الفصل الثالث

التجربة الجمالية

(١) التجربة الجمالية في الزمان

سنقوم الآن باختبار التجربة الجمالية ككل. وتلك هي التجربة التي نمر بها حين نظل محتفظين بالموقف الجمالي أو الإستطيقي. ذلك لأننا قد اقتصرنا حتى الآن على الكلام عن الموقف الذي نقبل به على الموضوع. وفي هذا الفصل والفصول التالية، سنبحث حالات الاستجابة، الانفعالية والتخيلية والعقلية، التي تدخل في التجربة الكاملة، وطبيعة الموضوع الجمالي.

وهناك فارق هائل، كما أوضحنا في الفصل الافتتاحي، بين ممارسة تجربة والتفكير فيها. فعندما نحاول فهم التجربة، يتعين علينا أن نحللها. ومعنى ذلك أن من الواجب عرض سمات التجربة مجزأة، كلمةً كلمة وجملةً جملة، وهي السمات التي تكون كلها متجمعة سويًّا عندما تُمارس التجربة بالفعل. وبعبارة أخرى، فليس في استطاعة المرء أن يقول كل شيء دفعة واحدة، عندما يتحدث عن التجربة الجمالية أو أية تجربة أخرى. وعلى ذلك فمن الواجب أن نكمل، في ناحية هامة، ذلك العرض الذي قدمناه للتجربة الجمالية، في الفصل الثاني. ولو لم نفعل ذلك، لما استطاع تحليلنا أن يقدم صورة صادقة للتجربة الجمالية.

•••

لقد أكدت من قبل أن الفرد، في التجربة الجمالية، لا يتطلع قدمًا إلى أي هدف مقبل؛ فالموقف الجمالي ليس كالإدراك العملي، الذي يخدم غرضًا لم يتحقق بعد، سائرًا في اتجاه المستقبل، بل إن الوعي الجمالي يستقر عند الموضوع. وقد يؤدي ذلك بالقارئ إلى الاعتقاد بأن المشاهد الجمالي لا يهتم إلا بالاستمتاع باللحظة الحاضرة، وأنه لا يعبأ بالمستقبل على الإطلاق.

والواقع أن الكثيرين قد أكدوا، في وصفهم للتجربة الجمالية، أهمية الاستغراق فيما يُدرَك «مباشرة». ومن هنا قيل إن هذه التجربة «لا زمانية»، أي إنه ليس ثمة تفكير في الماضي أو المستقبل، وإنما ينصب التفكير على الحاضر فحسب. وقد وجد ذلك تأكيدًا خاصًّا عند أولئك الذين نظروا إلى الإحساس على أنه السبيل الوحيد إلى التجربة الجمالية الحقة. فإذا نظرت إلى لون أو استمتعت إلى صوت ليس له معنى، بل يبدو جميلًا أو يكون له وقع جميل على الآذان فحسب، فلا يمكن أن يكون لديك اهتمام بالمستقبل. ولا يوجد في الموضوع المحسوس ما يؤدي بك إلى التفكير في المستقبل. وهناك فكرة أخرى كان لها تأثيرها القوي في تاريخ التفكير الجمالي، شجعت بدورها على الاعتقاد ﺑ «لا زمانية» الاستمتاع الجمالي، تلك هي التمييز بين «فنون الزمان» و«فنون المكان»؛١ فالأولى هي تلك التي يقع فيها أداء الفنان أو إدراك المشاهد خلال فترة من الزمان، أي أنها فنون الموسيقى والدراما والأدب والرقص، والفن السينمائي في عصرنا القريب. ومن الممكن أن يتفاوت الوقت اللازم لتذوق الأعمال في هذه الفنون من بضعة دقائق مخصصة لقراءة قصيدة، إلى ساعة أو اثنتين عند مشاهدة رواية سينمائية، أو حتى إلى عدد من الأيام في حالة رباعية «خاتم النيبلونجن» لفاجنر (بل إنك إذا لم تكن ممن يحبون فاجنر، بدا لك الوقت الذي يستغرقه هذا العمل أطول حتى من ذلك!) أما الفنون «المكانية» أو «غير الزمانية» فهي التصوير والنحت والعمارة؛ فالأعمال في هذه الفنون لا تمتد خلال الزمان، ومن الممكن تذوقها على الفور، أو «كلها في آن واحد».

وأود الآن أن أنبه إلى أن هذا الرأي على خطأ، وأن التجربة الجمالية تحدث في الزمان وخلال الزمان، مهما كان نوع الموضوع الفني المراد تذوقه، بل إن هذا الطابع «الزماني» للتذوق الفني واحد من أهم صفاته. فلو لم تكن التجربة الجمالية زمانية، لافتقرت إلى كثير من الحيوية والإثارة التي تتصف بها فعلًا.

•••

ولنبدأ فنقول إن كل تجربة تحدث في زمان، وهذا يصدق على كل ضروب التجارب على الإطلاق. وهذا يعني أنه أثناء حدوث الأشياء المختلفة، نشعر أولًا بهذا ثم ذاك، بحيث يحدث في وعينا تعاقب لا يمكن الرجوع فيه. وهكذا نتحدث عن «قبل» و«بعد»، ونحسب علاقاتهما بعضهما ببعض بوسائل كالساعات؛ فالمرء يذهب أولًا إلى الحلاق، ثم إلى مكتب البريد، ثم يتناول طعام الغداء، وبعد ذلك يقرأ الجريدة. وبالمثل يمر وقت خلال الإدراك الجمالي، يمكن قياسه بدوره بالساعة.

غير أن هذا أمر ليست له أهمية كبيرة، بل إن التجربة الجمالية زمنية بمعنًى أهم بكثير؛ فالتجربة العملية هي في معظم الأحوال عارضة عشوائية؛ إذ يحدث شيء ثم يحدث شيء آخر، بطريقة عرضية تفتقر إلى الإحكام. وما الحياة، كما يقول الناس عادة، إلا لحظة تليها لحظة أخرى — فاليوم يبدأ مثلًا بشراء الجريدة، ثم التوجه إلى العمل … إلخ. وعلى الرغم من أننا نشعر. عن وعي بتعاقب الحوادث، فإنا لا نبدي اهتمامًا خاصًّا، ولا نشعر بإثارة، من جراء هذا الوعي. وفي أي عمل بعينه، مثل ارتداء الملابس أو غسل الأطباق، تتعاقب كل لحظة وراء الأخرى ببساطة حتى يتوقف النشاط. ولا يؤدي هذا النشاط إلى إثارة مزيد من الاهتمام وهو يمضي قدمًا، وحين تأتي اللحظة الأخيرة، لا تكون لها أهمية خاصة، فيما عدا ما قد يكون لها من أهمية من حيث إنها تدل على انتهاء العمل والفراغ منه.

ولكن هناك حالات معينة للتجربة العملية يكون لدينا فيها إحساس أقوى بكثير بالزمان. وأنا لا أعي بذلك إحساسًا بالضيق أو الملل، عندما يكون كل ما نريده هو أن تنقضي فترة زمنية معينة، وإنما أعني تجربة يكون فيها اهتمامنا مشدودًا في كل لحظة، بل تؤدي فيها كل لحظة إلى خلق اهتمام متطلع إلى المستقبل باللحظة التالية، ويربط بين كل اللحظات معًا اهتمام يتزايد على الدوام «بذروة» التجربة، فعندئذٍ نشعر بأن كل لحظة مرتبطة باللحظة التالية ارتباطًا لا ينفصم، ويبدو كأن كل واحدة تقتضي التالية لها وتشير إليها، وهو ما لا يحدث حين تكون التجربة عشوائية مفككة. ولا تكون نهاية التجربة الوثيقة الإحكام مجرد نقطة ختامية في الزمان، بل تكون لها دلالة غير عادية؛ إذ إنها هي قمة الاهتمام الذي ظل ينمو طوال التجربة، وهي تُرضي التوقعات التي ظلت تتراكم خلال اللحظات السابقة. وهكذا فإنها تلخص كل ما حدث من قبل، وتوحد التجربة وتختمها.

والأرجح أن الطالب سيفهم هذه المسألة على نحو أفضل لو ضربت له بعض الأمثلة؛ فمباراة الشطرنج التي يجيد فيها المرء اللعب، والتي تؤلف كل نقلة فيها نسيجًا محكمًا يرمي إلى دفع الخصم إلى مركز لا يمكن الدفاع عنه، وتُبنى فيها كل نقلة عن الأخرى، وتتزايد النقلات اقترابًا من النجاح كلما أدت كل نقلة إلى تضييق المجال الذي يستطيع فيه الخصم أن يتحرك بحرية، تؤدي آخر الأمر إلى النقلة الأخيرة التي تحسم المباراة. والطبيب، الذي يعالج مرضًا خطيرًا، ويتعين عليه أن يجابه أية مضاعفات في المرض، أو أي ضعف أو حالة يأس تنتاب المريض، يعمل في الوقت ذاته على تقديم وسائل للشفاء، بحيث يؤدي ذلك كله إلى إعداد المريض للحظة الحرجة. وعندما تمر هذه اللحظة الحرجة بنجاح تكون تتويجًا لكل جهود الطبيب وتوقعاته.

•••

غير أن أفضل الأمثلة هي تلك التي تتجلى في تذوقنا للفنون؛ ذلك لأن لحظات التجربة تترابط في الاستمتاع الجمالي ترابطًا أحكم مما يحدث لها في أي نوع آخر من التجربة. وما ندركه في اللحظة «الحاضرة» يكون مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بما سبقه، ويثير توقعًا لما سيتلوه.

وهكذا يقول الفيلسوف اليوناني أرسطو عن عقدة الدراما إن «لها بداية ووسطًا ونهاية».٢ وهذا لا يعني بالطبع مجرد كون المسرحية تبدأ في نقطة زمنية معينة وتنتهي في وقت لاحق، بل إن أرسطو يقول إن حوادث المسرحية يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا ضروريًّا؛ فهي لا تتعاقب خبط عشواء، وإنما يؤدي أحدها سببًا إلى إحداث الآخر، ثم إلى إحداث غيره، وأخيرًا تؤدي الحوادث كلها معًا إلى إحداث الذروة أو الخاتمة. وعلى هذا النحو يمكن أن تكشف دراما مثل ماكبث عن دلالة الحياة الكاملة لإنسان وقيمتها. أما الحياة ذاتها فنادرًا ما تفعل ذلك؛ ذلك لأن الأحداث البارزة في تاريخ حياة إنسان معين تحدث خلال فترة تبلغ سنوات متعددة، وتتخللها حوادث لا أهمية لها ولا ارتباط بينها وبين تلك الأحداث الرئيسية. أما الدراما فتقوم بحذف هذه الحوادث التافهة، ولا تعرض إلا الأحداث الحاسمة وعلاقاتها السبية المتبادلة، بطريقة مركزة محكمة.

ففي «بداية» التراجيديا يُقدَّم أبطال المسرحية وتُعرض شخصية كل منهم ويتبين أن لهم رغبات وأماني معينة، وكذلك سمات كالعناد والشجاعة. ونتيجة لشخصيتهم هذه، فإنهم يؤدون أفعالًا معينة لها نتائج تهددهم هم أنفسهم والآخرين بالخطر، وينمو إحساس بالخطر الداهم، ببطء في البداية، ثم يزداد سرعة فيما بعد. وتصبح سعادتهم، بل حياتهم ذاتها، مهددة. وعبثًا يحاول البطل التراجيدي أن يتجنب الكارثة؛ فالملك أوديب، الذي انتشر الوباء في بلده، يسعى إلى تحرير رعاياه من اللعنة التي حلت عليهم. غير أن سلسلة الحوادث التي صنعت بإحكام لا يمكن أن تنكسر، وهكذا فإن أفعاله تؤدي بطريقة لا رجعة فيها إلى مصيره المحتوم، وتحدث الذروة «بحتمية تراجيدية»، فتصل بانفعالات كل من يعنيهم الأمر وأقدارهم إلى قمتها، وتقرر مصائرهم.

فعندما نشاهد مسرحية كهذه أو نقرؤها، يكون الطابع الزمني لتجربتنا واضحًا كل الوضوح؛ ففي خلال الجزء «الأوسط» من المسرحية، نشعر شعورًا واضحًا بالحوادث التي أدت إلى هذه النقطة، ونتطلع قدمًا إلى أحداث الذروة، ونحس بتوتر. وبرغم أن المسألة ما زالت مشكوكًا فيها، فإنها تشير مقدمًا إلى اللحظة الحاسمة. وأخيرًا تؤدي الذروة إلى جذب كل انتباهنا وتوقعنا، وتعمل «الخاتمة» على توحيد المسرحية إذ تتيح لنا فهم دلالة كل ما سبقها. كذلك فإن توترنا الانفعالي يخف. ولهذين السببين معًا، كان هناك إحساس بتكامل التجربة بأسرها وتحقيقها هدفها.

ونستطيع أن نضرب لذلك مثلًا آخر أقل ترفُّعًا من التراجيديا اليونانية؛ فمن الممكن أن تؤدي أية رواية بوليسية تقريبًا إلى تحقيق هذا الغرض؛ فهذا أيضًا ينبغي أن نظل نتذكر كل المعالم المتعلقة بالموضوع أثناء سير القصة — كالقول إن مجوهرات السيدة الثرية شوهدت لآخر مرة يوم الثلاثاء … إلخ، وحين يزداد معدل سرعة الحوادث، نتطلع إلى الحل الذي يأتي في الذروة. وعندما تكون القصة جيدة، فإن جميع الحوادث السابقة تحتل عندئذٍ مكانها داخل المجموع، وتربط الخيوط المفككة بإحكام، ويتبدد السر. وهنا أيضًا نشعر بأن تجربتنا قد «سارت في مجراها حتى الاكتمال»،٣ وأنها أصبحت الآن موحدة متكاملة. فليس هذا تعاقبًا عشوائيًّا من الحوادث غير المترابطة، كما يحدث خلال قدر كبير من حياتنا العادية، وإنما هو، كما يقول ديوي، «تجربة خاصة»،٤ تنفرد عن غيرها بما فيها من وحدة وحيوية.

•••

لقد ذكرت في الفصل الثاني أن الموقف الجمالي، على خلاف الموقف العملي، لا يستبق التحقيق المقبل لغرض ما. فهل يعد ذلك متناقضًا مع ما قلته الآن؟ من الواضح أنه ليس ثمة تناقض؛ ففي خلال التجربة الجمالية يستبق المدرك بالفعل ما سيأتي فيما بعد، أي ذروة الدراما، بل إن توقعه، كما رأينا، يكون أشد إلحاحًا وحيوية مما يحدث في معظم التجارب غير الجمالية. ومع ذلك فإن المسألة الحاسمة هي أن «المستقبل» الذي يتوقعه إنما هو جزء من التجربة التي تمارس الشيء إلا لأجل الممارسة فحسب؛ فهو ليس شيئًا سيتحقق نتيجة للتجربة. فالمرء يتطلع قدمًا إلى تلك اللحظة الواقعة في داخل التجربة الجمالية، والتي ستكتمل بها تجربته وتتحقق. واهتمامه بالموضوع يظل منزهًا عن الغرض في كل الأحوال فبداية الموضوع ونهايته تضعان حدودًا للتجربة الجمالية. وفي داخل هذه الحدود يكون هناك تذكر وتوقع. ولا يكون استباق المستقبل غير جمالي إلا عندما يتجاوز الحدود الزمنية التي يحددها العمل الفني، كما يحدث عندما نفكر أثناء عزف الموسيقى في العمل الذي سنقوم به غدًا، أو في مدى طرافة الحديث الذي سنشترك فيه حين نقول إننا حضرنا هذا الحفل الموسيقي واستمعنا إلى هذا العازف المنفرد المشهور.

وإذن فوعينا بما هو قبل وما هو بعد يكون جزءًا لا يتجزأ من تذوقنا للعمل الفني كما يتكشف خلال الزمان. ولولا هذا الوعي لكانت تجربتنا مضطربة مفككة، ولما أمكننا أبدًا أن نرى كيف ترتبط الأجزاء المتعددة للموضوع الفني بعضها مع البعض. فبفضل الذاكرة والخيال يتوحد العمل في تجربتنا، ويصبح له معنى، وبذلك يجتذب اهتمامنا. ولما كان التذكر والتوقع المتطلع إلى المستقبل يحدثان خلال الوقت الذي يدوم فيه الموقف الجمالي، بل هما أساسيان للإبقاء على هذا الموقف، فإنهما يكونان جماليَّين بمعنى الكلمة.

وهكذا نستطيع الآن أن نفهم التجربة الجمالية على نحو أكمل. فهي تشمل الاستمتاع بما يدرك في الوقت الراهن، وتوقع جزء آخر من الموضوع سوف يستمتع به فيما بعد. وعلى ذلك فإن «اللحظة» في التذوق الجمالي إنما هي، على حد تعبير الأستاذ «موريس» الرائع: «حاضر رشيق له مستقبل.» an elegant present having a future.٥

غير أن الأمثلة التي عرضناها حتى الآن كانت كلها مستمدة من مجال الأدب. فهل يمكننا القول إن التصوير والنحت والعمارة فنون «زمنية» بدورها؟ لقد أشرت من قبل إلى أن القول بأنها ليست فنونًا زمنية هو رأي يتردد كثيرًا في التفكير الجمالي. وفضلًا عن ذلك فان هذا الاعتقاد قد تغلغل في التفكير الشعبي، وبالتالي أصبح يؤثر في الطريقة التي ينظر بها الناس فعلًا إلى اللوحات وأعمال النحت. وقد أجرى مدير قاعة أمريكية كبرى للعرض الفني دراسة لكمية الوقت التي يقضيها الزوار في التطلع إلى اللوحات، فكان متوسطها ثلاث ثوان للوحة، ولكن هؤلاء الناس أنفسهم يقضون دون شك ساعات لسماع عمل موسيقي أو قراءة عمل أدبي واحد.

والواقع أننا لو لم نتخذ الموقف الجمالي من صورة أو لوحة، لما وجدنا فيها شيئًا يدل على طابعها الزمني. فما هي إلا مجموعة من الألوان أو شكل ذو ثلاثة أبعاد يشغل حيزًا من المكان، وقد يؤدي بنا ذلك إلى الاعتقاد بأن من الممكن إدراكها «فوريًّا». وفي مقابل ذلك تدل السمات الخارجية لقطعة موسيقية أو أدبية على الامتداد خلال الزمان، كما في الترقيم المتعاقب للحركات أو الفصول وتتابع الأنغام أو الكلمات، ولكن ما الذي يحدث حين ننظر إلى لوحة أو تمثال بطريقة جمالية؟

إننا نجد عندئذٍ أن هذه الأعمال لا يمكن أن تدرك إلا في الزمان وخلاله. فلا بد لنا من أن نستغرق وقتًا لتحريك العين على اللوحة والسير حول التمثال، بحيث نستطيع أن نراه من مختلف الأوضاع. وإن من أكثر سمات العمل حيوية، ذلك «الإيقاع» الذي يشيع فيه. والإيقاع نمط يتكرر في عدد من المواضع في العمل، ويؤكد فيه عنصر ثم يعقبه سكون أو افتقار نسبي إلى التأكيد. وإذ نرى «التأكيدات» المتكررة لخطوط أو أشكال أو ألوان معينة في اللوحة، فإن العمل يصبح ديناميًّا. وهذا يصدق على تكرار أقواس أو انحناءات معينة في كاتدرائية. فالعين تواصل حركتها٦ متوقعة حدوث النمط الإيقاعي في المستقبل. ومع ذلك فليس من الضروري أن تكون العناصر التي تؤلف هذا النموذج واحدة في كل تكرار. فمن الممكن أن تتغير على نحو ما، مثلما أن «نبض» الموسيقى يمكن أن يُؤجَّل ويُربَط بنبض آخر (syncopated)، أو تدخل تعديلات دقيقة على وزن قصيدة. مثل هذا التنويع الضئيل يضيف تنوعًا وقوة دافعة، وإلا لكان نمط التكرار آليًّا رتيبًا.

كذلك يساعد الوعي بالإيقاع على توحيد تجربتنا والربط بينها؛ فنحن إذ نتذكر ما حدث من قبل، نستطيع أن نتعرف على التكرار في مجالات متعددة للعمل، ولو لم نفعل ذلك، لبدا كل شيء جديدًا تمامًا، بلا رابطة تجمع بين أجزائه. وعندئذٍ يكون انتباهنا حائرًا مشتتًا.

ولا تعد فترة «السكون» في الموسيقى مجرد صمت مطبق، بل هي حيوية ممتلئة؛ لأن السامع ينتظر في ترقُّبٍ استئنافَ الإيقاع الذي كان مسموعًا من قبل. وبالمثل فإن «الوقفات» في أعمال التصوير والنحت والعمارة — أي «الفنون البصرية» — لاتولد اهتمامًا متزايدًا بالتكشف المقبل للنمط الإيقاعي. «فليس شكل الأشياء هو وحده الدينامي، بل إن شكل المسافات الواقعة بينها دينامي بدوره … ويقول فلفلين Woelfflin إن إسراع النبض يدل عليه بوضوح، في العمارة في عصر الباروك، تغير أبعاد الأقواس والمسافات بين الأعمدة. وتظل المسافات تضيق تدريجيًّا، وتغدو الأقواس أقل سُمكًا، وتزداد سرعة التعاقب.»٧

غير أن الإيقاع ليس هو السمة الزمانية الوحيدة في الفنون البصرية، بل إن التعاقب المنظم إيقاعيًّا للعناصر المتماثلة قد يكون أقل حدوثًا في هذه الفنون منه في الموسيقى والشعر. ومن سوء الحظ أن الكُتاب عن التصوير والنحت كثيرًا ما يستخدمون لفظ «الإيقاع» بطريقة تفتقر إلى الدقة والوضوح. صحيح أن كتابتهم على هذا النحو تفيد في إيضاح الطابع الزماني لهذه الفنون، غير أن من الواجب ألا يُعرض معنى «الإيقاع» بطريقة تبلغ من الاتساع حدًّا يفقد اللفظ معه دلالته. وعندما يستخدم هؤلاء الكتاب هذا اللفظ بمعنى أوسع، يقصدون به عادة أن هناك حركة داخل العمل. ولهذا الجانب في التصوير والنحت أهميته العظمى. ومع ذلك فالأفضل أن يقتصر الكلام عن «الإيقاع» على الحالات التي يتردد فيها طوال معظم العمل أو كله نمط من التأكيد والتوقف، يشتمل على عناصر متماثلة أو قريبة الشبه.

فلنتأمل هذا التحليل للوحة «جوبيتر وأنتيولي Jupiter & Antiope» (اللوحة رقم ٦) لكوريجيو Corregio، وهو تحليل قام به روجر فراي Roger Fry الذي يُعد من أعظم نقاد الفن في هذا القرن:
«… إن الجسم راقد على الأرض وقد اتجه بزاوية نحو أعلى الصورة، بحيث إن العين في تتبعها لخطوط الجسم تنتقل حتمًا إلى الوراء، في أعماق الغابة الخلفية، على حين أن هناك حركة بزاوية مقابلة لجسم جوبيتر تعود بنا مرة أخرى بنوع من الحركة اللولبية، وبذلك تتم وتختتم جملة إيقاعية لا تماثلية، ولكنها مكتفية بذاتها تمامًا.»٨
وعلى الرغم من أن هذه الفقرة تستخدم لفظ «الإيقاعي» بطريقة فضفاضة إلى حد ما، فإنها تلقي ضوءًا واضحًا على الموضوع؛ فهي تبين أن من الممكن، في حالة التجربة الجمالية، الكلام عن «حركة في داخل الصورة». أما أولئك الذين يعترضون على هذه الطريقة في التفكير فيخلطون بين اللوحة بوصفها موضوعًا ماديًّا، وبين اللوحة عندما تُبعث حية في الإدراك الجمالي. وبطبيعة الحال فإن اهتمامنا إنما ينصب على اللوحة بالمعنى الأخير. كذلك فإن فراي يوضح كيف تسهم الحركة في تحقيق وحدة الإحساس في تجربة المشاهد: فالحركة بزاوية على اليسار «تعود بنا مرة أخرى» و«تتم وتختتم» عملية الإدراك. كما أن لوحة «جوبيتر وأنتيوبي» لها أهميتها لأنها تثبت أن الحركة في التصوير تتحقق بوسائل عديدة متباينة، هي موقع أنتيوبي بالنسبة إلى مسطح الصورة، والضوء الواقع على جسمها في مقابل ضوء الغابة، وحركة الإله جوبيتر وتعبير وجهه، الذي يعبر عن الرغبة ويوحي بحركة نحو أنتيوبي. وإن نشاط الخط واتجاهه إنما هو واحد من أكثر أمثلة الحركة شيوعًا. مثال ذلك أن برنسون Berenson يعرف «الخط الخارجي» contour بأنه «خط أو قوس له حركة»،٩ ثم يذكر من تجربته الخاصة أنه «يبدو كما لو لم يكن هناك فيَّ شيء لا يحيا حياة الخط الخارجي وهو ينزلق ويلتوي ويتدفق بنعومة أو بخشونة، وقد تميز على الدوام بالحيوية والحساسية والتوثب والاندفاع.»١٠ والواقع أن التقابل بين الاندفاع والتراجع، والنور والظل، والثقل والخفة، في النحت، يمكن أن يكوِّن دراما صغيرة قائمة بذاتها.

وليس من الممكن، ولا من الضروري، أن نعرض بالتفصيل تلك الأمثلة الهائلة التنوع للحركة في الفنون البصرية. فهذا أمر لا يمكن القيام به إلا عن طريق تحليل تجريبي لأعمال محددة كثيرة في هذه المجالات الفنية. ويكفينا، بالنسبة إلى زمانية بصورة واضحة. فإذا كان هذا صحيحًا، كما أعتقد بالفعل، فمن الممكن أن يُتخذ مبدأً موجهًا في التحليل النقدي والإدراك الجمالي؛ إذ إن كلًّا من هذين الأخيرين لن يكون مثمرًا لو نظرنا إلى الفنون البصرية على أنها لا زمانية.

إن من المهم أن نؤكد أن هناك أنواعًا لا حصر لها من الإيقاع والحركة في الفنون البصرية. ولو لم نؤكد ذلك، لأصبحنا نواجه خطر الاعتقاد بأن نوع الإيقاع أو الحركة الذي نجده في أعمال فنان أو أسلوب معين، أو في فن واحد كالتصوير، يتمثل في جميع الأعمال الأخرى للفنون البصرية. فعلينا ألا نتجاهل الفوارق البارزة بين مختلف الفنانين والفترات التاريخية، وكذلك الفوارق التي ينطوي عليها ضمنًا استخدام وسائط متباينة كالزيوت والخشب والأسمنت المسلح. وفضلًا عن ذلك فمن الواجب ألا تؤدي مناقشتنا بالقارئ إلى استنتاج أن الفن لا يكون جيدًا إلا عندما يتضمن حركة قوية مسرعة. فصور «كيم سوتين Chaim Soutine» حية بما فيها من خطوط ملتوية مجعدة، وألوان مذبذبة منفجرة. غير أن من الممكن أن تكون للصور أيضًا قيمة عظمى عندما تتحرك نظرتنا فوق السطح وتنفذ إلى الأعماق بخطوة بطيئة متئدة، وعندما تكون التجربة تجربة استقرار وثبات؛ ففي لوحة سورا Seurat العظيمة بحق «عصر يوم الأحد في جزيرة لا جراند جات» (اللوحة رقم ٧) تحدث أشياء كثيرة في الصورة، ولكن العلاقات بين الأجسام الثابتة المتكتلة وبين أمامية الصورة وخلفيتها مهيبة غير متعجلة. وربما كان أفضل مثل هذا المزج العميق بين الحركة والسكون هو ذلك الذي يظهر في أعمال سيزان الكبرى.

(٢) أهمية الألفة الفنية

لما كان كل فن زمانيًّا عندما ينظر إليه من الوجهة الجمالية، فإنه يقتضي من المُشاهد جهودًا كبيرة؛ ذلك لأن الاستمتاع بلون منعزل أو رائحة عابرة لا يتطلب من المدرك إلا القليل، ويكفي أن يكون لديه وعي وقتي، متعاطف متنبه؛ ففي هذه الحالة تكون «حدة» التجربة أولية تمامًا، ويكون الموضوع الجمالي بسيطًا غاية البساطة، وتكون تجربتنا مفتقرة إلى التمايز طوال حياتها القصيرة. غير أن الأعمال الفنية ليست على هذا النحو؛ فلها بناء معقد لأنها، من حيث هي موضوعات جمالية، تشتمل على «بداية ووسط ونهاية»، ولما كانت تسري خلال زمان، فلا بد للمدرك من بذل جهود جادة. فلا بد أن يكون قادرًا على رؤية الطريقة التي ترتبط بها «البداية والوسط والنهاية» ارتباطًا متبادلًا في العمل الفني. ولا بد أن يدرك، في أية لحظة معينة في العمل، كيف تتلو هذه اللحظة مما حدث من قبل، ويشعر باندفاعها نحو ما سيحدث فيما بعد. وعلى ذلك فإن تذكُّر الماضي والاستباق الخيالي للمستقبل أمران لا غناء عنهما. ولولا ذلك لكان العمل مجرد تعاقب من العناصر المفككة المتلاصقة، ولما أدركنا أبدًا وحدته أو أحسسنا بطعم قيم مثل «الترقب» في دراما أو رواية، و«التوتر» في تمثال.

وبعبارة أخرى، فلا بد لنا من أن نجمع أطراف العمل سويًّا أو نجعل منها مركبًا، إذا شئنا أن نستمتع بقيمته. غير أن الكلام عن هذا الأمر أسهل بكثير من تنفيذه. فعندما يكون العمل منتقدًا، قد لا نتمكن من إدراك الطريقة التي ترتبط بها جميع الأجزاء المكونة له بعضها ببعض. وعندما يكون العمل طويلًا جدًّا، قد يتجاوز نطاق قدراتنا على الانتباه والتذكر، وكثيرًا ما يعجز الشخص ذو الخبرة القليلة، حين يستمع إلى سيمفونية ضخمة، عن تمييز الألحان الرئيسية بعضها عن البعض. وحتى لو ميزها، فقد لا يتمكن من «الاحتفاظ بها في ذاكرته» بعد أن تكون قد عُرضت عليه. وهذا يؤدي إلى تهديد تجربته بالخطر على أنحاء متعددة؛ فهو لا يسمع اللحن المتردد الذي يساعد على توحيد العمل. ومن هنا تبدو الموسيقى جديدة كل الجدة طوال الوقت. ولهذا السبب تبدو طويلة أكثر مما ينبغي، ومفككة، ويقل تأثيرها وقوتها. أما بالنسبة إلى السامع الأدق حسًّا، والذي تستغرق تجربته نفس الوقت الذي استغرقته تجربة المستمع السابق إذا قيست بحساب الساعة، فإن الموسيقى تبدو متماسكة محكمة الترابط. أليس من الصحيح أن الموسيقى التي لا نعرفها جيدًا تبدو لنا «سائرة على غير هدى»، وكأنها لا تعرف وجهتها؟ وفضلًا عن ذلك فإن عدم القدرة على تذكر اللحن الرئيسي يحول بين المستمع وبين الاستمتاع بالطرق التي «يطوَّر» بها هذا اللحن. فقد يتغير هذا اللحن هارمونيًّا أو إيقاعيًّا، أو قد يتبدل التوزيع الأركسترالي، أو قد يربط بألحان جديدة مختلفة، فيتخذ بذلك طابعًا متغيرًا. والواقع أن ما يفعله المؤلف الموسيقي بألحانه الرئيسية كثيرًا ما يكون أكثر الأمور إثارة في الموسيقى، ولكنا لا نستطيع الاستمتاع بالتنوع ما لم نستطع أن نتذكر ما سمعناه في البدء، وما يجرى عليه التنوع الآن.

•••

وهذا يوضح لنا الأهمية القصوى للألفة familiarity بالعمل الفني؛ فنحن نتعرض، على الأرجح، لمواجهة الصعوبات التي ذكرناها الآن عند سماعنا للقطعة الموسيقية للمرة الأولى. وهذا يصدُق بوجه خاص عندما تكون القطعة من تأليف فنان، أو مكتوبة بأسلوب، مختلف تمامًا عما كنا نسمعه من قبل، بل إنها قد تكون موسيقى حضارة مختلفة، مثل موسيقى جزيرة بالي، أو الموسيقى الصينية. أما حين تكون القطعة الموسيقية التي نسمعها للمرة الأولى مشابهة إلى حد بعيد لما صادفناه من قبل — كما هي الحال بالنسبة إلى آخر الأسطوانات الخفيفة مثلًا — فإنا لا نجد مشقةً في الاستماع إليها. وهذا يثبت أن الاستماع المتكرر للموسيقى ينمِّي عادات الانتباه والموقف المتعاطف، التي تتيح لنا فهمها وتذوقها. أما عندما تواجهنا موسيقى جديدة إلى حد صارخ، فإنا لا نستطيع أن نفعل ذلك، وكثيرًا ما نمل مثل هذه الموسيقى أو ننفر منها إلى حد أننا لا نجرؤ بعد ذلك أبدًا على العودة إليها، ولكن هذا خطأ؛ فهو يسلبنا مباهج جديدة ومتعة غير مألوفة. ومن الجائز جدًّا أن ازدياد الألفة يجعلنا «نرى» ما «تقوله» الموسيقى ونجد رضاءً في الاستماع إليها. فلو امتنعنا عن التسرع في رفضها، ولو أبدينا صبرًا وتسامحًا، فقد نبدأ بعد الاستماع إليها مرات متعددة في الشعور بأننا اقتربنا منها، بل قد نصل إلى حد النظر إليها كما لو كانت صديقًا قديمًا عزيزًا.

والآن، فما هو بالضبط ذلك الذي يكسبنا إياه ازدياد إلفنا بالعمل الفني؟

إننا أولًا نزداد معرفة بالتنظيم أو البناء الشكلي للعمل. ومعنى ذلك أننا نتوصل إلى معرفة الطريقة التي ترتبط بها الأجزاء المكونة للعمل فيما بينها، فنرى كيف أن عنصرًا حدث من قبل يمهِّد الطريق لما سيأتي بعده ويؤدي إليه، ونقدر الطريقة التي يُلقى بها كل من الأجزاء أو القطاعات المتباينة في العمل الضوء على كل جزء آخر. وبالتعوُّد تزداد فاعلية التذكر والتوقع.

ومن المهام الرئيسية للقالب أنه يؤكد عناصر معينة في العمل ويجعل لعناصر أخرى مكانة ثانوية. وعلى ذلك فإننا عندما نزداد معرفة بالقالب، نتوصل إلى إدراك أهم العناصر، أي ما ينبغي تأكيده في قراءتنا أو رؤيتنا. أما حين نرى عملًا غريبًا للمرة الأولى، فإن كل شيء يبدو متساوي الأهمية، ومن هنا لا يكون لدينا إحساس بالتفاعل الدرامي بين التأكيد والتخفيف في داخل العمل. وبالتعود نستطيع أن نتذوق الطريقة التي يتراكم بها تأثير العمل حتى يصل إلى ذروة، وبذلك نستمتع بالاستباق وبالذروة نفسها. أما حين لا يكون العمل مألوفًا، فإنه كله يبدو مسطحًا بلا تعاريج أو تضاريس.

فلنتأمل قراءتنا لتراجيديا سوفوكليس «أوديب الملك»، بعد أن نكون قد عرفنا أسطورة أوديب. إننا نقرأ عندئذٍ محاولات الملاك كشف القاتل الذي حل بسببه الوباء على طيبة، ولكنا نعرف ما لا يعرفه أوديب، وهو أنه هو نفسه ذلك الآثم التراجيدي. وهكذا تكون «لنهاية» المسرحية دلالة كبرى ونحن نقرأ الأجزاء السابقة؛ فهي تضفي معنًى أقوى وأعمق على كل المسرحية قبل النقطة التي اكتشف فيها أوديب سره الخاص. ونشعر نحن بالمفارقة القاسية في جهوده التي تحبط نفسها بنفسها. مثال ذلك أننا نشعر بالسخرية المريرة من المنظر الذي يستدعي فيه أوديب العراف الضرير ترسياس، ثم يستشيط غضبًا عندما توحي كلمات ترسياس «المظلمة» بأن أوديب نفسه قد يكون موصومًا بالخطيئة والإثم، ونشعر ونحن متألمون بجهل أوديب المطبق عندما يقول لتر سياس — وهو في الواقع أكثر عمًى منه — «إن رحيلك يعني رحيل متاعبنا معك.» وفضلًا عن ذلك فإنا نستطيع أن ندرك كيف أن حوادث مثل مقابلة ترسياس وسؤال أوديب لجوكاستا تؤدَّى ببطء، ولكن مع شعور متزايد بالترقب، إلى الذروة المخيفة. وعندئذٍ يشيع في تجربتنا توقع حيوي مُلِح.

كذلك فإن الإلف بالتنظيم الشكلي ضرورة لا غناء عنها من أجل كشف قيمة من أهم قيم التجربة الجمالية — وهي وحدة هذه التجربة. ولقد أشرنا منذ قليل إلى وجه هام تتحقق فيه الوحدة — هو ذلك الذي يحدث عندما تنتهي حالة الترقب التي تولدت خلال مسرحية، وعندما تهدأ توتراتها وتعقبها راحة وهدوء. وإذن فليست «الوحدة» لفظًا مجردًا من ألفاظ التحليل النقدي، بل إن تجربة المدرك يشيع فيها الشعور بالوحدة — وذلك حين يقوى التوقع ثم يصل إلى الإرضاء، ويكون هناك إحساس بالاكتمال والاختتام. كذلك فإن هذا الإحساس يتملك المرء عند نهاية قطعة موسيقية، عندما يصبح اللحن الرئيسي مألوفًا لدى المرء إلى حد يكفي لكي يظل المرء يتذكره طوال مجرى العمل، ثم يسمعه وهو يعود في إطار فخم عند نهاية القطعة. وإنا لنجد في مؤلفات الجاز، كما في تسجيل لعازف البيانو جورج شيرنج George Shearing، أن الارتجال يبلغ من سعة الخيال حدًّا يبدو أنه يبعدنا عن اللحن الأصلي مسافات شاسعة، ولكن الموسيقى تدور بعد ذلك، فإذا بنا نعود مرة أخرى إلى ذلك اللحن؛ ففي هذه الحالة كانت التجربة ثرية متنوعة، ولكن أطرافها تلتئم سويًّا بفضل هذه العودة. وهذه الوحدة أسهل إدراكًا في موسيقى الجاز منها في الموسيقى السيمفونية؛ لأن اللحن يكون في الحالة الأولى عادة لحنًا «شائعًا»، وبالتالي مألوفًا لنا منذ البداية.
على أن القدرة على تمييز العلاقات الشكلية ليست هي الفائدة الوحيدة التي تُكتسَب من الألفة؛ فعندما نُصادِف لأول مرة عملًا جديدًا يخرج تمامًا عن المألوف، يختلط علينا الأمر من جراء تعقده وافتقاره الظاهري إلى الشكل، ولكن هناك سببًا آخر يجعلنا لا نستجيب له أو نستمتع به؛ فنحن لا ندرك المقصود منه، ولا نفهم «ما يحاول الفنان أن يقوله». وبعبارة أخرى: فليس لدينا تصور لنوع التأثير الذي يُفترض أن العمل يمارسه علينا. أو أننا، لو حاولنا التكهن بالتأثير المقصود، فقد نخطئ خطأً بيِّنًا. والواقع أن تاريخ ما يسمى «بالفن الحديث» حافل بأمثلة لهذه الظاهرة؛ فهناك أعمال كانت جادة إلى أبعد حد، نظر إليها من لم يألفوها على أنها نِكات أو تدريبات فنية، وبالعكس كانت هناك أعمال هازلة فهمت فهمًا جادًّا. ولعلك قرأت بعضًا من القصائد المغرقة في الهزل للشاعر الكوميدي أوجدن ناش Ogden Nash. وسوف يدهشك أن تعلم، إذا كانت أعماله مألوفة لك، أنه عندما نشر أول كتبه الشعرية، أخذ معلق مجلة «التايمز» اللندنية كتابه هذا مأخذ الجد التام، وانتقد «ناش» على هذا الأساس، فقال إن شعره يتضمن «أفكارًا نقية تشوهها طريقة مهملة في وضع الأوزان»، ولكن هذا، على الأرجح، ليس أدعى إلى الدهشة من الطريقة التي ربما كنا جميعًا قد أسأنا بها فهم أعمال فنية أخرى عند التقائنا بها أول مرة.

فهاهنا إذن تلزم الألفة. وأنه لمن التجارب الشائعة أننا، بعد أن نلتقي بالعمل مرة ثانية أو ثالثة أو عاشرة، نبدأ في أن نرى ما «يقوله». وهذا يتيح لنا أن نصبح أكثر تعاطفًا وأدق حسًّا في نظرتنا إلى العمل، فعندئذٍ ندرك ما هو الاستعداد الذهني اللازم لتذوق العمل، وكيف ينبغي أن نعد أنفسنا للاستجابة له. وفي الوقت ذاته نعمل على كبت تلك الاستجابات الغريبة عن «روح» العمل ودلالته. وفضلًا عن ذلك فإننا نصبح الآن قادرين على معرفة ما «نبحث عنه» في العمل. ونستطيع الآن أن ندرك كيف تسهم مختلف عناصر العمل في التأثير الكامل.

إن هناك ارتباطًا وثيقًا بين إحساسنا بالدلالة الكاملة للعمل وإدراكنا لشكله أو قالبه، بل إن هذا الأخير يتوقف على الأول؛ فحين يحاول الموسيقيُّ أو قائد الأوركسترا أن يحدد ماذا ينبغي أن تكون مواضع التأكيد في أدائه للعمل، وكيف يجب أن توضع أوزان مختلف الأجزاء بعضها في مقابل البعض، وما إلى ذلك، فإنه لا يستطيع البت في هذه المسائل ما لم يستقر على رأي بشأن الدلالة الكاملة للعمل. فأي تأثير يود تحقيقه؟ أهو «يقرأ» العمل على أنه عميق رزين، أم أنه يعده أساسًا نمطًا متأنقًا خلابًا من الأصوات؟ إن من واجبنا جميعًا أن نتخذ قرارات مماثلة عند مشاهدتنا للوحة أو تمثال. فما الذي سننظر إليه أولًا في اللوحة، وما المسار الذي ستتبعه العين؟ هذه بدورها أمور لا يمكن البت فيها إلا بعد أن يكون لدينا إحساس معين بالتأثير المقصود للعمل الكلي. ولحرية التفسير في مجال الموسيقى والأدب والرقص مجال أقل إلى حد ما مما لها في الفنون البصرية؛ إذ إن للأعمال في الفنون الأولى نقطة بداية محددة، هي مثلًا «الفصل الأول»، كما أنها تسير في تعاقب ثابت. غير أن من الواجب ألا نبالغ في هذا الاختلاف؛ ذلك لأن من الممكن، كما بينت في الفصل السابق، أن تكون هناك تفسيرات متعددة لقطعة موسيقية أو أدبية، وفي كل حالة يقوم المدرك ببناء العمل على نحو مخالف.

وفي خلال عملية تعرُّفنا على عمل فني، تنمو الألفة بتنظيمه الشكلي وبتأثيره الكلي جنبًا إلى جنب؛ فتفسيرنا للعمل ككل، أو «قراءتنا» له، هو العامل الموجَّه لتمييزنا لتفاصيله، ولما «نبحث عنه»، وهو الذي يحدد أين نضع التأكيد. ومن جهة أخرى فإن الوعي بالتفاصيل يؤثر في تفسيرنا؛ فحين نعود إلى العمل، نرى فيه أشياء جديدة. ومن هنا يقول الأستاذ «بيير» عن تجربتنا للوحة «إلجريكو» المشهورة «توليدو» (طليطلة): «في أول مرة ننظر فيها إلى هذه اللوحة قد نلاحظ أساسًا السحب المخيمة والتلال؛ وفي المرة التالية، الحركة الدينامية للأشكال؛ وفي المرة التالية نلاحظ تفصيلات هنا وهناك لم نتنبه إليها من قبل، كالوجوه الصغيرة في أسفل المجرى؛ وفي المرة التالية، التكرار غير الظاهر للأشكال، وهكذا.»١١ فازدياد المعرفة يجعل إحساسنا بالتأثير الكلي للعمل أكثر تحددًا ودقة. وهناك دائمًا، بطبيعة الحال، احتمال في أن يؤدي بنا تزايد القدرة على التمييز إلى التخلي عن «قراءتنا» الأصلية للعمل؛ وعندئذٍ قد نفسر العمل على نحو مختلف، وبطريقة توفيه حقه على نحو أفضل.

•••

ولنكرر ما ذكرناه من قبل، فنقول إن ما يؤدي إلى إثارة مشكلات التفسير والتمييز هذه هو أن الأعمال الفنية، على خلاف الألوان المنفردة، تتميز، من حيث هي موضوعات جمالية، بالتعقد الداخلي، وتمتد خلال الزمان. وعلينا نحن أن نقرر إن كانت هذه الصعوبات ستثبط عزيمتنا، بحيث نتخلى تمامًا عن العمل، أم ستحفزنا على السعي إلى التعرف به على نحو أكمل. والواقع أن أعمالًا قليلة جدًّا هي التي يمكن أن تُدرك وتتذوق دون جهد عندما نواجهها لأول مرة، ومن المشكوك فيه أن تكون هذه من الأعمال الرفيعة بحق، بل إن معظم الأعمال التي لها أية قيمة تُشكل تحديًا لنا؛ فهي تقتضي جهودًا ينبغي أن تبذلها قدراتنا في الانتباه والتذكر والتخيل والفهم. ولا بد لنا أن ننمو إذا ما أردنا أن نكون أكفاء لهذه الأعمال. وعلينا أن نثابر على العودة إليها مرارًا وتكرارًا. وقد لا يكون وعينا بالعمل في البداية إلا وعيًا جزئيًّا محدودًا، ولكنا في كل مرة نعود فيها إلى العمل نلخص أو «نجمع»١٢ كل ما وجدناه في تجاربنا السابقة معه، إلى أن يتكشَّف ثراؤه وإحكامه لنا بالتدريج.

وهكذا فإن الاستمتاع الجمالي بعمل فني ليس شيئًا يتم كله دفعة واحدة، وإنما هو عملية نامية، متدرجة، خلاقة. ولو واجهنا تحدي العمل، لكانت مكافأتنا وعلى ذلك هي القيمة التي نشعر بها لتجربتنا عندما نتمكن من تذوقه. وفي حالة بعض الأعمال الفنية، ولا سيما تلك التي نسميها أعمالًا «عظيمة» لا تنتهي عملية ازدياد التعرف أبدًا؛ ففي هذه الأعمال نرى على الدوام شيئًا جديدًا، ونجد علاقات شكلية جديدة، وندرك معنًى جديدًا. وبطبيعة الحال فإن في استطاعتنا، لو شئنا، أن نظل ننعم بالراحة مكتفين بأعمال تفتقر إلى التعقد والعمق. غير أن هذا موقف يؤدي إلى الجمود والركود. فلو عزلنا أنفسنا على هذا النحو، ولم نجرؤ أبدًا على مواجهة أعمال جديدة غير مألوفة، لأصبنا تجربتنا بالهزال، وحرمنا أنفسنا الرضا والمتعة.

(٣) «أنماط» المدركين الجماليين

تحدثنا من قبل من النشاط شبه الخلاق الذي ينبغي أن يسهم به المدرك في التجربة الجمالية. فلا يمكن أن يكون سلبيًّا تمامًا ويتوقع التمتع بقيمة الموضوع الجمالي، بل إن عليه أن يفسر العمل بطريقة أو بأخرى، وأن يكون يقظًا للتفاصيل والتفريعات التي لا تكون واضحة تمامًا، وعليه أن يقوم ببناء العمل في وعيه، بحيث يمكنه إدراكه موحدًا. ومن الواضح أن الناس المختلفين يجدون قيمة مختلفة في الفن، أو يستمتعون به لأسباب مختلفة. والسبب الأكبر في ذلك هو أنهم يقبلون على الفن وقد تفاوتت درجات الفهم بالعمل، وتباينت قدراتهم على الانتباه والحساسية الانفعالية، وما إلى ذلك.

وفي أوائل هذا القرن وضع عالم النفس الإنجليزي بلو Bullough، الذي اقتبستُ منه من قبل، تصنيفًا ﻟ «الأنماط الإدراكية»، بحيث يمثل كلٌّ من هذه الأنماط طريقة مختلفة في إدراك الموضوعات الجمالية والاستجابة لها. ولهذا التصنيف طرافته لأنه يكشف عن مدى الضخامة التي يمكن أن تكون عليها الفوارق بين المدركين الجماليين. وربما كان للتصنيف طرافته بالنسبة إلى القارئ أيضًا، إذ يكاد يكون من المؤكد أنه سيتعرف على نفسه في واحد من هذه الأنماط.

ولم يقتصر «بلو» على تعداد نتائج تجاربه، بل إنه «رتب» الأنماط تبعًا لازدياد أو نقصان طابعها الجمالي، أي لمقدار «التعاطف والتنزه عن الغرض» في تجربة كل منها. وقد بيَّن، كما سنرى فيما بعد، أن بعض الناس، الذين يُظَن عادة أن لديهم تجربة جمالية عميقة، لا تكاد تكون لديهم تجربة جمالية على الإطلاق.

ومن الجدير بالملاحظة أن أنماط «بلو» تتمثل أيضًا بين الأفراد الذين تجري عليهم تجارب أخرى. وقد وصل «بلو» نفسه إلى تصنيفه هذا عن طريق التجريب بألوان منفصلة،١٣ وألوان متجمعة.١٤ وقد اقتُبس تصنيفه، مع تعديلات طفيفة، في التجارب التي أجراها ميرز على مقطوعات موسيقية بسيطة،١٥ وفي تجارب فيزي Feasey على أشكال مستطيلة،١٦ وفي تجارب فالنتين Valentine على صور موسيقية.١٧

•••

أطلق «بلو» على الأنماط الأربعة اسم «الترابطي associative» و«الفسيولوجي physiological» و«الموضوعي objective» و«نمط الشخصية character» وقد شرحنا من قبل النمط «الترابطي»، بفرعيه، المندمج وغير المندمج.١٨
أما اسم النمط «الفسيولوجي»، فينطبق على مسماه كل الانطباق، إذ إن أفراد هذه الفئة يحكمون على الموضوع من خلال التأثيرات الشخصية التي يثيرها فيهم، ولاسيما ردود الأفعال الجسمية والعضوية؛ فهناك لون معين يجعل مثل هذا الشخص يحس ﺑ «البرودة» (ص٤٥٣)، وهناك شخص آخر يقول عند استماعه للموسيقى «أحسست بالخمول»؛١٩ وآخر يذكر عن عمود توافقي موسيقي (musical chord) إنه «يعطي المرء إحساسًا بالرجفة».٢٠ ففي كل هذه الأمثلة يؤكد المشاهد «الفسيولوجي» «الأحاسيس» التي تحدث في داخله خلال التجربة، ثم يحكم على الموضوع تبعًا لطبيعة إحساسه ونوعه.

أما النمط الموضوعي، فإنه يصدر نوعًا مضادًّا تمامًا من الأحكام. فأمثال هؤلاء المدركين لا يشيرون إلى ردود أفعالهم الشخصية، وإنما يتحدثون فقط عن طبيعة الموضوع. وهم يحللون خصائصه، أي «نقاء» الألوان أو بريقها، ثم يقدرونه على أساس معيار أو مقياس معين يضعونه لهذا النوع من الألوان (ص٤٥٠-٤٥١)، ومن هنا تراهم يعيبون على أحد الألوان، مثلًا، كونه «مائعًا» أو «غير نقي».

أما النمط الأخير من هذه الأنماط الأربعة، وهو نمط الشخصية، فإنه يتذوق الموضوع بطريقة مفعمة بالحيوية والعمق. وهو يتميز بنغمة انفعالية قوية، كما يشتمل على الاستجابات العضوية التي توجد في النمط «الفسيولوجي». ومع ذلك فإن أحكام هذا النمط، على خلاف النمط الفسيولوجي، لا تسترعي الانتباه إلى الأحاسيس الشخصية للمشاهد، بل إن استجاباته تتخذ صبغة خارجية، أي تُعد صفات للموضوع. وعندئذٍ يُنظر إلى الموضوع على أن له «حياة» و«طابعًا» خاصًّا به. فاللون الأحمر يعد «صريحًا» و«نشيطًا»؛ والأزرق «متحفظًا» و«تأمليًّا» (ص٤٣٦)، أو توصف القطعة الموسيقية بأنها «سعيدة» أو «جريئة».٢١

وهناك من يتشككون في استجابات نمط «الشخصية»؛ فهم يرون أن أمثال هذه الأحكام مجرد خيال رومانتيكي، يدل على عجز المدرك عن إدراك الموضوع بحساسية وتبصر. ولا شك في أن أولئك الذين يصدرون أحكامًا تنتمي إلى «نمط الشخصية» «يتكلمون أحيانًا بطريقة فضفاضة». وفي بعض الأحيان يتضح لنا، إذا أجرينا مزيدًا من التحليل لتجربتهم، أنها كانت تجربة ترابط «غير مندمج». وبالتالي لم تكن جمالية إلا إلى مدى محدود. ومع ذلك فقد وجد «بلو» أن المدركين من نمط «الشخصية» كانوا، في عمومهم، يظلون محتفظين بموقف جمالي أصيل طوال تجربتهم. وهو يتحدث عن تفتحهم المتعاطف بوجه خاص؛ فهناك قدر كبير من المشاركة الانفعالية من جانب المشاهد في الصفات الخاصة للون الواحد، واستعداد للتعاطف معه، والنتيجة هي تذوق … شديد الحيوية (ص٤٣٤). وبفضل موقف «التفتيح المتعاطف» هذا، يقبل المدرك الموضوع بشروطه الخاصة، ويهيئ نفسه لتلقي طابعه وقيمته المميزة في تجربته. وهذا، كما رأينا من قبل، شرط لا غناء عنه للتجربة الجمالية. وفضلًا عن ذلك فإن انتباه المدرك يكون «مركزًا حول الموضوع» بدرجة تبلغ من الاكتمال حدًّا يجعل الاستجابات التي يثيرها الموضوع تعجز عن توجيه انتباهه نحو جسمه وذهنه الخاص. وهذا ما يميز نمط «الشخصية» من النمط «الفسيولوجي»؛ فالموضوع يظل يحتل مكانة مركزية في الوعي، ولا يتحول الانتباه نحو عمليات المشاهد العضوية والانفعالية، وعلى ذلك فإن نمط الشخصية يجمع بين الموضوعية الشخصية، والمشاركة الشخصية العميقة (ص٤٥٨). وفي هذا النوع من التجربة، يكون الانتباه الجمالي أكمل ما يكون، والموضوع «مستحوذًا» إلى أبعد حد؛ ذلك لأن المدرك يفقد عندئذٍ «كل إحساس بالذات». وكما أننا نتحدث عن «إفناء أنفسنا» في مهمة شاقة، فكذلك «يُفني المدرك ذاته» في الموضوع الجمالي، و«يعيش حياة» الموضوع. وهذه بطبيعة الحال طريقة مجازية في الكلام، ومع ذلك أعتقد أنها تعبر بصدق عن طابع تجربتنا كما نشعر به عندما تكون جمالية بأكمل صورة. فلتفكر في لحظة كنت فيها مستغرقًا في قصة أو قطعة موسيقية، لترى إن كنت توافق على هذا الوصف.

أما النمط «الموضوعي» فأمره مختلف كل الاختلاف؛ فأحكام الأفراد المنتمين إلى هذا النمط تبدو ناشئة عن تجربة جمالية حقة؛ إذ إنهم يتحدثون عن الموضوع لا عن المشاهد. وحين يشيرون إلى خصائص للون كبريقه أو صبغته، يبدو أن حكمهم أوضح وأوثق من الأوصاف الخيالية التي يأتي بها أصحاب نمط «الشخصية» حين يتحدثون عن اللون على أنه «صريح» أو «تأملي». غير أن «بلو» لا يضع النمط الموضوعي» في مكانة عالية. والواقع أن النتائج التي يصل إليها بشأن هذا النمط من أطرف النتائج التي أسفرت عنها تجاربه.

فهو يرى أن هذه الأحكام، التي تحلل الموضوع بطريقة متجردة، تدل على عجز عن الوصول إلى التعاطف الجمالي مع الموضوع، ويقول في هذا الصدد: «إن أفراد هذا النمط يعطوننا، في عمومهم، انطباعًا بأنهم لا يستطيعون الدخول في أي نوع من العلاقة الوثيقة مع اللون، وبأن انعدام التعاطف الشخصي يجعلهم يلجأون إلى اتخاذ موقف متباعد، يكاد يكون معاديًا» (ص٤٥٠). ومن الجدير بالملاحظة أن أمثال هؤلاء المدركين، الذين هم أكثر اهتمامًا بتحليل الموضوع ونقده منهم بالاستمتاع به، يقبلون دائمًا على التجربة ومعهم «نمط أو معيار» (ص٤٥١) يقدرون الموضوع على أساسه. فإذا ما كان الموضوع مطابقًا لهذا المعيار امتدحوه؛ وإذا انحرف عنه ذموه. ومن هذا القبيل قول أحد أفراد هذا. النمط عن الموضوع إنه «غير مألوف»،٢٢ وبذلك كشف عن الأهمية التي يعزوها ذهنه إلى المعيار الذي ينحرف عنه الموضوع، ولكن أليس لفظ «غير مألوف»، لفظًا باهتًا إذا ما وصف به موضوع جمالي؟ إن كل ما يعنيه هو أن الموضوع مختلف عما رآه المشاهد من قبل. وهذا أمر يمكن أن يقوله المرء دون أن يكون قد أبدى اهتمامًا جماليًّا بالموضوع؛ فالنمط «الموضوعي»، على خلاف نمط «الشخصية»، لا يسلم نفسه للاستمتاع بالموضوع في ذاته، بل إن هؤلاء الناس، بدلًا من ذلك، يحسبون بطريقة آلية إلى حد ما مدى مطابقة الموضوع لمعايير صيغت من قبل. فإن كان «غير مألوف»، اتجهوا إلى رفضه. وهكذا يعجزون عن إدراك القيمة التي يمكن أن تكون للموضوع في ذاته. فلا عجب إذن أن ينتهي «بلو» إلى النتيجة القائلة إن أحكام النمط «الموضوعي» «تمثل … أكثر صور التذوق الجمالي سطحية» (ص٤٥١).
وقد تأيَّد هذا الاستنتاج في تجارب فالنتين اللاحقة التي استخدم فيها صورة؛ فقد وجد فالنتين أن الذين لديهم اهتمام ضئيل بالصور كانوا يصدرون أحكامًا «تكاد تكون موضوعية أو ترابطية تمامًا.»٢٣ ذلك لأن الشخص الذي لا يحتفظ باهتمام جمالي نحو موضوع ما، ولا يستمتع بوجوده، إما أن يبدأ بالتفكير في أشياء أخرى، بحيث يبعد الموضوع إلى هامش الانتباه، وإما أن «يتهرب»، كما يقول «بلو»، بتحليل الموضوع ونقده. فإذا وجدنا أنفسنا نفعل ذلك في أي وقت، فعلينا أن نتريث لنتساءل عما إذا كانت تجربتنا جمالية بحق.
وقد كشف «ميرز»، الذي كان يقدم إلى أفراد تجاربه مؤلفات موسيقية، عن سمة أخرى طريفة للنمط «الموضوعي». فقد وجد أن هذا النمط «يحدث أغلب ما يحدث بين أولئك الذين دُربوا على الموسيقى تدريبًا فنيًّا».٢٤ وهذا الكشف الذي يبدو منطويًا على مفارقة إلى حد ما، جدير بالملاحظة. فهو يدل على أن التدريب الفني لا يزيد من التذوق الجمالي في كثير من الأحيان، بل يكون تأثيره مضادًّا تمامًا؛ فالشخص المدرب على هذا النحو يصبح أكثر اهتمامًا بمشكلات صنعته منه بالاستمتاع الجمالي. ويقول أفراد هذا النوع في تجربة ميرز «لقد لاحظت أن البوق الثاني كان أعلى مما ينبغي»، «إن عازف الفيولينة يلجأ، كما هي العادة، إلى «الترعيش Vibrato» وأكثر مما ينبغي.٢٥ وصحيح أن مثل هذا الاهتمام بمشكلات أسلوب الأداء والبراعة الفنية يمكن أن يكون مقترنًا باهتمام جمالي، غير أن هناك دائمًا خطر طغيان الأول على الثاني إلى الحد الذي يؤدي إلى إغفال هذا الأخير.

ولنختم هذا الجزء بعرض الترتيب الذي وضعه «بلو» للأنماط الإدراكية (ص٤٦١–٤٦٣)، بادئًا بالأدنى وسائرًا إلى الأعلى من حيث القيمة الجمالية: «النمط الفسيولوجي» — وهو الأدنى لأن الانتباه يتحول إلى «الأحاسيس» الجسمية للمدرك، ثم «الترابطي غير المندمج» — وهنا أيضًا لا يكون الموضوع في بؤرة الوعي؛ ثم «الموضوعي» — ويدل على عجز عن تحقيق اتصال متعاطف مع الموضوع (ومن الممكن القول إن أفراد هذه الفئة لا تكاد تكون لهم، في بعض الحالات، تجربة جمالية على الإطلاق)، ثم «الترابطي المندمج»، ونمط «الشخصية»، وهو أكثر الجميع جمالية، للأسباب التي ذكرت من قبل.

ومن الجائز أن يختلف القارئ مع «بلو» في تقديره لهذه الأنماط، وفي هذه الحالة ينبغي عليه أن يتساءل: ما أسباب اختلافه هذا؟ كذلك قد يود القارئ أن يعرف الفئة التي يندرج ضمنها هو ذاته، على أن من الواجب أن نذكر أن الشخص الواحد يمكن، في الأوقات المختلفة، أن يمثل أنماطًا مختلفة من الإدراك. وذلك يتوقف على متغيرات كالنوع الفني الخاص الذي يدركه، وإلفه بالعمل الفني، وكون العمل واضحًا مباشرًا أو موحيًا بصورة غامضة، كالموسيقى «الانطباعية»، وما إلى ذلك.

(٤) التجربة الجمالية ونظرية الفن

درسنا حتى الآن الموقف الجمالي، والنطاق الواسع للتجربة الجمالية، التي يمكن أن تشمل أي موضوع على الإطلاق، والطابع الزماني للتجربة الجمالية، وأهمية الإلف بالموضوع الفني، ولكن ما الذي يحدث عينيًّا خلال التجربة الفنية؟ وما الذي يشعر به المدرك إزاء الموضوع الفني؟ هل التجربة الجمالية انفعالية دائمًا؟ هذه أسئلة ما زال أمامنا أن نجيب عنها.

وسوف نبحث في هذه المسائل في الباب الثاني من هذا الكتاب؛ ففيه سندرس بالتفصيل بعض النظريات الرئيسية في طبيعة التجربة الجمالية وقيمتها.

على أن هذه النظريات ليست نظريات في التجربة الجمالية وحدها، بل هي أيضًا نظريات في الفن الجميل fine art؛ فهي تصف عملية الإبداع الفني ونتاجها، وهو «العمل الفني». وبذلك تأخذ على عاتقها أن تكشف لنا الطريقة التي يمكن بها التمييز بين الفن والجميل fine، وبين الفن النافع useful وكذلك بين الأول وبين الموضوعات الطبيعية، بين الأول وبين الموضوعات الطبيعية، أي الموضوعات التي ليست من صنع الإنسان.

وهناك صلة وثيقة بين نظرية الفن وبين نظرية التجربة الجمالية عند كثير من المفكرين الذين سندرسهم. هذه الصلة تنحصر في أن ما يعتقدونه بشأن التجربة الجمالية مبني على نظرتهم إلى الفن الجميل. والاستدلال الذي يقومون به يمضي عادة على النحو الآتي: هناك سمة معينة (أو عدد من السمات) تُعد أساسية بالنسبة إلى الفن الجميل، أي أنها تميز أعمال الفن الجميل عن كل الموضوعات الأخرى. ولتكن هذه السمة مثلًا هي «التعبير عن الانفعال». ثم يستدل من ذلك على أن هذه السمة أساسية أيضًا بالنسبة إلى التجربة الجمالية. أي أنه يستدل على أن كل تجربة جمالية ينبغي أن تكون انفعالية، ما دام المدرك يشارك في الانفعال الذي يعبر عنه الفنان.

والواقع أن من واجبنا أن نلزم جانب الحذر كلما صادفنا استدلالًا كهذا؛ لأنه حتى لو كانت نظرة الفيلسوف إلى الفن الجميل صحيحة، فإن وصفه للتذوق الجمالي قد يكون ناقصًا أو معيبًا؛ فالفن شيء، والتجربة الجمالية شيء آخر ينبغي أن يدرس في ذاته. وهذا أمر يمكن أن يظهر بكل وضوح؛ فالإدراك الجمالي لا يقتصر على الأعمال الفنية وحدها، بل إن موضوعات الطبيعة وحوادثها، كالتكوينات السحابية، يمكن أن تُدرك بدورها جماليًّا، كما أوضحنا من قبل. على أن ما يصدُق على تذوق الفن لا يتعين أن يصدق على الاستمتاع بالطبيعة؛ ففي المثال الذي قدمناه، يجوز أن الأعمال الفنية «تعبر عن انفعال»، ولكن الموضوعات الطبيعية لا تعبر عن مثل هذا الانفعال؛ فالموضوعات الفنية لا تؤلف إلا جزءًا من فئة الموضوعات الجمالية. ومن هنا كان من الواجب أن نتأكد من أن أية نظرية في التجربة الجمالية تصدق على جميع حالات الإدراك الجمالي، لا على بعضها فحسب.

وسوف تكون المسألتان الرئيسيتان اللتان سنتحدث عنهما في الجزء التالي هما: (١) ما الفن الجميل؟ (٢) ما التجربة التي تمارسها أثناء الإدراك الجمالي؟ فلننتقل إذن إلى بحث الطريقة التي يمكن بها الإجابة عن هذين السؤالين.

المراجع٢٦

() فيفاس وكريجر: مشكلات علم الجمال، ص٢٧٨–٣٠٤.
() فيتس: مشكلات في علم الجمال: ص٢٤٧–٢٥٣.

تشاندلر: الجمال والطبيعة والبشرية، ص٩٧–١٠٣، ٢٣٠–٢٣٦.

Chandler: Beauty and Human Nature.

ديوي: الفن بوصفه تجربة. الفصول ٢-٣، ٨.

فوستر، أ. م. «الأساس المبرر للنقد في الفنون».

Foster, E.M., “The Raison d’être of Criticism in the Arts,” in “Music and Criticism” ed. French. Harvard U.P., 1948.

لسنج، جوتهولت: لاوكون.

Lessing, Gotthold: Laocoön (1766).

موريس، برترام: العملية الجمالية. الفصول ١–٤.

Morris, Bertram, The Aesthetic Process (Northwestern U.P., 1943).

بيبر، ستيفن: السمة الجمالية. الفصل الأول.

Pepper, Stephen C., The Aesthetic Quality (N. Y., Scribners, 1937).

بيبر: أساس النقد في الفنون (البحث التكميلي).

Pepper, S., The Basis of Criticism in the Arts (Harvard U.P., 1946).

سوريو، إتيين: «الزمان في الفنون التشكيلية».

Souriau, E., “Time in the Plastic Arts,” Jour. of Ae. and Art Cr., vol. VII. (June, 1949) pp. 294–307.

ستولنيتر، جيروم: «الألفة الفنية والقيمة الجمالية».

Stolnitz, Jerome, “On Artistic Familiarity and Aesthetic Value,” Journal of Philosophy, vol, LIII (April, 1956), p. 261–276.

فالنتين: مدخل إلى الدراسة النفسية التجريبية للجمال. الفصول ٣، ٧، ٨.

Valentine, C. W., An Intr. to the Experimental Psychology of Beauty. Rev. ed., (London, Jack, 1919).

أسئلة

  • (١)

    اقرأ الفصول المذكورة في قائمة المراجع من كتاب ديوي «الفن بوصفه تجربة»، ثم اذكر: ما العلاقة بين التجربة الجمالية وبين «ممارسة تجربة ما» في رأي ديوي؟ أهُمَا شيء واحد؟ وهل يُعَد فهم ديوي للتجربة الجمالية مماثلًا لذلك الذي قدمناه في الفصل السابق؟

  • (٢)

    ماهي في نظرك الفوارق البارزة، إن وُجِدت، بين تذوق الفنون «الزمانية» وتذوق الفنون «المكانية»؟ استعن في الإجابة عن هذا السؤال بقراءة مقال سوريو، المذكور في قائمة المراجع.

  • (٣)

    كثيرًا ما يتحدث النقاد عن «الإيقاع» به في التصوير، وعن «الدراما» في العمارة، وعن «التوازن» في الرواية. أتعتقد أن لهذه الألفاظ نفس المعنى عندما تطبق على الفنون «المكانية» و«الزمانية» معًا؟ وإن لم يكن، فلماذا؟ أهذه الألفاظ تستخدم بطريقة مجازية؟

  • (٤)

    ذهبنا في هذا الفصل إلى أن الإلف بالعمل شرط لا غناء عنه للتذوق الجمالي، ولكن الإلف كثيرًا ما يقضي على طرافة العمل الفني في نظرنا. ففي أي الظروف تعتقد أن هذا يحدث؟

  • (٥)

    هل توافق على طريقة ترتيب «بلو» للأنماط الجمالية؟ وإن لم تكن توافق، فأي التغيرات تقترح؟

١  أبرز لسنج هذا التمييز في كتابه «لاوكون Laocoon» (١٧٦٦م)، وهو يتمثل على الدوام في التفكير الجمالي في القرنين التاسع عشر والعشرين.
٢  من كتاب «فن الشعر» لأرسطو، ترجمة «بوتشر S. H. Butcher» ونشره ملتن نام. (The Library of Liberal Arts Series, No, 6, N.Y.), Milton, H. Nahm 1958. الفصل السابع، ص١١.
٣  جون ديوي: الفن بوصفه تجربة John Dewey, Art as Experience, p. 35.
٤  المرجع نفسه ص٣٥.
٥  موريس: المرجع المذكور من قبل، ص٢٨.
٦  يستخدم هنا لفظ «حركة العين» بطريقة فيها شيء من المجاز، للإشارة إلى عملية الإدراك بأسرها. وقد ثبت الآن على نحو قاطع أن حركة العين لا ترتبط إلا ارتباطًا ضئيلًا بالتركيب الشكلي للعمل في تجربة المشاهد.
٧  رودلف أرنهيم: الفن والإدراك البصري.
Rubolf Arnheim, Art and Visual Perception (University of California Press, 1954) p. 347.
٨  روجر فراي: التحولات.
Roger Fry, “Transformations” (N. Y., Brentano, n.d.), p. 109.
٩  برناربرنسون: علم الجمال والتاريخ.
Bernard Berenson, Aesthetics and History (Garden City, Doubleday, 1954), p. 78.
١٠  المرجع نفسه، ص٧٩.
١١  ستيفن بيير: أساس النقد في الفنون.
Stephen C. Pepper, The Basis of Criticism in the Arts (Harvard U.P., 1946) p. 148.
١٢  المرجع نفسه، ص١٤٨ وما يليها.
١٣  المرجع المذكور من قبل (١٩٠٨م). وكل إشارات الصفحات داخل النص متعلقة بهذا البحث.
١٤  إدوارد بلو: المشكلة الإدراكية في التذوق الجمالي لتجمعات لونية بسيطة.
E. Bullough, “The Perceptive Problem in the Aesthetic Appreciation of Simple Colour Combinations,” British Journal of Psychology, III (1910), pp. 406–447.
١٥  تشارلس ميرز: «الفروق الفردية في سماع الموسيقى».
Charles S. Myers, “Individual Differences in Listening to Music,” British Journal of Psychology, XIII (1922), P. 52–71.
١٦  ل. فيزي: «بعض التجارب في علم الجمال».
L. Feasey, “Some Experiments on Aesthetics,” Br. J. of Ps., XII (1921), pp. 253–272.
١٧  فالنتين: المرجع المذكور من قبل، ص٣٤.
١٨  انظر: ص٥٤ مِن قبل.
١٩  ميرز: المرجع المذكور، ص٥٥.
٢٠  فالنتين: المرجع المذكور، ص٩٩.
٢١  المرجع نفسه، ص٩٩.
٢٢  بلو: المرجع الذكور من قبل (١٩١٠م)، ص٤١٤.
٢٣  المرجع المذكور، ص٨٧.
٢٤  المرجع نفسه، ص٥٨.
٢٥  المرجع المذكور، ص٥٨.
٢٦  ملحوظة للمترجم: سنكتفي بكتابة الترجمة العربية، بدلًا من إضافة الأصل الإنجليزي، في الكتب التي ورد ذكرها في قوائم المراجع بالفصول السابقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤