الفصل السابع عشر

الوظيفة التربوية للنقد

يصف الناقد أ. س. برادلي، في بداية كتابه الذي أصبح الآن كلاسيكيًّا: «التراجيديا الشيكسبيرية»، أهداف نقده، على نحو يتضح منه أن برادلي ليس ناقدًا فحسب، بل هو أيضًا ناقد يهتم اهتمامًا كبيرًا بمناهج النقد ووظائفه، وهو إلى هذا الحد يعد فيلسوفًا للنقد الفني.

وهناك هدف واحد يضعه برادلي قبل أي هدف آخر:

«لن أقول شيئًا عن مكانة شيكسبير في تاريخ الأدب الإنجليزي، أو تاريخ الدراما بوجه عام … أما المشكلات المتعلقة بحياته أو شخصيته، وتطور عبقريته وفنه، وأصالة أعماله المتباينة ومصادرها ونصوصها وعلاقاتها المتبادلة، فلن أتعرض لها، وإذا عالجتها فسوف يكون ذلك في نظرة سريعة. … فهدفنا الوحيد سيكون ما … يمكن أن يُسمَّى تذوقًا دراميًّا، أي تعميق فهم هذه الأعمال، بوصفها دراما، وزيادة الاستمتاع بها.»١

وهكذا يتجنب برادلي مختلف أنواع النقد السياقي؛ فمعظم دراساته للتراجيديات من قبيل النقد الباطن، وهذا يؤدي، كما يعترف هو ذاته، إلى تحليل المسرحيات. غير أن من الممكن تبرير التحليل عن طريق هدف النقد بدوره:

«إن العمليات التشريحية … لا يُقصد منها إلا أن تكون وسيلة لغاية، وعندما تُتم عملها (وهو لا يتم إلا مؤقتًا) فإنها تُخلي مكانها للغاية، التي هي نفس القراءة الواسعة الأفق … للدراما، التي بدأت منها هذه العمليات، ولكن هذه القراءة تصبح الآن ثرية بفضل نواتج التحليل، وبالتالي فإنها تغدو أكثر إرضاء وإمتاعًا بكثير.»٢

إن النقد الفني يكون تارة تفسيريًّا وتارة أخرى تقديريًّا، وهذه الوظائف النقدية هامة في ذاتها، ولكن السبب الرئيسي للتحليل والتقدير، في جميع مجالات القيمة، هو إثراء تجربتنا للقيمة في المستقبل؛ وعلى ذلك فإن الوظيفة الرئيسية للنقد الفني هي جعل التجربة الجمالية أفضل مما هي بدونه، أو جعلها «أكثر إرضاءً وإمتاعًا»، على حد تعبير برادلي. فالمبرر النهائي للنقد، بل أفضل مبرر ممكن له، هو المتعة الإنسانية المكتسبة.

ويؤدي النقد إلى جعل التجربة الجمالية أفضل عن طريق جعله الإدراك الجمالي أقدر على التمييز. فهو يتيح. لنا أن نرى ما لم نكن نراه من قبل. وبفضله نستطيع أن نميز كل ما يتضمنه العمل بوفرة، وبالتالي أن نستجيب له. فالنقد يوجه انتباهنا إلى تألق المادة الحسية أو سحرها، وإلى عمق الشكل والطريقة التي يؤدي بها بناؤه الشكلي إلى توحيد العمل، وإلى معنى الرموز، والروح التعبيرية للعمل بأسره. والنقد يعطينا إحساسًا «بالمقصد الجمالي» للعمل، بحيث لا نعود نطلب منه مطالب غير مشروعة. كما أن النقد ينمي «التعاطف» عن طريق إزالة التحيزات والغوامض التي تقف في طريق التذوق، وهو يفسر المواضعات الفنية والمعتقدات الاجتماعية السائدة في عصر الفنان، وهو يربط بين العمل الفني وبين العالم الكبير، ويبين مدى ارتباطه بتجربتنا الخاصة.

على هذا النحو، وعلى أنحاء كثيرة أخرى، يكون النقد «تعليميًّا»؛ فهو يعلمنا، ولكنه لا يقتصر على تلقيننا معرفة فحسب، بل إنه يوجه الإدراك، والفكر، والشعور، والخيال، على نحو مباشر أو غير مباشر، بحيث تستطيع كلها أن تتجه نحو العمل الفني بتعاطف وفهم.

وهكذا فإن الناقد يؤدي وظيفة لا غناء عنها في حياتنا الجمالية. فهو العراف والمرشد. ولقد قيل إن الفنان العظيم لا بد أن يخلق جمهورًا لأعماله، ولكنه نادرًا ما يفعل ذلك بدون الناقد العظيم. فالناقد يوجه الإدراك نحو قيم الفن الجديد غير المألوف وبذلك يشجع على قبوله. وقد كان النشاط التعليمي للنقاد هو السبب الرئيسي في بلوغ كثير من الفنانين شهرتهم؛ فالناقد رسكين أدى هذه الخدمة للمصور تيرنر، وأولين داونز Olin Downes أداها للمؤلف الموسيقي سيبيليوس، والناقد الناشر روبرت بريدجز للشاعر ج. م. هوبكنز. ولعل أفضل مثل على ما نقول هو ذلك الذي درسناه من قبل، أعني ما أنجزه روجر فراي بتعليمه جيلًا كاملًا كيف يمكن تذوق التصوير والنحت في فترة ما بعد الانطباعية.

•••

لقد درسنا في الفصل السابق بعض الأنواع الرئيسية للنقد، وكل منها يمكن أن يكون تعليميًّا على أنحاء متباينة؛ وأود الآن أن أوضح ذلك بالنسبة إلى كل نوع من النقد على التوالي.

إن النقد بالقواعد يبدأ بتصنيف العمل إلى نمط معين، وهذا وحده يمكن أن يكون تعليميًّا، من الوجهة الجمالية، فوصف قصيدة بأنها «غنائية» أو «رثائية»، يعطينا بالفعل إحساسًا بمقصدها الجمالي، ويساعدنا على تهيئة أنفسنا على النحو الملائم ونحن نبدأ القراءة، فعندئذٍ نتوقع «روحًا» تعبيرية معينة، وإذا كان العمل خاضعًا إلى حد بعيد للتقاليد السائدة، فإننا نتمكن عندئذٍ من فهم مواضعاته الأسلوبية والشكلية، وفضلًا عن ذلك فإن تطبيق القواعد على العمل يؤدي إلى إبراز التفاصيل الهامة فيه، مما يترتب عليه أن يصبح إدراكنا أقدر على التمييز. وبعد ذلك فإن التقدير الذي ينجم عن الحكم بواسطة القواعد له نفس الوظيفة النقدية التي لكل تقدير، ألا وهي أنه ينبئنا بنوع ودرجة القيمة التي يمكننا أن نتوقع الاهتداء إليها في العمل. وهذا بدوره يؤثر في «تهيؤنا» الجمالي؛ فالنقد بالقواعد ينبئنا، في نفس الآن، بما «يكونه» العمل، و«بما يستحقه العمل».

ولقد رأينا من قبل أن النقد السياقي يبلغ أوج قوته عندما يعالج مادة العمل الفني ورموزه وموضوعه الفكري — وكلها عناصر تتجاوز العمل ذاته وتشير إلى «الحياة» — ويبلغ قمة ضعفه عندما يعالج العناصر الفنية الخالصة، عنصر الوسط التعبيري والقالب أو الشكل. ولو نظرنا إلى النقد السياقي في أحسن حالاته، مثلما ينبغي أن ننظر إلى كل نقد، لكان ذا قيمة لا تُقدَّر، بل إن من المستحيل تمامًا الاستغناء عن النقد السياقي في حالة أعمال معينة تنطوي على إشارات تاريخية أو اجتماعية، أو تكون الرموز فيها غير واضحة؛ فالمعرفة التي يكشفها لنا تساعد على «قراءة» العمل بطريقة منسقة، ولكن لا يمكن أن تصبح المعرفة، أو التفسير، ذات قيمة تعليمية إذا ظلت منفصلة عن التجربة الجمالية، بل إن من الواجب إدماج المعرفة ضمن «العتاد» الذي يواجه به المدرك العمل. «إن المعرفة الجمالية المثلى، والاستجابة الحساسة تمامًا، هي تلك التي تدمج كل النظام الذي تقوم على أساسه بالتمييز بين الأعمال المختلفة، في أعصابنا وعاداتنا»٣ وفضلًا عن ذلك فإن التفسير الذي يساعد الناقد السياقي على بنائه ينبغي أن يترجم إلى لغة إدراكنا الحسي، فعلى المشاهد الجمالي أن «يبني» العمل وهو يتكشف أمامه — أي أن يميز ما له أهمية أساسية مما له أهمية ثانوية فحسب، ويقرر أي الأجزاء تترابط فيما بينها، وأين تقع نقطة الذروة في العمل … إلخ، وبطبيعة الحال فإن الفنان يقدم إلى المشاهد إرشادات، غير أن العمل الواحد يمكن أن يفسر على أنحاء متباينة، كما رأينا من قبل أكثر من مرة، فليس في استطاعة الفنان أن يملي على نحو صارم الطريقة التي يمكن أن يفهم بها العمل، وعلى عاتق المشاهد أو المستمع تقع آخر الأمر مهمة الإدراك الإيجابي الخلاق. أما الناقد السياقي فلا يستطيع أن يقوم بها نيابة عنه، وإن كان يستطيع أن يقوم بالكثير في هذا السبيل.

أما الدور الذي يسهم به الناقد الانطباعي فيختلف عن ذلك كل الاختلاف. فهو يتجنب عمدًا المعرفة السياقية، ولا يقدم تفسيرًا شكليًّا، ومع ذلك فإن نقده بدوره يستطيع أن يكون ذا قيمة تعليمية، ما لم تكن «انطباعاته» بعيدة الصلة تمامًا عن الميدان الجمالي؛ ذلك لأن أحواله النفسية، وصوره الخيالية، وأفكاره، كما يصفها، يمكن أن توحي بما في العمل من ثراء، وهي تنبه، على نحو غير مباشر، إلى سمات العمل التي أثارتها، والانطباعي بدوره يعلمنا عندما يجعلنا بدورنا انطباعيين — إن جاز هذا التعبير — أي عندما يشجعنا على الإقبال على العمل بخيال خصب؛ فهناك عدد كبير منا يشعرون بالرهبة أو الوجل من الأعمال الفنية، ونحن نتردد في أن نفكر أية أفكار أو نشعر بأية انفعالات غير الأفكار والانفعالات «الصحيحة» التي قرأنا أو سمعنا عنها. أما الانطباعي فيستطيع أن يجعل إدراكنا أكثر مرونة، وإبداعية، وحيوية. وأخيرًا فإن أفضل ما يفعله الانطباعي هو أنه ينقل إلينا حماسته للعمل؛ ففي كتابته من الحماسة والسورة ما يفوق كتابة أي نوع آخر من النقاد، وهي تتسم بنفس الطرافة التي يتسم بها أي تعبير شخصي عميق. وكثيرًا ما تبدو الأنواع الأخرى من النقد، بالقياس إليه، جامدة لا حياة فيها؛ فقد تستطيع أنواع النقد الأخرى هذه أن تحلل بدقة وتحكم بإمعان، ولكن العملية بأسرها تبدو آلية سطحية، بحيث إننا نفرغ من قراءة النقد وما زلنا لا نشعر باهتمام لمشاهدة العمل بأنفسنا. أما الانطباعي فكثيرًا ما يثير فينا هذا الاهتمام؛ فبعد أن نقرأه نُقبل على العمل، لا بتعاطف فحسب، بل بتحمس أيضًا، والواقع أن مقياس نجاح الناقد إنما هو تلقائية تجربتنا وما يشيع فيها من استمتاع.

كذلك فإن «القصد النفسي» يُمكِن أن يكون ذا قيمة تعليمية بالنسبة إلى بعض الأعمال الفنية، وإن لم يكن كلها؛ فعندها يتساءل الناقد «ماذا كان الفنان يحاول أن يفعل»، ويكون في استطاعته الإجابة عن هذا السؤال، فإنه يجعلنا أكثر تعاطفًا مع العمل، ويكون للسؤال أهميته الخاصة عندما يكون للعمل أسلوب أو شكل جديد؛ ذلك لأن لدى الناس ميلًا مؤسفًا إلى استبعاد أمثال هذه الأعمال على الفور، فإذا ما أتاح لنا «القصد النفسي» أن نفهم غرض الفنان، تكون هذه هي الخطوة الأولى نحو إدراك أن ما قام به قد يكون عملًا قيمًا. أما «المقصد الجمالي» فهو بطبيعة الحال ذو قيمة تعليمية في كل الأحوال، فلا بد أن يكون لدينا إحساس بما يحاول العمل أن يفعله، إذا ما شئنا أن نتأمله ونستجيب له على النحو الملائم، ولكن لما كان «المقصد الجمالي» يردنا إلى التجربة المباشرة، فإنه ليس مما يسهل وصفه؛ فهو يستعصي عادة على الوصف من خلال لغة التصورات المجردة. ومن هنا كان الناقد يجد لزامًا عليه في كثير من الأحيان أن يلجأ إلى لغة إيحائية مجانية من أجل نقل مقصد الفنان، والواقع أن الكثيرين من أفضل النقاد قد امتازوا بفضل هذا اللون من الكتابة، ولنستمع إلى جيمس أجيت James Agate وهو يقول عن سيمفونية تشايكوفسكي الخامسة إنها «غارقة في انفعال المسكنة»، ثُم يواصل كلامه قائلًا: «غير أني أحب أن أستمع إليها مثلما أحب أن أنظر إلى زهرة «الفوكسيا» وهي غارقة في المطر.»

وأخيرًا فإن النقد الباطن، كالنقد الجديد مثلًا، هو تعليمي بصورة واضحة؛ لأنه يوجه الإدراك نحو ما هو مختفٍ وراء السطح الظاهري للعمل؛ فهو إذ يكشف عن المعاني المتجسدة في العمل، يجعل تجربتنا أعمق، و«أكثر إرضاء»، على حد تعبير برادلي.

•••

وهكذا فإن لكل نوع من النقد قيمة تعليمية، على طريقته الخاصة. ولكن لا بد «للقارئ العادي»، أي الشخص الذي يبدي بعض الاهتمام بالفن، ويود أن يزيد من اهتمامه به — لا بد له من أن يقوم بوظيفته أيضًا؛ فالنقد لا يمكن أبدًا أن يكون في ذاته كافيًا. وهو لا يمكن أن يكون بديلًا عن الشعور الجمالي المباشر، ولو نسينا هذا لكان في ذلك تشهير بالنقد وحرمان لأنفسنا من المتعة؛ ففي بعض الأحيان يكتسب الناس معرفة من الناقد، ولكنهم يخفقون في إدماج هذه المعرفة في تذوقهم للعمل، ويكتفون بأن تكون لهم القدرة على الكلام عن العمل بطريقة مقبولة، وفي أحيان أخرى يقرءون وصف الناقد لتجربته الخاصة، ولكنهم لا يحاولون أن يجربوا العمل بأنفسهم، والواقع أن النقد، آخر الأمر، لا يكون ذا قيمة تعليمية إلا في نتاجه النهائي — وهو التجربة الجمالية كما تمر بها، وعلى ذلك فإن النقد لا تكون له قيمة تعليمية إلا إذا بذل المدرك جهدًا من الانتباه والتعاطف الجمالي.

وربما كان ت. س. إليوت أشهر ناقد في عصرنا الحاضر، غير أنه يتحدث في الفقرة الآتية باسم «القارئ العادي» المستنير، فيقول:

«وإذن فالناقد الذي أدين له بأعظم الأفضال هو ذلك الذي يستطيع أن يجعلني أنظر إلى شيء لم أنظر إليه أبدًا من قبل، أو نظرت إليه بعينين أعماهما التعصب فحسب، وهو الذي يضعني أمام هذا الشيء وجهًا لوجه، ثم يتركني معه وحدي، ومنذ هذه اللحظة ينبغي عليَّ أن أعتمد على حساسيتي وعقلي وقدرتي على الحكمة».٤

وكما أنه لا يوجد نوع واحد من النقاد يحتكر لنفسه القيمة التعليمية، فكذلك لا يوجد أي نوع من النقد يظل معصومًا من خط التعليم الفاسد، فأي منهج نقدي يمكنه، بدلًا من أن يؤدي إلى إرهاق الذوق وحفز الاهتمام، أن يؤدي إلى النتيجة العكسية.

فالنقد بواسطة القواعد يمكنه أن يؤدي إلى طمس فردانية العمل الفني على أنحاء شتى. فعن طريق قيام هذا النقد بتقسيم العمل إلى أنماط، يؤكد أوجه التشابه، لا أوجه الاختلاف، بين العمل وبين الأعمال الأخرى، وعندئذٍ يكون هناك خطر حقيقي من أن يتغافل الناقد عما هو مميز لهذا العمل بعينه، ومن ثَم يدرك قارئه العمل بطريقة نمطية، وتكون استجاباته هي الاستجابات الآلية التي تكونت لديه بفضل أعمال أخرى تنتمي إلى هذا النمط، ولا يدرك العمل بوصفه موضوعًا جديدًا فريدًا، وفضلًا عن ذلك فإن تطبيق القواعد يؤدي إلى إعطاء أجزاء العمل أهمية تفوق أهمية الكل، وما لم يعوض حكم الناقد بالانتباه إلى الكل، فإنه يرتكب عندئذٍ خطأ «القتل من أجل التشريح». ويعجز عن أن يبين كيف تسهم الأجزاء فيما يسميه بوب «بالنتيجة الكاملة للكل». أما قارئه فتكون لديه معرفة بالتفاصيل، وتقديرات لكل منها، غير أن التذوق الجمالي يقتضي قبل كل شيء إحساسًا بالكل، وعلى هذا النحو وحده يستطيع المدرك أن يهيئ نفسه للاستجابة على النحو الصحيح، وعلى هذا النحو وحده يستطيع تفسير كل جزء تفصيلي، وإعطاءه مكانه في كلٍّ مترابط.

أما الخطر الناجم عن الالتجاء إلى النقد السياقي فهو خطر واضح، تدل عليه بصورة جلية كتابات كثير من السياقيين. هذا الخطر هو، بالطبع، أن الناقد يقدم إلينا معرفة عن العمل، ولا شيء غير ذلك، وأمثال هذا الناقد يعجزون عن بيان الطريقة التي تكون بها هذه المعرفة ذات صلة بتفسير العمل وتذوقه — بل إنه ليبدو أحيانًا أنهم لا يحفلون بذلك، وعندما يلم القارئ غير المنتبه بالوقائع السياقية يعتقد أن في هذا الكفاية، ولكنه قد يستخدم العمل عندئذٍ لا لشيء إلا لاستخلاص عناصر تكون أمثلة لهذه الوقائع — كأن يقول: «هذا هو الموضع الذي انتهت فيه قصة غرام المؤلف الموسيقي نهاية حزينة»، وما إلى ذلك، ولما كان كثير من الوقائع السياقية ليست له أية صلة بالناحية الجمالية، فإن مثل هذا القارئ كثيرًا ما يقضي وقته باحثًا في العمل عن أشياء لا وجود لها فيه؛ فالنقد السياقي يكون له تأثير عميق مضاد للتعليم الصحيح، عندما يسفر عن صرف الانتباه عن الموضوع الفني إلى سياقه.

كذلك فإن الناقد الانطباعي قد يعمل بدوره على صرف انتباهنا عن العمل الفني، فإذا كانت كتابته مثيرة أو جذابة، كما هي بالفعل في كثير من الأحيان، فإن القارئ ينظر إلى النقد على أنه غاية في ذاته، ويغيب عن عينيه العمل، ولو كان النقد مجرد تحليق جامح للخيال، كما هو في بعض الأحيان، فإن القارئ لا يتعلم منه شيئًا عن السمات الباطنة للعمل. وفضلًا عن ذلك، فحتى عندما يكون النقد ذا صلة بالناحية الجمالية، فإنه يكون عادة منحازًا إلى جانب واحد. فالانطباعي يمتاز بقدرة هائلة على تقديم وصف مثير للطابع العام للعمل، أو «مذاقه». غير أنه يكون عادة ضعيفًا في التفاصيل، ومن هنا فإن النقد لا يزيد من قدرتنا على التمييز؛ فالشخص الذي يقع تحت تأثير ناقد انطباعي، كثيرًا ما يستشعر حالة عامة غامضة، إزاء العمل، غير أنه يعجز عن إدراك التفاصيل التي هي كفيلة بأن تجعل انفعالاته أكثر تنوعًا وتخصصًا.

و«المقصد النفسي» هو جزء من سياق الموضوع الفي، ومن هنا فإن هذا النوع من النقد يتعرض لنفس الأخطار التي لاحظناها الآن في صدد النقد السياقي بوجه عام.

أما النقد الباطن فقد يبدو أنه لا بد أن يكون ذا قيمة تعليمية؛ ذلك لأنه يلتزم حدود العمل، ويجعل العمل أقوى دلالة بالنسبة إلينا، ومع ذلك فحتى عندما يظل تحليله للمعنى يأسره منحصرًا «في داخل» العمل — وهو ما لا يحدث في كل الأحوال، كما نجد في حركة «النقد الجديد»، فإن من الممكن أن يكون الأثر التعليمي لهذا النقد ضارة، وإن كان ذلك بطريقة خفية إلى حد ما.

ففي استطاعة الناقد البارع، الواسع الخيال، أن يجد — كما رأينا من قبل — كثيرًا من الإيحاءات المتباينة للمعنى في داخل العمل. ويمكن للناقد الخبير أن يبين على أي نحو ترجع جذور كل من هذه الإيحاءات إلى ألفاظ القصيدة أو الدراما. ومع ذلك فإن عرضه التفصيلي للمعنى قد يكون أعقد من أن يساعد على الإدراك الجمالي، إذ يعجز المدرك عن استيعاب كل هذه المعاني في تجربته، وهنا أيضًا يتعين علينا أن نتذكر أن التجربة الجمالية تختلف اختلافًا ملحوظًا عن التجربة النقدية، ففي استطاعتنا أن نفهم كلًّا من المعاني التي يعرضها الناقد واحدًا بعد الآخر. غير أن هذه المعاني لا يمكن إدماجها في كل الأحوال في الموضوع الجمالي؛ ذلك لأن إيقاع الإدراك الجمالي سريع عاجل، في مقابل السير البطيء للتحليل، ولو حاول القارئ تمييز كل من المعاني التي يكشف عنها الناقد، لأصبح الإيقاع أكثر بطئًا، أو لتوقف تمامًا. وكما يقول رانسوم، في نقده لواحد من «النقاد الجدد». فإن «حركة القصيدة» لا بد أن «تزداد سرعة»٥ بالنسبة إلى ما يسمح لها الناقد بأن تكون عليه. أما العمل الذي يثقله قدر كبير من التفسير فإنه يغدو أعقد وأثقل من أن يدرك، وبالتالي يعجز عن إحداث تأثير مباشر فيمن يشاهده.

فلنتأمل حالة الطالب الذي يدرس مقررًا في الأدب، يستخدم فيه الأستاذ والكتاب المقرر مناهج حركة النقد الجديد، فبعد وقت قصير يستطيع أن يدرك مدى سطحية قراءته السابقة للقصيدة أو الرواية؛ فقد فاتته المستويات الأعمق للمعنى، وتلك الأبعاد «الزائدة» التي يجدها النقد الجديد في الأدب على الدوام. مع ذلك فإن عدم إدراكه لمدى تعقد العمل عندما قرأه لأول مرة، هو بعينه الذي أتاح له أن يدركه بوصفه وحدة عينية، وأن يشعر إلى حد ما بما فيه من إثارة للعاطفة والخيال. أما بعد أن يدرس الكتابات النقدية المتعلقة بالعمل، فإن معلوماته تغدو أفضل بكثير مما كانت عليه من قبل، ومع ذلك فإن كل المعاني التي تعلَّمها لا يمكن أن تُدمج في الكيان الجمالي للعمل، ويترتب على ذلك أن تغدو قراءته للرواية، في معظم الأحوال، عملية تعرُّفٍ على المعاني، واحدًا تلو الآخر، وبذلك يفقد العمل حيويته وإثارته.

وهكذا فإنه لا يكفي أن يكون النقد ذا صلة بالناحية الجمالية، بمعنى أن يلتزم النقد ما هو موجود في العمل، بل ينبغي أيضًا، لكي يكون ذا قيمة تعليمية، أن تكون له مثل هذه الصلة، بمعنى إمكان اندماج ما نتعلمه في التجربة الجمالية وتعميقه لها؛ فالنقد الذي يشتت الانتباه الجمالي ويحوله إلى تدريب على المعرفة، أبعد ما يكون عن القيمة التعليمية.

ولا أكاد أجدني في حاجة إلى القول إن ما سبق لا يترتب عليه ضرورة عدم وجود أي إيضاح للمعاني؛ فمن الحُمق أن يعتقد المرء ذلك، لأن هذا الاعتقاد يحرمنا من جميع المكاسب التعليمية للنقد الباطن، بل إن ما نستخلصه مما سبق هو أن الناقد ينبغي أن يضع في اعتباره على الدوام التجربة الجمالية التي سيمر بها القارئ، فعلى الناقد أن يتذكر الفوارق الواضحة بين التحليل وبين الإدراك الجمالي، وبالتالي فإن عليه أن يتذكر حاجات الإدراك الجمالي وحدوده، ومن ثَم فإن عليه هو ذاته أن يضع حدودًا لتفسيره، وعليه أن يحاول جعل الإدراك أكثر وعيًا وأعمق معرفة، ولكن من واجبه ألا يثقله إلى حد لا يعود معه قادرًا على أداء وظيفته على الإطلاق.

ونستطيع أن نعمم هذا الاستنتاج بحيث ينطبق على جميع أنواع النقد؛ فقد وجدنا أن النقد يمكن أن يكون له تأثير تعليمي مضاد على أنحاء متباينة، وليس لهذا الأمر علاج مضمون. غير أن الأرجح أن يكون النقد تعليميًّا عندما يسعى الناقد دائمًا إلى احترام مسئوليته نحو تجربة قارئه الجمالية في المستقبل، وجميع أخطاء النقد التي ناقشناها من قبل ناتجة عن إغفال هذه المسألة: إذ يصبح الناقد مستغرقًا في ذاته، أو يفتتن بمناهجه، أو يكون في واقع الأمر أكثر اهتمامًا بإظهار معلوماته، منه بالاستمتاع بالفن، والواقع أن الناقد لا يمكنه أن يساعد المشاهد ويرشده إلا إذا وضع في اعتباره طبيعة الوعي الجمالي، وعلى أي نحو يسير، وما الذي يسعى إليه. فأيًّا كانت مناهج النقد، فإن عليه آخر الأمر أن يعمل على «تكوين حالة كاملة من الشعور والوعي في العقل المتلقي»٦؛ حالة تتيح للمدرك أن يستجيب للعمل الفني بدقة وعمق.

•••

إن للتجربة الأسبقية من حيث الأهمية والقيمة؛ فهي هدف النقد أو غايته، وما النقد إلا وسيلة أو عامل مساعد، لا غاية في ذاته.

ويترتب على ذلك بعض المبادئ التوجيهية الأخرى بالنسبة إلى النقد.

فلا بد أن يعترف الناقد دائمًا بأن تفسيره وحكمه التقويمي ينبغي أن يختبر في التجربة الجمالية؛ فهُما لا يستطيعان أن يثبتا نفسَيهما، وإنما يتم إثباتهما عندما يمكن استخدام التفسير بطريقة مثمرة في داخل الوعي الجمالي، وعندما يتمشى الحكم مع القيمة التي يشعر بها الناس بالفعل عندما يصادفون العمل. ومن هنا فليس ثمة مجال للأحكام القاطعة أو المعصومة من الخطأ في النقد الفني، فالنقد فرض، أو ينبغي أن يكون فرضًا، لا حكمًا قطعيًّا.

ولما كان النقد فرضًا، فإنه مُعرَّض لإعادة النظر على الدوام، فلا بد أن يرجع الناقد على الدوام — شأنه شأننا جميعًا — إلى العمل ذاته، ويكاد يكون من المؤكد أنه سيغير رأيه عندما يميز فيه تفاصيل لم يرها من قبل، ويكتسب استبصارات جديدة، ما لم يكن متمسكًا بتفسيره الأثير لديه بطريقة متحجرة. ولو رجعت إلى الفقرة التي اقتبسناها من برادلي عند بداية هذا الفصل، لوجدته يقول عن التحليل النقدي إنه «لا يمكن أن ينتهي إلا بصورة مؤقتة». أما الناقد الذي ينسى ذلك، فإنه يدفع ثمن نقده الضيق الأفق، القصير النظر.

وفضلًا عن ذلك، فإن من واجب الناقد أن يختار مناهجه ومعايير القيمة لديه في ضوء التجربة الجمالية، وعليه أن يكيف الطرق التي يتبعها وفقًا لطبيعة الموضوع الجمالي. فكثيرًا ما تكون المعايير القديمة غير صالحة للحكم على أعمال جديدة ومختلفة. وعلى الناقد، بوصفه مدركًا جماليًّا، أن يبذل كل جهد لإدراك ما هو قيم في العمل، كما أن عليه، بوصفه ناقدًا، أن يختار — أو يصطنع في كثير من الأحيان — أساليب للتحليل تفسر قيمة العمل، ومن هنا كان لا بد أن تكون مناهج الناقد ومعاييره مرنة، لا جامدة، ولا بد أن تكون متنوعة، لا محدودة، حتى تستطيع أن تستوعب التباين الهائل للأعمال الفنية.

كذلك فإن الناقد الذي يعترف بثراء الأعمال الفنية، لا بد أن يعترف أيضًا بأن هناك تفسيرات كثيرة مشروعة للعمل، لا تفسير واحد. وعلى ذلك فإن هناك أحكام قيمة صحيحة متعددة، لا حكم واحد. فالمشاهدون المختلفون يجدون في العمل قيمًا مختلفة، والهدف في كل الحالات هو التجربة الجمالية. ولا بد من احترام أي تفسير له ارتباط بالناحية الجمالية، ويتصف بالتماسك، ويشجع على التجربة الجمالية الأصيلة. ولهذا السبب بدوره لم يكن هناك مبرر للنزعة القطعية في النقد.

غير أن هناك سببًا آخر، هو السبب النهائي، للتواضع في النقد؛ فللأعمال الفنية ثراء لا يُستنفد، وليس ثمة حد لما تستطيع هذه الأعمال تقديمه إلى أولئك الذين يقبلون عليها بحب وتعاطف منزه. فليس في وسع أي تفسير واحد أن يستخلص القيمة الجمالية من العمل، ولا حتى تلك القيمة الجزئية التي يتصف بها العمل على أساس هذا التفسير وحده كما لا يمكن لعدد كبير من التفسيرات أن يلخص جميع القيم التي قد يكشف عنها العمل، ولا يكفي لذلك أي قدر من الكلام النقدي؛ فالناقد الذي يحترم الفردانية النفيسة للعمل يعلم أنه ما زال هناك المزيد مما ينبغي قوله، ويعترف بذلك راضيًا، وبالفعل سيكون هناك دائمًا المزيد مما ينبغي قوله، ومهما بلغت كثرة ما نقوله عن العمل الفني، فإنه، عند ذلك الحد الفرضي النهائي للانتباه أو الاهتمام، سيظل الشيء ذاته موجودًا هناك على الدوام، دون أن يُمس».٧

المراجع

إليوت، ت. س.: «الحدود النهائية للنقد» في كتاب «في الشعر والشعراء»، ص١٠٣–١١٨.

Eliot, T. S., “The Frontiers of Criticism,” in “On Poetry and Poets” (London, Faber, and Faber, 1954).

فرنش (الناشر: الموسيقى والنقد).

French, ed., “Music and Criticism”.

أيزنبرج، آرنولد: «الاتصال النقدي» في كتاب «علم الجمال واللغة». الناشر إلتون، ص١٣١–١٤٦.

Isenberg, Arnold, “Critical Communication,” in “Aesthetics and Language,” ed. Elton (N. Y., Philosophical Library, 1954).

رتشاردز: النقد العملي.

Richards, Practical Criticism.

أسئلة

  • (١)

    «التحليل طريقة لا غناء عنها، غير أن تحليل قطعة معينة لا تكون له قيمة لأي شخص لا تكون لديه معرفة سابقة بالعمل.»

    فرجيل طومسون «في الحكم على الموسيقى» في كتاب فرنش المذكور من قبل، ص١١١.

    هل تعتقد أن هذا الرأي صحيح؟ وإن كان كذلك، فلماذا؟

  • (٢)

    على أي الأنحاء يستطيع النقد أن يساعد الفنان الخلاق؟ هل يمكنك الاهتداء إلى أية أمثلة محددة يعترف فيها الفنان بمثل هذه المساعدة؟

  • (٣)

    «إن الناقد الجيد لا يسمح لنقده بأن يكون غريزيًّا أو مستعارًا.»

    بلاكمير «مهمة الناقد» المرجع المذكور من قبل، ص٢٧٧.

    ما الذي تعتقد أن بلاكمير يعنيه بلفظي «غريزي» و«مستعار» هنا؟

١  المرجع المذكور من قبل، ص١.
٢  المرجع نفسه، ص٢.
٣  برول: التحليل الجمالي: ص٥٧-٥٨. Prall, Aesthetic Analysis.
٤  ت. س. إليوت «الحدود النهائية للنقد The Frontiers of Criticism» في كتاب «في الشعر والشعراء» ص١١٧ On Poetry and Poets (London, Faber and Faber, 1957).
٥  «النقد الجديد The New Criticism» ص١٢٣.
٦  رتشاردز: النقد العملي، ص٣٣٣.
٧  بلاكمير: مهمة الناقد A Critic’s Job of Work، ص٢٧٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤