الشكل المنحوت لكي يكون جميلًا، ومن هنا فإن جودة التمثال أو رداءته يمكن التيقن منها على نحو حاسم.

غير أن هناك أعراضًا واضحة على هذه الطريقة في التفكير. فلنفرض أن مثالًا خرق قوانين التناسب، لا عن عجز أو جهل، بل بتعمد تام، ولنفرض أنه حقق بذلك نسبًا شكلية وتأثيرًا تعبيريًّا متميزًا، يتسمان بأنهما ممتعان جماليًّا؛ فإذا حكمنا على عمله على أساس القوانين الدقيقة، فلا بد عندئذٍ من أن نحمل عليه. والأدهى من ذلك أن من يتأملون التمثال متخذين من هذه القوانين معايير للإدراك سيكونون عاجزين عن تقدير قيمة العمل.

ولكن كيف تم التوصل إلى هذه القوانين أصلًا؟ إنها لم تنشأ من مجرد معرفة تشريح جسم الإنسان؛ فهذا لم يكن كافيًا في ذاته لتحديد ما هو جيد وما هو رديء في التصوير الفني للجسم، بل لقد استمدت هذه القوانين من دراسة أعمال نحتية معينة، استخلصت منها النسب التي تبين أنها تبعث متعة جمالية، واتخذت نسبًا «صحيحة» أو «مثالية»، ومع ذلك فقد كانت هذه أعمالًا أبدعها فنانون معينون، يعملون في فترات معينة من التاريخ، وعندما تظهر حركات جديدة في الفن، وتتغير أهداف الفن، ستتغير أساليب النحات ووسائله الفنية بدورها، ولا تعود القوانين القديمة كافية بوصفها معايير للقيمة، بل تعجز عن أن تفسر كيف يمكننا أن نستمتع جماليًّا بالنحت الجديد.

إن المدافعين عن النظام القديم يمكنهم بالطبع أن يدَّعوا أن النحت الجديد ليس «جميلًا حقيقة»، ولكن شهادة التجربة الجمالية أهم من التمسك بالنزعة التقليدية وهذا ما يسلم به أنصار النظرية الموضوعية ضمنًا؛ إذ إن القوانين القديمة يتم التخلي عنها بمضي الوقت؛ فالنسب القديمة ليست موجودة في كل الأعمال الفنية الجيدة.

إن من غير المحتمل على الإطلاق أن يكون في وسعنا الاهتداء إلى أية مجموعة من السمات المحددة التي توجد على الدوام مصاحبة للجمال؛ فالأعمال الفنية أعقد وأكثر تنوعًا من أن تسمح بذلك، بل إننا نستطيع، إذا تأملنا تاريخ الذوق، والعدد الهائل من التقاليد والأساليب الفنية، أن نقول بأن من المستحيل، من وجهة النظر العملية، الاهتداء إلى أية خصائص كهذه.

لذلك يقدِّم كثير من أصحاب النظرية الموضوعية إجابة من نوع آخر عن السؤال: «ما هي السمات التي تصاحب الجمال دائمًا؟» فبدلًا من أن يذكروا سمات معينة، يجيبون بعبارات عامة مجردة، فيقولون مثلًا إن كل الأعمال التي تتسم «بالوحدة العضوية» جميلة، وأن هذه الأعمال وحدها هي الجميلة، على أن الوحدة العضوية، كما رأينا من قبل، ليست سمة محددة، كالنسب الرياضية بين أجزاء العمل، وإنما هي أشبه بنوع من السمات له أمثلة محددة، ومن الممكن أن تتحقق الوحدة العضوية بعدة طرق متباينة، وفي أعمال مختلفة كل الاختلاف.

وهكذا نستطيع أن نواصل استخدام الأمثلة السابقة قائلين إن من الممكن وجود قوانين متعددة للتناسب؛ فالقوانين القديمة تسري على الفترات والأساليب التي استمدت هذه القوانين منها أصلًا، وبعد ذلك، عندما يظهر أسلوب جديد في النحت يصور الجسم بنسب مختلفة، يمكن أن تظهر قوانين جديدة، والعامل الدائم، وهو الوحدة العضوية، يقتضي أن تكون جميع أجزاء العمل، أيًّا كانت النسب المستخدمة، مؤدية بالضرورة إلى زيادة قيمة الكل، فإذا كانت النسب التشريحية الجديدة تفي بهذا الشرط، فعندئذٍ يمكن إثبات أن العمل جيد.

هذه النظرية تظل نوعًا من النزعة الموضوعية؛ ذلك لأن النسب الجديدة قائمة في العمل ذاته، مثلما كانت النسب القديمة تقوم في الأعمال السابقة. ومن الواضح أن هذه النظرية أكثر تحررًا وأقرب إلى الطابع العملي من النظرية السابقة، فمن الممكن تطبيقها، والإفادة منها، في النقد العملي، بل إنها قد استخدمت على نطاق واسع في تاريخ النقد الفني، وعندئذٍ نجد أن الناقد لا يحاول أن ينبئنا ما هو الجمال، فتلك مسألة ميئوس منها، وإنما يستطيع أن يطبق قواعد عامة تفسر سبب جمال العمل. ونظرًا إلى أن هذه القواعد عامة بالفعل، فإن الناقد يستطيع احترام الفوارق بين الأعمال المنفردة؛ فهو لا يشترط أن يكون العمل مصوغًا في قوالب محددة من قبل كما تشترط النظرية السابقة.

ومع ذلك فقد كان هناك سؤال رئيسي كامن من وراء مناقشتنا لنظرية «السمات المصاحبة» بأسرها، وها قد آن أوان إثارة هذا السؤال؛ «فالسمات المصاحبة» ليست هي ذاتها الجمال، والتناسب التشريحي في النحت ليس هو نفسه الجمال في النحت، كذلك فإن «الوحدة العضوية» لا تعني ما تعنيه «القيمة الجمالية». وكل ما تقوله النظرية هو أن «السمات المصاحبة» ليست إلا علامات على القيمة الجمالية. أما القيمة ذاتها، فلا تقبل التعريف أو التحليل.

غير أننا لا نستطيع أن نقول إن «أ» يصاحب «ب» دائمًا إلا إذا كان في استطاعتنا التعرف على «ب» حيثما وجد، ولكن لو كان الجمال هو «الجمال فحسب»، كما تقول النظرية، فكيف نستطيع أن نعرفه؟ إن هذا لا يكون إلا بالحدس، وعندئذٍ نقع مرة أخرى ضحية كل الصعوبات الواضحة التي يقع فيها المذهب الحدسي، فإذا كان «م» يجد العمل الفني «س» ذا قيمة في تجربته الجمالية، و«ن» لا يجده ذا قيمة، فعندئذٍ لن يفيد القول إن العمل يتصف بسمات معينة أو لا يتصف بها؛ ذلك لأننا لن نستطيع، حتمًا، أن نتأكد إن كانت هذه السمات مصاحبة للجمال أم لا، ما دمنا غير متأكدين إن كان العمل يتصف بالجمال أم لا.

وهنا أيضًا نجد أن المشكلة الرئيسية ليست هي واقعة الخلاف في التقدير فحسب، بل إن المشكلة الحقيقية هي ما إذا كنا نعرف أن القيمة موجودة في العمل، وكيف نعرف ذلك، فلو أمكن أن نبين بطريقة حاسمة أن العمل يتصف بالقيمة الجمالية، لما كان من المهم أن يوجد أشخاص كثيرون يصدرون حكمًا سلبيًّا عليه، إذ سيكون من الممكن إثبات بطلان أحكامهم.

إن نظرية «السمات المصاحبة» تحاول إثبات وجود الجمال، الذي لا تستطيع النظرية الحدسية الخالصة إلا أن تشير إليه فحسب، ولكن بقدر ما تكون نظرية «السمات المصاحبة» ذاتها مرتكزة على الحدس، فلا يمكن أن تحرز نجاحًا، وإنما هي تستطيع أن تنجح لو استطاعت أن تثبت وجود علاقة منطقية دقيقة بين «السمات المصاحبة» وبين «الجمال فحسب»، وعندئذٍ يكون عليها أن تثبت على نحو قاطع أن «العمل «س» جميل»، وتثبت بعد ذلك أن هذا الحكم لا يصدق إلا إذا كان «العمل س يتصف بالسمات «ك»، «ل»، «م»». أما إذا لم تستطع النظرية إثبات القضية الأولى، فلا جدوى عندئذٍ من القضية الثانية.

•••

عند هذه النقطة، قد يرى بعض القراء أن نظرية «السمات المصاحبة» ينبغي أن تتبرأ، بساطة، من علاقتها العائلية بالمذهب الحدسي، فلماذا تتحمل أعباء غوامض الحدس والمآزق التي يؤدي إليها؟ ولكنا لو تخلينا عن الحدس، فكيف نعرف أي الأعمال هي الجميلة؟ وإلى أي الأعمال نتطلع، لكي نجد السمات التي «تتوقف» عليها القيمة؟ إنها بالطبع تلك التي تمنح المشاهد متعة جمالية، فبدلا من الإهابة بسمة «معجزة» هي «الجمال فحسب»، كما يسميها فيفاس، فلنلجأ إلى الدليل التجريبي المتعلق بما يحبه الناس وما لا يحبونه في التجربة الجمالية.

فإذا ما اتخذنا من الاستجابة الجمالية نقطة بداية لنا، أمكننا بعد ذلك أن نختبر العمل لكي نرى أي السمات فيه هي السبب في استمتاعنا ورضائنا، وعلى هذا النحو نستطيع أن نميز، كما يقول فيفاس، بين أحكام القيمة المبنية على ارتباطات عرضية شخصية في المدرك، وبين الأحكام المرتكزة على إدراك واعٍ لما هو أصيل في العمل، وبذلك نستطيع التمييز بين الأسباب الجيدة والأسباب الرديئة للأحكام الجمالية، ونستطيع أن نبين أن حكم شخص ما أفضل من حكم شخص آخر. صحيح أننا سنفقد عندئذٍ «اليقين» المزعوم للحدس — أي مجرد «رؤية» سمة الجمال — غير أن هذه ليست خسارة كبيرة، وكما يقول فيفاس، فإن «العصمة من الخطأ ليست ممكنة، ولكنها أيضًا ليست ضرورية».٢١ وعلى أية حال، فسوف يظل لدينا ما تريده كل نظرية موضوعية، ألا وهو «التبرير الموضوعي … للذوق».٢٢ هذه النظرية تظهر نتيجةً لعيوب النظريات السابقة. ولكن يتعين عليها أن تواجه هذا السؤال: أهي ما زالت نظرية موضوعية؟ فلنتساءل، على سبيل التذكرة: ما هي «الموضوعية»؟ إنها الرأي القائل إن القيمة الجمالية توجد في العمل مستقلة عن أية علاقات بين العمل وبين المشاهد، ولكنا نلاحظ الآن أن هذا الرأي قد تم التخلي عنه؛ فالسمات، التي «تتوقف» عليها القيمة الجمالية موضوعية، ولكن القيمة ذاتها تُعزَى إلى الأعمال التي تمنحنا لذة جمالية، وهكذا فإن القيمة أصبحت تتصور من خلال مفاهيم علائقية.٢٣

وما إن تفعل ذلك، حتى يتعين عليك أن تواجه حقيقة واقعة، هي أن هناك تقويمات كثيرة مختلفة «لنفس» العمل الفني، وقد تبين لنا ذلك من قبل في حالة «هاملت» و«موناليزا»، وإذن فستكون هناك عدة تفسيرات متباينة للأحكام التي نصدرها عن العمل، ولن يكون هناك تفسير واحد، وواحد فقط، هو الصحيح، وحكم واحد، وواحد فقط، هو الصائب، وهو ما تؤكده النظرية الموضوعية في أشد صورها تطرفًا.

وبطبيعة الحال فليس المهم فعلًا هو «الاسم» الذي نطلقه على هذه النظرية الجديدة؛ فقد نسميها «موضوعية معدلة» (وإن كنا قد رأينا لتونا أن الفكرة الأساسية في النظرية الموضوعية، وهي نظرتها غير العلائقية إلى القيمة، قد تم التخلي عنها): وقد نسميها «نظرية نسبية»، ما دامت مشابهة للنظرية المسماة بهذا الاسم، والتي سندرسها فيما بعد، أو قد نطلق عليها أي اسم نشاء؛ فليس المهم هو الاسم وإن كان من الواجب أن نلاحظ مع ذلك أن الأسماء التي تعطى لنظريات يدور حولها خلاف، كثيرًا ما تصبح مشحونة بالانفعال؛ فصفتا «النسبي» «والمطلق» «ليستا لفظين محايدين انفعاليًّا، وإنما هما يستخدمان في كثير من الأحيان وكأنهما ألقاب وصفية.» والمهم فعلًا هو أن تدرك لماذا يحدث في كثير من الأحيان أن يتخلى المفكر عن النظرية الموضوعية المتطرفة في سبيل نظرية كهذه.

•••

فلأقدم إذن موجزًا مختصرًا لتحليلنا.

إن النظرية الموضوعية تبدأ بجعل التقدير الجمالي بسيط واضح المعالم؛ فالقيمة الجمالية تعرف بالحدس، وبالتالي فهي تعرف بطريقة معصومة من الخطأ؛ ومن الممكن أن نثبت على نحو حاسم إن كان حكم القيمة صحيحًا أم باطلًا، ونظرية «السمات المصاحبة» تحاول أن تجعل التقدير أكثر من مجرد «إما أنك تراه وإما أنك لا تراه». وهي تحاول التخلص من الذاتية الحدسية التي تدعو إلى اليأس، فهي تبحث عن أساس موضوعي للنقد في السمات الفنية التي يمكن ملاحظتها ومناقشتها بصورة مشتركة بين الناس، ومع ذلك فإن هذه النظرية تخفق بقدر ما تظل تفترض مقدمة وجود إدراك حدسي للجمال، ولذا نراها تنتقل إلى الميل أو النفور الجمالي، متخذة منه نقطة بداية لها، ولكنها عندئذٍ تتصور القيمة بطريقة علائقية، ولا يكاد يمكن وصفها بعد هذا كله بأنها نظرية موضوعية.

فلنوجز الموجز إذن، ونقول: إننا بدأنا بالرأي الشائع بين الناس، وهو أن أحكام القيمة تتعلق بالجمال الذي هو في الموضوع، وأنها مما يمكن إثبات صحته أو بطلانه، كما أن من الممكن إثبات أن أحكام بعض الناس أفضل من أحكام بعضهم الآخر، ولكن عندما نحاول تبرير هذه الاعتقادات، تصادفنا اعتراضات خطيرة، وربما اعتراضات قاضية عليها. وهكذا يبدو أننا مرغمون على الانتقال إلى القطب المضاد، بحيث نجعل مقر القيمة الجمالية الآن في التجربة التي نحس بها، ولكن هذا يؤدي إلى جعل التقدير أصعب بكثير؛ إذ إن هناك عددًا كبيرًا من التفسيرات والأحكام، وما لم يكن في استطاعتنا إثبات أن بعض هذه التفسيرات والأحكام «أصدق» أو «أصح» من بعضها الآخر، فقد نضطر إلى التخلي كلية عن اعتقاداتنا المرتكزة على الموقف الطبيعي.

هذا هو «ديالكتيك» نظرية التقدير الجمالي، أي حركة الأفكار فيها. ففي خلال محاولتنا تعليل شواهد معينة، تظهر في أفكارنا أخطاء (مثل غموض «الحدس») أو نخفق في تعليل شواهد أخرى (مثل انهيار قوانين النحت التقليدي). وإذن فلا بد أن تستمر الحركة الديالكتيكية؛ فهي أشبه بجدل يدور بين نظريات متعارضة وما زالت أمامنا نظريات أخرى ينبغي مناقشتها ولو شاء الطالب أن يفهم ما الذي نفعله عندما نحكم على عمل فني، لكان عليه أن يحاول فهم كل من هذه النظريات. وعليه هو وحده أن يقرر بنفسه، في نهاية هذا الفصل، ما هي النظرية التي سيقبلها ويجعل منها نظريته الخاصة، ولكن لن يكون له حق اختيار أية نظرية إلا إذا استطاع تقدير نواحي القوة والضعف في النظريات جميعًا.

•••

(٢) وهناك صيغة أخرى للنظرية الموضوعية. هذه الصيغة تذهب، على خلاف النظريتين «أ» و«ب»، إلى أن «القيمة الجمالية»، يمكن تعريفها؛ ففي استطاعتنا أن نقول عن الجمال أكثر من مجرد أنك «ستعرفه عندما تراه»، بل إننا نستطيع أن نحدده ما هو الجمال، فلما كان قابلًا لأن يلاحظ بطريقة مشتركة بين الناس، فإنا لسنا مضطرين إلى استخدام الحدس، بل إن الحكم «س جميل» يمكن إثبات صحته إذا كانت «س» تتصف بصفة الجمال. ومن هنا فإن من الممكن البت في الخلافات التي تدور حول الفن.

ولما كانت هذه النظرية تقدم تعريفًا «للقيمة الجمالية»، فسوف نطلق عليها اسم النظرية «التعريفية definist». والتعريف الذي كان يقدم في العادة للقيمة هو أنها صفة شكلية من نوع ما، بل إن هذه المدرسة من مدارس النظرية الموضوعية كانت في كثير من الأحيان ترى أن الجمال إنما ينحصر في نفس جوانب العمل التي تعدها النظرية «ب» «سمات مصاحبة»، أي في النسب الثابتة بين فقرات العمل الموسيقى أو أجزاء الصورة، و«الوحدة العضوية»، إلخ. وهنا أيضًا يمكن وضع قواعد أو قوانين لتحديد وجود القيمة أو غيابها.

فإذا صحت هذه النظرية، كانت تقدم أكثر الأسس الممكنة موضوعية للتقدير الجمالي. وقد أشرت منذ قليل إلى أن نظريات التقدير تتأرجح ما بين القطب «الموضوعي»، أي سمات العمل الفني، والقطب «الذاتي»، أي الاستجابات الجمالية للجمهور، والنظرية التي نحن بصددها الآن تقترب كثيرًا من القطب الموضوعي. وهكذا فهي تتجنب الخوض في الوقائع المعقدة المتعلقة بالاستجابة الجمالية، أي تفاوتها من شخص لآخر، و«ذاتيتها» … إلخ. فلما كان في استطاعتنا أن نعرف القيمة الجمالية، وبالتالي أن نصفها، في وسع أي شخص أن يتعرف عليها.

وأوضح طريقة لتجنب الاستجابة الجمالية هي أن الجمال يمكن أن يعرف دون أن تكون هناك تجربة جمالية على الإطلاق؛ فإدراك الجمال لا يقتضي موقفًا إدراكيًّا غير عادي، كما أننا لسنا مضطرين إلى أن نشعر باللذة أو السورة الانفعالية، بل إن القيمة الجمالية يمكن أن تُدرَك بالاختبار المنزه للعمل فحسب. ومن الممكن أن تعرف هذه القيمة بنفس الطريقة التي نعرف بها أن هذه التفاحة تفاحة جيدة … في نوعها؛ فلسنا مضطرين عندئذٍ إلى أن نحب التفاحة أو نرغب في أكلها. ومع ذلك ففي استطاعتنا أن نتفق جميعًا على معايير التفاحة الجيدة — كنعومة الملمس، والتماسك … إلخ — ونستطيع بالتالي أن نتفق على جودة هذه التفاحة أو رداءتها. وهكذا تصبح النظرية التعريفية نوع من «تقدير الدرجات».

•••

هذه هي الموضوعية الكاملة في التقدير، ومع ذلك فكلما انتقلت نظرية إلى طرف ديالكتيكي، واجهت تحديًا من الطرف الآخر. فلنفرض أننا نختبر بالفعل بناء العمل ونعطيه درجات معينة، فما شأن ذلك مما يحسه الناس فعلًا في التجربة الجمالية؟

هل يمكن أن يحرز عمل معين درجات عالية، حسب معايير التقدير، ويكون مع ذلك مملًّا أو سقيمًا؟ من المؤكد أن هذا ممكن منطقيًّا؛ ذلك لأن «الجمال»، تبعًا لهذه النظرية، لا يشير إلى صفات العمل عندما يدرك جماليًّا، بل إن التباين التام بين ارتفاع درجات عمل ما، وبين أهميته الجمالية، هو أكثر من مجرد إمكان منطقي؛ إذ إنه أمر كثير الحدوث في تاريخ النقد، فعندما يصبح لأسلوب فني معين تراث قديم العهد، فإن سماته المميزة تصبح أساسًا لتعريف الجمال، وتنتج أعمالًا فنية كثيرة تحاول محاكاة هذه النماذج، ولكن نظرًا إلى أن هذه الأعمال كانت محاكية تفتقر إلى الأصالة، فقد كانت مملة لا حياة فيها. فهي لا تثير اهتمامًا جماليًّا، ولا حتى لدى واضعي الدرجات، غير أن واضعي الدرجات كانوا يتجاهلون ذلك، ما دامت القيمة الجمالية في نظرهم لا شأن لها بالتجربة الجمالية.

على أن من المؤكد أن عدم اتفاق الدرجات العالية مع الأهمية الجمالية في كل الأحوال لا يؤدي إلى تفنيد النظرية رقم ٢ التي نحن بصددها الآن؛ فسيظل في استطاعة القائلين بهذه النظرية أن يؤكدوا أن الجمال «هناك» في العمل على نحو يمكن التعرف عليه، مهما كان إحساس الناس، ولكن هذه الحجة، كما رأينا من قبل، تعريفية فحسب، وما هي إلا طريقة أخرى لقولنا إن «الجمال» قد عُرِف دون أية إشارة إلى التجربة الجمالية، ولكن من ينتقد النظرية (٢) لا يريد أن يسمع تكرارًا للتعريف؛ ذلك لأن ما يتحداه إنما هو فائدة هذا التعريف ذاته، إذ ما فائدة الكلام عن جمال الموضوع، في نظره، إن لم يكن هذا الكلام ينطوي على تفسير لما يحس به الناس في التجربة الجمالية، ويؤدي بنا إلى جعل الآخرين يستمتعون بما لم يستمتعوا به من قبل؟ إن الجمال، تبعًا للنظرية التعريفية، شيء موضوعي بارد، يمكن معرفته آليًّا، وليس هذا هو ما يهمنا عندما نُقدِّر الفن وننقده.

•••

وليس في استطاعة النظرية التعريفية أن تواجه هذا التحدي إلا أن تزداد اقترابًا من القطب الذاتي، وهذا ما فعله الأستاذ «جود»؛ فهو يعرف «الجمال» بأنه «إعادة أنماط أو بناءات معينة للواقع» (وهو يقصد بهذا المفهوم معنى ميتافيزيقيا لا يتسع هنا المقام لمناقشته) لكن جود يضيف إلى ذلك أن صفة الجمال هذه «تثير فينا نوعًا معينًا من الانفعال».٢٤ وهنا يصبح من الضروري، كما يحدث في كل مرة يصبح فيها للتجربة الجمالية دور، إيجاد تعليل لاختلافات التجارب بين مختلف الناس، ولا يحاول جود إنكار واقعة اختلاف التجارب هذه، ولكنه يرى أنها لا تؤدي إلى تفنيد رأيه: «فاختلاف التقديرات التي يمكن أن تقدم لقيمة صورة معينة أو جمالها، لا يدل على أن الصورة تفتقر في ذاتها إلى القيمة الجمالية، تمامًا كما أن التخمينات المتباينة التي يمكن تقديمها لدرجة حرارة غرفة لا تثبت أن الغرفة ليست لها درجة حرارة مستقلة عن هذه التخمينات وغير متأثرة بها».٢٥ هذا الرد، كما رأينا من قبل، سليم من الوجهة المنطقية. فمن الممكن أن يظل الجمال موجودًا، لا يتأثر بأية اختلافات قد تنشأ بين الناس حوله، ولكن هذا يؤدي إلى إثارة السؤال الذي طالما أثير من قبل (والذي يدل تكرار ظهوره على أن تحليلات مختلف مدارس النظرية الموضوعية تندرج كلها تحت نمط واحد) ألا وهو: كيف نعرف إن كان العمل يتصف بالجمال؟
يقدِّم جود إجابة صريحة مباشرة عن هذا السؤال. فهو لا يحتمي بالحدس، أو مذهب السلطة، أو «الذوق السليم» الذي لا يعرَّف، وإنما يرى أن بعض أحكام القيمة أصح من بعضها الآخر، ولكنه ينتقل من ذلك إلى قوله: «من المستحيل أن تعرف عن يقين أي الأحكام المتعارضة أقرب بالفعل إلى الحقيقة.»٢٦ ويترتب على ذلك أننا لا نستطيع أن «نقرر عن يقين من هو الشخص ذو الذوق السليم، ومن الذي يفتقر إليه».٢٧

والواقع أن جود، حين يدلي بهذه الاعترافات، إنما يبدي من الأمانة قدرة يفوق ما يبديه كثير من الأنصار التقليديين للنظرية الموضوعية، الذين لم يواجه بعضهم مشكلة كيفية معرفتنا الجمال، وحاول بعضهم الآخر المراوغة منها، ومع ذلك فإن أمانة جود ذاتها هي التي تؤدي إلى خسارته للجولة، فلن يفيد المرء في شيء أن يقول إن الجمال إما أنه هناك أو ليس هناك، وأن حكمًا معينًا هو بالتالي أصح من حكم آخر، ما لم تكن هناك طرق واضحة للمفاضلة بينهما بصورة واعية، وما لم يكن في استطاعة النظرية التمييز بين المعرفة الصحيحة للجمال وبين الخطأ والخداع، فلن تصلح أساسًا للتقدير والنقد. ويشبه جود جمال العمل بحرارة غرفة، لأن وجود كل منهما لا يتأثر بالتخمينات التي يصدرها الناس بشأنها، ولكن من الواضح بالطبع أن التشبيه غير سليم. فنحن نستطيع أن نعرف أي التخمينات عن الحرارة هو الصحيح؛ إذ إن لدينا مقاييس للحرارة، ولكن جود نفسه يعترف بأننا لا نملك مقاييس كهذه لتحديد القيمة الجمالية.

فإذا ما وضعنا نظرية جود إلى جانب نظرية «إعطاء الدرجات»، ظهرت هذه المفارقة المؤسفة: إن ما نستطيع معرفته، أي السمات الشكلية والموضوعية تمامًا للعمل لا يتعين أن تكون لها أية صلة بما نحن مهتمون به، أي بالتجربة الجمالية والتقدير المبني عليها؛ وما لا نستطيع أن نعرفه هو ما يهمنا إلى أقصى حد، ألا وهو العلاقة بين الجمال الموضوعي والاستمتاع الإستطيقي، وإذن فليس أمامنا إلا التقدير الآلي للدرجات — وهو شيء لا جدوى منه — أو أن نقول إن الجمال يبعث فينا بالفعل متعة إستطيقية، ولكنا لا نستطيع أبدًا أن نتأكد من أن الجمال موجود بالفعل في العمل، ومن ثم فإنا لا نملك سبيلًا إلى معرفة أي المدركين هم الذين يستجيبون بالفعل للجمال وأيهم لا يستجيبون له.

ولنقل مرة أخرى إن من الممكن أن يكون الجمال، بالمعنى الذي عرفه به جود، موجودًا على نحو مستقل عن إدراكنا، ولكن ما لم تستطع النظرية التعريفية أن تقدم إلينا بوضوح الشروط التي يمكن على أساسها معرفة الجمال، فلن يكن لنا الحق في الإيمان بهذا النوع من النظرية الموضوعية بدوره، وكما يقول «أوزبورن» بوضوح قاطع، فإن «القول بأن الجمال صفة موضوعية ولكنا لا نستطيع معرفتها، لا يختلف عن القول إننا لا نستطيع معرفة ما إذا كان الجمال موضوعيًّا».٢٨

•••

كانت المهمة التي قمنا بها حتى الآن هي الكشف عن المضامين التي تنطوي عليها النظرية التعريفية؛ أي أن البدء بتعريف «للقيمة الجمالية» يستتبع نتائج معينة عملنا على الكشف عنها. غير أن هناك نقد أهم للنظرية، هو تحدي نفس محاولة تقديم تعريف «للجمال»، فهل يمكننا أن نعرف القيمة الجمالية بأية سمة معينة أو مجموعة من السمات، كما تحاول النظرية التعريفية أن تفعل؟

هناك من الأسباب ما يدعو إلى الاعتقاد بأننا لا نستطيع الإتيان بمثل هذا التعريف.

ذلك أولًا لأن الأعمال الفنية مختلفة بعضها عن البعض أشد الاختلاف. أضف إلى ذلك تباين الوسائط الفنية والبناءات الشكلية التي يمكن إيجادها داخلها، ثم تأمل التفاوت الهائل بين الأساليب والمناهج في تاريخ الفن، فهل يحق لنا أن نتوقع الاهتداء إلى أية خصائص مشتركة بين جميع الموضوعات ذات القيمة الجمالية، وبينها وحدها؟ ليس هذا بالأمر المحتمل. وإن عجز التعريفات التقليدية عن أن تلقى أكثر من قبول جزئي، وانهيارها في كثير من الأحيان، لهو قرينة قوية على عدم إمكان نجاح أي تعريف.

وما لم يقصُر صاحب النظرية التعريفية القيمة الجمالية على مجال محدد للفن، فلا مفر له من أن يحاول أن يأخذ في اعتباره التباين الهائل بين الأعمال الفنية، لذلك فإنه سيضطر إلى تعريف «القيمة الجمالية» من خلال فكرة معينة شديدة التجريد، كالوحدة، أو «الانسجام»، ولكن «الوحدة» أو «الانسجام» أقرب إلى أن تكون مرادفًا للقيمة منها إلى أن تكون تعريفًا لها، وهي لا تنبئنا ما هو الجمال، ولا تحدد السمات التي تؤلفه، وإنما هي لفظ يعبر عن تقدير إيجابي، شأنه شأن القول إن العمل «جيد».

ومع ذلك، فحتى لو دفع صاحب النظرية التعريفية ثمن هذا التضييق، وحدد الجمال بسمة شكلية معينة، فإن تعريفه يتعرض لنقد من نوع آخر؛ فالبناء الشكلي للعمل ليس إلا عنصرًا واحدًا فيه. وهناك أيضًا المادة، والتعبير، والموضوع بدوره في كثير من الأحيان، وعندما نقول إن العمل «جميل»، فنحن إنما نشير إلى هذه العناصر كلها في تأثيرها المتبادل كل في الآخر؛ فحكمنا ينصبُّ على العمل في كليته.٢٩ ولا يستطيع أي تعريف من خلال الشكل وحده أن يفسر معنى «الجمال».

على أن هناك شيئًا آخر في المعنى الشائع «الجمال» لا يستطيع أي تعريف موضوعي صرف أن يقدم تفسيرًا له؛ فكثيرًا ما يستخدم لفظ «الجميل»، مثلما يستخدم لفظ «السار» أو «المدهش»، للإشارة إلى استجابة المشاهد. وفي هذه الحالة لا يكون مثل لفظ «تماثلي» أو «قصيدة لبتراركه»، وهي تعبيرات لا تدل على الاستجابة التي نشعر بها بل إن بعض الفلاسفة يذهبون إلى أن الشيء الوحيد الذي تشترك فيه الموضوعات الجميلة هو أن الناس يشعرون بالبهجة أو الاستمتاع عندما يدركونها. وعند هذه النقطة يتم التخلي تمامًا عن المفهوم الموضوعي للقيمة.

•••

إن كلًّا من النظريات الموضوعية — أي النظرية الحدسية، ونظرية «السمات المصاحبة»، والنظرية التعريفية — تبدأ بالموقف الطبيعي common sense. ويحاول كل منها تبريره. فالمذهب الموضوعي يرتكز على ما نؤمن به كلنا، أو كلنا تقريبًا، وهو أن من الممكن إثبات صحة الأحكام الجمالية أو بطلانها، وأن أحكام بعض الناس لها سلطة أقوى من سلطة بعضهم الآخر، وأن هناك فارقًا حقيقيًّا بين «الذوق السليم» و«الذوق الرديء»، ولكن كلًّا من النظريات الموضوعية تجد صعوبة كبيرة في تحديد هذه المعتقدات بدقة على النحو الذي يجعلها واضحة وقابلة للاستخدام عمليًّا.

فهل ينبغي إذن أن نتخلى عن هذه المعتقدات تمامًا؟ إن هذا بعينه هو ما تقترحه النظرية الرئيسية التالية.

(٢) النظرية الذاتية

ليس معنى ما قلناه الآن أن هذه النظرية منفصلة تمامًا عن موقفنا الطبيعي common sense؛ فالموقف الطبيعي، كما لاحظنا من قبل، يؤمن بعدد كبير من الأشياء المتباينة، وقد يكون في أغلب الأحيان ذا نزعة موضوعية. ولكنه يؤمن أيضًا بأن «الجمال في عين الناظر»، وبأن قيمة العمل الفني لا يمكن إثباتها، «فإما أن تحبه وإما ألا تحبه»، وبالتالي فإن «المسألة كلها مسألة ذوق» ولكن الذوق، في هذا التعبير العامي، لا يعني ما تعنيه النظرية الموضوعية «بالذوق السليم»، أي ملكة لها قدرة رفيعة على التمييز، تضفي سلطة على الأحكام الجمالية، بل إن الذوق يعني في هذه الحالة مجرد التفضيل المعتاد، أي ما يحبه المرء أو لا يحبه عادةً، فلو حدث أن شخصًا لا يحب لوحة معينة أو موسيقيًّا معينًا، فليس في وسعك أن تثبت أنه ينبغي عليه أن يفعل ذلك، ولو كان من يعبر عن وجهة نظر الموقف الطبيعي هذه مثقفًا بالقدر الذي يسمح له بمعرفة اللاتينية، لاستشهد بالعبارة القديمة de gustibus non est disputandum (لا مشاحة في الأذواق).
ولقد انتشر في عصرنا هذا رد فعل واسع المدى على النزعة الموضوعية أو النزعة المطلقة بكل أنواعها، فأثبت علم الأنثروبولوجيا الحضارية أنه يكاد يوجد من النظم الأخلاقية بقدر ما يوجد من المجتمعات، وترتب على ذلك أن ضعف الإيمان بوجود أخلاق «شاملة» أو «مطلقة» ضعفًا شديدًا، وهذا يصدق على النزعة المطلقة في مجال السياسة والدين. غير أن النزعة المطلقة قد تدهورت أيضًا نتيجة لضعفها الخاص في المجال النظري، وقد استنتج الكثيرون أنها عاجزة عن تبرير معتقداتها، سواء في ميدان الأخلاق وفي ميدان علم الجمال، ومن الجدير بالملاحظة أن المفكرين اللذين درسناهما في القسم السابق، وهما فيفاس وجود، أكثر تواضعًا في ادعاءاتهما بكثير من الأنصار التقليديين للنظرية الموضوعية؛ فهؤلاء الموضوعيون المحدثون يدركون قوة الانتقادات التي وجهت إلى رأيهم، ومن هنا فإنهم يدركون متى تؤدي نظريتهم إلى طريق مسدودة، ويعترفون بعيوبها. وأخيرًا فإن النزعة الموضوعية أو المطلقة ترمز إلى أسلوب «أرستقراطي» في الحياة. وهي تؤدي إلى ظهور صفوة مختارة تسيطر على أولئك الذين يفتقرون إلى المواهب الرفيعة. غير أن أي مجتمع ديمقراطي يضيق ذرعًا بمثل هذه الأرستقراطية، فمما يخالف الروح الديمقراطية أن تنبئني بما ينبغي أن أحبه في الفن، أو في أي مجال آخر. ولقد وضع الأستاذ دوكاس C. J. Ducasse «إعلانًا للاستقلال في أمور الذوق في الفن»٣٠ فهو يعتقد أننا ظللنا مدة أطول مما ينبغي نرهب النقاد الذين يلبسون رداءَ النظرية الموضوعية. وهو يقف مدافعًا عن الناس العاديين، غير المتخصصين، «الذين هم على وجه العموم متواضعون إلى حد مؤسف، ويسهل إرهابهم»٣١ ولكن ليس هناك ما يدعو إلى أن «نرهب» أولئك الذين يزعمون أنهم قادرون على إخبارنا بما هو جميل حقًّا؛ «فثمة مجال يكون كل فرد فيه ملكًا ذا سلطان مطلق، وإن يكن ذلك على نفسه فقط، هذا هو مجال القيم الجمالية».٣٢
ولعل كثيرًا من القراء يغتبطون لهذا الرأي، ومع ذلك فقد قيل إن أولئك الذين «ينادون صراحة» بهذا الرأي «لا يؤمنون به حقًّا، بمعنى أنهم لا يستطيعون قبول نتائجه الكاملة».٣٣ فهل يمكننا أن «نؤمن بحق بأن حكم أي شخص على عمل فني يماثل في صحته أي حكم آخر؟ وهل يعد رأي الهاوي العادي معادلًا في مستواه للتقدير الواعي لشخص كانت لديه خبرة طويلة في الفنون، وأصبحت له حساسية جمالية رفيعة؟ وهل تُعَد عبارة «لا مشاحة في الأذواق» هي الكلمة الأخيرة في التقدير الجمالي»؟
إن الأستاذ دوكاس، على أية حال، يؤمن بهذا كله حقًّا؛ فهو أشد المدافعين عن النظرية الذاتية تطرفًا في علم الجمال القريب العهد.٣٤ وهو، كما سنرى الآن، يدافع عنها دفاعًا مقنعًا.

•••

إن عبارة «هذا العمل جميل» تبدو وكأنها مجرد نسبة صفة للموضوع. ولقد رأينا من قبل أن النظرية الموضوعية تأخذ لغة الحكم مأخذ الجد. أما في نظر دوكاس فإن الحكم يشير قبل كل شيء إلى التجربة التي يمر بها المشاهد، عندما يدرك العمل جماليًّا؛ فهو يقول «هذا العمل جميل، عندما يشعر بالاستمتاع (ويصفه بأنه «قبيح» عندما تكون مشاعره خالية من الاستمتاع).٣٥

وهذه الفكرة هي محور النظرية الذاتية؛ فعندما نقول إن موضوعًا معينًا له قيمة جمالية، فإننا نصف مشاعرنا، ونحن لا نشير عندئذٍ إلى سمات موضوعية، كما هي الحال في مختلف صيغ النظرية الموضوعية، ومن هنا فإن دوكاس يستطيع ببساطة أن يتخلص من المشكلات المعقدة التي تقع فيها النظرية الموضوعية؛ فهو ليس مضطرًّا إلى أن يقرر إن كان «الجمال»، الذي يدل على سمة موضوعية، قابلًا للتعريف، أو إلى أن يحدد أي السمات هي التي تكون الجمال، إن كان الجمال قابلًا للتعريف؛ فمشكلة الطريقة التي يمكننا أن نعرف بها إن كان حكم القيمة صادقًا، يمكن أن تُحل بسهولة:

«فمن الممكن إثبات أو تفنيد القضية القائلة إن جسرًا معينًا للقطارات هو جسر جيد، بأن نجعل عددًا من القطارات يساوي العدد الذي نريد أن يحمله الجسر يمر فوقه، ونلاحظ إن كان قادرًا على أن يحمل هذا العدد أم لا، ولكن لا يوجد معيار مماثل يمكن به إثبات أو تفنيد جمال منظر طبيعي؛ فأحكام الجمال … تتصل بالعلاقة بين الموضوع المحكوم عليه وبين تجربة الاستمتاع الخاصة لدى الفرد، وهي التجربة التي لا يمكن أن يلاحظها أو يحكم عليها أي شخص سواه.»٣٦

وإذن، فأنا إما أن أشعر بالاستمتاع وإما ألا أشعر به، والحكم يصف مشاعري، وأنا وحدي الذي أعرف ما هي هذه المشاعر، ومن هنا فإنني «الحكم النهائي المعصوم من الخطأ».

وهنا لا يعود الاختلاف بين القيم يثير أي أشكال. فمن الطبيعي أن يكون للناس المختلفين تكوين مختلف، ومن هنا فحيث يشعر أ باللذة في إدراك العمل «س» فإن «ب» لا يشعر بها، ولكنا لسنا مضطرين إلى أن نقرر أيهما «الصحيح»؛ فالجمال ليس سمة موضوعية، وإنما هو يتفاوت تبعًا للمشاهد، «والموضوع الذي يحق لشخص معين أن يسميه جميلًا، يحق لشخص آخر بنفس المقدار ألا يحكم عليه على هذا النحو».٣٧

وقد يسلم القارئ بهذه الحقيقة التي هي على أية حال حقيقة واضحة — القائلة إن الأحكام تتباين من شخص إلى آخر، بل تتباين في الشخص الواحد خلال أوقات مختلفة. ومع ذلك، فلو كان لديك أبسط ميل إلى النظرية الموضوعية، فقد ترغب في الوقوف موقف المعارضة من دوكاس، وقد تقول إنه على الرغم من تأكيد الناس لأحكام مختلفة، فإن السؤال الحقيقي يظل قائمًا: «ولكن هل العمل جميل بحق؟»

إن دوكاس يضرب مثلًا بطعم ثمرة الأناناس: «فبعض الناس يحبونه، وبعضهم الآخر لا يحبونه، ولكن من العبث القول إنه لذيذ بحق، على الرغم من عدم ميل البعض إليه، أو رديء بحق. على الرغم من ميل البعض إليه».٣٨ وهكذا ترى أن دوكاس قد تخلص من مشكلة التقدير بأسرها، على النحو الذي يفهمها عليه صاحب النظرية الموضوعية؛ إذ يصبح التقدير بأسره متعلقًا بما يحبه المرء أو لا يحبه، ولا يمكن أن يثار بعد ذلك أي سؤال.

ولكن، أليس بعض الناس أكثر حساسية وأقدر على التذوق الجمالي من بعضهم الآخر؟ يجيب دوكاس عن هذا السؤال بقوله:

هناك أشخاص ذواقون للجمال … غير أن أحكامهم عن الجمال ليست «ملزمة» لأحد، بل إن من الصعب أن نفهم ما الذي يمكن أن يعنيه لفظ «ملزم» في هذا السياق، ما لم يكن إلزامًا للآخرين بأن يكذبوا … بشأن المشاعر الجمالية التي قد تكون لديهم بالفعل وقد لا تكون … إن هناك بالطبع شيئًا اسمه الذوق السليم والذوق الرديء، ولكن الذوق السليم في رأيي إما أن يعني ذوقي الخاص، وإما ذوق أناس متفقين مع ذوقي، أو ذوق أناس أود أن يكون ذوقي متمشيًا مع ذوقهم …٣٩ فالأذواق لا يمكن إثباتها أو تفنيدها، بل يمكن أن «توصف» فحسب، أي أن تُمتدح أو تُذم».٤٠
ولكن ألسنا نقدم أحيانًا أسبابًا موضوعية تأييدًا لأحكامنا؟ إننا نبرهن على جمال التصوير بنفس الطريقة التي يريدنا أصحاب النظرية الموضوعية أن نبرهن بها عليه، أي بالالتجاء إلى «مبادئ» أو قوانين للتأليف … إلخ، ويرد دوكاس بأن هذه القواعد لا تعدو أن تكون وصفًا لسمات الأعمال الفنية التي يميل إليها معظم الناس، ومن هنا فإنها لا تظل سارية إلا إذا كانت «تتنبأ لنا بأننا سنشعر بلذة إستطيقية هنا، وألم إستطيقي هناك».٤١ أما إذا أخفقت في وصف ما أحبه أو لا أحبه بالفعل، فإنها لا تكون «ملزمة» لي، ولا يكون عليَّ التزام بقبول الأحكام التي تستخدم هذه القواعد من أجل تأييدها.
وهناك ناقد للنظرية الذاتية يتهمها بأنها لا تستطيع الإجابة عن السؤال: «لماذا تظل أعمال فنية معينة تُمتَدح كثيرًا طوال القرون، وتصبح لها بذلك شهرة ثابتة؟»٤٢ (ولعلك تذكر أن بعض أنصار النظرية الموضوعية يستشهدون بهذه الحقيقة دفاعًا عن نظريتهم). ويقدم دوكاس ردًّا مباشرًا على هذا النقد: فالالتجاء إلى الإجماع «لا يثبت شيئًا على الإطلاق، سوى أن الجمال يجده في الموضوع … من يجده فيه بالفعل».٤٣ وكل ما يدل عليه الاتفاق هو أن بعض الناس يجدون لذة في نفس الأشياء لأن «تكوينهم» متشابه.٤٤ ولكنه «لا يستطيع أن يثبت جمال الموضوع لأولئك الذين لا يدركون فيه أي جمال».٤٥
وأخيرًا فنحن نُولِي ثقة كبيرة لأولئك الذين توافرت لديهم معرفة واسعة بالفن وتدريب خاص على الأساليب الفنية، ونعتقد أنهم يتحدثون عن الفن بسلطة تفوق سلطة الهاوي، ولكن دوكاس، كما هو متوقع، يشك في هؤلاء الناس. فهو يرى أن المعرفة المتعلقة بالفن ولا غناء عنها لأفراد فئة واحدة، أعني أولئك الذين يرغبون في أن يكونوا قادرين على الكلام عن الأعمال الفنية بطريقة يفهمها من توافر لهم تكوين مماثل، ويرهبها المتواضعون الذين لم يتوافر لهم مثل هذا التكوين.٤٦ على أن المعرفة المتخصصة كثيرًا ما تودي بالمتعة الجمالية، إذ يصبح المرء عندئذٍ معنيًّا بمشكلات «التكنيك»، إلخ، وبذلك يفقد القدرة على التأمل الجمالي.
ولكن حتى في الحالات التي تؤدي فيها المعرفة المتعلقة بالفن إلى إحداث فارق في التجربة الجمالية ذاتها، نجد دوكاس يتمسك بموقفه الرئيسي؛ فالمشاهد قد أصبح الآن يحب ما لم يكن يحبه من قبل، غير أن حكمة وذوقه لم يصبحا «أفضل» من حكم أي شخص آخر أو ذوقه؛ «فليس ثمة … رأي ثقة فيما يتعلق بجمال موضوع معين».٤٧

•••

ويتفق خصوم النظرية الذاتية على أن هذه النظرية لا يمكن «تفنيدها».٤٨ إذ ما هو «التفنيد»؟ أهو البرهنة على أن النظرية متناقضة مع نفسها منطقيًّا؟ إننا لو سلمنا بتحليل دوكاس لمعنى الحكم الجمالي، وما يتضمنه من نتائج بالنسبة إلى تحقيق الحكم، كانت النظرية متسقة مع ذاتها منطقيًّا، فلو كان الحكم لا يدعي سوى أن المتحدث أحسَّ بمشاعر معينة، فإنه لا يمكن أن يشرع لأي شخص آخر أو يكون ملزمًا له، وفضلًا عن ذلك، فهل نحن نريد أن نفند نظرية دوكاس؟ إنها نظرية أخاذة، براقة، تتراقص فيها على الدوام تلك الكلمات المتكررة: «لست أقل من غيري»، وهي تؤدي إلى إيقاف التحذلق السائد في النقد الفني وفي الكلام عن الفن عند حده.

ومع ذلك فإذا لم يكن من الممكن تفنيد النظرية بالمعنى السابق، فسيظل من الممكن نقدها. فلنسلم بأن دوكاس متسق مع ذاته منطقيًّا. غير أن نظرية التقدير الجمالي ليست نسقًا شكليًّا استنباطيًّا، كالنسق الرياضي، بل إن الاتساق المنطقي ليس هو المعيار الوحيد … فالمقصود من أية نظرية في التقدير أن تفسر أوجه النشاط التي نقوم بها باسم الحكم والنقد، وهي مسئولة عن تفسير وقائع تجربتنا، وهدفي هو أن أبين أن النظرية الذاتية تبالغ في أهمية بعض الوقائع وتتجاهل أهمية بعضها الآخر، أي إن النظرية منحازة إلى جانب واحد، وأنها أضيق مما ينبغي.

•••

فلنبدأ بالاعتراف بأن المدرك هو «الحَكم النهائي المعصوم من الخطأ» في مسألة ما إذا كان قد شعر بمتعة (وإن كان هناك فلاسفة يرغبون في تحدي الرأي الذي يمثله دوكاس حتى في هذه النقطة، إذ يتساءلون: هل نحن دائمًا واثقون من أننا أحسسنا بمتعة؟ ألا يجوز أن التجربة الجمالية مزيج من المشاعر بلغ من الخفاء والتعقيد حدًّا لا نستطيع معه أن نكون على ثقة تامة من أننا «استمتعنا به حقًّا»؟ غير أن أمامنا مشكلات أضخم وأهم، وعلى ذلك فسوف نكتفي بترك هذه المشكلة جانبًا). فليست لديَّ فرصة لتحدي «عصمة» هذا الحكم من الخطأ، وليس ذلك راجعًا إلى أننا لا نستطيع أن نفعل ذلك؛ إذ إن المدرك هو وحده الذي يعلم ماذا كانت مشاعره، وإنما هو يرجع إلى أن مشاعره ليست أهم ما نريد التوصل إليه عندما نقدر الفن؛ فوصفه لمشاعره، على النحو الذي يقدمه إلينا، ليس إلا «واقعة مجردة»، فحسب. وما لم يكن صديقًا حميمًا لنا، فإنا لا نهتم كثيرًا بكونه أحس بمتعة أو بعدم المتعة.

إن وصف المشاهد لهذه المشاعر التي تكون جزءًا من حياته الخاصة ليس إلا نقطة بداية. ونحن نود أن نتجاوز نقطة البداية هذه، فلماذا شعر بالاستمتاع أو عدم الاستمتاع؟

وبعد ذلك نود أن نصل إلى وقائع كهذه الواقعة. أورد رتشاردز في كتابه «النقد العلمي»، الذي اقتبست منه من قبل، استجابات عدد من الطلاب لقصيدة تبدأ بالبيتين:

فليهنأ بالصحة، الصحة الناضرة
ملك قلوبنا جميعًا اليوم!
فكتب أحد الطلاب، دفاعًا عن حكمه على القصيدة، يقول: «لا أحد يبجل الملك، وهذا النوع من الشعر الحماسي يفتقر إلى الإخلاص.»٤٩ وقال آخر: «إني ملكي مخلص … وقد اعتقدت بعد قراءة البيتين أني سأستمتع بالقصيدة.»٥٠ وقال ثالث: إن لفظ الملك «يرتبط في ذهني بالطغيان، وهو موضوع مستحيل بالنسبة إلى الشعر».٥١
إن من المفهوم أن تطرأ فكرة «الملك» على أذهان الطلبة الإنجليز بأسرع مما تطرأ على أذهان طلاب البلاد التي لا يحكمها ملوك. غير أن كلمة «ملك» في القصيدة لم تكن في الإنجليزية مكتوبة بحرف كبير، وإنما هو يوصف بأنه «ملك قلوبنا جميعًا»؛ ولا توجد طوال بقية القصيدة أدنى إشارة إلى الملكية أو «الطغيان» (بل إن القصيدة في الواقع تحية عيد ميلاد موجهة إلى الروائي «جورج مريديث George Meredith»). والذي حدث هو أن هؤلاء الطلاب الثلاثة أساءوا قراءة كلمات القصيدة. وبعد أن تصوروا معناها الحرفي بطريقة خاطئة، أخذوا مواقف لا تصلح لتذوق القصيدة، وبالتالي بحثوا فيها عن أشياء لا وجود لها.

ومن الملاحَظ أن كلًّا من هؤلاء الطلاب كان يشعر باستمتاع أو بعدم استمتاع، ولكن هذه حقيقة ليست لها أهمية كبيرة، والمهم في الأمر هو: هل قراءتهم توفي ما في القصيدة حقه؟ وهل تجربتهم علامة يعتمد عليها، بالنسبة إلى قيمة القصيدة؟ وهل نحن على استعداد لقبول تقديراتهم؟

وها هو ذا مثل آخر لقصيدة تبدأ فقرتها الأولى بالأبيات:

في الغسق، تغني امرأة لي بصوت ناعم
يعود بي إلى الوراء من خلال السنين، حتى أرى
طفلًا جالسًا تحت «البيانو»، في صخب الأوتار الرنانة
يضغط على الأقدام الصغيرة الهادئة لأم تبتسم وهي تغني.
إزاء هذا المثل، يقول أحد الطلاب إن تأثير القصيدة يقل إلى حد بعيد لأن من المشكوك فيه أن تستطيع الأوتار الطنانة (tinkling) أن تكون صاخبة.٥٢ وقد يكون هذا صحيحًا، ولكن الكلمة الموجودة في الشعر هي رنانة tingling لا طنانة tinkling. ويصف طالب آخر ارتباطاته فيقول: «هذه القصيدة ترتبط لسوء الحظ بموسيقى الجاز، وبالأمهات السود المتفحمات ومن يضربن على أصابع البيانو في الجنوب الأمريكي. وهذا الارتباط يشوهها.»٥٣ ويعتقد طالب آخر أن الشاعر يصف حضوره لحفلة موسيقية. ويعلق الأستاذ رتشاردز بقوله: «إن القارئ الذي يتصور المرأة وهي تغني: «في الغسق … بصوت ناعم.» على منصة المسرح، لم يحاول أن يندمج في القصيدة اندماجًا وثيقًا.» وينتهي رتشاردز من ذلك إلى أن الانتقادات السلبية التي قدمها هذا الطالب للقصيدة «هي لهذا السبب أقل إلزامًا».٥٤

ولم يكن السبب الذي أشرت فيه إلى هؤلاء الطلاب هو أن أشعر أنا وتشعر أنت بالتعالي نحو أولئك الذين يقرءون القصائد بمثل هذه الطريقة السيئة، فلا جدال في أننا جميعًا قد ارتكبنا، وقتًا ما، خطأ قراءة سيئة كانت تساوي هذه في طيشها على الأقل. بل إن ما أوردته هو أن آتي بالدليل الذي يصل منه رتشاردز إلى استنتاجه القائل إن بعض الأحكام «أقل إلزامًا» من غيرها، وأبين أن في استطاعتنا تقديم أسباب لقولنا هذا. والواقع أن لفظ «ملزم» الذي استخدمه رتشاردز هو بعينه الذي استخدمه دوكاس عندما أنكر أن أي حكم يمكن أن يكون أكثر «إلزامًا» من أي حكم آخر، ولو عممنا استنتاج رتشاردز بحيث يمتد إلى تقدير جميع الفنون، لوصلنا إلى رأي مضاد لرأي دوكاس.

ويلخص رتشاردز نتائجه بتقديم عرض مفصل للطرق المتعددة التي يستطيع بها القراء إساءة فهم القصيدة، وبالتالي يخفقون في تذوقها. وعلى هذا الأساس يقول إن «السرعة التي يقفز بها كثير من القراء إلى استنتاج قاطع بشأن المقصد العام للقصيدة، والسهولة التي يمكن أن يؤدي بها هذا الافتراض المسلم به إلى تشويه قراءتهم للشعر بأسرها، من أطرف سمات الصيغ التي يدونون بها ملاحظاتهم.»٥٥ فكثيرًا ما يقبل القارئ على القصيدة وفي ذهنه أفكار ثابتة، كالقول مثلًا «إن الأبيات ينبغي ألا تتداخل، وأن القصائد من نوع «السونيت» ينبغي أن يكون لها تقسيم محدد المعالم، وأنه ينبغي تحقيق الدقة الكاملة في الوصف».٥٦ هذه «الافتراضات السابقة» تشل الإدراك الجمالي. «فهي إذ تُعمي القارئ عن كل ما عداها في القصيدة … تجعله يفرض عليها اتجاهاته الخاصة، ويرفض القصائد التي لا تسمح له بذلك دون أن يقرأها تقريبًا».٥٧

وليست هذه إلا بعض الطرق التي يمكن أن يخطئ بها القارئ؛ فقد يُقبل على العمل «بطريقة غير متعاطفة» لأنه «ملكي مخلص» أو لأي سبب من الأسباب العديدة الأخرى، وقد تكون معرفته بالعمل أقل وثوقًا من أن تسمح له بفهم «مقصده العام»، وقد يكون البناء الشكلي أعقد أو أعمق من أن يسمح له بفهمه، وقد لا تتوافر له المعرفة اللازمة لفهم الرمزية التي ينطوي عليها العمل.

في كل هذه الحالات نستطيع أن نثبت أنه أخطأ، وكيف أنه أخطأ. ونحن في هذه الحالة لا نحمل على إدراكه للعمل بدافع الجمود في الرأي أو الحذلقة، بل إننا ندلل على موقفنا بالتنبيه إلى سمات موضوعية للعمل يمكن أن يلاحظها الجميع، وقد لا يزيد هذا التدليل عن أن يكون مجرد إشارة إلى أن لفظ «ملك» ليس مكتوبًا بحرف كبير في الإنجليزية، وإلى أن القصيدة تتحدث عن «ملك قلوبنا جميعًا» لا عن «ملك إنجلترا»، ولكنا رأينا أن القراءة الكاملة للقصيدة يمكن أن تتوقف على أمور بسيطة كهذه، وبطبيعة الحال فإن تحليل العمل ينبغي بالطبع أن يكون أعقد وأكثر تفصيلًا بكثير. وعلى أية حال ففي استطاعتنا أن نثبت أن بعض التفسيرات التي تقدم لعمل فني معين مشوهة، أو لا ترتبط بالعمل أو قصيرة النظر، وعندئذٍ لا تكون أحكام القيم المبنية على هذه التجارب أحكامًا يُعتَد بها فيما يتعلق بجودة العمل أو رداءته.

وهكذا فإننا نبدأ بالحكم: «س جميل» = «أحسست بالمتعة عند إدراك س»، ولكنا لا نتوقف عند هذا الحد، وإنما ننتقل إلى اختبار صحة الحكم. ويعترف دوكاس بأن الناس يحاولون الدفاع عن أحكامهم. غير أنه يذهب إلى أن «الأسباب التي يقدمونها تقتصر على أن تصف أي الموضوعات تمتعهم وأيها لا تمتعهم».٥٨ ولكن النزعة الذاتية تكون معرضة للشك في هذه الحالة بدورها.
وأود أن أعبر عن هذا النقد على النحو الآتي؛ فدوكاس يتجاهل التمييز بين الأسباب causes والمبررات reasons؛ فالسبب حدث نفسي يؤدي بالمدرك إلى أن يحب العمل أو لا يحبه، وبالتالي إلى أن يحكم عليه حكمًا حسنًا أو سيئًا أما المبرر فهو ما يقدم تبريرًا لميله أو عدم ميله، وبالتالي يؤيد حكمه على قيمة العمل، وليست الأسباب دائمًا مبررات.

ومن الملاحظ أن أية تجربة يمر بها الإنسان لا بد أن تكون لها أسباب، فمهما كانت سذاجة التجربة الجمالية وسطحيتها، فإن من الممكن تفسيرها سببيًّا، أي تقديم أسباب مثل سوء القراءة، والافتقار إلى المعرفة الوثيقة بالموضوع وانشغال المرء بذاته … إلخ؛ «فالسبب» مقولة واسعة مختلطة. أما «المبررات» فهي أكثر تحدُّدًا بكثير، وبالمثل نجد في الأخلاق أن هناك أسبابًا لجميع الأفعال، ولكنا لا نجد مبررات إلا لتلك التي يوجد ما يبررها أخلاقيًّا. فنحن نسأل الشخص الذي ارتكب عملًا يتسم بالقسوة بلا داعٍ: «لم فعلت ذلك»؟ فيجيب «لأني غاضب». هذا هو سبب سلوكه، ولكنا في هذه الحالة نرد عليه قائلين وليس في هذا ما يبرر سلوكك على هذا النحو.

فلنتأمل حالة القارئ الذي يسيء فهم كلمات القصيدة، وبالتالي ينظر إلى القضية على أنها تقول شيئًا يختلف تمامًا عما تقوله بالفعل، ثم يشعر بعدم استمتاع جمالي. هذا القارئ يحاول الدفاع عن حكمه بالقول إن للقصيدة سمات كذا وكذا، وهي السمات التي يعزوها إليها خطأً، والتي تؤدي إلى عدم استمتاعه، ولكنه عندئذٍ لا يصف إلا أسباب حكمه السلبي؛ إذ إن الإشارة إلى هذه السمات ليست مبررًا للحكم السلبي، لأن هذه السمات ليست سمات أصيلة في العمل، إن القائم بالحكم يصف في هذه الحالة ذلك الشيء الذي لا يميل إليه، كما يقول دوكاس، وهو يذكر لنا سبب التجربة التي مر بها، ولكنه لا يبرر حكمه على العمل.

على أن دوكاس يستخدم لفظ «المبرر» بقدر من الاتساع يؤدي به إلى القضاء على التمييز الحاسم بين الأسباب والمبررات، ومن ثَم فإنه يقضي على إمكان تقديم المبررات، ويصبح ميدان التقدير الجمالي بأسره، كما يقول دوكاس، حالة من والفوضى anarchy.٥٩ فليس ثمة سبيل إلى التمييز بين ما هو صحيح وما هو غير صحيح، وما له مبرر وما ليس له مبرر.

إن بداية كل شيء ونهايته، في نظر دوكاس، هي ما يشعر به كل شخص، ولكن هذا غير كافٍ، كما يقول سانتيانا:

«فالذوق البحت يمكن أن يكون ذوقًا رديئًا، ما دام لا يتعلق بشيء إلا بالشعور العفوي … ولا بد للشعور العفوي من أن يدعم ذاته بمبررات، ويجد سندًا له في العالم الكبير، وبعد أن يكون قد جمع بين الملاءمة Fitness وبين الصدق … يكون قد اكتسب حق الحياة.»٦٠

وتكون الأحكام مفتقرة إلى «الملاءمة»، عندما يكون العمل قد أسيء تفسيره، أو يكون المدرك غير متعاطف جماليًّا. ولا تكتسب هذه الأحكام «ملاءمة» إلا عندما يستطيع من يصدرها أن يثبت أنه قد أدرك ما هو موجود في العمل بحق، واستجاب له.

ومن الملاحظ أن دوكاس يتحدث عن «الذواقين أو الخبراء» بازدراء على وجه العموم؛ فهو، كما تذكر، المتحدث بلسان «الإنسان العادي غير المتخصص» في علم الجمال، ومن هنا فإنه يتصور هؤلاء الذواقين، على أنهم أدعياء يستخدمون عبارات رنانة معقدة عن الفن لإدخال الروع في قلوب غير المتخصصين، ومع ذلك فإن دوكاس يعترف في مواضع متعددة بأن بعض الناس لديهم بالفعل حساسية جمالية أعظم مما لدى بعضهم الآخر، وهكذا يشير إلى أن أولئك الذين لا يستجيبون للبناء الشكلي للموسيقى «هم ببساطة أناس لا يسمعون الموسيقى، بل يسمعون عناصر موسيقية فقط».٦١ ومن المؤكد أن هذا ينطوي ضمنًا على القول بأن بعض الناس، أي أولئك الذين «يسمعون الموسيقى بالفعل»، أقدر على الحكم على القيمة الجمالية من غيرهم، فكيف إذن يستطيع دوكاس أن يقول إنه «ليس ثمة رأي ثقة فيما يتعلق بجمال موضوع معين»؟٦٢
يبدو أن دوكاس لا يتصدى أبدًا لمواجهة هذه المشكلة؛ فعلى أساس تحليله «للرأي المتعلق بالجمال»، أي وصف ما شعر به المرء، يكون رأي المتحدث هو وحده «الرأي الثقة»، كما رأينا من قبل، غير أن هذا التحليل لحكم القيمة هو بعينه الذي يقابل الآن بالتحدي، وليس في استطاعة دوكاس أن يقتصر على تكرار فكرته الأساسية فحسب، بل يتعين عليه أن يقدم حجة لتأييدها، ويبدو أن حجته هي أنه حتى عندما يكون الخبير الذواقة أشد تعمقًا في العمل، فإن أحكامه لا تكون ملزمة لأي شخص غيره، وهي ليست «ملزمة» لأنها لا تستطيع أن تثبت جمال الموضوع لأولئك الذين لا يرون فيه أي جمال.٦٣
هذه، في أساسها، هي الحجة التي استخدمتها من قبل في نقد فكرة «إعطاء الدرجات».٦٤ غير أن الذواقة، في الحالة التي نحن إزاءها الآن، ليس مجرد شخص يعطي درجات، ولا يقتصر على تعداد سمات العمل بطريقة آلية، فتبعًا لرأي دوكاس نفسه، كانت للذواقة خبرة جمالية، كما أن إدراكه كان نفاذًا، ولو استطاع شخص أن يدافع عن حكمه بأن يشير إلى سمات في العمل أدركها واستجاب لها، لكان عندئذٍ يقدم مبررات لقبول حكمه. وهذه هي الأحكام التي يصدرها ذوو الخبرة الواسعة، والذوق المدرب، وعلى ذلك فإن آراء هؤلاء الأخيرين «لها سلطتها ووزنها».
ومع ذلك فإن دوكاس يؤكد أن الناس الآخرين لا يجدون لذة في هذه الأعمال نفسها. وهذا صحيح بطبيعة الحال. غير أن دوكاس يستدل، من هذه «الواقعة المجردة»، على أن حكم الذواقة ليس «ملزمًا» لهم. وهنا يبدو أن ثمة خلطًا وازدواجًا في معنى لفظ «ملزم»؛ فالأحكام المرتكزة على أساس متين «ملزمة» لنا بمعنى أن من واجبنا قبول أي تأكيد تدعمه مبررات قوية، ولكنها ليست «ملزمة» لنا بمعنى أننا يجب أن نمر بنفس التجربة التي مر بها من يصدر الحكم، فمن الجائز أن لدينا تفسيرًا آخر للعمل الفني، يظل مع ذلك تفسيرًا مشروعًا، أو من الجائز أننا لا نستطيع أن ننظر إلى العمل بنفس الطريقة؛ لأن حواسنا لم تبلغ القدر الكافي من الإرهاف، أو لأن تعاطفنا الانفعالي محدود، فكم منا يظل ينظر مبهورًا إلى آنية واحدة طوال ساعات متعددة ويستمتع بها، كما فعل روجر فراي Roger Fry؟ قليلون جدًّا، بالطبع؛ فقدرته المرهفة على التمييز أتاحت له أن يجد متعة كبيرة في خطوط الآنية وملمسها، ولما كان ناقدًا بارعًا، فقد تمكن من أن يصف تجربته هذه، وحتى لو لم نكن نشاركه تجربته أو نمر بها، فهل نحن على استعداد للقول إن حكمه على جمال الآنية لا يزيد في «إلزامه» عن حكم الهاوي البليد الإحساس؟
بل إننا في كثير من الأحيان نقبل بالفعل تقديرات لا تصف تجربتنا الخاصة، ولا نكون عندئذٍ مخادعين في مشاعرنا أو خاضعين للسلطة، كما يقول دوكاس.٦٥ وهذه حقيقة هامة يغفلها دوكاس؛ فمن الممكن ألا نستمتع بالموضوع ونظل نقول إنه جيد من الوجهة الجمالية، ونفهم أسباب عدم استجابتنا له: إذ قد يكون لدينا نوع من العجز، أو هوى شخصي خاص، أو تحامل يحول بيننا وبين تذوق العمل (وأنا شخصيًّا أعتقد أنني كنت أستطيع أن أتذوق تصوير «بول كلي Paul Klee» لو كان طبعي أكثر مرحًا). عندئذٍ لا نقول إن «العمل قبيح»، على الرغم من أن لدينا مشاعر غير ممتعة، أي أننا لا ننظر إلى مشاعرنا المباشرة على أنها نهائية وحاسمة، كما يريد دوكاس، وإنما نعترف بالفارق بين مجرد الميل أو عدم الميل، وبين التقدير المرتكز على تفكير وتدبر.
وفي بعض الأحيان قد يحول تكويننا المزاجي بيننا وبين تذوق العمل. ويستطيع من يعرفون كتابات فورستر E. M. Forster وجيمس جويس James Joyce أن يدركوا بسهولة لماذا لم يكن فورستر يحب «يوليسيز Ulysses» لجويس، كما ينبئنا هو ذاته؛ فالعالم الذي يصوره جويس منطلق، سوقي، متساهل، يزدحم بأشخاص عاديين، كثيرًا ما يكونون متحررين من الكبت، أما فورستر فهو في رواياته ونقده يتبدى لنا شخصًا حريصًا على الرقة والتهذيب، وربما كان مفرطًا في الرقة إلى حد ما، بل ربما كان مفتقرًا إلى الحيوية إلى حد ما، ومن هنا فليس من السهل أن يتجاوب فورستر مع جويس، ومع ذلك فهو يدرك حدوده ويمتد بأنظاره إلى ما وراءها، ومن ثَم كان في استطاعته أن يدرك القيمة التي يتصف بها ذلك العمل الذي لم يشعر بتجاوب معه:

«كلما توسعت في قراءة جويس اضطررت إلى الاعتراف بعبقريته. إني لا أستطيع أبدًا أن أتذوقه، بل إني لأتصور أنه ليس عليَّ أن أحاول ذلك أبدًا. غير أني عندما أقرؤه أزداد تواضعًا.»

وأود الآن أن أصوغ هذا النقد الموجه إلى دوكاس على النحو الآتي: من حقائق التقدير الجمالي أننا نستطيع أن نقول — ونقول بالفعل — «س عمل جيد، ولكني لا أميل إليه»، ويكون لقولنا هذا معنًى، بل إني أود أن أضيف إلى ذلك أن من سمات الناقد الجيد أنه يستطيع أن يقول ذلك؛ إذ إنه يدرك عندئذٍ التمييز بين الشعور التلقائي والحكم المرتكز على مبررات. أما في نظرية دوكاس فنحن لا نستطيع أن نقول ذلك بطريقة لها معناها، ما دام القول إن «س عمل جيد» لا يعني أكثر ولا أقل من «أني أحبه».

وبعد كل ما قيل، سيظل هناك بطبيعة الحال نوع من الأشخاص الذين لا يود أحد منهم أن يتخلى عن الامتياز الذي منحه إياه دوكاس — وأعني به امتياز كونه «ملكًا ذا سلطة مطلقة، ولكن على نفسه فحسب، في عالم القيم الجمالية». مثل هذا الشخص لن يقبل أية أحكام لا تتمشى مع ما يميل إليه وما لا يميل إليه. فشعاره دائمًا هو «ربما لم أكن أعرف شيئًا عن الفن، ولكن أعرف ما أميل إليه» (وهناك قصة تُروى عن المصور ويسلر Whistler، هي أنه سمع ذات مرة سيدة تقول ذلك في معرض للفن في لندن، فعلَّق على ذلك ساخرًا «أجل يا سيدتي، وهذا بعينه ما تفعله البقرة»). فليس مما يستحق الفخر أن «يعرف المرء ما يحبه» إذا كان معنى هذا أنه «يحب ما يحبه» فحسب. وكما رأينا طوال مناقشتنا لدوكاس، فإن المدرك هو «الحَكم المعصوم من الخطأ» في هذا الميدان، غير أن هذا الحكم لن يكون له وزنه ما لم يكن «يعرف شيئًا عن الفن»، وما لم يكن ما «يعرفه» داخلًا في نطاق إدراكه الجمالي، ومؤديًا إلى حدوث فارق فيه، عندئذٍ يستطيع هذا الحكم أن يقدم مبررات تؤيد رأيه. وكثيرًا ما يكون أكثر الناس سذاجة وأبعدهم عن الوعي العميق هو أكثرهم قطعية في آرائه. مثل هذا الشخص يرفض بعناد أن يعترف بأن حُكم شخص آخر أفضل من حُكمه، حتى لو ووجه بشواهد تثبت أن الآخر قد تأمل العمل بخبرة ومعرفة وتمييز أعظم.

ومع ذلك، فإن دوكاس يظل يدافع عن الشخص غير المتخصص، فيقول:

«إن ذوق شخص ما … قد يكون بالفعل أكثر حساسية من ذوق شخص آخر بمعنى موضوعي هو أنه يستطيع أن يجد متعة أو عدم متعة نتيجة لفوارق في الموضوع لا وزن لها في نظر الشخص الآخر. غير أن الأخير سيصف الأول في هذه الحالة بأنه «مفرط في التدقيق» و«متكلف» و«متأنق».»٦٦

ولكن، ما الذي تثبته هذه «الشتائم»؟ إن دوكاس ذاته يعترف بتلك الحقيقة التي لا سبيل إلى الشك فيها، وهي أن بعض المدركين أكثر وعيًا من بعضهم الآخر وإذن فبعض الآراء التي تقال عن قيمة العمل الفني أفضل من بعضها الآخر، وهذا ما يمكن إثباته بتحليل السمات الموضوعية للعمل، وعلى الرغم من هذا كله، فإن الرجل غير المتخصص يظل يتمسك بآرائه المحدودة الأفق، التي لا ترتكز على فهم عميق، ويوجه إلى الشخص الحساس «شتائم»، فما الذي يثبته هذا سوى أن «المسألة فوضى»، كما يقول التعبير الشائع؟

الواقع أن دوكاس، ردًّا منه على التحذلق ونزعة السلطة في الفن، يريد أن يحافظ على حريتنا في أن نكون «أمناء، أقوياء، لا نخجل»٦٧ في آرائنا الجمالية، ولكن هل تظل الحرية التي يكون فيها «كل شيء مباحًا»، والتي تكون فيها، على حد تعبير دوكاس نفسه عن نظريته، في حالة «فوضى»، هل تظل هذه حرية جديرة باسمها؟

(٣) النسبية الموضوعية

لقد انتقلت حركة الديالكتيك بين القطبين الموضوعي والذاتي للتقدير.

فإذا ما سرت إلى آخر الشوط نحو القطب الموضوعي، وحاولت أن تحكم على العمل «في ذاته»، كنت تتجاهل التجربة الجمالية تمامًا. وفي استطاعتك عندئذٍ، بتطبيق معايير معينة للقيمة، أن تصدر أحكامًا «صحيحة» عن العمل، ولكن هذا لا يعدو أن يكون «إعطاء للدرجات» بطريقة آلية. وكثيرًا ما يكون أمرًا واهي الصلة بما يشعر به الناس فعلًا خلال التأمل الجمالي. أما إذا أهاب صاحب النظرية الموضوعية بالتجربة لتأييد الحكم، فإنه عندئذٍ يرى أن هناك حدسًا واحدًا بالعمل هو وحده «الصحيح»، أو ينتهي به الأمر، مثل جود، إلى موقف الشك.

وكما رأينا من قبل، فإن هذا الرأي يواجه صعوبات نظرية كبيرة. ومن هنا فإن الخطوة التالية في الحركة الديالكتيكية هي الانتقال إلى القطب السلبي؛ فكل شيء يتوقف على ما يشعر به الناس فعلًا خلال التجربة الجمالية، بل إن هذا هو كل ما في التقدير — أعني كونه وصفًا لما نميل إليه أو لا نميل إليه. غير أن جميع أحكام القيم تبعًا للنظرية الذاتية لها نفس الوزن، ولا يستطيع المرء تقديم مبررات تؤيد حكمًا ما، أما «الذوق السليم» فإنه يصبح مجرد تفضيل ذاتي أو حذلقة اجتماعية.

أما النظرية الثالثة، وهي نظرية النسبية الموضوعية objective relativism فتتجنب المضي إلى أي موقف متطرف من هذين، وتحاول السير في طريق وسط بين «القيم الطلقة الخيالية في النظرية الموضوعية والتفضيلات المفتقرة إلى المسئولية في النظرية الذاتية».٦٨ فصاحب النظرية النسبية الموضوعية يؤمن بأنه يستطيع تفسير وتعليل عدد من الوقائع المتعلقة بالتقدير الفني، يفوق ما تستطيع تفسيره أي من النظريتين المتعارضتَين.
وهو ينتفع من النتائج الإيجابية التي تصل إليها كل من النظريتين، ولكنه مع ذلك ينكر أن تكون نظريته مجرد تلفيق لأفكار مستعارة، فهو يرى أن النسبية (وهو الاسم الذي سوف أستخدمه من آنٍ لآخر بدلًا من «النسبية الموضوعية»)، «هي موقف مميز يختلف أساسًا عن النظرية الذاتية والنظرية المطلقة».٦٩ بل إنه لو كانت النسبية مجرد جمع بين النظريتين الأخريين، لكان موقفها ميئوسًا منه منذ البداية؛ ذلك لأن الأفكار الأساسية في النظرية الموضوعية والنظرية الذاتية متناقضة منطقيًّا كلٌّ مع الأخرى. فلا بد إذن أن يكون أي رأي يحاول التوفيق بينهما غير متسق في داخله، وبالتالي يكون فيه ضعف يقضي عليه.

وقد ترى، بعد أن تدرس النظرية النسبية، أن هذه النظرية تنجو من هذا المصير، ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، فإن أية نظرية تحاول التوسط بين الأضداد الفلسفية المتطرفة تتعرض لخطر ألا تصبح «موقفًا متميزًا». وكثيرًا ما تكون مثل هذه النظرية غير مستقرة في تركيبها الباطن؛ فهي تبدو متأرجحة بين طرف وآخر، وتتحرك إلى أحد القطبين عندما تحاول مواجهة صعوبة من نوع ما، ثم تتحرك إلى القطب الآخر عندما تحاول مواجهة مشكلة من نوع آخر، والواقع أنك، أثناء قراءتك هذا الجزء، قد تجد نفسك تقول مرة: «أليست النسبية هي ذاتها النظرية الموضوعية تحت اسم آخر؟» على حين تقول مرة أخرى «أليست هذه نوعًا غير ظاهر من النظرية الذاتية؟»

وفضلًا عن ذلك فإن النسبية، شأنها شأن معظم المواقف الفلسفية الوسطى، أعقد من النظريات الأسبق منها؛ فهي تحاول أن تكون أكثر تحررًا وشمولًا من النظريتين الموضوعية والذاتية معًا، وهما النظريتان اللتان تعدهما أضيق مما ينبغي؛ فالنظريتان الأخريان «تسلكان الطريق السهل». وهما تفرطان في تبسيط التقدير، إذ تجعله النظرية الموضوعية مجرد «إعطاء للدرجات» أو حدس، على حين أن النظرية الذاتية تجعله مجرد ما يشعر به أي شخص، أما النسبية فلديها جهاز معقد من المفاهيم. ويذهب صاحب هذه النظرية إلى أننا نحتاج إلى كل هذه المفاهيم، لكي نوفي وقائع التقدير والنقد حقها.

•••

تبدأ النسبية الموضوعية من حيث تبدأ النظرية الموضوعية، أي بالاعتقاد السائد في موقفنا الطبيعي، بأن حكم القيمة يشير إلى الموضوع، لا إلى المتحدث، ولكن النسبي يعتقد، كصاحب النظرية الذاتية، أن القيمة ليست «مطلقة» أبدًا، أي أنه يؤمن بارتباطها بالتجربة البشرية، وإذن، فعلى الرغم من أننا نعزو القيمة إلى العمل فإننا لا نستطيع اختبار الحكم عن طريق الاختبار الموضوعي للعمل فحسب، وإذن فالنسبي يهيب بالاستجابة الجمالية، أي أنه يتساءل: هل يحب الناس بالفعل ذلك العمل الذي يقال عنه إنه «جيد»؟ ولكنه يود أن يتخلص من «فوضى» النزعة الذاتية، فهو يريد أن يتمكن من إثبات أن بعض التجارب أهم من بعضها الآخر في الحكم على العمل، وأن هناك فارقًا حقيقيًّا بين «الذوق السليم» و«الذوق الرديء».

ولو أخذنا في اعتبارنا الأهداف التي تسعى نظرية النسبية إلى تحقيقها، لكان من الضروري، كما لاحظنا من قبل، أن تكون النظرية معقدة إلى حد غير قليل. وقد قام الأستاذ ليويس C. I. Lewis منذ عهد قريب بعرض مفاهيمها بطريقة مفصلة.
فهو يميز في البداية بين القيمة التي هي خاصية للموضوع، والقيمة التي هي شعور لدى المدرك الجمالي. وهكذا فإن نظريته تتسع للعاملين: الموضوعي والذاتي معًا؛ فالتجربة التي نستمتع بمجرد ممارستها (سواء أسميناها تجربة «ممتعة» أم «مرضية» أم أي اسم آخر)،٧٠ هي تجربة لقيمة باطنة intrinsie. «ولا يمكن أن يكون هناك شيء ذو قيمة باطنة إلا التجربة المباشرة، أي أنه لا يوجد موضوع له قيمة باطنة بالمعنى الصحيح».٧١ فالأشياء لا تكون جيدة أو رديئة إلا إذا كانت تسبب استمتاعًا أو عدم استمتاع في تجربتنا، وعندما نشعر بقيمة باطنة، على نحو مباشر، عند إدراكنا موضوعًا ما، تكون لهذا الموضوع «قيمة كامنة inherent». فكل الموضوعات الجمالية لها قيمة كامنة.٧٢
وهذا يؤدي بنا إلى تعريف القيمة الجمالية، الذي تتميز به النظرية النسبية الموضوعية؛ فالقيمة الجمالية ليست سمة «مطلقة» أو شعورًا مباشرًا، وإنما هي صفة للموضوعات تتميز بأنها «إمكان» أو «قدرة» على إحداث تجارب لها قيمة باطنة.٧٣ فالقيمة الجمالية سمة (علائقية relational). والتعريف يشير إلى التجربة الجمالية، وإذن فالقيمة الجمالية هي واحدة من السمات التي تنتمي إلى شيء معين نتيجة لما يفعله هذا الشيء عند اتصاله بكائن عضوي بشري؛ فالخبز «مُغذٍّ» نظرًا إلى تأثيراته في الجسم؛ والسيانيد «سام»، لنفس السبب، ولكن الخبز ليس مُغذيًا في ذاته، ولا السيانيد سام في ذاته.
ولكن هذا لا يعني أن السمة لا توجد إلا عندما يكون الموضوع على صلة فعلية بكائن بشري؛ فقطعة الخبز «مغذية» حتى حين لا تؤكل، وبالتالي حين لا تكون مغذية لأحد، وهذه هي الدلالة الكاملة لفكرة «الإمكان» أو «القدرة»؛ فالخبز يغذي لو أكل، وبالمثل فإن الموضوع الجمالي يحدث متعة جمالية لو تأمله أحد؛٧٤ فالقوة أو الإمكان تظل في الموضوع حتى حين لا يكون عنصرًا في تجربة أحد، والخصائص الكيميائية للخبز، التي يكون بفضلها مُغذيًا، وكذلك السمات الشكلية وغيرها من سمات العمل الفني، التي يعطينا بفضلها متعة جمالية، هذه السمات موجودة «في» الموضوع.

وفي هذا الصدد، تكون النظرية النسبية قريبة من النظرية الموضوعية، فهناك موضوع ثابت له سمات دائمة، وهذه السمات يمكن اختبارها ومعرفتها على نحو مشترك بين الناس، وعلى ذلك فإن لنا الحق في أن نقول عن الطلاب الذين تحدث عنهم رتشاردز في كتابه «النقد العملي» أنهم «أساءوا تفسير» «العمل» أو «أساءوا فهمه».

ومع ذلك فإن الدليل الوحيد على أن العمل ينطوي على إمكان القيمة هو أنه يحدث بالفعل متعة يشعر بها شخص ما في تجربته الجمالية، أو على حد تعبير ليويس، فإن الدليل الوحيد على «القيمة الكامنة» هو «القيمة الباطنة»، ولكن لنفرض أن نفس العمل يحدث استجابات مختلفة في أناس مختلفين، وهو أمر صحيح قطعًا، فهل تتصف تجربة كل مدرك بنفس الأهمية في قدرتها على تحديد قيمة العمل؟ إذا كان العمل «س» يُحدث لذة في «أ»، ولكنه لا يُحدث لذة في «ب»، فهل هو يتصف «بقيمة كامنة»؟ وما الدليل — إنْ كان ثمة دليل — على أن العمل لديه «إمكان» توليد قيمة؟ وما الذي يمنعنا من أن ننتهي إلى أنه «لا مشاحة في الأذواق»؟

إن ليويس، مع ذلك، «لا يود أن يضع التقديرات التي يضعها الأحمق في حمله على قدم المساواة مع الحكيم في حكمته».٧٥ وهو بالتالي يميز بين أنواع مختلفة من حكم القيمة:
  • (١)
    هناك أولًا الوصف الشخصي الذي يصف به المتحدث مشاعره خلال التجربة الجمالية، مثل: لقد أحببت هذا … ذلك بالطبع هو الحكم الذي يحتل موقعًا مركزيًّا في نظرية دوكاس، وهو يرى، مثل دوكاس، أن المتحدث لا يمكن أن يكون مخطئًا في إصداره لحكمه (ما لم يخطئ في استخدام الألفاظ التي يصف بها مشاعره).٧٦ ولكن على حين أن دوكاس يقصر تقديره على هذا الوصف للمشاعر، فإن ليويس ينبهنا إلى:
  • (٢)
    نوع آخر من الحكم، هو «أهم أنواع التقدير وأكثرها شيوعًا».٧٧ ذلك هو الحكم الذي يعزو قيمة إلى الموضوع؛ فهو لا يقول «أنا أحب هذا.» بل يقول «إنه جميل.» ولما كان الجمال قدرة على إثارة تجربة القيمة الباطنة، فإن هذا الحكم يقوم بتنبؤ تجريبي؛ فهو يتنبأ بأنه إذا أدرك مشاهدون آخرون العمل إدراكًا جماليًّا، فعندئذٍ سيشعرون بمتعة جمالية، هذا التنبؤ، شأنه شأن أي تنبؤ تجريبي آخر، يمكن أن يتضح أنه خطأ، ومن هنا فإنه، على خلاف الوصف الشخصي (رقم ١)، ليس معصومًا من الخطأ. ويطلق ليويس على هذا الحكم اسم «غير المنتهي non-terminating»٧٨ ما دام لا يوجد حد لعدد التجارب التي يمكن أن تحققه؛ فمن الممكن أن تؤيده شواهد هائلة العدد، كما هي الحال عندما يتحقق التنبؤ في تجربة عدد كبير من المشاهدين، ولكن الحكم لا يصل أبدًا إلى اليقين، فسيظل من الممكن دائمًا أن تكذبه شواهد أخرى.

وهنا يفترق طريقَا النظرية النسبية والنظرية الموضوعية؛ فمعظم القائلين بالنظرية الموضوعية (ولكن ليس كلهم، بدليل ما يقوله فيفاس مثلًا) يذهبون إلى أن حكم القيمة يقيني؛ فحقيقته يمكن أن تعرف على نوع قاطع بالحدس أو «إعطاء الدرجات». أما إذا لم يكن صاحب النظرية الموضوعية يؤمن بالإمكان الوصول إلى اليقين، فإنه يتشبث به بوصفه مثلًا أعلى. أما ليويس فيجعل عملية اختبار الحكم عملية مفتوحة الطرف على الدوام؛ فاليقين ليس ممكنًا نظريًّا ولا عمليًّا، والحكم الجمالي، شأنه شأن كل معرفة تجريبية، لا يزيد عن كونه احتماليًّا فحسب.

ولكن ماذا يحدث لمشكلة اختلاف الاستجابات للعمل الواحد؟ إن رد ليويس على هذه المشكلة هو: إن الوصف الشخصي (رقم ١) ليس على الدوام دليلًا موثوقًا منه على صحة حكم القيمة (رقم ٢)؛ «فعندما نستمع إلى قطعة موسيقية للمرة الأولى … لا يمكن أن نكون مخطئين فيما يتعلق باستمتاعنا الراهن بها، أو بما قد نشعر به من عدم اكتراث بها أو عدم ميل إليها، غير أن أية نتيجة نتوصل إليها من هذا عن تلك القطعة الموسيقية … بوصفها مصدرًا مستمرًّا للاستمتاع أو عدم الاستمتاع الممكن؛ قد يتضح فيما بعد خطؤها».٧٩ قد ينظر شخص معين إلى شيء ويراه أحمر؛ فالشيء يبدو له، أحمر بحق، ولكن الشيء قد لا يكون أحيانًا «أحمر حقًّا»، بل إنه بدَا له أحمر فحسب، لأن الرجل مصاب بعمى الألوان، أو لأن حالة الإضاءة سيئة … إلخ.٨٠ فإذا زعم أنه «أحمر بحق»، فإن تجربة المشاهدين الآخرين، الذين يتمتعون بإبصار أفضل ويبصرون من خلال إضاءة سليمة … إلخ، ستكذب حكمه. وهكذا الحال في الإدراك الجمالي؛ «فقد نحب صورة معينة مؤقتًا لأنها موضوعة في ضوء خافت يخفي رسمها السيئ أو ألوانها الفجة».٨١ أو قد تكون لدى المشاهد ميول شخصية تشوه إدراكه، وهنا أيضًا لا يمدنا الوصف الشخصي بأساس متين لحكم القيمة؛ ففي استطاعتنا أن نقدم أسبابًا للقول إن الصورة «رديئة حقًّا»، إذ «تشير عندئذٍ إلى السمات المادية القابلة للملاحظة في التصوير من جهة، وإلى المبادئ العامة للفن التصويري من جهة أخرى».٨٢ كذلك فإننا نأخذ في اعتبارنا «قدرات الإدراك التي يشارك فيها البشر عامة.٨٣ وعن طريق أخذ الظروف الموضوعية والذاتية للإدراك بعين الاعتبار، نستطيع أن نتنبأ بتأثير الصورة في المشاهدين الذين سيرونها في المستقبل، على نحو أفضل مما يتنبأ به الشخص الذي شاهد الصورة في ضوء سيئ أو من خلال تحيزات شخصية واضحة.
وقد يحدث في بعض الأحيان أن يتمكن شخص معين من أن يقوم هو ذاته «بتعويض»٨٤ تأثير سماته الشخصية الغريبة أو نواحي القصور فيه. فكما أن المصاب بعمى الألوان، الذي يعلم أنه مصاب بعمى الألوان، يستطيع اتخاذ التدابير اللازمة التي يعدل بها إدراكه عندما يرى الإشارات الضوئية في الطريق، فكذلك يستطيع المشاهد الجمالي أن يميز بين استجابته الشخصية وبين القيمة الكامنة في العمل؛ ففي استطاعته أن يقول «لست أحب هذا العمل ولكنه جيد» ويكون لكلامه هذا معنًى، وعندئذٍ فإن النصف الثاني من عبارته، وهو الحكم «غير المنتهي» يمكن أن يكون تنبؤًا موثوقًا منه بأن الآخرين سيحبون العمل.

•••

وقد استخدم الأستاذ هيل B. C. Heyl بدوره مفاهيم النظرية النسبية الموضوعية، ولكنه يطبقها على مشكلات تقدير الفن على وجه التخصيص. ولذا فسوف نبحث آراءه لكي تكون فيها تكملة لآراء ليويس.
إن القيمة الجمالية، تبعًا لنظرية النسبية، هي — كما رأينا من قبل — سمة «علائقية»، فلا يمكن وصف الشيء بأن له قيمة إلا نظرًا إلى اتصاله بالمشاهد، ولكن مجرد إدخال المشاهد يؤدي إلى أن تصبح القيم قابلة للتغير إلى أبعد حد؛ فهي، كما يقول هيل، «تتوقف إلى حد هام على ثقافة المرء وبيئته، وعلى مزاجه وتجربته».٨٥ وهكذا فإن العمل الفني الواحد يمكن أن يُفسَّر على أنحاء متباينة، كما تستخدم معايير متباينة من أجل تقديره.

وعلى حين أن ليويس يقلل من أهمية هذه الحقيقة الهامة في مجال النقد الفني، فإن هيل يؤكدها، وهو يحاول أن يفسح لها مكانًا في نظرية النسبية.

إن هيل، على خلاف أصحاب النظرية الموضوعية، لا يريد القول إن هناك معيارًا واحدًا هو وحده المشروع، وبالتالي إن هناك حكمًا واحدًا هو وحده الصحيح. «فمن الممكن أن يستجيب أشخاص مختلفون، وإن كانوا متماثلين في الحساسية، بطرق مختلفة للموسيقى … وبالتالي فإن هناك مبررًا لأكثر من موقف نقدي واحد».٨٦ والواقع أن تاريخ النقد الفني يشهد بظهور تقديرات متعددة للعمل الواحد، نتيجة لاختلاف المستويات الحضارية، ولاختلاف مستوى المعلومات المتعلقة بالعمل، ولتباين طريقة النظر إليه … إلخ، «(إن النسبية) تقبل التنوع الزاخر للعمليات النقدية».٨٧ وإنه لمن الجمود التام في الرأي أن يقال إن ثمة معيارًا واحدًا هو وحده الصحيح؛٨٨ «فهناك عدد من المبادئ الفنية الرفيعة بحق، والتي هي مع ذلك متعارضة، ظهرت نتيجة للتجربة الحساسة المدربة، وللبحث الفكري، والاستعداد الحضاري، ولا يمكن إصدار حكم قاطع يفاضل بين هذه المبادئ بعضها وبعض».٨٩
إن أي حكم منفرد لا يمكن أن يكون «ملزمًا» للآخرين إلا إذا كانوا يشبهون الناقد في تكوينهم، فلا بد أن يشاركوه «أوجه الشبه الأساسية في مزاجهم وتعليمهم وبيئتهم».٩٠ وعلى ذلك فإن الأحكام النقدية لا تكون، بوجه عام، مُلزِمة إلا لأولئك الذين يعيشون في نفس العصر الحضاري، ومع ذلك فلا بد أن يحترم الناقد، بتسامح، أولئك الذين لا يشبهونه، وبالتالي يصدرون أحكامًا مختلفة.

غير أن هيل، على خلاف أنصار النظرية الذاتية، لا يرى أن جميع الأحكام متساوية في صحتها؛ فهو، مثل ليويس، لا يعتقد أن مجرد الميل أو عدم الميل كافٍ للتقدير، بل لا بد أن يضاف إلى ذلك تحليل متعمق للعمل وتفكير فيه، وهناك أفراد معينون هم وحدهم الذين يمكنهم أن يصدروا أحكامًا موثوقة منها عن العمل الفني.

وهناك صفات معينة لا بد أن تتوافر في المرء لكي يستحق أن يكون ناقدًا، وهي تشمل: (١) «حساسية طبيعية لأهداف الفنان وصفات العمل الذي يحكم عليه».٩١ (٢) خبرة واسعة في الفنون. (٣) معرفة واسعة عن الفن في مجال الفن وغيره من المجالات. (٤) القدرة على الشعور عن وعي بنزواته الشخصية غير المألوفة، وتأثيرها في حكمه. (٥) «مذهبًا نقديًّا يقدم أساسًا نظريًّا مرضيًا للتقديرات الفنية»٩٢ في كل هذه النواحي يوجد مجال لتنمية الذوق وزيادة إرهافه، فليس «الذوق السليم»، كما يقول دوكاس، مسألة تفضيل شخصي اعتباطي فحسب، بل إن في استطاعتنا أن نثبت أن الشخص يتصف بالصفات التي عددناها الآن، أو لا يتصف بها، بطريقة تجريبية.
أما في الطرف الموضوعي، فإن بعض الأحكام تكون أصح من بعضها الآخر لأنها أكثر اتصالًا بالعمل موضوع الحكم، فمن الواجب ألا نطبق معايير القيمة التي تخرج عن أهم ما في الموضوع، من الوجهة الجمالية؛ فالشخص الذي يحكم على لوحة «مجردة» أو «غير موضوعية» على أساس التشابه الحرفي مع التجربة المعتادة، يستخدم معيارًا غير سليم. وبالمثل فإن «الإشادة بمزايا الفن الصيني على أساس المعايير الغربية، أو الإشادة بمزايا الفن الغربي على أساس المعايير الصينية، هو أمر بعيد عن الحكمة حقًّا».٩٣
ومن هنا فإن هيل يؤكد أن النظرية النسبية «لا تعني قطعًا أن أي معيار يعادل الآخر في الجودة».٩٤ بل إن في استطاعة القائل بهذه النظرية أن يقبل عدة معايير متباينة، حتى على الرغم من كونها متعارضة فيما بينها. ولكن «الناقد الكفء … قد يصدر حكمًا قاطعًا على الأحكام الأقل مرتبة، التي تصدر بناء على تجربة فجة غير مدربة، وعلى حدس متعجل، وجهل ثقافي … فإذا افترض القائل بالنظرية النسبية … أن هناك عددًا من الأنواع الأفضل من الناس، فإنه يفترض أيضًا أن بعض الأذهان أدق من بعضها الآخر، أي أذكى منها، وأكثر تعمقًا، وحساسية، وترتيبًا».٩٥

•••

إن النظرية النسبية تحاول الخروج من الطريق المسدود الذي تنتهي إليه النظرية الموضوعية، والتخلص من «فوضى» النظرية الذاتية. فالقائل بهذه النظرية يؤمن بأن نظريته مستقرة متوازنة، تربط بين القيمة والتقدير وبين ما يمر بتجربة الناس الفعلية في لحظاتهم الجمالية، ومع ذلك فإنها تحاول الاحتفاظ بالاعتقاد السائد في الموقف الطبيعي، وهو أن بعض من يصدرون الأحكام يتحدثون بسلطة أعظم من سلطة البعض الآخر.

وتظهر قوة النظرية النسبية بوضوح في معالجتها للاختلاف حول القيم؛ ذلك لأنها لا تحاول أن تتجاهل أو تخفي تلك الحقيقة المعروفة، القائلة إن الأشخاص المختلفين والأعمار المختلفة تكون لهم أحكام متباينة على العمل الواحد، بل إن القائل بالنظرية النسبية «يقبل» هذه الحقيقة، كما يقول هيل، غير أنه يحاول أن يجعل الاختلاف أمرًا معقولًا ومفهومًا؛ فالتعريف الأساسي «للقيمة الجمالية» يؤكد أهمية المشاهد، ولما كانت هناك فوارق في التدريب، والتكوين الثقافي، وما إلى ذلك، بين مختلف المشاهدين، فلا بد أن يقدموا للعمل الواحد تفسيرات مختلفة، فهم «يهيئون» أنفسهم للاستجابة بطرق متباينة، وهكذا ينصبُّ الاهتمام في العمل على مواضع مختلفة، وتكون للرموز معانٍ مختلفة، تبعًا لنوع التفسير، وقد لا يكون للعمل أي معنًى رمزي على الإطلاق في بعض التفسيرات، وهكذا دواليك.

وإذن فهناك قدر كبير مما يبدو «اختلافًا» ليس في حقيقة الأمر اختلافًا على الإطلاق؛ فكثيرًا ما تتباين التفسيرات إلى حد أن الأحكام التي تصدر تكون منصبة على أعمال مختلفة بالمعنى الصحيح، أو قد يوجه الانتباه إلى جوانب مختلفة في العمل؛ فالنظرية النسبية تدفعنا دائمًا إلى تجاوز التصريح اللفظي البحت «س جميل» أو «س ليس جميلًا»، بل إن من واجب الناقد أن يعمل دائمًا على إيضاح تفسيره للعمل، وبالتالي معاييره في التقدير.

ويكون التفسير مشروعًا عندما يكون منصبًّا على ما ينتمي حقيقة إلى العمل، ومن الواجب أن يكون محكم الترابط، وألا يتجاهل السمات البارزة للعمل: كما يجب أن يكون متعاطفًا مع الغرض الجمالي للعمل. ولو استطاع الهاوي غير المدرب أن يعبر عن موقفه من العمل بالكلمات — وهو ما لا يستطيع أن يفعله دائمًا — لأدركنا لماذا لا تكون لحكمه سلطة؛ إذ يتضح أن قدرًا كبيرًا مما ينطوي عليه. العمل «يفوته»، وأنه أخفق في الوصول إلى دلالته الجمالية. وهكذا فإن الضحالة الانفعالية، والافتقار إلى المعرفة الوثيقة بالعمل، والجهل — كل هذه العوامل قد تؤدي بالهاوي إلى إصدار حكم يختلف عن حكم الشخص المدرب الحساس. غير أن الحكمين لا «يختلفان» إلا لفظيًّا، لأنهما «يريان»، أشياء مختلفة، وبالتالي يحكمان على أشياء مختلفة.

وإذن فالنسبية تجعل للاختلاف أساسًا تجريبيًّا، والوصول إلى حل للاختلاف هو في نظرها مسألة تتعلق بتقديم الأدلة المناسبة. فنحن نختبر مشروعية تفسير ما عن طريق فحص العمل، ونختبر مزايا القائم بإصدار الحكم على العمل عن طريق المعايير التي نبه إليها «هيل»، ونحن لا نثني على شخص ما بوصفه «ناقدًا جيدًا» لمجرد كوننا نحب ما يحب؛ إذ إن كونه ناقدًا صالحًا لهذا العمل أو غير صالح هو، كما يقول فيلسوف القرن الثامن عشر، ديفد هيوم، «(مسألة) واقع، لا عاطفة».٩٦

فعندما يكون الخلاف بين شخص ناقص المعلومات، مفتقرًا إلى القدرة على التمييز، وبين شخص خبير عميق الإدراك، يكون من الممكن إثبات أن الأول يصدر «بالفعل» أحكامًا من مرتبة أدنى. ولو كان أمينًا، لوجد لزامًا عليه أن يقول في كثير من الأحيان: «عجبًا! إني لم أرَ ذلك.» أو «إني في حاجة إلى وقت أطول لأعرف المزيد عن العمل». وهذه هي الطريقة التي تبدأ بها «تربية الذوق». أما عندما يقوم الخلاف بين شخصين تتشابه تجربتهما ودقة إحساسهما … إلخ، في عمومها، فإن تسوية الخلاف تصبح أمرًا أكثر تعقيدًا، فلا بد أولًا من إثبات أنهما يفسران العمل ويحكمان عليه بنفس الطريقة؛ فحتى في هذه الحالة، قد يكون الخلاف في حقيقته أقل مما يبدو لأول وهلة، وهنا أيضًا ينبغي الالتجاء إلى الشواهد التجريبية، فهل لاحظ «أ» هذا العنصر التفصيلي الذي يحدث فارقًا في الدلالة التعبيرية للعمل؟ وهل رأى «ب» كيف أن صورة معينة تتكرر هنا؟ إن تحليل العمل مهمة طويلة وشاقة. والأعمال الفنية شديدة الثراء والتعقيد. ولا شك أننا نخطئ لو اعتقدنا أن ثمة طريقًا سهلًا إلى البت في النزاع. غير أن هناك بالفعل سمات موضوعية في العمل، هي التي ينبغي الإهابة بها. ففي استطاعة «أ» أن يجعل «ب» «يرى ما لم يكن قد رآه من قبل»، كما أن في استطاعة «ب» أن يقوم بالأمر نفسه بالنسبة إلى «أ». وعلى هذا النحو يمكن أن يتلاقيا في أحكامهما، فمن الحقائق الواضحة بالنسبة إلى تجربتنا أن مواقفنا وأحكامنا يمكن أن تتغير بدراسة ما ينطوي عليه العمل.

ولكن ماذا نقول عن نوع «الاختلاف» الذي يقدم فيه «أ» و«ب» تفسيرات مختلفة للعمل؟ في هذه الحالة بدورها يمكن تضييق الشقة بين الاثنين. ففي بعض الحالات على الأقل يمكن الجمع بين التفسيرين في «قراءة» واحدة مترابطة للعمل، وعندئذٍ يكون هذا التفسير الجديد أكثر ثراء من التفسيرين الأصليين، ويكون مرتكزًا على عناصر أكثر في العمل نفسه، وهكذا فإن تذوق «موسيقى» قصيدة قد يزداد عمقًا عن طريق تذوق «حقيقة» القصيدة. أو قد يكون من الممكن «تطعيم» القيم التشكيلية للوحة معينة بقيم الموضوع الذي تصوره.

على أن ذلك لا يكون ممكنًا في كثير من الأحيان؛ فقد يختلف تفسيران أو أكثر، كل عن الآخر، إلى حد يستحيل معه الجمع بينهما في تجربة واحدة؛ فكل تفسير يقتضي «استعدادًا» إدراكيًّا معينًا نحو العمل، وهو يوجه الانتباه إلى بعض السمات في العمل، لا إلى بعضها الآخر؛ وهو يجد في العمل «روحًا» أو نغمة معينة. وفي كل هذه النواحي. قد يكون التفسيران متعارضَين مثل هذه التفسيرات تطالب المشاهد بأمور مختلفة كل الاختلاف، وتكشف عن قيم متباينة تمامًا في العمل.

إن رواية فرانتس كافكا «القلعة» هي عمل شديد المراوغة والغموض، ليس له معنًى واضح مباشر. وعلى الرغم من أن كل جزء معين في القصة يتصف بالعينية والواقعية، فإن دلالة العمل الكامل ليست مما يسهل الوصول إليه. وقد تعرضت «القلعة» لعدد كبير من التفسيرات، فقدم النقاد المختلفون وصفًا لكافكا بأنه «الباحث الدائب الأسيان عن الحقيقة؛ والمدافع المخطئ عن موقف ديني باطل؛ والفاضح الصريح لحماقة التصوف بجميع أنواعه، والمتهكم الواعي بأمثال هذه المعتقدات».٩٧ على أن المرء لا يستطيع أن يضم جميع هذه «القراءات» سويًّا في إدراك واحد للعمل؛ فهي مضادة بعضها لبعض، وفي استطاعتنا أن نقرأ كافكا على أنه متحدث مخلص أمين باسم الأماني الإنسانية، أو نقرؤه على أنه متهكم ساخر، ولكن كيف نقرؤه على أنه كلاهما معًا؟ إن اللهجة التعبيرية للعمل تكون مختلفة كل الاختلاف في كلتا الحالتين، وبالتالي تختلف الدلالة التي نعزوها إلى حوادث القصة، وإذن فستكون الاستجابات التي نشعر بها في هذه الحالة مختلفة.
وعند هذه النقطة، نصل إلى الفكرة التي قد تكون أهم ما وصلت إليه النظرية النسبية؛ ذلك لأن هذه النظرية تعلمنا ألَّا نسأل «ولكن ما هو التفسير الصحيح للقصة؟» فالأعمال الفنية لا متناهية التعقيد. وهي، حسب تعبير «بوس Boas»، «متعددة القيم multivalent»،٩٨ أي إن فيها قيمة متعددة مختلفة، وأي تفسير يكون صحيحًا إذا كان يعطي المدرك نظرة متسقة إلى ما هو موجود موضوعيًّا في العمل. ولقد لاحظنا منذ قليل أن بعض التفسيرات تستوعب من العمل أكثر مما تستوعبه تفسيرات أخرى، وأن بعضها يثمر قيمًا جمالية أغنى من تلك التي يسفر عنها البعض الآخر، ولكن كثيرًا ما يحدث أن يقف تفسيران صائبان على قدم المساواة؛ فإن كان الأمر كذلك، فعندئذٍ لا ينبغي أن نبحث عن التفسير «الصحيح» الأوحد؛ فمثل هذا البحث عقيم، وكثيرًا ما ينتهي إلى حكم قطعي جازم. وإذن، فبدلًا من أن نحاول معاوضة كثرة التفسيرات، فإن من واجبنا أن نفيد منها، فعن طريق «قراءة» العمل بطرق مختلفة في المرات المختلفة، نستطيع أن نجد فيه قيمًا متعددة.

والناقد الجيد هو ذلك الذي يوضح تفسيره، وبالتالي الأسباب التي تجعله يقدر العمل على النحو الذي يقدره عليه، ومع ذلك فإنه يحرص أيضًا على احترام التفسيرات الأخرى إذا كانت مبنية على معرفة، وإحساس مرهف، وكانت موحدة، وهذا يظهر أوضح ما يكون في النقد الموسيقي؛ إذ إن الناقد في هذه الحالة يحكم عادة على طرق معينة في أداء أعمال فنية، وعلى ذلك فهو يصادف كثرة من «القراءات»، وعليه أن يعترف بأن كلًّا من هذه القراءات قد يكون صحيحًا «على طريقته الخاصة»، وهكذا نجد ناقدًا موسيقيًّا معاصرًا مشهورًا يقول عن أداء عازف للبيانو:

«… على الرغم من أني لا أشاركه تصوره للحركة (الأخيرة) — إذ إنني أشعر بأنها منسابة هادئة، على حين أنه لا يرى ذلك — فقد استمتعت بالأشياء الرائعة التي استخلصها منها وفقًا لتصوره الخاص، ولا سيما تلك الحيوية والقوة والمرح، التي وضعها في الحركة الأخيرة.»٩٩

وهكذا فإن النسبية الموضوعية تضيق، على أنحاء شتى، شقة الاختلاف حول القيم، وتبين كيف يمكن التغلب عليه. ومع ذلك فقد يظل هناك خلاف جذري في بعض الأحيان، بعد أن يكون التحليل النقدي وتقديم المبررات قد فعلا كل ما يمكنهما فعله، فقد يكون «أ» و«ب» متفقين على تفسير واحد للعمل، وقد تكون لهما نفس درجة المعرفة الوثيقة به … إلخ … إلخ، ومع ذلك يظل بينهما خلاف، إذ يقول «أ»: «ولكن ألا ترى كذا وكذا في العمل؟» فيرد «ب» قائلًا: «أجل، إني أراه، ولكني ما زلت لا أحبه» (وقد يقول هذه العبارة الأخيرة آسفًا، أو عن اقتناع).

والأرجح أن هذا النوع من الاختلاف أندر حدوثًا بكثير مما نعتقد؛ ففي أغلب الأحيان يتخذ الاختلاف تلك الصور التي ناقشناها الآن — أي أن يختلف الشخصان اللذان يصدران الحكم في رفاهة الحس ومقدار معرفة العمل، بحيث تكون لأحدهما معرفة تاريخية تفوق معرفة الآخر، أو يستخدمان تفسيرين مختلفين … إلخ، ومع هذا كله، فهناك فروق أساسية في المزاج والشخصية بين البشر، ولا بد أن يؤدي هذا أحيانًا إلى اختلافات لا يمكن التغلب عليها. فإذا كان «ب» «ما زال غير مبالٍ إليه»، ففي استطاعته أن يحترم حكم «أ» لأنه مبني على حقائق في العمل، ولأنه يستخدم معايير صحيحة في التقدير … إلخ، وكثيرًا ما يفهم «ب» تلك العوامل الداخلية التي يتصف بها، والتي تحول بينه وبين الاستمتاع بالعمل، فربما كانت لديه «نقطة ضعف» معينة، أو كان يتصف بعجز انفعالي، فإذا كان يعرف نفسه جيدًا، فسوف يعرف ذلك العجز، وإذا كان أمينًا، فسوف يعترف به؛ وإذا كان معقولًا، فسوف يقر بصحة حكم القيمة الذي لا يعبر عن مشاعره الخاصة، وإن كان يقدر قيمة العمل الفني بالفعل تقديرًا واعيًا له مبرراته القوية.

إن من المحال أن يكون أي شخص متحررًا تمامًا في أذواقه، فنحن نتجاوب مع أشياء معينة، ولا نتجاوب مع أشياء أخرى. والقدرات الانفعالية، والاتجاهات الذهنية، التي تتيح لنا أن نتجاوب مع نوع معين من الفن، تحول بيننا وبين تذوق نوع آخر، بل إننا في الواقع نشك كثيرًا في الشخص الذي «يحب كل شيء»؛ فالأرجح أن مثل هذا الشخص لا تتوافر لديه حساسية بالنسبة إلى الطبيعة الفريدة لكل عمل بعينه، ومن هنا كانت كل الأعمال متماثلة تقريبًا في نظره. مثل هذا الشخص رديء الذوق، أو ربما كان الأدق أن نصفه بأنه «بلا ذوق»؛ ذلك لأن الذوق هو القدرة على تمييز ما ينطوي عليه العمل، وعندما يكون للناس الذوق اللازم لتقدير أسلوب معين أو مدرسة معينة في الفن، فلا بد لهم في كثير من الأحيان أن يدفعوا الثمن، وهو أن تنعدم حساسيتهم للأساليب الأخرى، وكما يقول سانتيانا، فإنه «لو كان تذوقنا أقل شمولًا، لكان من الجائز أن يكون أكثر صوابًا»١٠٠

وإذن فليس مما له نتائج هدامة بالنسبة إلى التقدير الفني أن يكون الناس المختلفون متجاوبين مع أعمال فنية مختلفة، فليس هذا بالأمر الذي يؤدي بنا إلى فوضى في النقد؛ ذلك لأن قيمة العمل، في نظر النسبية الموضوعية، لا يتذوقها سوى أولئك الذين توافرت لهم الصفات اللازمة للإدراك، فلو كان «أ» لديه الصفات اللازمة لتذوق العمل «س»، و«ب» لديه الصفات اللازمة لتذوق «ص»، فإن هذا لا يؤدي إلى إثارة مشكلة نظرية خطيرة؛ ذلك لأن كلًّا من «أ» و«ب» يقدم تفسيرات سليمة للعمل الفني، وكل منهما يقدم مبررات لتقديره، ولا تثار المشكلة إلا إذا اعتقدنا أن علينا أن نقرر إن كان «أ» و«ب» هو «الصحيح». أما في نظرية النسبية الموضوعية فإن هذه، كما رأينا من قبل، مشكلة زائفة.

ولقد أحسن الناقد «هازليت Hazlitt» التعبير عن هذه الفكرة إذ قال:
«إن النزاع بين المعجبِين بهوميروس والمعجبين بفرجيل لم يُبت فيه، ولن يُبت فيه، أبدًا؛ فستظل هناك على الدوام أذهان تنظر إلى مزايا فرجيل على أنها أقرب إلى أذواقها، وبالتالي أدعى إلى إعجابها ومتعتها، من مزايا هوميروس، والعكس بالعكس، وكِلا الفريقين على حق حين يفضل ما هو أكثر ملاءمة له، أي الرقة والنقاء في أحدهما، والامتلاء والانسياب الفخم في الآخر … وكلاهما على حق فيما يعجب به، وعلى خطأ في انتقاده للآخر نظرًا إلى ما يعجب به … فمهما كان مقدار تعصبنا، فلن نستطيع أن نجمع بين المزايا المتضادة في وحدة واحدة.»١٠١

•••

طوال هذه المناقشة للاختلاف في الأحكام النقدية، كنت أطبق نظرية النسبية الموضوعية، وفي رأيي أن هذه النظرية تعالج وقائع الاختلاف على نحو أفضل مما تستطيع أن تعالجها به النظرية الموضوعية أو النظرية الذاتية؛ فهي تضع الاختلاف على أساس موضوعي، وتبين كيف يمكن التغلب على الاختلاف حيث يكون ذلك ممكنًا، وهي تبعث روحًا من التسامح والتواضع في النقد الفني، وهو مجال كان في أكثر الأحيان يفتقر إلى هاتين الفضيلتين.

ولكنني كنت طوال هذه المناقشة أفترض مقدَّمًا المفاهيم الأساسية للنظرية النسبية، فقد سلَّمت بتعريف المفكر النسبي «للقيمة الجمالية»، وبما يترتب عليه من نتائج، أعني تقديم المبررات، ومعنى «الناقد المؤهل أو الجدير بالاشتغال بالنقد»، غير أن مهمتنا الآن هي وضع هذه المفاهيم الأساسية بعينها موضع الاختبار؛ فخصوم النسبية يرون أن في هذه المفاهيم نقاط ضعف منطقية خطيرة، وهم يرون أن هذه المفاهيم، بمجرد أن تتحلل بطريقة نقدية، يتضح أنها غامضة أو تتضمن مصادرة على المطلوب، وعلى ذلك فإن النظرية أقل تماسكًا بكثير مما تبدو عليه الأول وهلة.

كذلك فإن تحليلنا للنسبية سيتضمن تلخيصًا للمشكلات الرئيسية في هذا الفصل وسيبين نقاط الخلاف الأساسية بين النظريات الثلاث التي درسناها.

•••

(١) إن أهم مفاهيم النظرية النسبية هو مفهوم «القدرة أو الإمكان potentiality»؛ «فالقيمة الجمالية» تُعرف بأنها «قدرة الشيء أو قوته على إحداث نوع معين من الاستجابة الجمالية في المُشاهِد القادر على هذه الاستجابة»، وقد رأينا لماذا تستخدم النظرية النسبية هذا التعريف؛ فهي تريد التمسك بالاعتقاد الذي نؤمن به في موقفنا الطبيعي، من أن القيمة موجودة «في» الموضوع، ومع ذلك فهي لا تريد أن تجعل القيمة «مطلقة» كما تفعل النظرية الموضوعية، وبالتالي غير قابلة لأن تعرف، وعلى ذلك، فبرغم أن القيمة توجد «في» العمل، وتظل موجودة فيه عندما لا تدخل في تجربة أحد، فإنها تعرف من خلال الاستجابة الجمالية؛ فالعمل يمكن أن يُستمتع به إذا تأمله شخص ما (لديه المؤهلات اللازمة للإدراك).
ولكن هل تفسِّر فكرة «الإمكان» كل شيء حقًّا؟ ولو كانت القيمة الجمالية إمكانًا، فهل هي سمة حقيقية أو أصيلة في الموضوع؟ إننا عندما نقول إن موضوعًا معينًا له سمة ما، أي نقول مثلًا «هذا المكتب خشبي»، نعني عادةً أن ثمة شيئًا ثابتًا وباقيًا إلى حد ما، يكون جزءًا من الموضوع، ولكن هل يصدق هذا على قولنا إن «هذا العمل لديه «إمكان خلق» قيمة جمالية»؟ إن الدليل الوحيد الذي نملكه على «الإمكان» هو «الواقع»، أي أن العمل يسر شخصًا ما بطريقة واقعية، فهل ننسب هذا الإمكان أو هذه القدرة إلى العمل كلما حدثت أية تجربة جمالية؟ إن ليويس يقول إننا نفعل ذلك: «فلو أحس شخص ما بالاستمتاع في وجود عمل فني مشوَّه، لكان الاستمتاع … يثبت — إذا شاء المرء التعبير عن المسألة على هذا النحو — أن الموضوع المجرب كان له من القيمة الأصيلة بنفس هذا المقدار».١٠٢ وإذن، فمهما كانت التجربة التي يمر بها المدرك، فإنها تقدم دليلًا معينًا على القول بأن الموضوع لديه القدرة على خلق القيمة.

ولكن ما الذي يعنيه ليويس سوى أن الموضوع سبب تجربة معينة؟ وما الذي نضيفه بقولنا إن الموضوع لديه «القدرة» على أن يفعل ذلك؟ إن صاحب النظرية النسبية عندما يقول ذلك، يبدو كما لو كان يصف سمة ثابتة في العمل، ولكنه في الواقع إنما يصف مرحلة معينة في تاريخ العمل، أي يقول إن شخصًا ما، في وقت معين، كانت له إزاءه تجربة معينة. إن النسبيِّين يميلون إلى تشبيه عبارة «هذا العمل جميل» بعبارة «هذا الخبز مغذٍّ»، ولكن هبْ أن رغيف الخبز قد استخدم في ضرب شخص على رأسه، أو في تثبيت بضعة أوراق تخشى عليها من أن تتطاير، فهل تقول عندئذٍ إن الخبز لديه «القدرة» على أن يكون سلاحًا أو ثقلًا يمنع الورق من التطاير؟ إن هذا ليبدو غريبًا كل الغرابة، وبالمثل فإنه إذا كان العمل الذي يشير إليه ليويس هو بالفعل «عمل فني مشوَّه»، فهل نود عندئذٍ أن نقول إن لديه «القدرة» على خلق القيمة؟ إن معنى «القدرة» يصبح عندئذٍ من الاتساع والشمول بحيث يبدو أنه لم يعد لها أي معنى على الإطلاق.

إن صاحب النظرية النسبية يود، على ما يبدو، أن يجمع بين النقيضَين، فهو يود أن يتحدث عن «سمة في الموضوع»، ولكنه يود مع ذلك أن يتخذ من الاستجابة الجمالية دليلًا — هو الدليل الوحيد الممكن — على أن السمة موجودة، غير أن هناك عدة استجابات ممكنة، ولو كان كلٌّ منها دليلًا على السمة لتعيَّن عندئذٍ أن تُعزَى إلى الموضوع سمات من شتى الأنواع، وهكذا فإن من العسير أن ندرك كيف يظل في وسعنا الكلام عن «السمة»، أو حتى عن أية سمة على الإطلاق.

بل إن نفس العمل يمكن أن يثير استجابات متعارضة تمامًا؛ فقد يجلب السرور لشخص ما، والاشمئزاز لشخص آخر، فلو عزونا إليه عندئذٍ «القدرة» على إحداث هذين الأمرين معًا، ألا نكون قد عزونا سمات متناقضة إلى العمل؟ فلنتأمل مرة أخرى تلك الجملة التي اقتبسناها لتونا من ليويس. إن العمل الذي يتحدث عنه «عمل فني مشوَّه». ومع ذلك، فلأن شخصًا ما قد استمتع به، فإن «له من القيمة الأصيلة بنفس هذا المقدار». «فكيف يمكن أن يكون العمل الفني «مشوهًا» و«له قيمة أصيلة» في آنٍ واحد؟»

وهكذا فإن مفهوم «القدرة» يقع في إشكالات. وعند هذه النقطة، يأتي عرض لمساعدة صاحب النظرية النسبية من مصدر غير متوقع. فصاحِبَا النظريتَين الموضوعية والذاتية معًا يبديان استعدادهما لمساعدته! إذ يقول كل منهما شيئًا واحدًا لصاحب النظرية النسبية: «سأدلك على مخرج من الصعوبات التي تواجهها. إن كل ما عليك أن تفعله، بالطبع، هو أن تتخلى عن نظريتك وتنحاز إلى صفي.» فصاحب النظرية الموضوعية يحث القائل بالنسبية على أن يكف عن الكلام عن «القدرة»، ويتحدث، بدلًا من ذلك، عن سمات موضوعية حقًّا، أي سمات لا تُعرَّف على أساس الاستجابة الذاتية، وصاحب النظرية الذاتية يحث القائل بالنسبية على أن يكف عن خداع نفسه بالكلام عن «القدرة»، ويعترف بأن عبارة «س جميل» لا تعني أكثر من أني «أحسست بلذة أثناء تطلعي إلى س»، عندئذٍ لن يكون ثمة إشكال حول العمل الذي أشار إليه ليويس.

وبعبارة أخرى، فإن القائل بالنسبية يُطلَب إليه التخلي عن موقفه الوسط، وأن ينتقل إما إلى القطب الموضوعي وإما إلى القطب الذاتي.

•••

(٢) لا جدال في أن القائل بالنسبية سوف يشكر خصميه على عَرضهما الكريم، ولكنه سيرفض الدعوة إلى الانتحار؛ فهو يرى أن نقاده قد أساءوا فهم معنى «القدرة».

فعندما نعزو قيمة إلى موضوع جمالي، لا نكتفي بالقول إنه أثار استجابة معينة في مشاهد معين، وإنما نتنبأ بنوع الاستجابة التي سيولدها في المشاهدين الذين سيرون العمل في المستقبل، وينتقل ليويس، بعد الجملة التي اقتبستها من قبل مباشرة، إلى القول بأن «أية تجربة منفردة» قد تكون أساسًا غير سليم للحكم على «قدرات أو إمكانات «الموضوع» بالنسبة إلى تجربة أخرى، أو بالنسبة إلى التجربة بوجه عام».١٠٣ فهذا الحكم ستحققه أو تكذبه استجابات الناس والآخرين.

وهنا نجد أن صاحبَي النظريتَين الموضوعية والذاتية، اللذين كانا يقفان موقفًا وديًّا منذ برهة، يعودان إلى الهجوم؛ إذ إن القائل بالنسبية يحاول إنقاذ نظريته، على حين أنهما يتحديان دفاعه.

فصاحب النظرية الموضوعية ينكر أننا نقوم بتنبؤ عندما نؤكد حكم القيمة. فحين نقول «س جميل.» فهل نكون عندئذٍ متطلعين قدمًا إلى ما سيشعر به الناس الآخرون؟ كلا بالتأكيد، وإنما نحن نقول إننا وجدنا القيمة متجسدة في الموضوع. فضلًا عن ذلك، فما هو بالضبط ذلك التنبؤ الذي يتحدث عنه القائل بالنسبية؟ إن ليويس يتحدث عن «قدرة العمل بالنسبة إلى التجربة بوجه عام»؛ فكم من الناس، طوال أي فترة من الزمان، يلزمون لاختبار الحكم؟ إن ليويس نفسه يصف الحكم بأنه «غير منتهٍ»، لأن حالات التحقيق الممكنة لا حد لها، فمتى يمكن القول إن الحكم قد تحقق، أو لم يتحقق، إن كان مثل هذا القول ممكنًا على الإطلاق؟

من هذا ينتهي صاحب النظرية الموضوعية إلى أن النظرية النسبية لا تقدم تحليلًا أمينًا لما نعنيه عندما نصدر حكم القيمة، كما أن التنبؤ الذي يتحدث عنه يبلغ حدًّا من الاتساع والافتقار إلى التحدد يستحيل معه الإفادة منه بشيء.

أما دوكاس، القائل بالنظرية الذاتية، فيتخذ موقفًا مخالفًا: ««لنفرض» أنا … اكتشفنا اتفاقات واسعة النطاق في الرأي، وتمكنَّا بذلك مِن وضع صيغة بعض التنبؤات المحتملة. عندئذٍ أتساءل: وماذا يعني هذا؟ ما الذي يثبته ذلك بالضبط فيما يتعلق بالمزايا الجمالية للموضوعات التي تصدر بشأنها الأحكام؟»١٠٤
(٣) على أن لدى القائل بالنسبية ردًّا فوريًّا على ذلك، إذ يقول: «إن هذا يثبت كل ما نحتاج إلى معرفته، وكل ما يمكننا أن نعرفه، عن قيمة الموضوع الجمالي، فما الذي يستطيع أن يثبته حكم القيمة الجمالي سوى شهادة التجربة الجمالية المشتركة؟ إننا عندما نقول إن عملًا معينًا جميلًا، فنحن لا نعزو إليه سمة غامضة «مطلقة» يفترض أنه يتصف بها مهما كان شعور الناس عندما ينظرون إلى هذا العمل، وهذا أمر يوافق عليه دوكاس، القائل بالنظرية الذاتية، قطعًا. ومع ذلك فإن حكم القيمة ينطوي على أكثر من مجرد القول إن شخصًا واحدًا كانت له مشاعر معينة؛ فالحكم يصف جدارة الموضوع في نظر البشر عامة، فلو كانوا يجدونه جيدًا، كما دأب الناس طويلًا على أن يجدوا جوتو Giotto وبيتهوفن، لكان في ذلك إثبات للحكم (في حدود الاحتمال) وإلا، فماذا نريد أن نقول عن القيمة الجمالية عدا هذا؟ وما الذي نستطيع أن نقوله؟»
وهنا نجد القائلين بالنظرية الموضوعية وبالنظرية الذاتية يتحدان مرة أخرى ضد العدو المشترك، ويهتفان في صوت واحد: «أنك تحصي المتذوقين بالرأس». فصاحب النظرية الموضوعية يرى أن من المحال تقرير ما إذا كان للشيء قيمة عن طريق إجراء استفتاء. وهكذا يرى جود أن القيمة الجمالية تظل كامنة في الموضوع مهما كانت «التخمينات» التي يقوم بها الناس.١٠٥ أما الذاتي فإنه يفهم القيمة الجمالية على نحو مختلف تمامًا، ولكنه بدوره يعتقد أن القيام بتنبؤات ناجحة لا يحسم الأمر، وكل ما يدل عليه هو أن أناسًا كثيرين لهم تركيب متماثل، وأننا عندما نعرف ذلك، نستطيع أن نتوقع الطريقة التي سيستجيبون بها للعمل، ولكن هذا لا «يثبت» أي شيء لأولئك الذين لديهم مزاج من نوع مخالف، وبالتالي يستجيبون على نحو مخالف.

•••

(٤) ويرد صاحب النظرية النسبية على ذلك بقوله: «كلَّا، إن المسألة ليست مجرد إحصاء للرءوس»، أو (إذا شئنا أن نستخدم عبارة أكثر تهذيبًا) شهادة التجربة الجمالية المشتركة، فمن المؤكد أن هذه الشهادة لا غناء عنها، ما دمنا نتحدث عن القيمة الجمالية، وبالتالي عن ميل الإنسان ومتعته، ومع ذلك فهناك شيء آخر يثبت القيمة الجمالية، ففي استطاعتنا تقديم مبررات تؤيد الحكم، ولهذا السبب نقوم بتحليل العمل بطريقة نقدية؛ ففي استطاعتنا أن نوضح ما الذي يوجد في العمل، ويؤدي إلى إحداث تجربة الشعور بالقيمة. وكما يقول ليوس، فإننا عندما نؤيد تقدير لوحة معينة، فإنا «نشير إلى سمات مادية قابلة للملاحظة في اللوحة من جهة، وإلى مبادئ عامة لفن التصوير من جهة أخرى».١٠٦ ولا يمكن أن تصدُق تهمة «إحصاء الرءوس» إلا إذا كانت النظرية النسبية تعمل حسابًا للجانب الذاتي وحده من التجربة الجمالية، ولكنها في الواقع لا تقتصر على هذا الجانب وحده.
وإذن، فصاحب النظرية النسبية يبحث «سمات قابلة للملاحظة» في العمل، ويرجع إلى «المبادئ العامة لفن التصوير»، فإذا لم تنطبق هذه المبادئ على العمل، كان عملًا رديئًا، ولكن دوكاس يعود عندئذٍ إلى توجيه السؤال نفسه: «وماذا يعني ذلك؟ ما هي هذه المبادئ»؟ إنها لا تتصف بقداسة أو قوة كامنة، وما هي إلا أوصاف معممة مما يميل إليه بعض الناس؛ كأن يكون بعض الناس مثلًا ميالين إلى التوازن أو عدم التوازن في التصوير، بل إن ليوس يقول بهذا الرأي نفسه؛ إذ إنه يقول، بعد الجملة التي اقتبسناها من قبل مباشرة: «ولكن إذا ما وقف شخص ليست له خبرة بالفن، يتحدى مبادئ النقد …» وأصرَّ على التساؤل عن السبب الذي تؤدي من أجله هذه الخصائص الموضوعية للتصوير إلى جعل اللوحة رديئة، فعندئذٍ سيُضطر الناقد آخر الأمر … إلى أن يبدي (بجفاء) الملاحظة الآتية: «يبدو أن إدراكك للألوان غير سليم؛ إذ إن الخبراء في هذه الأمور، فضلًا عن معظم الناس الآخرين، لا يجدون أن تجميع الألوان وترتيبها أمر يدعو إلى الاستمتاع.»١٠٧

أما صاحب النظرية الذاتية فإنه سيتخذ من هذه الفقرة ذخيرة في هجومه؛ فالنسبية تحاول أن تقدم «مبررات»، ولكن «المبرر» الوحيد الذي يمكن تقديمه، آخر الأمر، إلى الشخص المعترض هو «أن الناس الآخرين يحبون هذا العمل». وهنا نتساءل مرة أخرى: «أليس هذا إحصاء للرءوس؟» لقد حاول المفكر النسبي أن يلجأ إلى الجانب الموضوعي من العلاقة الجمالية لكي ينقذ نفسه. ومع ذلك فقد اتضح أن ما يسميه النسبي «موضوعيًّا»، لا يعدو أن يكون تعميمًا لعدد كبير من الاستجابات «الذاتية». ولو لم يحدث أن عددًا كبيرًا من الناس يستمتعون «بالسمات القابلة للملاحظة» في اللوحة، لما استطاع التحليل النقدي، أو أي شيء غيره، أن يثبت شيئًا، وهو على أية حال، لا يثبت شيئًا لأولئك الذين تكون لديهم استجابات مغايرة.

عند هذه النقطة يصرح صاحب النظرية الذاتية بمسألة كان الشك فيها يعتمل في نفسه طوال الوقت؛ فهو يقول لصاحب النظرية النسبية: «لقد أخذت أزداد تأكدًا من أننا، أنت وأنا، ينبغي ألا نختلف على الإطلاق؛ ذلك لأن ما تقوله حقيقة لا يختلف في شيء عما كنت أقوله. أليست نظريتك ذاتية فحسب؟ إنك لو انتزعت منها كل الكلمات الرنانة عن «القدرة أو الإمكان» و«التنبوء» و«المبادئ»، لما كنت تقول شيئًا سوى أن الناس يحبون ما يحبون، وأن القيمة الجمالية إنما تكون حيث تجدها. إنَّا نستطيع أن نتعاون معًا ضد النظرية الموضوعية. فنحن معًا متفقان على الرأي الأساسي القائل إن «القيمة الجمالية» ينبغي أن تعرَّف في صلتها بما يشعر به الناس بالفعل. فلماذا تخفي هذا الاتفاق وراء ستار من الغموض بإقحام عوامل «موضوعية» في التقدير (وهي عوامل يتضح آخر الأمر أنها «ذاتية» إلى حد بعيد؟) ولم لا تعترف بأن عبارة «س جميل» تعني «أني أشعر بمتعة جمالية إزاء س»؟ عندئذٍ تستطيع التخلص من المشكلة المعقدة المتعلقة بتحقيق الحكم. ولن يكون عليك أن تلجأ إلى تجارب عدد غير محدد من الناس في فترة لا نهاية لها من الزمان؛ ذلك لأن الشخص الذي يصدر الحكم هو الذي يحقق هذا الحكم، ويحققه على نحو حاسم».

•••

(٥) ولو كان صاحب النظرية النسبية شخصًا ضعيف المراس لامتثل لهذا الاقتراح وانضم إلى معسكر النظرية الذاتية. غير أن معظم النسبيين لا يفعلون ذلك؛ فهم يردون على صاحب النظرية الذاتية قائلين: إننا فعلًا نتفق، كما تقول، في قضية أساسية، وهذا هو ما يفرِّق بيننا معًا وبين صاحب النظرية الموضوعية، ومع ذلك فإن بقية نظريتك غير مقبولة في نظري على الإطلاق؛ فأنت تعتقد أن حكم القيمة لا يعدو أن يكون وصفًا لمشاعر شخصية، وعلى ذلك فإن أي حكم يتساوى مع أي حكم آخر، ويفقد «الذوق السليم» معناه، ولكن من الواضح أن هذا لا يحل الإشكال، فنحن في الواقع لا نضع جميع الأحكام على قدم المساواة عندما نقدر عملًا فنيًّا؛ إذ إن بعض الناس ليسوا مؤهلين للحكم، إما لجهلهم بالعمل، وإما لقلة درايتهم به، وإما لافتقارهم إلى التمييز اللازم لإدراك دقائقه. وهناك أشخاص آخرون لديهم صفات الناقد الجيد التي عدَّدها هيل، وحديثهم عن الفن حديث ثقة. ونحن جميعًا نعرف من هم هؤلاء الناس، ونتعلم منهم، وإذن «فالذوق السليم» تعبير له معناه، وإنه لمن الممتنع أن يعتقد المرء أن عبارة «لا مشاحة في الأذواق» هي الكلمة الأخيرة في مجال الذوق، فلست مستعدًّا للاعتراف بأن الشخص الذي يحب رواية بوليسية ثمنها قرشان، ولا شيء غيرها، يتساوى مع ذلك الذي يقرأ شيكسبير بفهم ويستجيب له من أعماق مشاعره.

«لقد اتهمتني عدة مرات بأني أقوم بعملية «إحصاء للرءوس». ولكن ليويس يثبت بوضوح أن النظرية النسبية ليست مضطرة إلى اتخاذ موقف «إحصاء الرءوس»، وذلك إذ يقول:

هناك أشخاص يُعتمد عليهم اعتمادًا خاصًّا في الحكم؛ لأن لديهم تجربة فنية عميقة، وربما كان لديهم أيضًا قدر أعظم من القدرات اللازمة للتمييز … وفي استطاعة أحكام هؤلاء الأشخاص أن تصمد أمام أي عدد من الأصوات المضادة التي تجمع دون تمييز، لأن الشيء الذي يحكم عليه موضوعي، وليس شيئًا مرتبطًا بالتجربة الخاصة، التي قد لا تكون واعية بما فيه الكفاية».١٠٨

تلك حجة قوية، بل ربما كانت أقوى حجة يستطيع صاحب النظرية النسبية أن يقدمها، ولكن ها هو ذا الرد على هذه الحجة، كما يقول به جود:

«إن الخبير هو ذلك الذي يدرك ما هو خير، ويحبه؛ فهو بعبارة أخرى ذلك الذي يفضل «س» على «ص». وهكذا فإننا في محاولتنا الخروج من الطريق المسدود الذي تؤدي إليه الذاتية الكاملة عن طريق الالتجاء إلى الخبراء، نجد أنفسنا وقد دُرْنا في حلقة مفرغة. فالحجة تسير الآن على النحو الآتي: على أي نحو ينبغي أن نحكم على «س» بأنه أرفع من «ص»؟ الجواب: عن طريق اتفاق الآراء بين ذوي الذوق السليم، الذين يُجمعون على تفضيل «س». فما هي السمات التي نعرف بها أولئك الخبراء الذين ينبغي الوثوق في حكمهم في إثبات أفضلية «س»؟ الجواب هو أن من الممكن معرفتهم نظرًا إلى إجماعهم على تفضيل س».١٠٩

•••

(٦) يبدو أن بعض القائلين بالنسبية لا يتصدون لمواجهة هذا النقد أبدًا، وربما كان هذا خيرًا لهم؛ إذ إن من الجائز أن من المستحيل تقديم إجابة مرضية من خلال نظريتهم، وربما كانت الطريقة الوحيدة لمواجهة اعتراض جود هي التحول تجاه النظرية الموضوعية أو النظرية الذاتية، ويعترف الأستاذ هيل بهذه المشكلة، ولكنه يدلي برأيه صريحًا: ««ما دام» صاحب النظرية النسبية لا يستطيع أن يقدم تعريفًا نهائيًّا للناقد المؤهل، أو المثقف، أو الحساس، أو الخبير، فلا مفر من أن يكون موقفه مفتقرًا إلى الدقة بدرجة ما.»١١٠

ومع ذلك، فلنعطِ الكلمة الأخيرة لصاحب النظرية النسبية، وعندئذٍ يمكنك أن تقرر إن كان قادرًا على التخلص بنجاح من نقد جود.

إن صاحب النظرية النسبية يقول لجود: إنك تتهمني بالدوران في حلقة مفرغة، ولكنك ترسم هذه الحلقة بطريقة أضيق مما ينبغي، وبذلك تسيء عرض نظريتي؛ فأنا لا أرى أن الشخص يكون خبيرًا، كما تقول، لمجرد كونه يفضل أعمالًا معينة على أعمال أخرى؛ إذ ليس يكفي أن يقتصر المرء على حب شيكسبير، أو بيتهوفن، أو ميكلانجو، وهم جميعًا فنانون «ثقات» يحترمهم الجميع، بل إن المرء لا يكون له ذوق سليم إلا إذا كان يفضل أعمال هؤلاء الفنانين نتيجة لمبررات جيدة، فإذا كان يحب أعمالهم هذه دون أن تتوافر لديه معلومات عنها، أو كان عاجزًا عن إدراك قدر كبير مما تنطوي عليه هذه الأعمال، فعندئذٍ لا تكون لديه مبررات جيدة، وهذا، على أية حال، ما كنت أقوله طوال الوقت، وهو أن مجرد الميل إلى العمل ليس كافيًا؛ فعندما أصف أ. س. برادلي بأنه ناقد شيكسبيري عظيم، فأنا أعني بذلك أكثر بكثير من كونه «يفضل» شيكسبير؛ فالأهم من هذا التفضيل بكثير أن برادلي يناقش شخصيات شيكسبير ببصيرة نفسية عميقة، وينبهنا إلى علاقات موضوعية وشكلية خفية داخل مسرحياته، ويصف العمق الانفعالي والعقلي لهذه المسرحيات بدقة، وما إلى ذلك. هذه التحليلات تبرر «تفضيله» لشيكسبير.
وبالمثل، فإن المرء لا يكون غير جدير بلقب «الخبير» لمجرد كونه لا يحب أعمالًا يعدها معظم الناس أعمالًا جيدة؛ فبعض النقاد الكبار قد أصدروا أحكامًا تدخل في باب الأقلية، بل «الأقلية المخبولة»، مثل انتقاد الدكتور جونسون ﻟ «ليسيداس Lycidas»،١١١ وحملة هانسليك Hanslick على فاجنر، وحكم ت. س. إليوت بأن «هاملت» عمل غير ناجح. هذه أحكام لا ينبغي أن نرفضها آليًّا (ومجرد كوننا نستمع إليها جديًّا يدل على مدى احترامنا لذوي الحساسية الجمالية) فمن الواجب أن نعرف المبررات التي يقدمها هؤلاء النقاد للنتائج التي يصلون إليها، وأن نرى إن كانت مبرراتهم ملائمة للطابع الجمالي للعمل، أم أنها غير منطبقة عليه. وقد ننتهي، كما فعل معظم النقاد اللاحقين، إلى أن مبررات جونسون لا تقوم على أساس سليم لأنه يقرأ القصيدة بطريقة غير صحيحة، ويطالبها بما ليس في طاقتها. ولكن حتى في هذه الحالة يظل جونسون ناقدًا عظيمًا، وإن كان، مثل أرسطو، يخطئ أحيانًا؛ فالمسألة، كما يقول ليويس، هي أن «ما يُحكم عليه شيء موضوعي.» ففي استطاعتنا أن نختبر العمل لكي نقرر إن كان إدراك الناقد يتسم بالحساسية، واتساع الفهم، والتعاطف … إلخ.

على أننا نستطيع بالطبع أن ننتهي إلى أن ناقدًا مثل جونسون قد وقع في خطأ، ويكون حكمنا هذا مبنيًّا على تحليلات نقاد آخرين، ولكن لا توجد هنا أيضًا حلقة مفرغة. فكيف يستطيع البشر أن يكتسبوا معلومات عن القيمة الجمالية إلا عن طريق الاستفادة من جميع الآراء المستنيرة التي تُستمد من التجارب والتحليلات الجمالية؟ إن أحدًا لا يملك احتكار الحقيقة، كما أن أحدًا لا يستطيع التنبؤ بطريقة معصومة من الخطأ. فمعرفتنا بالفن والنقاد، شأنها شأن أية معرفة أخرى، تتطور ببطء وبالتدريج. وهي تتألف من تحليلات موضوعية للعمل، ومن التفسيرات والأحكام التي يصدرها عنه نقاد مختلفون، ومن الاستجابات الجمالية للبشر خلال فترة طويلة من الزمان. فليس في العملية شيء يتم بسرعة وببساطة (كما يتصور الموضوعيون والذاتيون). ومن هذا الرصيد الذي يجمع الحقيقة، والرأي الاجتهادي، والشعور، يظهر حكم على العمل يقوم على أساس متين. وفي الوقت ذاته، وعلى النحو نفسه، نستطيع أن نتعرف على «الخبير»؛ إذ إن ما يقوله الناقد دفاعًا عن تقديره يكشف عن قدراته، ويبين أنه شخص يتسع نطاق عواطفه اتساعًا كبيرًا، ويتميز بمعرفة واسعة، وخبرة في الفنون … إلخ.

وعندما يتمكن ناقد من أن يجعلنا نرى ما لم نكن نراه من قبل في العمل الفني، فعندئذٍ يكون لدينا الدليل على موضوعية إدراكه وحساسيته. غير أنَّ أضمنَ برهان على أن «الذوق السليم، ليس فقط ما يتصادف أننا نحبه هو أننا كثيرًا ما تعجب بتحليل الناقد، وحكمه المرتكز على مبررات قوية، وقدراته على التذوق الجمالي، حتى عندما لا نكون مبالين إلى نفس الأعمال التي يميل إليها».

هل وجدت الرد الذي يدلي به صاحب النظرية النسبية مقنعًا؟ ربما كان فيه تجنب لحجة جود، وربما كانت فيه مصادرة على المطلوب، ومن الواضح أن الجدل (الديالكتيك) بين صاحب النظرية النسبية وخصومه يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، وهو بالفعل قد استمر إلى ما لا نهاية؛ فمشكلات التقدير والذوق كانت، وما زالت تناقش على الدوام طوال عهود الفكر الغربي.

ولكنا نستطيع أن نتوقف عند هذا الحد؛ فقد اتضحت للقارئ الآن المشكلات الرئيسية في نظرية التقدير، والواقع أن التفكير في هذا المجال معقد ومتشابك، وهناك قدر من الصحة في كل من النظريات الرئيسية الثلاث، وهذا يؤدي بالقارئ إلى أن يدرك أن مشكلات هذا الفصل لا يمكن حلها بتعجل أو بطريقة مبسطة، وكل من يحاول «حلها» بسهولة، أو بصيغة تبدو مبسطة، يثبت بذلك أنه لم يفهم هذه المشكلات فهمًا حقيقيًّا على الإطلاق.

المراجع

هيل: اتجاهات جديدة في علم الجمال والنقد الفني. الجزء الثاني.

Heyl, New Bearings in Esthetics and Art Criticism.

ريدر: مرجع حديث في علم الجمال، ص٤٨٠–٥٠٣.

فيفاس وكريجر: مشكلات علم الجمال، ص٤٣٠–٤٧٩.

فيتس: مشكلات في علم الجمال، ص٦٨٣–٦٩٦.

دوكاس: فلسفة الفن، الفصلان ١٤، ١٥.

جوتشوك: الفن والنظام الاجتماعي، الفصل الثامن.

هيل، برنارد: «النزعة المطلقة عند ف. ر. ليفيس» ٢٤٩–٢٥٥.

Heyl, Bernard, “The Absolutism of F. R. Leavis,” J. of Ae. and Art Cr., vol. XIII (Dec., 1954).

هيوم، ديفد: «في معيار الذوق».

Hume, David, “Of the Standard of Taste,” in “Essays, Moral, Political, Literary,” Ed. Greene and Grose, (London, Longman, Green, 1898, I), pp. 266–284.

هنجر لاند، هلموت: «الإدراك، والتفسير والتقدير (مقال).

Hungerland, Helmut, “Perception, Interpretation and Evaluation,” J. of Ae, and Art Cr., vol X (March, 1952), pp. 223–241.

لي: «الإدراك والقيمة الجمالية» الفصلان الخامس والسادس.

Lee, Perception and Aesthetic Value.

ليويس: «تحليل المعرفة والتقويم». الفصول ١٢–١٥.

Lewis, Analysis of Knowledge and Valuation.

بيير، ستيفن: العمل الفني.

Pepper, Stephen, The Work of Art (Indiana U.P., 1955).

سانتيانا، جورج: العقل في الفن. الفصل العاشر.

Santayana, George, Reason in Art (N. Y., Scribners, 1946).

فيفاس، إليزيو: «الأساس الموضوعي للنقد» في كتاب «الخلق والكشف» ص١٩١–٢٠٦.

Vivas, Eliseo, “The Objective Basis of Criticism,” in “Creation and Discovery,” N. Y., Noonday Press, 1955.

أسئلة

  • (١)

    لماذا تؤكد النظرية الموضوعية السمات الشكلية، سواء في تعريف «القيمة الجمالية» وفي «نظرية السمات المصاحبة»؟ هل السمات الشكلية أكثر ثباتًا وأقل تنوعًا من العناصر الأخرى للعمل الفني؟

  • (٢)

    كيف تظن أن مفكرًا مثل دوكاس يرد على الانتقادات التي وجهت إلى نظريته في هذا الفصل؟ وما مدى قوة هذه الانتقادات في رأيك؟

  • (٣)

    هل تعد بعض الصفات، مثل «جذاب» و«سار»، أقل موضوعية في معناها من صفة «جميل»؟ … ناقش.

    حلل كلًّا من العبارات الآتية، بأن تبين إلى أي مدى تنطوي على سمات موضوعية، وإلى أي مدى تعبر عن استجابات شخصية:

    «هذا مربع» «الموقف يبعث على الرجاء».
    «هذا أحمر» «الموقف متوتر»
    «هذا السلوك غير عادل» «هذا جميل»
  • (٤)

    كثيرًا ما يكون الميل أو الرضاء سببًا لحكم قيمة جمال، فهل من الممكن أن تكون عبارة «أنا أحب هذا» مبررًا للحكم على أي نحو؟ وإن كان الأمر كذلك، ففي أي الظروف؟

  • (٥)
    «النظرية النسبية» قد سميت، بالتأكيد، شكلًا متنكرًا من أشكال النزعة الذاتية، غير أن التهمة لا أساس لها.» (هيل: مبررات الناقد The Critic’s Reasons) ناقش هذه العبارة.
  • (٦)
    ««عندما» يقول المرء إنه يعجب برينوار Renoir نظرًا إلى سلاسة خطوطه، فإن المرء يعتقد أنه أوضح سبب الإعجاب برينوار، ولكن هب أن الخط السلس يبعث الضيق في نفس شخص ما؟» (بوس: مرشد للنقاد Boas: A Primer for Critics، ص١٤٦.) ما هي، في نظرك، أهمية هذا السؤال بالنسبة إلى التقدير والنقد؟
  • (٧)

    أي نظريات التقدير التي نوقشت في هذا الفصل تبدو لك أصح من غيرها؟ أم أنك تعتقد أن هناك نظرية أخرى أصح من هذه؟ دافع عن إجابتك.

  • (٨)
    «ليس الذوق السليم شيئًا متعلقًا بما يحبه المرء أو كيف يحبه.» ناقش.
  • (٩)

    ابحث في الصحف أو المجلات عن نقدين لفيلم أو كتاب أو معرض تصوير واحد، أو لمسرحية أو حفلة موسيقية واحدة، ثم قارن بينهما من حيث المسائل الآتية: (١) ما الأسباب التي تقدم تدعيمًا لحكم القيمة؟ (٢) هل يختلف النقدان فيما بينهما؟ وإن كان الأمر كذلك، فبأي معنى من معاني «الاختلاف»؟ (٣) هل يعد حكم أحد الناقدين موثوقًا منه أكثر من حكم الناقد الآخر؟

  • (١٠)

    لماذا نستطيع، بوجه عام، أن «نتفق على ألا نتفق» حول القيم الجمالية، على حين أننا لا نستطيع ذلك في السياسة والأخلاق؟ وما نتائج هذا بالنسبة إلى التقدير الجمالي من حيث هو عملية اجتماعية؟

١  جرين Greene: المرجع المذكور من قبل، ص٥.
٢  س. أ. جود: «موضوعية الجمال The Objectivity of Beauty» في كتاب فيفاس وكريجر المذكور من قبل، ص٤٦٩.
٣  المرجع نفسه، ص٤٧٠.
٤  الموضع نفسه.
٥  لي Lee، المرجع المذكور من قبل، ص٧٣.
٦  ليويس Lewis، المرجع المذكور من قبل، ص٣٨٧.
٧  المرجع المذكور، ص٤٧١.
٨  كارول س. برات: «ثبات الأحكام الجمالية».
Carroll C. Pratt, “The Stability of Aesthetic Judgments,” J. of Ae. & Art. Cr., XV (1956), pp. 7-8.
٩  أ. أ. كيليت: «تذبذبت الذوق» ص١٥٠.
E. E. Kellett, The Whirligig of Taste (London, Hogarth Press, 1929).
١٠  يطلق اسم «الفترة الأغسطسية» على عصر الأدب الكلاسيكي أثناء حكم الملكة آن في إنجلترا وحكم لويس الرابع عشر في فرنسا. (المترجم)
١١  هيل Heyl: المرجع المذكور من قبل، ص٩٧.
١٢  المرجع المذكور من قبل، ص٢٢٤.
١٣  برات Pratt، المرجع المذكور، ص٩.
١٤  المرجع المذكور من قبل، ص٤٦٤.
١٥  اقتبسه هيل Heyl، في المرجع المذكور من قبل، ص٩٨.
١٦  اقتبسه «هيل» في المرجع المذكور من قبل، ص٩٨، هامش ٨.
١٧  المرجع المذكور، ص٤٦٦.
١٨  إليزيو فيفاس: الأساس الموضوعي للنقد في كتاب «الخلق والكشف».
Eliseo Vivas, Creation and Discovery (N. Y., Noonday Press, 1955). ص١٩٥.
١٩  المرجع نفسه، ص١٩٨.
٢٠  المرجع نفسه، ص١٩٥.
٢١  المرجع المذكور، ص٢٠٠.
٢٢  المرجع نفسه، ص٢٠٣.
٢٣  ليس معنى ذلك أن الأستاذ فيفاس يمكن أن يقبل الرأي الذي عرضناه الآن على عِلاته.
٢٤  المرجع المذكور من قبل، ص٤٧٣.
٢٥  المرجع المذكور، ص٤٧٣-٤٧٤.
٢٦  المرجع نفسه، ص٤٧٤، قارن أيضًا ص٤٧٥.
٢٧  المرجع نفسه، ص٤٧٤.
٢٨  ﻫ. أوزبورن: نظرية الجمال، ص٧٥.
H. Osborne, Theory of Beauty (N. Y., Philosophical Library, 1953).
٢٩  انظر من قبل الفصلين التاسع والعاشر.
٣٠  «أنت والفن، والنقاد» ص١٠.
٣١  المرجع نفسه، ص١١٨.
٣٢  «فلسفة الفن Phil. of Art»، ص٢٨٨.
٣٣  أوزبورن: نظرية الجمال، ص٨٢ Theory of Beauty.
٣٤  يتردد دوكاس في استخدام لفظ «الذاتية» للتعبير عن نظريته (انظر «فلسفة الفن»، ص٢٨٤، و«أنت والفن، والنقاد»، ص٩٠-٩١)، وإن كان يستخدم هذا اللفظ في مواضع أخرى (فلسفة الفن، ص٢٩٣). ومع ذلك، فإن نظريته الكاملة تبين بوضوح، في نظري، أن تنازلاته للطريقة الموضوعية في التعبير لفظية فحسب؛ فآراؤه من النوع الذي كان يسمى عادة «ذاتيًّا»، وعلى أية حال فان أي لفظ يصلح للتفرقة بين هذه النظرية وبين النظرية الموضوعية وبينها وبين النسبية الموضوعية.
٣٥  «فلسفة الفن»، ص٢٣٤. وقد حذفت الإشارة إلى وصف دوكاس للجمال بأنه «قدرة capacity».
٣٦  المرجع نفسه، ص٢٦٨.
٣٧  المرجع نفسه، ص٢٨٤.
٣٨  «أنت والفن، والنقاد»، ص١٢٠.
٣٩  فلسفة الفن، ص٢٨٥.
٤٠  المرجع نفسه ص٢٩١.
٤١  المرجع نفسه ص٢٩٢.
٤٢  هيل Heyl، المرجع المذكور من قبل، ص١٢٣.
٤٣  فلسفة الفن، ص٢٨٩، وقارن أيضًا ص٣٠٤.
٤٤  المرجع نفسه، ص٢٨٦.
٤٥  المرجع نفسه، ص٢٨٩.
٤٦  المرجع نفسه، ص٢٢٥.
٤٧  المرجع نفسه، ص٢٨٤.
٤٨  قارن فيتس Weitz، المرجع المذكور من قبل، ص١٩٣، ١٩٤، وجود، المرجع المذكور من قبل، ص٤٦٥.
٤٩  المرجع نفسه، ص١٢٠.
٥٠  المرجع نفسه، ص١٢١.
٥١  المرجع نفسه، ص١٢١.
٥٢  المرجع نفسه، ص١٠٦.
٥٣  المرجع نفسه، ص١٠٨.
٥٤  المرجع نفسه، ص١١٣.
٥٥  المرجع نفسه، ص٢٠٦.
٥٦  المرجع نفسه، ص٢٩٦.
٥٧  المرجع نفسه، ص٣٠٠.
٥٨  فلسفة الفن، ص٢٩٠-٢٩١.
٥٩  المرجع نفسه، ص٢٨٨.
٦٠  العقل في الفن Reason in Art، ص٢٠٧.
٦١  فلسفة الفن، ٢٣٠، قارن أيضًا ص٢٧٨-٢٧٩.
٦٢  انظر من قبل ص٦٢٢.
٦٣  انظر من قبل ص١٢١.
٦٤  انظر من قبل ص٦١٣-٦١٤.
٦٥  انظر من قبل ص٦١٠.
٦٦  أنت، والفن، والنقاد، ص١٢١.
٦٧  فلسفة الفن، ص٣٠٥.
٦٨  هيل: أفكار جديدة في علم الجمال، ص١٢٥.
٦٩  هيل: «النسبية مرة أخرى Relativism Again» في كتاب فيفاس وكريجر المشار إليه من قبل، ص٤٤٥.
٧٠  المرجع المذكور من قبل، ص٤٠٣ وما يليها.
٧١  المرجع نفسه، ص٣٨٧؛ قارن أيضًا ص٤٠٧.
٧٢  المرجع نفسه، ص٣٩١-٣٩٢، ٤٣٢–٤٣٤.
٧٣  المرجع نفسه، ص٤٥٨.
٧٤  المرجع نفسه، ص٤٥٨.
٧٥  المرجع نفسه، ص٣٩٧.
٧٦  المرجع نفسه، ص٣٧٤-٣٧٥، ٣٧٧، ٤٠٧.
٧٧  المرجع نفسه، ص٣٧٥.
٧٨  المرجع نفسه، ص٣٧٥-٣٧٦. وقد حذفنا من هذا العرض مقولة «الحكم المنتهي» عند ليويس.
٧٩  المرجع نفسه، ص٤١٠؛ قارن أيضًا ص٤٥٧.
٨٠  المرجع نفسه، ص٣٩٢، هامش رقم ٤.
٨١  المرجع نفسه، ص٤١٠.
٨٢  المرجع نفسه، ص٤١١.
٨٣  المرجع نفسه، ص٤١٦.
٨٤  المرجع نفسه، ص٤٢٠–٤٢٢.
٨٥  «النسبية مرة أخرى Relativism Again» ص٤٤٠.
٨٦  «اتجاهات جديدة New Bearings»، ص١٤٠.
٨٧  برنارد هيل: «أسباب الناقد» (مقال).
The Critic’s Reasons J, of Ae, & Art. Cr., XVI (1957), p. 178.
٨٨  برنارد هيل «النزعة المطلقة عند ليفيس» (مقال).
“The Absolutism of F. R Leavis,” Ibid., XIII (1954), pp. 249–255.
٨٩  «اتجاهات جديدة»، ص١٣٥-١٣٦، قارن أيضًا «النسبية مرة أخرى»، ص٤٤٣.
٩٠  المرجع نفسه، ص١٣٧.
٩١  المرجع نفسه، ص٩٢.
٩٢  المرجع نفسه، ص٩٣.
٩٣  المرجع نفسه، ص١٤٧.
٩٤  المرجع نفسه، ص١٤٣.
٩٥  المرجع نفسه، ص١٤٣.
٩٦  ديفد هيوم: «في معيار الذوق On the Standard of Taste»
في كتاب: دراسات أخلاقية وسياسية وأدبية، الجزء الأول، ص٢٧٩.
Essays, Moral, Political, Literary, ed. Green & Grose (London, Longmans, Green, 1898).
٩٧  رونالد جري: قلعة كافكا، ص١٠-١١.
Ronald Gray, Kafka’s Castle (Cambridge U.P., 1956).
٩٨  قارن جورج بوس: «مرشد للنقاد» ص٤٤ George Boas, A Primer for Critics (Johns Hopkins Press, 1937)؛ و«بيجاسوس بلا أجنحة» ص٦٣ Wingless Pegasus.
ومع ذلك فإن بوس يستخدم هذا اللفظ للدلالة على كلٍّ من القيم الجمالية والقيم الخارجية للعمل.
٩٩  ب. ﻫ.، هاجين: الموسيقى في الأمة.
B. H. Haggin, Music in the Nation (N. Y., William Sloane Associates, 1949) ص١٥٧.
١٠٠  الإحساس بالجمال، ص٣٥.
١٠١  «في النقد On Criticism» في المؤلفات الكاملة لوليام هازليت.
“The Complete Works of William Hazlitt,” ed. Hove (London, J. M. Dent, 1931), VIII, pp. 222-223.
١٠٢  المرجع نفسه، ص٤٣٣.
١٠٣  المرجع نفسه، ٤٣٣.
١٠٤  فلسفة الفن، ص٢٨٧.
١٠٥  قارن ص٦١٤.
١٠٦  المرجع المذكور من قبل، ص٤١١.
١٠٧  المرجع نفسه، ص٤١١-٤١٢.
١٠٨  المرجع المذكور من قبل، ص٤٦٠.
١٠٩  المرجع المذكور من قبل، ص٤٦٧.
١١٠  «النسبية مرة أخرى»، ص٤٤٥.
١١١  قصيدة للشاعر الكبير ملتون (١٦٠٨–١٦٧٤م)، كتبها في عام ١٦٣٧م. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤