الفصل السابع

النظرية الانفعالية

«ليكن إحساسك هو مرشدك الوحيد … سِر على هدى ما تقتنع به. خير لك ألَّا تكون شيئًا على الإطلاق، من أن تكون صدًى لفنانَين آخرين … إذا كنت قد تأثرت بحق، فسوف تنقل إلى الآخرين انفعالك الصادق.»١
هذه كلمات للمصور كورو Corot، في أواسط القرن التاسع عشر. ولتلاحظ أنه يشترط في الفن أمورًا ثلاثة: أن الفنان ينبغي أن يكون خاضعًا لتأثير الانفعال، وأنه يجب أن يكشف عن شخصيته الفردية، وينبغي عليه أن يكون مخلصًا.

وهكذا يعرض كورو بعضًا من الأفكار الكبرى لحركة رئيسية من الحركات الفنية التي ظهرت في العصور القريبة، وهي ما يسمى بالحركة «الرومانتيكية». وقد تغلغلت هذه الآراء في طريقة تفكير غير الفنانين بدورهم، بل لقد بدا هذا الفهم للفن في نظر الكثيرين من غير الفنانين، خلال الأعوام المائة والخمسين الأخيرة، أقرب ما يكون إلى الحقيقة الواضحة بذاتها. ومن الواضح أن لهذا الاعتقاد تأثيرًا هائلًا في التجربة الجمالية لمعتنقيه؛ فهو يتحكم فيما يبحثون عنه في العمل الفني، وما سيحاولون أن «يستخلصوه» منه. والواقع أن الطريقة التي نتحدث بها عن الفن إنما هي دليل على مدى انتشار هذا الاعتقاد في الوقت الراهن — وقد تكون أنت ذاتك واحدًا ممن يؤمنون به. فنحن عادة نمتدح عملًا فنيًّا بقولنا إنه «مؤثر» أو «معبر». ومن جهة أخرى نرفض عملًا آخر بالقول إنه عمل «بلا إحساس»، أو أنه «يتركنا دون أن ننفعل»، وقد نقول أحيانًا إنه «يخاطب العقل وحده». كما أننا نطلق على الفنان أوصافًا مماثلة، فنصف فان جوخ بأنه «شيطاني»، أو «عميق»، أو نقول عن شيلي إنه «مفعم بالانفعال».

هذه الطريقة في التفكير عن الفن لم يرتبط ظهورها بما يسمى «الثورة الرومانتيكية» في القرن التاسع عشر. فمن الممكن الاهتداء إليها منذ أيام أفلاطون، الذي يصف الفن بأنه «يروي الانفعالات العارمة». وهي تتمثل لدى أرسطو ولنجينوس Longinus وعند غيرهما من المفكرين الكلاسيكيين. وهناك أمثلة واضحة لهذه الطريقة في التفكير طوال القرن الثامن عشر. ومع ذلك فقد كان القرن التاسع عشر هو الذي شاع فيه، على أوسع نطاق، تأثير النظرة إلى الفن على أنه سجل لانفعالات الإنسان وأداة لتوصيلها إلى الآخرين. وأصبح الفنانون المبدعون في جميع ميادين الفن يقبلون هذا الرأي، ويسيرون في عملهم وفقًا له. ولا جدال في أنك تعرف بعضًا من الأعمال التي أنتجت على هذا النحو. ولقد كان من رواد الحركة الرومانتيكية في مستهل القرن التاسع عشر، ووردزورث وشيلي في الشعر، وفيكتور هوجو في الدراما، وبيتهوفن وشوبرت في الموسيقى، وجريكو Géricault وديلاكروا Delacroix في التصوير، فهؤلاء الفنانون لم يخلقوا فنًّا انفعاليًّا فحسب، بل إن الكثيرين منهم، مثل ووردزورث وهوجو، قد كتبوا عن الفن، وقدموا دفاعًا نظريًّا مقنعًا عن هذا النوع من الفن.

وليس من الممكن تقدير القوة الدافقة لهذه الحركة بين معاصريها إلا إذا عرفنا ما الذي كانوا يحتجون ضده. وبعبارة أخرى، فلنتساءل: لم كانت تلك الحركة «ثورة»؟ لو كان لي أن أستخدم تسمية مختصرة ذات دلالة تاريخية (وإن كانت لهذه التسميات المختصرة مخاطرها دائمًا)، ففي استطاعتي أن أقول إن الرومانتيكيين كانوا يحملون على «الكلاسيكية الجديدة»؛ فقد كانوا يكافحون من أجل التخلص من القيود التي كانت تفرضها الكلاسيكية الجديدة على الفنان الخالق. ولقد كانت الكلاسيكية الجديدة تقف بوجه خاص في وجه الانطلاق العاطفي في الفن. فإظهار الانفعال بدرجة مفرطة يتنافى مع المثل العليا في «الوقار»، و«اللياقة». وفضلًا عن ذلك فقد كان مفكرو الكلاسيكية الجديدة يعدون الانفعال «ذاتيًّا». ويرون فيه سمة شخصية يتميز بها الفرد وحده، على حين أنهم كانوا يدعون إلى فن مستمد من التجربة المشتركة بين جميع الناس من ذوي «الذوق السليم» ومعبر عن هذه التجربة. وترتبط بذلك دعوتهم إلى أن يقتصر الفنان على معالجة تلك الموضوعات «اللائقة» أو «الإرشادية». (وقد سبق لنا أن صادفنا هذه الفكرة من قبل، عند مناقشة نظرية «المثل الأعلى») … وأخيرًا فإن النظرية الكلاسيكية الجديدة، وخاصة عندما أصبحت مقننة في الأكاديميات، كانت ترى أن على الفنان أن يسير على نهج فن العصور اليونانية الرومانية القديمة.

ولقد كان أسوأ ما أدت إليه هذه القواعد عندما طُبقت عمليَّا، هو أنها أسفرت عن فن يعاني من الفراغ العاطفي، والتمسك بالتقاليد الجامدة، والافتقار إلى الأصالة، وانعدام المرونة في الشكل والأسلوب. لذلك كان الفن الكلاسيكي الجديد يعاني في كثير من الأحيان من الضحالة الواضحة؛ فهو هياب، سطحي، آلي. ومن هنا قال الشاعر كيتس، ساخرًا من السابقين عليه:

كانوا يدورون حول أنفسهم على حصان هزاز
ويظنونه بيجاسوس.٢

أما الرومانتيكيون فكانوا يسعون إلى إعادة الحيوية والتلقائية إلى الفن. ولقد تميزت أعمالهم، على عكس الأعمال المتأخرة عند الكلاسيكيين الجدد، بالانفعالية والحرارة الشديدة. ورغبة منهم في إطلاق العنان لرغباتهم الخلاقة، فقد رفضوا أن تفرض أية حدود على الموضوعات التي يمكنهم استخدامها في فنهم. فقد خرجوا عن الحدود المتعارف عليها، وصوروا مناظر معتادة أو يومية ضئيلة الشأن، كما هي الحال عند ووردزْوُرث، أو قصصًا بعيدة غريبة، كما في روايات «سكوت»، أو موضوعات قبيحة من الوجهة الجمالية أو الأخلاقية، كما في «قارب الميدوزا» (انظر اللوحة رقم ٣). وكان الشغل الشاغل للفنان هو أن يعبر عن مشاعره واستجاباته الشخصية، مهما كانت فردية أو شاذة.

«فكل الأفكار الخيالية، وكل سورات المخ، مباحة للعبقرية»،٣ وعندما يتضح عدم كفاية الأشكال والأساليب الفنية التقليدية في التعبير عن الذات، فلا بد من الالتجاء إلى التجديدات. ومن هنا كان القرن التاسع عشر حافلًا بالأشكال والوسائل الفنية الجديدة، وفيه ظهر عدد هائل من «الأساليب» الشخصية؛ ففي الموسيقى استُخدِمت توافقات جديدة للحلول محل «اللون النغمي الكلاسيكي»، في القرن الثامن عشر، واستحدثت لأول مرة أنماط تعبيرية جديدة، «كالقصيد النغمي».
ولقد انبثقت عن هذه السورة الحماسية المجددة أعمال فنية جيدة كثيرة، بل أعمال فنية عظيمة، ولكن لا جدال في أن قدرًا كبيرًا من الفن الرومانتيكي يعاني عيوبًا هي عكس عيوب الأعمال الرديئة في الفن الكلاسيكي الجديد — وأعني بها العاطفية المفرطة، والنزعة المرضية، والشذوذ والتجديد لأجل التجديد. غير أن تأثير الرومانتيكية، الذي يمتد حتى إلى يومنا هذا، هو الذي أعطانا أشعار كيتس الغنائية، «والأغنيات الفنية Lieder» لشوبرت، وتصوير «التعبيريِّين» في القرن العشرين.

والواقع أن الاتساع الهائل لنطاق تأثير الرومانتيكية طوال هذه الفترة الطويلة هو الذي جعل مبادئها تبدو اليوم أمرًا مُسلَّمًا به لدى الكثيرين. ولا بد لنا، لكي ندرك بدقة ما ينطوي عليه هذا الفهم للفن، من أن ننتقل إلى بحث النظريات الجمالية التي انبثقت عن الرومانتيكية. «فنظرية الفن»، عند الفنانين الرومانتيكيين، كثيرًا ما تلخص في شعار أو جملة مأثورة. أما عند المفكرين الجماليين، فإن النظرية تعرض بطريقة منهجية مفصلة، وتُستخلَص فيها النتائج المنطقية للتعاليم الرومانتيكية. ومن الممكن أن تؤدي بنا دراسة هذه الفلسفات الفنية إلى تقدير أكمل لفن الرومانتيكيين، ولكنا نود أيضًا، عن طريق اختبار هذه الآراء على أساس الشواهد المتوافرة من جهة، والاستدلال المنطقي من جهة أخرى، أن نرى إن كانت تمثل نظرية مرضية في الفن والتجربة الجمالية.

إن النظرية الجمالية المعبِّرة عن وجهة النظر الرومانتيكية هي النظرية الانفعالية. وسوف نرى فيما بعد أن هناك اختلافات في الرأي بين الفلاسفة الانفعاليين الثلاثة الذين سندرسهم. غير أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين نظرياتهم؛ إذ إنهم جميعًا يعزون أهمية كبرى، في تحليلهم لظواهر الفن، إلى عامل واحد؛ هو التجربة الانفعالية الفردية للفنان.

(١) التعبير عن «الشخصية»

إن أول نظرية انفعالية سنعرض لها تعد العمل الفني تعبيرًا عن «شخصية» الفنان. ولقد رأينا أن النزعة الفردية القوية هي إحدى المعتقدات الأساسية للفن الرومانتيكي. كما سبق لي أن اقتبست كلمات الفنان «كورو» التي يدافع فيها عن الأصالة الفنية. كذلك قال جوته، في أوائل القرن التاسع عشر: «في الفن والشعر، تكون الشخصية هي كل شيء».٤ فللفنان أن يعرض انفعالاته وأفكاره دون أي كبت، مهما كان من غرابتها أو خروجها عن المألوف. وهو لا يقتصر على ذلك في الفن، بل إن تحدى التقاليد أصبح أسلوبًا للحياة بالنسبة إلى بعض الفنانين الرومانتيكيين. وقد نجم عن ذلك اهتمام بحياة الفنان وشخصيته، يظهر بوضوح تام في الكتب المؤلفة عن الفنانين وفي الشروح التي تُكتب لبرامج الحفلات الموسيقية؛ إذ نقرأ كثيرًا عن حياة الحب عند بيرون، وعن ضيق صدر بيتهوفن … إلخ.
ومن الطريف أن نلاحظ أن هذه ظاهرة حديثة نسبيًّا في تاريخ الفن؛ فقد كان فنان العصور الوسطى يشتغل، بوجه عام، متجاهلًا شخصيته تمامًا. وفي كثير من الأحيان لم يكن يضع توقيعه على أعماله، كما إنا لا نعرف إلا القليل، أو لا نعرف شيئًا على الإطلاق، عن الفنانين الأفراد في تلك الفترة؛ «ففي الفن التقليدي لا يهمنا أبدًا السؤال: من الذي قال؟ وإنما الذي يهمنا هو السؤال: ماذا قيل؟»٥ وهذا يصدق أيضًا، إلى حد بعيد، على فن الحضارات الشرقية الذي كان عملًا جماعيًّا لا فرديًّا. «إن فن الشرق هو النقيض المباشر للنزعة الفردية الغربية؛ فالفنان الشرقي يخجل من التفكير في أناه أو تعمد إظهار ذاتيته في عمله».٦
ومع ذلك فإن الكشف عن «ذاتية» الفنان، الذي ازداد ظهورًا في الغرب خلال عصر النهضة، أصبح من السمات الرئيسية لفن القرن التاسع عشر. ويصل صدق هذا الحكم إلى حد أن أوجين فيرون Eugène Véron، عندما نشر أول عرض منهجي للنظرية الانفعالية (١٨٧٨م)، كتب يقول: «إن تأثير شخصية الإنسان في عمله … هو الأساس الوحيد الثابت لعلم الجمال كله.»٧ فالعمل الفني، في نظر فيرون، يسجل استجابة الفنان الشخصية لحادث أو موضوع معين. وهذه الاستجابة ليست انفعالية فحسب، وإنما تشمل «آراء» الفنان «وأفكاره»، فضلًا عن «أحاسيسه». وعند الفنان الضئيل الشأن تكون هذه الأفكار والأحاسيس عادية.٨ وفي مقابل ذلك. «فكلما ازداد الفنان عبقرية، كشفت عبقريته عن مزيد من الطاقة والفردية».٩

ولكن من الواضح أن «الفن الجميل» لا يمكن أن يعرف بوصفه «تعبيرًا عن الشخصية» فحسب؛ فمثل هذا التعريف أوسع مما ينبغي؛ ذلك لأن المرء «يعبر عن شخصيته» كلما أدى فعلًا مميزًا له، أعني مثلًا فعلًا أخلاقيًّا، كمساعدة المحتاج. مثل هذه الأفعال تجعل أصدقاءه يقولون: «إنه هو بعينه». أو قد يعبر عن شخصيته بحركة لا إرادية، مثل تثبيت نظارته بطريقة معينة. وهذه أفعال لن يعدها أحد «أعمالًا فنية».

وسوف نرى في القسم التالي من هذا الفصل أن «فيزون» لا يرى أن «الفن» يُعرَّف من خلال «الشخصية». ومع ذلك فهو يعتقد أن أهم وأقيم ما في العمل هو الشخصية المميزة التي يكشف عنها: «إن ما يجذبنا ويفتننا هو الكشف عما يملكه الفنان من ملكات وسمات خاصة».١٠ هذه «الملكات والسمات» لها نوعان: أولهما التكوين الانفعالي والذهني المميز للفنان، وهو التكوين الذي أشرنا إليه من قبل، وثانيهما البراعة التي يعبر بها عن نفسه في العمل، أو كما يقول فيرون «القوة التي يصور بها انطباعاته».١١ وعلى ذلك فإن التجربة الجمالية هي في أساسها ما يسميه فيرون «بالإعجاب»١٢ بالفنان. «ومن الممكن أن يلخص إعجابنا دائمًا في عبارة: «ما أعظم العبقرية التي لا بد أن إبداع عمل كهذا قد اقتضاها!»»١٣

•••

فلنختبر هذا الرأي نقديًّا. إن قدرًا كبيرًا من حديثنا عن الفن يصف شخصية الفنان وبراعته. فنحن نقول «إن هايدن مرح» وإدجار جست Edgar Guest عاطفي، و«ملفيل يرى السر الكامن في الوجود الإنساني» و«دالي صانع خبير»، فما الذي نعنيه بمثل هذه الأقوال؟ يبدو أن هناك تفسيرَين ممكنَين.
فقد نعني أولًا أن الأعمال التي خلقها هؤلاء الناس لها نفس السمات التي نعزوها إلى الفنان. وهكذا نقول «إدجار جست عاطفي» بدلًا من أن نقول «هذه القصيدة لجست انفعالية أكثر مما ينبغي.» كما أن عبارة «هايدن مرح» توحي بالعمود النغمي «الشديد القوة fortissimo» والمشهور الذي يفترض أنه يروع المستمع في سيمفونية «المفاجأة surprise». مثل هذه العبارات التي تقال عن الفنان لا تعبر عادة عن عمل واحد من أعماله، بل عن عدد من هذه الأعمال تتشابه في الناحية المشار إليها؛ فهايدن يدخل ببراعة عنصرًا غير متوقع في كثير من أعماله، كما أن كثيرًا من قصائد «جست» غارقة في الانفعال. وتبعًا لهذا التفسير يكون قولنا «إن الفنان كذا» طريقة غير مباشرة، ومختصرة، في الكلام، نستعيض فيها باسم الفنان عن عناوين أعماله.
وعلى ذلك فنحن إنما نتحدث عن الأعمال الفنية وعن السمات التي نجدها فيها. أما الإشارة إلى الفنان فلا تضيف شيئًا، ولكن إذا صح هذا فإنه يُفضي بنا إلى النتيجة القائلة إن فكرة «الشخصية» لا تضيف شيئًا إلى فهمنا للفن. فسوف نظل نحلل الأعمال الفنية ونقومها على نفس النحو، أي بدراسة الأعمال ذاتها. أما «الشخصية» فلا تقدم إلينا مفاتيح عن طريقة القيام بهذه الدراسة، ولا تفسر أي شيء عن الفن؛ فهي فكرة خاوية أو زائدة. ويبدو أن «فيرون» كان يتوقع هذا الاعتراض، إذ كتب في أحد المواضع: «قد يقول النقاد إننا نهتم بالعمل لا بالإنسان، ولكن الأمرين لا ينفصلان؛ فإذا كان العمل وضيعًا، كان صانعه مثله، وذلك على الأقل في لحظة إنتاجه للقصيدة أو الصورة.»١٤ فهل تساعد هذه الحجة على دعم موقف فيرون؟ ألا تزيد في الواقع من إظهار ضعف هذا الموقف؟ إذا كان «الإنسان» و«العمل» غير منفصلين، وإذا كنا في كل الأحوال نكتفي بأن نعزو إلى الأول كل ما نجد أنه يصدق على الثاني، ففي هذه الحالة بدورها يكون العمل الفني وحده هو ما نهتم به، ويكون حديثنا في واقع الأمر منصبًّا على هذا العمل.

على أن هذا لا يعني أننا لا يمكن أن نشعر بالإعجاب نحو الفنان الخلاق ونعبر عنه. فلما كان العمل الفني هو هذا فحسب — أعني عملًا «فنيًّا» — وليس موضوعًا طبيعيًّا، فإنا نعترف بأنه لم يكن من الممكن أن يخرج إلى حيز الوجود إلا لأن ثمة إنسانًا لديه «ملكات وسمات» معينة. ونحن إنما نمجد هذه الملكات والسمات ونقدرها حين يكون العمل جيدًا. غير أننا نكرم الإنسان على ما تجلى في العمل.

وإذن فالتفسير الأول للتعبير «الفنان هو كذا …» يقلل من أهمية مقولة «الشخصية»، ولكن من الواضح، طوال الجزء الأكبر من مناقشة فيرون، أنه ينظر إلى «الشخصية» على أنها شيء متميز تمامًا عن العمل ذاته؛ فهو يقول إن الناس يتحدثون عن العمل «ولكنهم يرون من ورائه، ربما بطريقة لا شعورية، صانع العمل؛ فالصورة أو التمثال ليست إلا نقطة البدء والعلة الأولى لانفعالهم».١٥ «إن العمل الحافل بالإهمال وغيره من العيوب كثيرًا ما يثير إعجابنا بسبب شخصيةِ مُبدعِه وحدها، وهي الشخصية التي تُلمَح خلاله بأصالة قوية».١٦ ويقدم فيرون مثلًا محددًا للتمييز بين الفنان وعمله: «لا يمكن أن يقرأ أحد فيكتور هوجو دون أن يضيف إلى إعجابه الماثل أمامه سرورًا عميقًا باطنًا؛ إذ يكتشف في الشاعر ذاته مفكرًا كرس حياته لكل المشكلات التي تهم البشرية.»١٧

وعلى ذلك ففي التفسير الثاني لعبارة «الفنان هو كذا …» تقول هذه العبارة بالفعل شيئًا عن شخصية الفنان أو براعته، لا عن عمله فحسب؛ فالعمل نقطة بداية للاستدلال على شخصية الفنان. وفي هذه الحالة يكون معنى عبارة «هايدن مرح» أكثر من مجرد القول إن هناك فقرات مرحة في سيمفونية «المفاجأة» أو غيرها من الأعمال الموسيقية.

ولكن في هذه الحالة ينبغي أن نتساءل إن كان من حقنا القيام بهذه الاستدلالات؛ فقد رأينا من قبل، عند مناقشتنا للإبداع الفني، أن حالة الفنان النفسية قد تكون مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي تجسد في العمل. فمن الممكن تمامًا أن يكون الشخص الذي تتسم موسيقاه بالمرح، مفتقرًا تمامًا إلى المرح إذا ما تركت موسيقاه جانبًا. وقد يحيا شخص آخر يتسم شعره بالعمق الانفعالي، حياة هادئة معتدلة. وكثير من الفنانين لا نجدهم يلفتون الأنظار أو يبعثون على الإعجاب من حيث هم أشخاص، وإن كانت أعمالهم بعيدة عن ذلك كل البعد. وبعبارة أخرى فإن من أخطر الأمور أن ننسب إلى «الإنسان» ما نجده في «العمل»، ما لم تكن لدينا شواهد مستقلة عن الفنان، أي شواهد مكتسبة بوسائل أخرى غير فحص أعماله الفنية، كالشواهد المستمدة من وقائع حياته مثلًا. فإن لم توجد هذه الشواهد، تعرضنا لخطر الوقوع في الخلط، فنظن أننا نقول شيئًا عن الفنان، مع أننا في واقع الأمر نقتصر على وصف العمل. ولقد مررنا جميعًا بتجربة قراءة تراجيديا لشيكسبير واستنتجنا منها أن شيكسبير كان لديه تعاطف إنساني عظيم، أو سمعنا سيمفونيات بيتهوفن وأكدنا أنه كان إنسانًا يتسم بالعمق الانفعالي الشديد. غير أن أمثال هذه التأكيدات يمكن أن تكون مضللة إلى حد بعيد ما لم يكن معناها يقتصر على أن الفنان يملك القدرة على إظهار هذه الخصائص داخل نطاق فنه.

غير أن هناك صعوبة أخرى، فمن المعروف أن العمل الفني يمكن أن يفسر على أنحاء كثيرة متباينة. ومن هنا فقد لا يتفق المشاهدون المختلفون على أن العمل يكشف عن «مرح» أو «عمق» أو «عاطفية». فإذا كان الأمر كذلك، فكيف نستطيع أن نتخذ العمل أساسًا للاستدلال على عقلية الفنان وانفعالاته؟ إننا لو قبلنا جميع التفسيرات، لكان علينا أن نعزو إلى الفنان عددًا هائلًا من سمات الشخصية المتباينة المتناقضة. على أن فيرون لا يعترف بهذه الصعوبة لأنه يرى أن المشاهدِين يشاركون الفنان دائمًا نفس التجربة التي مر بها بالضبط،١٨ وهو رأي سننقده في القسم التالي.
إن فيرون عندما يؤكد أهمية «الشخصية»، يفعل ذلك عند وصف تجربة التذوق الفني. وهو يرى أن هذه التجربة هي في أساسها تجربة إعجاب بعبقرية الفنان. ومع ذلك فمن المشكوك فيه أنه كان في ذلك يقدم وصفًا معقولًا لِما يُعَد في العادة «تجربة جمالية»؛ فهو يقول، في الجملة التي اقتبست من قبل، إن العمل الفني «ليس إلا نقطة بدء وعلة أولى» للاستمتاع الجمالي. وهذا يعني ضمنًا أن انتباه المشاهد ليس مُركَّزًا على العمل ذاته فحسب؛ فالانتباه لا يستقر على العمل، وإنما يبحث عن «العامل»، ولكن معنى ذلك أننا لا نستمتع بالعمل لذاته، وإنما نتخذ منه مرشدًا إلى شيء آخر. وهذا أمر قد يلجأ إليه عالم النفس أو المؤرخ، ولكن ليست هذه هي الطريقة التي ندرك بها الموضوعات الفنية عندما يكون اهتمامنا جماليًّا، فلو أقبلنا على تلك الموضوعات بهذه الطريقة، لَمَا استطعنا أبدًا نَنفُذ إلى ما فيها من سحر وحيوية؛ إذ إن انتباهنا يكون عندئذٍ موزَّعًا. ويقول فيرون في أحد المواضع «ينبغي أن نحتفظ بذكرى حية للفنان تكفي للحيلولة … دون جعل موضوع تأملنا يستغرق انتباهنا كله.»١٩ ومع ذلك فنحن لا نستمتع بالقيمة الكامنة للعمل إلا عندما يستغرق انتباهنا كله، بالفعل، وعندئذٍ فقط تكون تجربتنا جمالية بحق.
ومن المؤكد أن هناك حالات للإدراك الجمالي نقدر فيها شخصية الفنان. وهذا يصدق بوجه خاص عندما نكون قد ألفنا عددًا من الأعمال إلى أبدعها نفس الفنان. وهكذا نشعر بدعابة روبرت فروست الجافة العميقة تسري في الحوادث والمناظر التي يصورها في أشعاره … ولكن «الشخصية» في هذه الحالة تكون جزءًا لا يتجزأ من العمل، يؤثر في جاذبيته الانفعالية وطابعه التخيلي. ونحن نلتقي ونستمتع بها عن طريق تثبيت الانتباه الجمالي على العمل، لا عن طريق النظر إلى العمل الفني على أنه «نقطة بداية» لشيء آخر، وفي الحالات الأخرى لا يكون هناك، ببساطة، اهتمام بشخصية الفنان على الإطلاق، فنحن نهتم عندئذٍ «بالعمل»، وننسى «العامل». ويعترف فيرون بذلك صراحة في مناقشته لفن العمارة، فهو يصف هذا الفن بأنه «أقل الفنون اصطباغًا بالطابع الشخصي»، ومع ذلك يقول إن «للعمارة في ميدانها الخاص قوة تعبيرية لا يمكن إنكارها».٢٠ ولمَّا كان هذا يصدُق أيضًا على أعمال كثيرة في مجالات متعددة فإن نطاق «الشخصية» في الفن ينبغي أن يضيق إلى حد ملحوظ.

ومجمل القول إنه إما أن يكون الإعجاب بشخصية الفنان مجرد إعجاب بالعمل الفني ذاته، بحيث يمكن الاستغناء عن فكرة «شخصية»، وإما أن الإعجاب كما يصفه فيرون (أ) يفترض خطأً أن «العمل» دليل لا يخطئ على الطابع الكلي «للإنسان»، (ب) كما أنه ليس وصفًا أمينًا للتذوق الجمالي للفن.

ولقد كان لمفهوم «الشخصية» من الوجهة التاريخية، أهميته بوصفه احتجاجًا على مظاهر الكبت والتقييد التي كانت واضحة في الفن الكلاسيكي الجديد. واتخذ هذا المفهوم نقطة من النقاط التي يتجمع فيها الرومانتيكيون حول فكرة الحرية الفنية. وما زالت له فائدته من حيث أنه يذكرنا بضرورة تذوق كل فنان على أساس مزاياه الخاصة، ووجوب الامتناع عن حشره في قوالب محددة مقدمًا. ومع ذلك فإن فكرة «الشخصية» لا يمكن، من الوجهة الفلسفية، أن تتخذ أساسًا لنظرية سليمة في الفن أو التجربة الجمالية؛ فإلى جانب العيوب التي لاحظناها الآن في هذه الفكرة، فإنها لا يمكن أن تُستخدَم بذاتها معيارًا لتقدير الفن. وقد كتب أحد النقاد، ممن يعدونها أساسية في كل نقد فني، يقول: «إن الشخصية قانون لذاتها … مثال ذلك أني إذا فكرت في أن ديلاكروا فنان، فمن واجبي ألا أبحث عن مزايا تصويره وعيوبه؛ فليس لتصوير ديلاكروا مزايا أو عيوبًا، بل إن فيه أسلوب ديلاكروا فحسب.»٢١ هذا الرأي قد يكون فيه تنبيه لنا إلى ضرورة التعاطف مع الفنان، غير أنه يقف حائلًا في وجه عملية التحليل والتقويم. ألسنا نستطيع أن نقول أحيانًا عن عمل فني معين إنه جيد في نواحٍ معينة ورديء في نواح أخرى، ويكون لقولنا هذا ما يبرره؟ ألا يمكن أن تكون شخصية الفنان فارغة؟

(٢) التعبير عن الانفعال وتوصيله

يقدم فيرون حججًا للدفاع عن النظرية الانفعالية، محاولًا أن يثبت أنها أفضل من نظريتَي المحاكاة البسيطة ومحاكاة المثل الأعلى.٢٢ وهو يحمل بوجه خاص على نظرية المثل الأعلى، لأنها لا تفسر قدرًا كبيرًا من الفن والخلق الفني؛ فالفنان لا يسعى إلى تصوير الأشياء «الجميلة»، بل إنه كثيرًا ما يختار موضوعات قبيحة، ويعبر عنها بطريقة حية دون أن يقلل من قبحها. ويقتبس فيرون للتدليل على رأيه، موضوعات من الأدب اليوناني، مثل «جثة هكتور وهي تُجَر حول قبر باتروكلس … وأوديب وهو يفقأ عينيه ويروي مآسيه وهو غارق في دمائه … وميديا وهي تذبح أبناءها انتقامًا لنفسها من غريمتها».٢٣ وينتهي فيرون من ذلك إلى أن «الفن يتجاوز الجمال البحت؛ لأنه يضم ما هو مخيف أو حزين، قبيح أو مرح».٢٤
ولقد بذل الروائي الروسي المعروف، الكونت ليو تولستوي، جهدًا يفوق ما بذله أي كاتب آخر في نشر النظرية الانفعالية على نطاق واسع. ففي كتابه «ما الفن؟» (١٨٩٨م) ذهب بدوره إلى أن الفن يمكن أن يثير مشاعر غير سارة ويصور «مناظر حزينة تقطع نياط القلوب».٢٥ وفي عهد أقرب أكد الأستاذ «دوكاس» «حقيقة نفسية» هي أن الفنان لا يسعى إلى «خلق الجمال».٢٦ فهو يرى، مثل فيرون وتولستوي، أن «الفنان يمكن أن يعالج أي موضوع».٢٧
ولا بد أن تكون مناقشتنا السابقة قد أوضحت ما يدين به هؤلاء المفكرون للحركة الرومانتيكية في الفن.٢٨ فعن طريق ترديدهم لهذا الوصف للفن كانوا قوة فعالة أدت إلى تدهور فكرة «محاكاة المثل الأعلى» في الفترة الأخيرة. فهُم إذن مسئولون إلى حد بعيد عن التطور الذي لم يَعُد بفضله مفهوم «الجمال» يحتل موقعًا رئيسيًّا في الفكر الإستطيقي. ولعلك لاحظت أن كتابنا هذا، شأنه شأن الكثير من الكتب القريبة العهد في الإستطيقا، لم يتحدث إلا قليلًا نسبيًّا عن «الجمال beauty» وعلى العكس من ذلك كان «الجمال» يُعَد في القرون الماضية أهم مفهوم في الإستطيقا. بل إن الإستطيقا ذاتها كثيرًا ما كانت تُعرَّف بأنها «نظرية الجمال». وقد كشف أصحاب النظرية الانفعالية عن مدى ضيق هذه النظرة، فرأوا أن الفنان يلجأ إلى أشد الموضوعات تباينًا، وضمنها ما هو شاذ، وما هو قابض أو منفر. ومن هنا كان للانفعاليين أثر كبير في الطريقة التي ينظر بها الناس إلى الفن، فلم يَعُد المُشاهِد يبحث عن الجمال وحده، بل لم يَعُد يبحث فيه على الإطلاق، في العمل الفني. وقد كان روجر فراي متحدثًا بلسان كثير من الأذهان المعاصرة حين أشاد بهذه الفكرة المستبصرة التي أدت إلى تحرير العقول من أغلالها القديمة، فقال: «كانت كل التأملات المتعلقة بالإستطيقا، خلال فترة شبابي، تدور بإصرار ممل حول مسألة طبيعة الجمال … ولكن عبقرية تولستوي هي التي أخرجتنا من هذا الطريق المسدود … وكانت من أهم الأفكار، فكرته القائلة إن العمل الفني ليس سجلًّا للجمال الموجود بالفعل في موضع آخر، وإنما هو تعبير عن انفعال يشعر به الفنان وينقله إلى المشاهد.»٢٩
تلك، في رأيي، من أقوى النقاط في النظرية الانفعالية. ولو استشهدنا بالأعمال الفنية ذاتها، لوجدنا أن قدرًا كبيرًا منها يضم موضوعات قبيحة، ولوجدنا أيضًا أن هذا القبح لم «يجمل ولم يخفف، بل زادته طريقة معالجة الفنان تأكيدًا وحيوية». وعلى هذا النحو يصبح العمل، كما يقول صاحب النظرية الانفعالية، «معبِّرًا» بقوة. ولو كان هذا يصدُق على الفن المرضي وحده، لما استحق أن نتحدث عنه. غير أنه يتمثل، على العكس من ذلك، في أعمال لها قيمة لا جدال فيها، كالتراجيديا اليونانية، كما أشار فيرون، أو تصوير جويا Goya للحرب، وأوبرا «فوتسك» لبرج.

ولقد استطاع الانفعاليون أن يدركوا هذا نظرًا إلى اقتناعهم بأن القوة الدافعة إلى الخلق لدى الفنان هي انفعال معين يشعر به، وبأن هذا الانفعال يمكن أن يثيره أي موقف. وأدى بهم ذلك إلى قضاياهم الأساسية، وهي أن العمل الفني تعبير عن انفعال الفنان، كما أن المدرك يشارك في هذا الانفعال عن طريق تأمل العمل. فلننتقل الآن إلى بحث هذه النظرية بشيء من التفصيل.

•••

إن «التعريف العام»، للفن الجميل fine art عند فيرون هو: «الفن مظهر الانفعال، معبرًا عنه بطريقة خارجية، عن طريق تنظيم الخط والشكل واللون حينًا، وعن طريق سلسلة من الحركات أو الأصوات أو الكلمات حينًا آخر».٣٠ ولكي نفهم هذا النشاط الذي يؤلف «التعبير» الفني، ينبغي أن ندرك أولًا وجه الخطأ في وصف الفن بأنه «مظهر الانفعال». إن «المظهر» المجرد لانفعال الشخص ليس شيئًا فنيًّا؛ فالضحك أو البكاء التلقائي، أو التثاؤب غير الواعي، أو الحركة الغاضبة، كل هذه تكشف عن وجود انفعال. ومع ذلك فإن التعبير الفني ليس «اندفاعيًّا خالصًا، وليس مجرد غليان محض».٣١ وكما أشار دوكاس «فإن من ماهية الفن ألا يكون أعمى كالسلوك الآلي، وإنما أن يكون واعيًا مسئولًا».٣٢ وهذا يذكرنا بتعريفنا السابق للفن، في معناه الشامل، بأنه نشاط «بارع واعٍ»، ولكن ينبغي أن ندرك أن هذه الحقيقة لم تغب عن ذهن فيرون؛ ذلك لأنه يلاحظ في أحيان كثيرة التميز بين النشاط الفني والنشاط التلقائي، كما هي الحال عندما يقول إن فن الرقص ظهر عندما نُظِّمت الحركات الجسمية التلقائية بالإيقاع.٣٣
كذلك يدرك فيرون أنه عندما ينطلق الانفعال دون ضابط، يستحيل المُضِي في التعبير الفني … «إن قوة الانفعال وصخبه، وتجاهله للاعتبارات الخارجية، يكون عند تفجُّره للمرة الأولى أقوى من أن يتيح له التريث لكي يروي أحاسيسه أو يشرحها».٣٤ وكما قال ووردزورث في عبارته المشهورة، فإن الفنان لا يستطيع أن يخلق إلا إذا «استجمع انفعالاته بهدوء».

إن التعبير الفني يكشف عما فيه من «وعي ومسئولية» باستخدامه وسيطًا موضوعيًّا معينًا؛ فالانفعال لا يقتصر على الانطلاق في العالم، كالشخص الغاضب حين يصب جام غضبه على جروه، بل إن الفنان يشكل الوسيط ويضفي عليه قالبًا كيما يجسد فيه انفعالاته. وقد يستخدم في هذا الغرض السلم الموسيقى أو جسمه هو ذاته، كما في حالة الرقص أو التمثيل، ولكن ينبغي عليه عندئذٍ أن يخضع انفعالاته لمقتضيات الوسيط وحدوده. فإذا فاض الانفعال وتجاوز ما يستطيع الوسيط تقبله وتشكيله، فعندئذٍ لا يسفر ذلك عن أي نتاج فني، بل يكون الأمر كأن شخصًا يعمل على تصريف انفعاله بأن يضرب لوحة البيانو بقبضة يده ضربًا عشوائيًّا، وهو سلوك لا يمكن أن يؤدي إلى خلق قطعة موسيقية.

وفضلًا عن ذلك فإن التعبير عن انفعال معين لا يماثل وصف هذا الانفعال؛٣٥ فالفنان لا يعلن: «أنا جائع» ثم يقدم وصفة لحالة معدته المضطربة، بل إن إطلاق اسم على انفعال يعني تعميمه عن طريق إدراجه تحت لفظ عام مثل «الغضب»، ولكن هذا لا يكفي للتعبير عن الطابع المميز للانفعال الخاص الذي يشعر به الفنان.
لقد ذكرت حتى الآن أن عملية التعبير الفني عملية منضبطة، وليست مندفعة، وأنها تستخدم وسيطًا، وليست مجرد وصف للانفعال. فما الذي يحاول الفنان أن يفعله على التخصيص، خلال التعبير؟ إن أكثر الإجابات تفصيلًا في كتابات أصحاب النظرية الانفعالية هي إجابة الأستاذ دوكاس Ducasse.

•••

يصف دوكاس النشاط الفني بأنه «إخراج المرء لمشاعره إلى حيز الموضوعية بطريقة واعية فيها نقد، وتوجيه».٣٦ والمقصود بإخراج المشاعر إلى حيز الموضوعية هو إنتاج موضوع، فأي نوع من الموضوع هذا؟ إنه موضوع «(١) يستطيع الفنان على الأقل أن يتأمله، (٢) ومن شأن تأمل الفنان له أن يرجع إليه ذلك الشعور … الذي كان الموضوع محاولة للتعبير عنه».٣٧ وبعبارة أخرى، فإن هدف الفنان هو خلق عمل يتيح له تأمله الجمالي أن يقول: «أجل، هذا ما كنت أشعر به». فالنشاط التعبيري لا يكون ناجحًا إلا إذا أدى العمل إلى انعكاس تتردد فيه صورة انفعالاته من جديد.٣٨ وفي ضوء هذا الهدف يعمل الفنان على مراجعة إنتاجه وحذف أجزاء منه وإعادة صياغته طوال ممارسته لنشاطه. وتؤدي الرغبة في التعبير الذاتي إلى تمييز الفنان من الناسخ الآلي؛ كما تؤدي الرغبة في التعبير عن الانفعال إلى تمييز الفنان من أولئك الذين يسعون إلى التعبير عن معانٍ، مثل كتاب النثر الشارح مثلًا.

وعلى هذا النحو يعبر دوكاس عن مفهوم الفن الذي كان سائدًا بين الفنانين والناس العاديين خلال القرن الماضي.

على أن هذا الرأي، كما يعترف دوكاس ذاته، نتيجة غاية في الغرابة؛ ذلك لأنه يؤدي إلى القول بأن الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يقول إن كان الموضوع «عملًا فنيًّا» هو الفنان ذاته! تلك هي النتيجة التي تؤدي إليها النظرة إلى الموضوع الفني من خلال أصله في التجربة «الباطنة» أو «الذاتية» للفنان. وهذه النتيجة تلزم بالضرورة لأن الفنان هو وحده الذي يستطيع أن يعرف ما هي انفعالاته، ومن هنا «فلا أحد غير الفنان يمكنه أن يقول إن كان قد نجح في خلق موضوع تتجسد فيه مشاعره تجسُّدًا كافيًا، وإلى أي مدى كان نجاحه في ذلك،٣٩ وهذه نتيجة محيرة؛ إذ إننا نظن عادة أن مسألة معرفة ما إذا كان الموضوع فنيًّا هي مسألة يمكن أن تكون موضوعًا لمعرفة عامة.

على أن تحليل دوكاس للخلق الفني يثير مشكلة أهم من هذه بكثير. فهذا التحليل يتركز حول لفظ أساسي هو «التعبير». وأود الآن أن أصوغ هذه المشكلة على النحو الآتي: هل يستطيع الفنان ذاته أن يقول إن كان العمل «يعكس» أو «يردد» انفعاله؟

فلنحاول أن نبحث المسألة بالطريقة الآتية: إن القول بأن العمل «يعكس» الانفعال يعادل القول إن الانفعال يمكن أن يوجد ويحس به بمعزل عن العمل ويقول دوكاس إن «الطبيعة الباطنة» للانفعال تظل على ما هي عليه سواء أضفى عليها الفنان صبغة موضوعية أم لا.٤٠ ولكن هل يمكن الشعور بالانفعال الذي يعبر عنه العمل على أي نحو سوى تأمله؟ هل يمكن أن يكون للانفعال الخاص الذي يعبر عنه العمل المعين وجود خارج العمل، أو قبل خلق العمل، كما يريد دوكاس؟ إن الانفعالات عامة تتخذ صبغة فردية عن طريق المواقف الخاصة التي تحدث فيها؛ فحب الأم وحب العشيقة وحب الوطن، كل هذه انفعالات يشعر بها المرء بطريقة مختلفة. على أن الانفعال الذي يتجسد في العمل يتخذ صبغة فردية عن طريق هذا الموضوع المحدد، فالانفعال جزء لا يتجزأ من تركيب حسي معين، هو مركب مميز للوسيط الفني، ولهذا السبب فإننا نقول في كثير من الأحيان إن الوسيلة الوحيدة لمعرفة الانفعال الذي تعبر عنه قطعة موسيقية معينة هي أن تستمع إليها فحسب.
فإن كان ما قلته الآن صحيحًا، فعندئذٍ لا يكون الفنان نفسه قادرًا على أن ينبئنا إن كانت عملية التعبير قد نجحت. فلكي يفعل ذلك، يتعين عليه، كما قلنا، أن يقرر إن كان الانفعال الذي يعبر عنه العمل هو نفس الانفعال الذي كان يشعر به قبل خلقه. ولكن إذا لم يكن للانفعال الذي يعبر عنه العمل وجود بمعزل عن العمل، فعندئذٍ لا يمكن أن يكون لدى الفنان معيار للقيام بعملية الاختبار. فهو لا يستطيع أن يقرر إن كان «الشعور الذي كان ينوي التعبير عنه قد أثير فيه مرة أخرى على نحو مطابق تمامًا»٤١ بواسطة العمل؛ إذ إن الشعور الذي يعبر عنه العمل شيء جديد كل الجدة، ولم يكن له كيان قبل أن يظهر العمل إلى حيز الوجود.
هذه الحجة تذهب إلى أن الانفعال الذي يعبر عنه ليس كيانًا قائمًا بذاته، أو شيئًا يشعر به الفنان عندما يكون في حالة حب أو حالة حرب، ثم يُضمَّن بصورة محسوسة في العمل بل تقول الحجة إن الانفعال يتبدل عندما يؤخذ من تجربة غير فنية ويصبح جزءًا داخلًا في تركيب العمل الفني؛ فالحجة إذن مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بواحد من أكثر الانتقادات الموجهة إلى النظرية الانفعالية شيوعًا، وهو أن هذه النظرية تتجاهل أهمية الوسيط الفني والبراعة التي يستخدم بها الفنان هذا الوسيط.٤٢ فهذه العوامل بعينها هي التي تميز العمل الفني وتفرق بينه وبين بقية التجربة. ولن نستطيع التمييز بين انفعالات الفن وبين المجالات الأخرى للحياة، وهي المجالات التي نحس فيها بانفعالات ونعبر عنها على أنحاء أخرى، إلا إذا أدركنا أهمية العوامل السابقة. فالنظرية الانفعالية، تبعًا لهذا النقد، تهبط بالوسيط وببراعة الفن «إلى مرتبة مجرد وسيلة لغاية هي التعبير عن المشاعر موضوعيًّا».٤٣
ويعترف دوكاس بوضوح، في ناحية معينة، بأن تعامل الفنان مع الوسط قد يبدل انفعاله. وهو يشير إلى أن الانفعال المتجسد في العمل ليس هو الذي يحس به الفنان عادة عند بداية العملية الخلاقة، «بل إن الحالة المعتادة هي ألا يتولد في الفنان ذلك الشعور الذي يجسده العمل الفني آخر الأمر إلا تدريجًا، ولا يسبق نموه عملية التعبير الموضوعي عنه إلا بقليل.»٤٤ ولعل القارئ يذكر، من مناقشتنا للإبداع الفني، أن الوسيط ليس سلبيًّا فحسب، وليس «مجرد وسيلة»؛ فهو يقاوم محاولات الفنان تشكيله على بعض الأنحاء، ولكنه يقدم إليه أيضًا إيحاءات جديدة للسير بالعمل في اتجاهات أخرى. ويُعَد رأي دوكاس أكثر معقولية بكثير من رأي السذج من أصحاب النزعة الانفعالية، الذين يعتقدون أن انفعال الفنان هو في كل الأحوال ثابت ومحدد تمامًا قبل أن يبدأ النشاط الخلاق ومع ذلك فإن دوكاس ذاته يتعرض للنقد السابق حين يقول إن الانفعال الذي يعبر عنه العمل يمكن الشعور به قبل أن ينتهي العمل.
ولكن ما مدى قوة هذا النقد؟ إننا جميعًا، على الأرجح، نشارك في الاعتقاد بأننا «نعبر» بالفعل، على نحو ما، عن شيء كنا نفهمه حتى قبل أن يتحقق التعبير، فنحن «نحاول العثور على اللفظ الصحيح»، وعندما نجده نقول «هذا بعينه ما كنت أقصده (أو أشعر به)» فكيف استطعنا أن نعرف أن اللفظ هو «الصحيح»، ما لم نكن نعرف على نحو معين ما نحاول أن نقوله حتى قبل أن نقوله؟ ولو لم يكن الأمر كذلك، فكيف كنا نستطيع، خلال بحثنا عن اللفظ، أن نرفض اقتراحًا معينًا بأن نقول «كلا»، ليس هذا ما أعني»؟ وبالمثل ينبغي أن يكون هناك بعض التطابق بين ما يشعر به الفنان وبين العناصر الحسية والقوالب والموضوع … إلخ، التي يقرر أن يجعلها جزءًا من العمل، فعندما شعر بيكاسو بالسخط على الحرب، وهو السخط الذي دفعه إلى إبداع لوحة «جويرنيكا Guernica» الحائطية، لم يرسم منظرًا ريفيًّا بديعًا أو طفلًا أحمر الخدين.

وهكذا نجد أنفسنا نواجه مأزقًا؛ إذ نجد من جهة أن انفعال الفنان قبل أن يتم العمل الفني يوجه نشاطه الإبداعي، ويحركه في اتجاهات معينة لا في غيرها. فهو يحاول أن «يقول ما يشعر به». ونجد من جهة أخرى أن الانفعال الذي يشعر به لا يمكن أن يكون الانفعال الذي يعبر عنه العمل في شكله النهائي؛ إذ إن هذا لم يكن موجودًا إلا بعد انتهاء العمل. ويبدو أن الخلق الفني يقتضي إيجاد توازن بين هاتين القوتين؛ مطالب انفعال الفنان، والطابع التعبيري الكامن للموضوع. فما شعر به الفنان هو الذي يقرر، إلى حد بعيد إن كان «سيقبل» الموضوع، ويضع أدواته جانبًا، ولكن ما شعر به لا يمكن أن يفرض تمامًا طابعه على الموضوع؛ إذ إن العمل لا يمكن أن يكون مجرد نسخة من الانفعال السابق. إنه ليس كالمرآة التي تقتصر على أن تعكس ما يوضع أمامها، بل هو يبدل كل ما يعبر عنه، ويصبغه بصبغة فردية.

وعلى ذلك فإن النظرية القائلة إن الفن «تعبير عن الانفعال» لا يمكن أن تُقبَل على علاتها. فعلى الرغم من أن لها نصيبًا من الصحة، فإن معنى هذا اللفظ الحاسم، وهو «التعبير» لا بد أن يزداد وضوحًا. إن أية نظرية في الفن لا تصاغ لكي تسري حتى الأبد، وتلك مشكلة ينبغي أن يعمل المدافعون عن النظرية الانفعالية حسابًا لها في المستقبل، ولكن نظرًا إلى أننا جميعًا، سواءٌ أكنا من أنصار هذه النظرية أم لم نكن، نستخدم لفظ «التعبير» على هذا النطاق الواسع، فينبغي أن نكون على وعي بالدلالة المزدوجة التي ينطوي عليها هذا اللفظ.

•••

كنا حتى الآن نفترض، في محاولتنا معرفة معنى «التعبير عن الانفعال»، أن هذه العبارة تصف بدقة خلق الفن ونواتجه، وعلينا الآن أن تختبر هذا الافتراض أو هذه المسلمة. وهذا هو السؤال الهام الثاني في صدد مشكلة التعبير، فهل صحيح أن جميع الفنانين يقومون بنشاطهم الخلاق من أجل «إخراج الانفعال في صورة موضوعية»، وأن العمل الفني ذاته إنما هو إخراج كهذا إلى حيز الموضوعية؟

هنا نجد أن الشواهد تؤدي إلى نتائج متعارضة؛ فهناك قدر كبير من الشواهد يتمثل في أقوال الفنانين المدافعين عن النظرية الانفعالية.٤٥ ومع ذلك فلا هذه النظرية، ولا أية نظرية منفردة أخرى، تضم جميع الأوصاف المتعلقة بما يحاول الفنان أن يفعله. ففي بعض الحالات يسعى الفنان إلى خلق موضوع يكون جذابًا ومرضيًا عند تأمله، ولنُسَمِّه موضوعًا «جميلًا». وفي حالات أخرى، يتصدى الفنان لمشكلة تكنيكية يفرضها عليه وسيطه، ويسعى إلى حلها على النحو الذي يرضيه، ومن الواجب أن يلاحظ، في هذه الحالات، أن مشكلة «التعبير» التي ناقشناها الآن لا تثار على الإطلاق؛ ذلك لأن معيار نجاح القدرة الفنية في هذه الحالة ليس مطابقة الموضوع الفني لشيء يحس به الفنان قبل الانتهاء منه، بل إن التأكيد ينصب عندئذٍ على الموضوع، أعني كونه جميلًا، أو متناسقًا … إلخ. والإجابة عن هذه الأسئلة هي التي تقرر ما إذا كان الفنان سيضع جانبًا ريشته أو فرشاته. ويؤكد دوكاس أن الفنان قد يحكم أحيانًا على العمل، لا بوصفه تعبيرًا كافيًا عن شعوره الأصلي، بل بوصفه تعبيرًا عن شعور معين آخر، «يحس عندما يتأمله بالرغبة في أن يعترف به بوصفه وجهًا أو جزءًا من ذاته بحق».٤٦ وفي هذا خروج له أهميته عن النظرية الأصلية في التعبير عن الذات، إذ لم يعد العمل الآن تجسدًا ملائمًا لشيء كان الفنان يشعر به من قبل، بل أصبح تجسدًا لشيء له أهميته في ذاته. والواقع أن الحكم على العمل على هذا النحو أصبح أمرًا يبلغ من الانتشار حدًّا يتعين علينا معه أن نلتزم الحذر البالغ إزاء القول إن كل قدرة خلاقة إنما هي «تعبير عما يشعر به الفنان».
أما حيث يكون هدف العملية الخلاقة مقتصرًا على خلق موضوع يكون الفنان «على استعداد للاعتراف به»، فعندئذٍ لا يكون ذلك، تبعًا لنظرية دوكاس «عملًا فنيًّا» … ولا بد أن القارئ يذكر أن دوكاس يعترف بأن أي إنتاج لا يكون عملًا فنيًّا إلا إذا كان الفنان يسعى فيه إلى «إخراج مشاعره موضوعيًّا». وهذا يؤدي إلى إثارة أسئلة غاية في الخطورة حول صحة نظرية دوكاس؛ ذلك لأن دوكاس يزعم أن تعريفه «للفن» ينطبق بالفعل على كل ما يستحق هذه التسمية٤٧ فهل هو ينطبق على هذا حقًّا؟
إننا لو طبقنا تعريف دوكاس على قصائد أو لوحات معينة، لاضطررنا إلى القول إن الموضوعات التي تُعَد عادةً «أعمالًا فنية» لا ينطبق عليها هذا الوصف على الإطلاق؛ فهدف الفنان، كما لاحظنا منذ قليل، ليس هو التعبير الانفعالي على الدوام، وفي هذه الحالات تقول النظرية الانفعالية إن ما يخلقه ليس «عملا فنيًّا». وإزاء هذه الشواهد، يتعين على دوكاس أن يصنف كثيرًا من الموضوعات التي تُعَد عادةً «فنية» على نحو مخالف. مثال ذلك أنه يقول إن القصيدة الغنائية التي تكتب «لخطب ود امرأة»، والتي لا يعبر فيها الفنان عن نفسه موضوعيًّا، وإنما يقدم «نوعًا من الذات يعتقد أن هذه المرأة ستميل إليه، ويزعم أن هذه الذات هي ذاته الخاصة»، مثل هذه القصيدة لا تُعَد في نظره «فنًّا جميلًا»، بل إن دوكاس يسميها «اصطيادًا بطُعم روحي، وتدبيرًا غراميًّا».٤٨ وبالمثل فإن المحاولة الواعية لخلق موضوع جميل هي «عمل بارع»٤٩ وليست فنًّا.

ولكن من المؤكد أن هناك، في ميدان واسع كميدان شعر الغزل، كثيرًا من الأعمال التي يمكن لو عرفنا دخيلة نفس الشاعر، أن توصف بأنها «تدبير غرامي» على حد تعبير دوكاس؛ فالأعمال التي كان يوجهها الشعراء الإنجليز في عصر تيودور وستوارت إلى محبوباتهم تكشف في كثير من الأحيان، دون شك، عن «نوع من الذات يعتقد الشاعر أن هذه المرأة ستميل إليه». ومع ذلك فنحن لا نتردد في أن نسمي هذه «أعمالًا فنية» ونضعها ضمن المختارات الشعرية القيمة، وهي أشبه بالقصائد التي تكتب بدوافع مختلفة، منها بتقديم الحلوى أو الأزهار أو كليهما معًا، مما يعد نوع آخر من «التدبير الغرامي». وعندما يتعارض تعريف «للفن الجميل» مع الاعتقاد الذي يشيع الأخذ به، وينسب مثل هذا التعريف أعمالًا يعترف الجميع بأنها فنية إلى ميدان غير ميدان الفن، فعندئذٍ. يجدر بنا أن نشك في صحة التعريف نفسه؛ ذلك لأن المهم ليس التعريف ذاته، بل ما نستطيع أو لا نستطيع عمله به؛ فالتعريف المفرط في ضيقه يؤدي بنا إلى تجاهل أوجه شبه هامة بين مختلف القصائد، ويحول بيننا وبين المُضِي في عملية تحليل الأعمال الفنية ونقدها.

إن قصور النظرية الانفعالية إنما هو نتيجة لتعريفها للموضوع الفني على أساس نشاط الإبداع الفني، ثم قصرها هذا النشاط على تحقيق دافع واحد، هو التعبير الانفعالي. وقد رأينا على أنحاء متعددة أن للعمل الفني حياة ودلالة خاصة به، تعلو على دوافع الفنان. وعلى ذلك فإن النظرية الانفعالية لا يمكن أن تعد نظرية شاملة بالمعنى الصحيح في الفن.

•••

كنا حتى الآن نعامل المفكرين الثلاثة الذين يقولون بالانفعال في الفن على أنهم أصحاب نظرية واحدة. ومع ذلك فإن تولستوي يختلف عن فيرون ودوكاس في ناحية هامة؛ فهو ينكر أن التعبير عن الفن يكفي لتكوين فن، بل إن الفن ينبغي أيضًا أن يعمل على توصيل الانفعال إلى الجمهور. «إن الفن يبدأ عندما يكون لأي شخص معين هدف ضم شخص آخر … إليه في الإحساس بنفس الشعور».٥٠ من هنا كان تعريف تولستوي «للفن» بأنه «أن يثير المرء في نفسه انفعالًا مارسه من قبل، وبعد أن يثيره في نفسه، ينقل هذا الانفعال بواسطة الحركات أو الخطوط أو الألوان أو الأصوات أو الأشكال التي يعبر عنها في كلمات، بحيث يمارس الآخرون نفس الانفعالن هذا هو النشاط الفني.»٥١ إن أهمية الفن عظيمة، في نظر تولستوي؛ لأنه «لغة» تجمع الناس في انفعالات مشتركة. أما الفن الذي «يعجز عن التأثير في الناس فإنه «إما فن رديء، وإما ليس فنًّا على الإطلاق»».٥٢
أما دوكاس فإنه، مثل فيرون، يرفض نظرية «التوصيل» هذه؛ فهو يعترف بأن الفنانين يرغبون، أحيانًا على الأقل، في نقل انفعالاتهم إلى الآخرين ولكن هذه الرغبة تتميز، في رأي دوكاس، عن «الدافع الفني» إلى تعبير المرء عن مشاعره.٥٣ فالرغبة في التوصيل، شأنها شأن رغبة المرء في الربح من وراء فنه، ليست أساسية في العملية الخلاقة. وفضلًا عن ذلك فإن «قدرة نواتج فنية على توصيل الشعور، واستخدامها أحيانًا لهذا الغرض، لا تعني أن هذه الأعمال قد حدثت نتيجة للرغبة في القيام بذلك».٥٤ ومن ذلك ينتهي دوكاس إلى أن «تعمد التأثير في الآخرين»٥٥ ينبغي ألا يؤخذ على أنه جزء من تعريف «الفن الجميل».

إن هناك سؤالَين مختلفَين ينطوي عليهما هذا الخلاف: (١) هل الفنان خلال النشاط الخلاق، يهتم دائمًا بتوصيل انفعالاته إلى جمهور ممكن؟ (٢) بغض النظر عن قصد الفنان، هل ينبغي أن يُعرَّف «الفن الجميل» على أساس التعبير وحده، أم على أساس التوصيل بدوره؟ إن السؤال الأول سؤال عن وقائع نفسية، يُجاب عنه بمعرفة أفكار الفنان ورغباته. أما السؤال الثاني فهو مسألة يقررها عالم الجمال؛ فهل التعريف «التعبيري» أعظم فائدة وأصلح لفهم الفن من التعريف «التوصيلي»، أم أن العكس هو الصحيح؟

فيما يتعلق بالسؤال الأول، يكاد يكون من المؤكد أن عددًا كبيرًا من الفنانين، وربما معظمهم، كانوا يهتمون بالقدرة التوصيلية لفنهم. والدليل على ذلك أنهم كانوا يراجعون عملهم، خلال عملية الخلق، ليجعلوه أسهل فهمًا أو أكثر جاذبية للجمهور المنتظر. ففي المجتمع القديم والوسيط، وفي كل مجتمع كان الفن يخدم فيه أغراضًا جماعية، كان الفنان يفترض مقدمًا أهمية التوصيل الناجح إلى الآخرين. وفضلًا عن ذلك فإن الوسيط الذي كان يستخدمه الفنان، أعني «القوالب»، من أمثال السوناتا أو الرواية، وكذلك رمزيته، تُستمد عادة من تراث حضاري. ومن هنا فإنا نستطيع استخدامها من أجل إنتاج موضوع «عام» يمكن المشاركة فيه.

ومع ذلك فإن من الخطأ الاعتقاد أن الفنانين يبحثون دائمًا عن التوصيل، بل إن هناك أمثلة تفيد عكس ذلك. فكثيرًا ما يكون الخلق شخصيًّا بعمق، أو مستحوذًا على الفنان، إلى حد لا يعود معه يفكر في أولئك الذين قد يدركون العمل فيما بعد. وعندئذٍ يكون اهتمامه الطاغي والوحيد منصبًّا على التعبير عن نفسه تعبيرًا كاملًا، أو على «صقل» العمل الفني، وما إلى ذلك. وفي هذا يقول الشاعر كيتس: «أنا على ثقة من أن عليَّ أن أكتب بدافع الحنين والهيام اللذين أحس بهما نحو الجمال فحسب، حتى لو ضاعت الجهود التي أبذلها في الليل هباءً كل صباح، ولم تقع عليها عين أحد.»٥٦ وبالمثل كان جيرارد مانلي هوبكنز Gerard Manley Hopkins مدفوعًا إلى الخلق بالرغبة في التعبير عن تقديسه لله وعن نقائصه هو في نظر الله. وكانت أشعاره، كما كان يعلم، «معقدة متعمقة»، وبالتالي ظلت طويلًا بلا قراء، أو لا يقرؤها إلا القليلون، ولكن لم يكن ما يسعى إليه في شعره هو الشهرة.

وعلى ذلك فإذا نظرنا إلى نظرية «التوصيل» عند تولستوي على أنها وصف لوقائع النشاط الخلاق، فإنها تجد تأييدًا من بعض الشواهد المتصلة بالموضوع على الأقل، ولكن تولستوي يؤكد أن الفن ينبغي أن يكون رباطًا يجمع الناس جميعًا. وعلى ذلك فقد يكون من الواجب تفسير تعريفه «للفن» بأنه دعوة إلى ما ينبغي على الفنانين أن يفعلوه. وهنا قد نتساءل: هل يؤدي الاهتمام الواعي بالجمهور إلى زيادة قيمة عمل الفنان؟

إني لا أعتقد أن هذا السؤال يمكن الإجابة عنه ﺑ «نعم» أو «لا» فحسب؛ فهناك كثير من الأعمال الفنية العظيمة، مثل مسرحيات شيكسبير، خُلِقت وفي ذهن الفنان أن تجتذب الجمهور. ومع ذلك فإن الاهتمام المفرط بما سيعتقده والجمهور، قد يؤدي بالفنان إلى السوقية والابتذال؛ فقد يحاول أن يجعل عمله بسيطًا يسهل استيعابه، وبذلك يقضي على مزاياه، وحسبنا في هذا الصدد أن نتذكر الروائيين والموسيقيين الذين خضعوا لهذا المطلب في عصرنا. وعلى ذلك فإن الاهتمام «بالتوصيل» ينبغي أن يخفف منه احترام القيمة الكامنة للعمل، ونزاهة الفنان الخاصة. غير أن الانطواء المفرط له أخطاره بدوره؛ فالفنان الذي لا يُلقِي بالًا إلى الجمهور يتجاهل بذلك أداة هامة من أدوات الضبط النقدي لعمله؛ ذلك لأن السؤال: «ماذا سيكون وقع هذا العمل على الآخرين» هو ضابط نقدي هام يفتقر إليه مثل هذا الفنان. وقد يكون حكمه الخاص غير كافٍ، كما هي الحال عند كثير من الفنانين الذين تغلب عليهم روح الهواية. وهكذا يكون العمل مفتقرًا إلى التنظيم أو معقدًا أكثر مما ينبغي، أو عقيمًا فحسب.

حسبنا إذن ما قلناه الآن عن النزاع بين «التعبيريين» و«التوصيليين» حول الخلق الفني (وإن كان كلامنا هذا موجزًا أكثر مما ينبغي؛ لأن من الممكن، كما قد يدرك القارئ، أن يقال أكثر من هذا بكثير). فلننتقل الآن إلى السؤال الثاني، وهو: هل ينبغي النظر إلى التوصيل، كما فعل تولستوي، على أنه جزء من تعريف «الفن الجميل»، بحيث إن الموضوع الذي لا يثير في المشاهد انفعالًا لا يكون «عملًا فنيًّا»؟

من الواضح أن الموضوع الذي يعجز تمامًا عن توصيل انفعال إلى أي شخص لا بد أن يكون، حسب هذا الفرض ذاته، عديم القيمة، وبالتالي لا يكاد يكون جديرًا بالكلام عنه. ويبدو أن إطلاق اسم «الفن» عليه لا يؤدي إلا إحداث فارق ضئيل. ومع ذلك فإن سؤالنا هذا يثير أسئلة هامة حول معنى «الفن الجميل».

يقدم الأستاذ دوكاس حججًا قوية مقنعة ضد التعريف «التوصيلي» للفن؛ فهو يشير إلى أن «وصف أي شيء بأنه عمل فني لا يعدو أن يكون كلام عن نوع العملية التي ظهر بها هذا العمل إلى الوجود».٥٧ وكما رأينا في تحليلنا السابق للمعنى الشامل للفن، فإن الطريقة التي ينتج بها الفن هي التي تميزه من الموضوعات الطبيعية والأفعال الغريزية أو التي تؤدى بحكم العادة أو الأفعال المنعكسة. ويواصل دوكاس كلامه قائلًا إن قدرة الشيء على التوصيل تتعلق بالتأثيرات التي يحدثها بعد أن يكون قد ظهر إلى الوجود. فأصل الموضوع شيء، وتاريخه اللاحق لخلقه شيء مختلف كل الاختلاف. أما جعل «التوصيل» جزءًا من تعريف «الفن» فينطوي على خلط بين الأمرين، يؤدي إلى تشويه المعنى المعتاد للفظ «الفن». وفضلًا عن ذلك فإن نظرية «الاتصال» تؤدي إلى نتيجة تنطوي على مفارقة، بل نتيجة مضحكة. فلنفرض أن عملًا واحدًا يؤثر في شخص معين ولا يؤثر في شخص آخر، أو يؤثر في الشخص في وقت معين، وليس في وقت آخر، وهو أمر كثير الحدوث. عندئذٍ يتعين علينا القول إن الموضوع عمل فني وليس عملًا فنيًا معًا، ولكن هذا كما يقول دوكاس «ممتنع، لأنه إذا كانت لوحة معينة، في الحقيقة، نتاجًا لذلك النشاط البشري الخلاق المسمى بالفن، فإن هذه الحقيقة تظل حقيقة إلى الأبد، وعلى نحو شامل.»٥٨

فإذا أردنا أن نقول عن عمل فني إنه يوصل المشاعر أو لا يوصلها، أو إذا أردنا أن نتحدث عما يوصله، ففي استطاعتنا أن نقوم بهذه المهمة خير قيام دون أن نجعل من «التوصيل» جزءًا من تعريف «الفن الجميل». ويظل من الممكن عندئذٍ أن يقال كل ما يود صاحب نظرية التوصيل أن يقوله عن الفن. وفضلًا عن ذلك فإننا نستطيع الآن أن نقول ما نود في كثير من الأحيان أن نقوله، وهو أن العمل الفني الواحد أثر في جيل معين ولكنه لم يؤثر في جيل آخر، ويكون كلامنا عندئذٍ معقولًا. وعلى هذا النحو فإن قيمة الفن، عندما يدرَك جماليًّا، تظل بمعزل عن معنى «الفن»، الذي لا يدل إلا على طريقة إنتاج الموضوع.

•••

وهذا يؤدي إلى إثارة سؤال آخر، هو: هل القيمة الجمالية للعمل هي ذاتها قدرته على التوصيل إلى الجمهور، أم أنه لا صلة لأحد هذين الأمرين بالآخر؟ إن إجابة تولستوي في هذا الصدد واضحة لا غموض فيها؛ فهو يقول: «إن العدوى ليست علامة مؤكدة على الفن فحسب.» — وقد رأينا أنه يعد «العدوى» جزءًا من معنى «الفن» — بل هو يمضي بعد ذلك قائلًا إن «مدى القدرة على العدوى هي أيضًا المقياس الوحيد للامتياز في الفن».٥٩ ويلاحظ أن التعبير «مدى القدرة على العدوى» يشير إلى عدد من الأشياء المتباينة في نظر تولستوي. وسوف نناقش المسألة في هذا الموضع من حيث اتصالها باتساع نطاق جاذبية العمل على نحو شامل. فالعمل يكون «معديًا» عندما يستطيع عدد كبير من الناس أن يفهموه، ويمكنه أن يوصل إليهم انفعالًا. ويقول تولستوي إن «ما يميز العمل الفني … إنما هو كون لغته مفهومة للجميع، وكونه معديًا للجميع دون تمييز».٦٠ ويواصل كلامه قائلًا: «إن القول بأن الفن يمكن أن يكون فنًّا جيدًا ويكون في الوقت ذاته غير مفهوم لدى عدد كبير من الناس، هو قول بعيد كل البعد عن الصواب … فالفن الجيد يؤدي دائمًا إلى إمتاع كل شخص.»٦١

وهناك احتمال كبير في أن القارئ سوف يتوقع الاعتراض الموجه إلى هذا الرأي ويستبقه. فنحن جميعًا نعيش في «ثقافة جماهيرية»، أي أن الأعمال الفنية في مجتمعنا، شأنها شأن السلع الأخرى، تستهدف عادةً إرضاء جماهير كبيرة. وهذه في كثير من الأحيان مسألة ضرورة اقتصادية؛ فالأفلام السينمائية، إذا لم تجد «سوقًا جماهيرية» وتصل إليها، لا يمكن أن تنتَج، ولكنا لن نسلم بأن إعجاب الجماهير بالعمل الفني معيار لقيمته الفنية ما لم نكن مندمجين تمامًا في «الثقافة الجماهيرية»، وهو أمر لن يكون أي واحد منا على استعداد لتصديقه بالنسبة إلى نفسه، بل إننا قد نتصور أحيانًا أن قيمة العمل الفني وشيوع الإعجاب به يتناسبان تناسبًا عكسيًّا؛ ففي كثير من الأحيان تكون أكثر الأسطوانات الخفيفة شيوعًا، أو أكثر برامج التليفزيون اجتذابًا للجماهير، هي أقل نماذج هذا النوع من الفنون مرتبة، فهذه أعمال تصيب «بالعدوى» أعدادًا لا حصر لها من الناس. ولكن هذا لا يثبت أنها جيدة. وبطبيعة الحال، فقد تكون هناك رواية سينمائية معينة تجمع بين القيمة الكامنة وإعجاب الناس بها، ولكن يظل من الصحيح أنه لا توجد علاقة ضرورية بين «مدى قابلية العدوى» وبين القيمة الجمالية.

كذلك فإن هناك قدرًا كبيرًا من «الفن الجيد» لا «يمتع كل شخص»، على عكس ما يقول تولستوي. ونستطيع أن نجد لذلك أمثلة متعددة في فن القرن الحالي. فكتابات جويس، وكافكا، وبروست، أو مدارس «الفن الحديث»، التي نوقشت في الفصل السابق، تقتضي من المدرك بذل مجهود كبير، وبالتالي لم يكن لها إلا جمهور محدود. وليس في استطاعتنا تذوق أمثال هذه الأعمال ما لم نبذل الجهد اللازم لكي نألفها، ونستعين بنقاد من نوع «فراي». غير أن تولستوي ينكر أن هذا ضروري من أجل تذوق ما يعده فنًّا جيدًا؛ فهو يقول إن الفن يستطيع أن يعدي الناس «بغض النظر عن حالتهم من حيث التقدم والتعليم.»٦٢ ولا يتعين على المشاهد أن «يبذل جهدًا» أو «يغير وجهة نظره».٦٣ غير أن هذا يتعارض مع ما نعرفه عن الإدراك الجمالي؛ ففي كثير من الأحيان يتعين علينا أن نبذل جهدًا مقصودًا لكي ننمي في نفوسنا «التعاطف» مع أعمال فنية كانت في الأصل غريبة عنا. وعلى هذا النحو وحده يمكن تنمية الذوق. أما الأعمال التي يمكن الاستمتاع بها دون جهد فكثيرًا ما تكون تافهة أو ضئيلة القيمة.
ولقد ذهب نقاد تولستوي في كثير من الأحيان إلى أن أوضح تفنيد لنظرية «العدوى» يتمثل في أنواع التقويم الفني التي يؤدي إليها تطبيق هذه النظرية؛ فتولستوي يحمل على معظم الأعمال الكلاسيكية في الفن الغربي، ولا سيما أعمال القرن التاسع عشر. وهو يرى أن سيمفونية بيتهوفن التاسعة عمل هزيل؛ لأنها «لا توحد الناس جميعًا».٦٤ وهذا يصدق أيضًا على برامز، وريشارد شتراوس، وفاجنر. ومن جهة أخرى يزعم تولستوي أن «الأغلبية كانت تفهم على الدوام، وما زالت تفهم، ما … نعترف بأنه أفضل الفنون جميعًا؛ وهو ملحمة سفر التكوين، وقصص الكتاب المقدس، والأساطير الشعبية وحكايات الجن والأغنيات الشعبية».٦٥ وليس من الضروري أن ننتقص من قدر هذه الأعمال إذا أعربنا عن ترددنا في تسميتها «بأفضل الفنون جميعًا»، أو أنكرنا أن «العدوى» معيار للقيمة في الفن.

•••

لقد وضعنا المدرسة «التعبيرية» في مقابل المدرسة «التوصيلية» داخل نطاق النظرية الانفعالية. ومع ذلك فإنهما، في ناحية معينة، لا يتعارضان بالقدر الذي توحي به المقارنة بين تعريفي تولستوي وفيرون «للفن». صحيح أن فيرون، القائل بنظرية التعبير، لا يعرف «الفن» على أساس التوصيل. ومع ذلك فإنه يرى أن الأعمال التعبيرية تؤدي، في واقع الأمر، إلى توصيل انفعال إلى جمهورها. وهذا ما يتحقق لو توافر شرط معين — هو ما يسميه فيرون «شرط الإخلاص المطلق». «ما على الفنان الصادق الشعور إلا أن يستسلم لانفعاله، وسوف يصبح هذا الانفعال مُعديًا، وينهال عليه الثناء الذي يستحقه».٦٦
إن «إخلاص الفنان» أمر له أهمية عظمى في أية نظرية انفعالية. فحين يُعَد الفن سجلًا للانفعال، فعندئذٍ يشترط في الفنان أن يشعر بإخلاص بما يضمِّنه العمل. ولا يعود الهدف في هذه الحالة هو مشابهة الواقع، كما هي الحال في نظرية «المحاكاة»، بل إن «الإخلاص يحل محل الحقيقة في الفن»،٦٧ كما يقول فيرون. وفضلًا عن ذلك فإن أصحاب النظرية الانفعالية من أمثال فيرون كانوا يحتجون على نوع الفن الذي تنتجه «الأكاديميات»؛ حيث كان الطلاب يتعلمون «الأصول» الصحيحة للتصوير، ويكتسبون مقدرة تكنيكية، ويدرسون الفن اليوناني الروماني، ثم ينتجون أعمالًا باردة لا حياة فيها. وكان ذلك راجعًا إلى أنهم هم أنفسهم لم يشعروا بانفعال شخصي عميق أثناء إبداعهم. والواقع أن الفن، كما يقول تولستوي، لا يكون مبدعًا إلا إذا «كان الفنان قد أحس على طريقته الخاصة بالشعور الذي ينقله، لا عندما ينقل إلى الناس شعور شخص آخر نقل إليه من قبل».٦٨ وهناك نوع آخر من عدم الإخلاص يحدث عندما «لا يشعر الفنان ذاته بما يرغب في التعبير عنه، وإنما يفعل ذلك من أجل من يتلقى فنه».٦٩ والفن المفتقر إلى الإخلاص إنما هو فن «مزيف».٧٠ أما الفن الجيد فهو في نظر تولستوي، الفن المعدي، كما رأينا من قبل. وتتوقف قدرة العمل على العدوى، أساسًا، على إخلاص الفنان.٧١ ومن هنا تحدث تولستوي عن «أهم صفات الفن وأنفسها؛ وهي إخلاصه».٧٢

وقد تغلغلت فكرة «الإخلاص»، شأنها شأن الكثير من العناصر الأخرى للنظرية الانفعالية، في التفكير والحديث الشائع عن الفن. ويبدو أن لذلك أسبابًا معقولة؛ فنحن أنفسنا نتأثر وننفعل حين نقتنع بأن الفنان يخاطبنا «من قلبه»، فإخلاصه يضفي قدرًا كبيرًا من الحماسة على عمله. أما حين نعتقد أنه «يزيف» أو «يتظاهر»، فإنا نتباعد عنه بنفس القدر. وبالمثل فحين نعتقد أن الفنان يحاول إثارة انفعالات لم يمارسها هو ذاته، أو يتلاعب بها، فإنا نشعر أيضًا بالنفور. وعلى وجه العموم، فإن الأعمال التي يخلقها فنان غير مخلص كثيرًا ما تكون مفتقرة إلى الحرارة والإقناع اللذَين يضيفهما انفعال الفنان على العمل. وعلى هذا الأساس يكون «الإخلاص» فكرة ذات أهمية وقدرة توضيحية كبيرة.

ولا تظهر نواحي قصور هذه الفكرة إلا عندما نخضعها للتحليل.

فلنتساءل أولًا: كيف يمكننا أن نعرف، عمليًّا، إن كان الفنان مخلصًا أم غير مخلص؟ إن «الإخلاص» يدل على حالات معينة في تاريخ الحياة النفسية للفنان، أي على انفعالات معينة أحس بها. ولكننا لا نستطيع عادة معرفة هذه الوقائع المتعلقة بحياته، ولا سيما حين تكون «خصوصية» على النحو الذي تكونه الانفعالات عادة. بل إن ما في متناول أيدينا إنما هو العمل الفني ذاته. وهذا العمل موضوع — صِيغ في أنغام أو حجارة أو كلمات — لا حالة نفسية يمكن ممارستها بمعزل عن العمل. وكما حاولت أن أوضح من قبل، فإن الاستدلال من العمل على الحالة النفسية للفنان هو عادةً أمر محفوف بالمخاطر، وكثيرًا ما يكون خطأً صريحًا. صحيح أننا في بعض الأحيان نستطيع استخلاص استدلالات كهذه بقدر معقول من الصواب؛ إذ إن من العسير جدًّا تصور أن ملتن لم يكن يشعر هو ذاته بسخط مماثل لذلك الذي أعرب عنه في قصيدة «مذبحة بيدمنت الأخيرة»، أو أن الانفعال الظاهر في سيمفونية تشايكوفسكي الخامسة ليس له ما يقابله في التاريخ الانفعالي للفنان، ففي أمثال هذه الحالات نستطيع على الأرجح أن نقوم بذلك النوع من الحكم الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة. ومع ذلك فمن الممكن جدًّا أن نقع في الخطأ مرات تزيد كثيرًا عما نعتقد، ولكنا لا نستطيع أن ندرك ذلك لأننا لا نملك الشواهد — المستمدة من حالات الفنان النفسية — التي تستطيع هي وحدها أن تحدد إن كان استدلالنا صوابًا أم خطأ.

ولقد أوردت الآن مثلين يبدو فيهما الاستدلال المتعلق بتاريخ حياة الفنان معقولًا. غير أن التأثير المتأصل للحركة الرومانتيكية وللنظرية الانفعالية هو وحده الذي يجعلنا نعتقد عادة أن مثل هذا الاستدلال مشروع دائمًا. فلنتأمل حالة أخرى، هي حالة هايدن، الذي كتب ما يربو على مائة سيمفونية، فضلًا عن عدد كبير من الأعمال الموسيقية التي تتخذ صورة أخرى. ولقد كتب كثير من هذه الأعمال بالتكليف، أي بناء على طلب السيد الذي يرعاه، أو بتكليف من جهة أخرى. فهل كان يتعين عليه أن يشعر بكل ما تتضمنه أعماله الكثيرة من انفعالات لا حصر لها؟ وهل من المعقول أن نتصور أنه كان يشعر بها فعلًا؟ هل كان عليه أن يمر بكل درجات المشاعر في كل مرة كان عليه فيها أن يكتب قطعة موسيقية مرحة خفيفة من النوع «السريع في توثب Allegro con spirito»، وحركة بطيئة متأملة في سيمفونية؟ إن الأكثر واقعية هو أن ننظر إلى هايدن على أنه صانع ماهر، قادر على أن يشكل ببراعة مواد تتسم هي ذاتها بأنها حيوية موحية؛ فأنغام السلم الموسيقي، وأصوات الأوركسترا، وتركيب قالب السوناتا — كل هذه لها حياة وجاذبية خاصة بها بالنسبة إلى الفنان المبدع. ومن الممكن التحكم فيها بطريقة صناعية من أجل إنتاج موضوع يتميز بقدرة كامنة على الإمتاع. وليس معنى ذلك أن هايدن هو مجرد صانع تكنيكي، ولكن عظمته التي لا شك فيها لن تفسَّر بتلك الإشارة غير المؤكدة إلى «الإخلاص». فعندما يكون العمل معبرًا في نظر المشاهد، فإنا لا نستطيع أن نستدل دائمًا على أنه تعبير عن الفنان.

وحتى لو كان الفنان مخلصًا بالفعل، فلا يترتب على ذلك القول إن العمل سيبدو «مخلصًا» للمدرك الجمالي. أما الافتراض الذي تسلم به النظرية الانفعالية، من أن الأمر لا بد أن يكون كذلك، فهو افتراض لا يقوم على أساس؛ فقد تكون انفعالات الفنان متحمسة وعميقة، ومع ذلك يعجز العمل، لأسباب لا حصر لها، عن توصيل هذا الشعور؛ إذ قد يكون الفنان مفتقرًا إلى القدرة على السيطرة على وسيطه، وقد تكون مقدرته العملية محدودة، وقد يكون بناء عمله مختلًّا أو جامدًا، أو غير ذلك من الأسباب. أليست هذه في كثير من الأحيان مأساة الفنان الهاوي؟ ألا يصدُق ذلك على شعر الغزل عند المراهق؟ إنه يحس بمشاعره بجدية وإخلاص كاملين، ومع ذلك فإن ما يخلقه فج، تافه، بارد. ولو حكمنا على الأمر من خلال العمل ذاته، لما خطر ببال أحد أن الفنان كان «مخلصًا». وفضلًا عن ذلك فإن الحالة المضادة يمكن تصورها تمامًا، كما قلت منذ قليل: فالفنان الذي لا يشعر بانفعال، أو لا يحس إلا بانفعال بسيط، قد يخلق موضوعًا ذا قدرة تعبيرية انفعالية كبيرة. فعدم إخلاص الفنان لا يؤدي في ذاته وبذاته إلى الإقلال من قيمة العمل أو القضاء عليها بالنسبة إلى المشاهد الجمالي، بل إن العمل هو موضوع الإدراك الجمالي، لا حياة الفنان. فإن كان العمل يتحدث على الإطلاق، فهو إنما يتحدث عن نفسه.

وقد يجد بعض القراء أن هذه الحجج تصدم إيمانهم الراسخ بأهمية «الإخلاص»، وربما كانوا يودون القول إن «العمل هو الإنسان». وأود أن أذكِّر هؤلاء بأن هذه الحجج، شأنها شأن كل الحجج الأخرى التي نوقشت في دراستنا هذه، ليست مما يُقبل أو يُرفض بطريقة غير نقدية، بل إن على القارئ أن يختبرها في ضوء الشواهد والأدلة المتعلقة بالموضوع، والتي ربما كنت قد أغفلت بعضًا منها. وبهذه الطريقة يعيد التفكير في إيمانه «بالإخلاص» الفني، حتى لو قرر آخر الأمر أن يحتفظ بهذا الإيمان. فلأعرض على هذا القارئ ما أعتقد أنه نتائج المناقشة السابقة، لكي يتناولها بالبحث: إن المهم هو أن يشيع في العمل روح الإخلاص، فإن لم تكن فيه هذه الروح، نقصت قيمته. وفي بعض الحالات، التي تكون فيها الشهادة الباطنة للعمل قوية، نستطيع، بقدر من الاحتمال، أن نستدل على مشاعر الفنان، ولكن، على الرغم من أن الإخلاص في الفنان قد يكون في أحيان كثيرة سببًا من أسباب جودة العمل، فإنه لا يكفي أبدًا، في ذاته، لضمان قيمة العمل.

•••

إن فكرة «الإخلاص» ترتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرة أخرى من الأفكار التي تتميز بها النظرية الانفعالية، وهي أنه إذا كان الفنان مخلصًا، فإن المدرك سيشارك في نفس التجربة التي مرَّ بها الفنان أصلًا. وقد صادفنا هذا الرأي من قبل في الفقرات المقتبسة من تولستوي، والتي عرضت فيها نظرية التوصيل. وبالمثل يقول فيرون إن العمل الفني الجيد «يأتي إلينا بنفس مشاعر مبدعِه».٧٣ وكثيرًا ما نتحدث عن التجربة الجمالية على هذا النحو ذاته. ومن هذا القبيل ما كتبه ناقد عن لوحة لبيسارو Pissarro، إذ قال: «إن المرء يحس بأن شعورًا حزينًا يتغلغل فيه رويدًا رويدًا، وهو شعور لا بد أن الفنان ذاته قد أحس به عند مشاهدته للمنظر الطبيعي.»٧٤

هذا الرأي يمكن مناقشته بشيء من الإنجاز؛ لأنه قريب الشبه من آراء أخرى في النظرية الانفعالية سبق لنا بحثها. ففي هذه الحالة بدورها يُنظر إلى التجربة الشخصية للفنان على أنها ذات أهمية رئيسية — هي أنها معيار التجربة الجمالية هذه المرة — وهنا أيضًا يؤدي ذلك إلى إثارة مشكلات. فكيف يتسنى لنا أن نعرف على أي نحو أن تجربة المشاهد «هي ذاتها» تجربة الفنان؟ قد أكون على ثقة من أن تجربتي مماثلة تمامًا لتجربة الفنان، ولكن لما كان الأساس الذي أحكم بناء عليه هو عادة العمل الفني وحده، ولما كانت الوقائع المتعلقة بتاريخ حياة الفنان، في هذه الناحية بعينها، غير متوافرة لديَّ، فإن رأيي هذا لا يعدو أن يكون تخمينًا ضعيف الاحتمال. وفضلًا عن ذلك فإن العمل الفني قد يثير في مختلف الناس عددًا كبيرًا من التجارب المتباينة، التي لا يمكن أن تكون كلها مماثلة لتجارب الفنان الخاصة، ومن الجائز أن أية واحدة لا تماثلها. ويكفي أن نتصور ذلك التباين العميق في طريقة «قراءة» الأجيال التي ظهرت بعد شيكسبير لمسرحية هاملت، أو طريقتَي الأداء المتعارضتَين لنفس العمل الموسيقي على يدَي قائدَين مختلفَين للفرقة الموسيقية. كذلك فليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن التجربة الجمالية الأقرب شبهة إلى تجربة الفنان لا بد أن تكون أكثر إرضاءً من غيرها من التجارب التي يمكن ممارستها. فقد يجد المشاهد في العمل قيمة أغفلها الفنان، وعندئذٍ يكون الخروج من تجربة الفنان كسبًا.

ومن الجدير بالملاحظة أن دوكاس، وهو أقرب دعاة النظرية الانفعالية عهدًا، يتخلى عن اعتقاد أسلافه في القرن التاسع عشر بهوية انفعالات الفنان والمشاهد.٧٥ والأهم من ذلك أنه لا يعتقد بأن المُشاهِد مُلزَم على أي نحو بتشكيل تجربته على نمط تجربة الفنان: «عندما يُنظر إلى العمل الفني من وجهة نظر المدرك، فإن القيم التي يمكن على أساسها أن يقدر هذا العمل تقديرًا مشروعًا تكون متباينة إلى أقصى حد».٧٦

•••

إن هناك نتيجة تظهر بوضوح من التحليل الذي قدمناه حتى الآن للنظرية الانفعالية، فحتى لو كان ما يقوله أصحاب هذه النظرية عن عملية الخلق صحيح (وقد رأينا أن هناك من الأسباب ما يدعو إلى الشك في صحته الشاملة)، أعني حتى لو كان الفنان يسعى إلى «إظهار شخصيته»، أو إلى «التعبير عن انفعالاته بإخلاص»، فإننا لا نستطيع أن نستدل من ذلك بطريقة مشروعة على طبيعة العمل الفني، أو طبيعة التجربة الجمالية وقيمتها، فالعملية الخلاقة هي منشأ الموضوع الفني، ولكن ما إن يظهر العمل إلى الوجود، حتى يستطيع المدرك أن يفسره ويستمتع به ويقدِّره على شتى الأنحاء المتباينة التي لا تكون لها صلة بتجربة الفنان الشخصية. فلا يمكن أن يُفهم العمل فهمًا كافيًا على أساس أنه نسخة طبق الأصل من تجربة الفنان. ولا يمكن أن «تقيد» التجربة التذوقية لدى المشاهد بتجربة الفنان (حتى لو استطعنا أن نعرف كنه هذه الأخيرة). ولا يمكن أن تتحكم التجربة الشخصية للفنان أثناء الخلق في قيمة عمله عند تأمله، أو تشرَّع لهذه القيمة. فإذا أدركت كيف يمكن أن تستخلص هذه النتائج من الصفحات السابقة، فأنت على الأرجح قادر على أن تدرك مدى صحة عبارة الأستاذ لي Lee، التي قال فيها: «لا بد أن يدب الخلط في أية نظرية جمالية تلتمس لدى تجربة الفنان الخلاقة حلًّا لمشكلاتها».٧٧

(٣) التجربة الجمالية

إذا لم تكن وقائع الخلق الفني تتحكم في طبيعة التجربة الجمالية، فكيف نتأكد، في ظل النظرية الانفعالية، من أن التجربة الجمالية تنطوي دائمًا على انفعال؟ وفضلًا عن ذلك، فإن من الممكن الشعور بمتعة جمالية عندما يكون موضوع التجربة طبيعة لا فنًّا. ونظرًا إلى أن الطبيعة ليست نتاجًا للخلق الفني، فإن أي شيء مما نقوله عن الفن لن يستطيع تفسير إدراك الطبيعة. فالنظرية الانفعالية لا يمكنها أن تثبت أن الانفعال أساسي للتجربة الجمالية على الدوام إلا بدراسة التجربة الجمالية لذاتها.

•••

يقدم دوكاس أكبر تحليل مفصل لهذه التجربة، فهو يرى أن الانفعال أساسي للتذوق الجمالي لأن الانفعال، في رأيه، هو بعينه ما نسعى إليه حين ننظر إلى الأشياء جماليًّا. ولقد رأينا من قبل أن الموقف الجمالي هو موقف «منزَّه عن الغرض». ويضيف دوكاس إلى وصفه عنصرًا آخر؛ هو «التفتح» «للدلالة الانفعالية» للموضوع؛ «ففي التأمل الجمالي يتفتح المرء تمامًا … لاستقبال الشعور feeling»٧٨ ويكون انتباهنا مركزًا على الموضوع، ولكن «اهتمامنا، وهدفنا، إنما يكمن في الشعور من حيث هو كذلك».٧٩ وعندما نكتسب الشعور، يكون «شيئًا يمكن تذوقه» ويمكن أن يكوِّره المرء تحت لسانه الانفعالي، إن جاز هذا التعبير.٨٠ فالشعور هو «اكتمال التأمل ونجاحه».٨١ ومن هنا كان وصف دوكاس للموقف الجمالي بأنه «الاستماع، أو الرؤية، عن طريق قدرتنا على الشعور».٨٢ ومن الممكن اتخاذ الموقف الجمالي نحو أي موضوع،٨٣ كما أن من الممكن الشعور بأي انفعال خلال التجربة الجمالية.٨٤

والواقع أن دوكاس قد عبر عن طبيعة جزء كبير، على الأقل، من التجربة الجمالية. فمن المؤكد أن كثيرًا من الناس يدركون الفن والموضوعات غير الفنية على هذا النحو بالفعل، فهم إذا لم «يتأثروا»، أنكروا أن يكون الإدراك الجمالي قد وصل إلى «الاكتمال» أو «النجاح». كذلك يبدو أن دوكاس، بإضافته «التفتح» الانفعالي إلى «التنزه عن الغرض» يميز الموقف الجمالي، بوضوح أعظم، من حالات الإدراك الأخرى. فمن الممكن أن يجد المرء أهمية كامنة في شيء يظهر بوضوح أنه ليس موضوعًا جماليًّا؛ إذ إن بعض الناس يقرءون التاريخ أو يدرسون الرياضيات مثلًا على هذا النحو. وتبعًا لرأي دوكاس، تتميز تجربة هؤلاء الناس عن التجربة الجمالية بأنهم يهدفون إلى إدراك «أفكار»، لا الانفعالات التي قد تصاحب هذه الأفكار. أما إذا كانوا بالفعل معنيين «بالدلالة الشعورية أو الانفعالية» للبرهان الرياضي مثلًا، فعندئذٍ تكون تجربتهم جمالية.

ومع ذلك فإن لنا الحق في أن نتساءل إن كان المشاهد الجمالي يهتم دائمًا «بالدلالة الشعورية أو الانفعالية» للموضوع وحدها، فهناك كثيرون ينكرون أنهم يهتمون بمثل هذه الدلالة؛ ذلك لأنهم يبدون انتباهًا متعاطفًا منزهًا عن الغرض بالموضوع، و«يتفتحون» لأية حالات نفسية قد يشعرون بها نتيجة لذلك. وهم يركزون انتباههم على «السطح الحسي» للموضوع، وعلى الطريقة التي يبدو بها للعين أو الأذن، ويستمتعون بإحساساتهم، أو هم يدركون التنظيم الشكلي للموضوع، وتنصب تجربتهم تبعًا لذلك على النظام والتوازن، أو يصبحون على وعي بالارتباطات الرمزية للعمل. فأولئك الذين ينكرون دقة الوصف الذي يقدمه دوكاس، لا ينكرون أن الانفعال يمكن أن يثار خلال التجربة الجمالية، ولكنهم ينكرون أن يكون للانفعال أي مركز مميز. فهم لا يهتمون بالانفعال أكثر أو أقل مما يهتمون بأي عنصر آخر يدخل في تكوين التجربة الكاملة.

ويمضي بعض نقاد النظرية الانفعالية أبعد من ذلك، فهم يرون أنه إذا كان اهتمامنا، وهدفنا، منصبًّا على الشعور في ذاته، ومن حيث هو كذلك، كما يقول دوكاس، فعندئذٍ لا تكون تجربتنا جمالية بحق؛ ذلك لأننا إنما نقتصر عندئذٍ على استخدام العمل الفني وسيلة لإثارة تجربة من نوع معين، فنكون بذلك أشبه بأولئك الذين يحاولون تعويض الهزال العاطفي لحياتهم بقراءة روايات رومانتيكية. فلما كان الاهتمام لا ينصب على الموضوع في طبيعته الباطنة، فإن موقف المشاهد لا يكون عندئذٍ جماليًّا. ويُعَد هانسليك، الكاتب ذو النزعة الشكلية الذي تحدثنا عنه في الفصل السابق، من أقوى نقاد النظرية الانفعالية؛ فهو يقول: «في فعل الاستماع الخالص، نستمتع بالموسيقى وحدها، ولا نفكر في إقحام أي موضوع خارج عنها. أما الميل إلى استثارة انفعالاتنا، فينطوي على شيء خارج عن مجال الموسيقى.»٨٥ ويترتب على ذلك استحالة إدراك الطبيعة المميزة للموسيقى، والقيمة الكامنة فيها. «من المؤكد أن الموسيقى قد تثير انفعالات من السرور العظيم أو الحزن المبرح، ولكن ألا يمكن إحداث نفس التأثير، وربما تأثير أقوى منه، إذا سمعنا خبرًا يقول إننا ربحنا الجائزة الأولى في «اليانصيب»، أو أن صديقًا عزيزًا لنا مصاب بمرض خطير؟»٨٦

على أن بحث نظرية دوكاس في التجربة الجمالية بمزيد من التفصيل يقلل من قوة هذه الانتقادات؛ ذلك لأن هانسليك يرى أن الانفعال «شيء خارج عن مجال الموسيقى، ولكنا نستطيع، بوجه عام. أن نميز بين نوعين من المواقف يكون فيهما الانفعال «خارجًا» عن موضوع ما. الموقف الأول حين يكون شيء ما علامة على الانفعال أو عرَضًا من أعراضه؛ فالدموع، أو تقطيب الجبين، الحركة الغاضبة، قد تؤدي بنا إلى الاعتقاد بأن شخصًا يشعر بانفعال. وقد يستدل عالم الفسيولوجيا على ذلك بقياس دقات قلبه أو إفرازه للأدرينالين. وفي هذه الحالات نستطيع فهم العلامة وتفسيرها تفسيرًا صحيحًا دون أن نشعر نحن أنفسنا بالانفعال. والموقف الثاني هو ذلك الذي يكون فيه الموضوع سببًا للانفعال أو منبهًا له. فلا بد أن يثار الانفعال بفعل شيك مصرفي، أو انقطاع رباط الحذاء، أو بحقنة من أكسيد النيتروجين. وعندما نتعرض لهذه المنبهات نشعر بانفعال، ولكنا لا نشعر عندئذٍ بأن الانفعال كامن في الموضوع نفسه، فالمنبه «يطلق» الانفعال، ولكن المنبه ليس هو ذاته مصطبغًا بالانفعال.

على أن العلاقة بين الموضوع الجمالي وبين «دلالته الشعورية» في رأي دوكاس، ليست علاقة علامة أو سبب، وإنما هي علاقة أوثق بكثير. فدوكاس يصف الموضوع الجمالي بأنه «الرمز المباشر» لانفعال ما. فهو ليس شيئًا نستدل منه على انفعال، ولا شيئًا يعد هو ذاته غير انفعالي، مثل أكسيد النيتروجين، وإن كان يثير انفعالًا، بل إن الموضوع الجمالي «يجسد» الانفعال بحيث يكون كل ما علينا هو أن ندركه لنتذوق «طعم» هذا الانفعال.٨٧ فالدلالة الشعورية، في رأي دوكاس، تُدرَك مباشرة على أنها مرتبطة ارتباطًا باطنًا بطبيعة الموضوع. ومن هنا فإنا نستطيع أن نتساءل، مع دوكاس، كيف يمكن الفصل بين النشوة المنطلقة وبين الأشكال الراقصة في لوحة ماتيس «الرقص La danse». أليس الحزن جزءًا لا يتجزأ من أنغام قطعة «لا أحد غير القلب الوحيد» لتشايكوفسكي؟
فإذا كان هذا صحيحًا، فإن «الدلالة الشعورية» للموضوع الجمالي تكون فريدة في نوعها.٨٨ فلما كان الانفعال كامنًا في الموضوع، ولما كان للموضوع طبيعته المميزة، «فلا يمكن أن يحل أي رمز … محل الآخر تمامًا».٨٩ وعلى ذلك فليس في استطاعة المرء أن يحصل من القطعة الموسيقية على «نفس التأثير» الذي تحدثه أخبار حسنة أو سيئة في الحياة اليومية. وإذن فيمكن أن نقول، دفاعًا عن رأي دوكاس، إن الحزن في المارش الجنائزي في سيمفونية «إيرويكا» (البطولة) لبيتهوفن ليس مماثلًا للحزن الذي تثيره أية كارثة شخصية، ولكن ينبغي أن نضيف إلى ذلك أن «الدلالة الشعورية» للعمل لن تتكشف حتى يبدي المشاهد انتباهًا شديد التركيز نحو الأصوات والأشكال التي تؤلف القطعة الموسيقية. أما إذا سمعت القطعة بطريقة عارضة على «هامش» الانتباه، فعندئذٍ تكون الموسيقى أشبه بسبب للانفعال منها بتجسد له. وعندما يحدث ذلك — وكثيرًا ما يحدث بالفعل — يكون لانتقادات هانسليك قوتها، ويكون ذلك مجالًا واضحًا لتطبيقها.
على أن دوكاس يستطيع أن يسير خطوة أخرى دفاعًا عن النظرية الانفعالية؛ ذلك لأن هانسليك يذهب إلى أن أصحاب النظرية الانفعالية أنفسهم لا يمكنهم أن يصفوا أي الانفعالات تعبر عنها الموسيقى — وهو في ذلك يتحدث باسم كثير من نقاد النظرية الانفعالية. «على هؤلاء الذين يتخيلون، عند سماعهم لقطعة تعزفها الآلات، أن الأوتار ترتعش من فرط الانفعال، أن يبينوا بوضوح ما هو الانفعال الذي تتخذه الموسيقى موضوعًا لها … فكيف يمكننا الكلام عن تصوير انفعال معين، في الوقت الذي لا يعرف فيه أحد بحق ما الذي يصوَّر؟»٩٠ ومن الممكن أن يرد دوكاس على ذلك بقوله إن هانسليك على صواب في ناحية معينة، فنحن عادة لا نستطيع أن نحدد ما هي «الدلالة الانفعالية». فلما كانت «مباشرة» و«فريدة في نوعها»، فإنها «غير قابلة للوصف، إذا شئنا الدقة»؛٩١ ذلك لأن أية كيفية «مباشرة» من كيفيات التجربة الشعورية لا يمكن أن تعرف إلا بممارستها؛ وبقدر ما تكون مختلفة عن أي شيء آخر، لا تكون هناك ألفاظ عامة يمكن أن توصف بها. ولكن هذا لا يصح أن يتخذ نقدًا مشروعًا للنظرية الانفعالية. فكون الانفعال الذي يعبر عنه «غير قابل للوصف» لا يستتبع كونه غير موجود. «إن الانفعالات التي يمارسها البشر تتعدد وتتنوع إلى حد لا نهاية له … والأغلبية العظمى منها لا يمكن الإشارة إليها بالاسم لأنها لم يطلق عليها أي اسم».٩٢ إن انفعالاتنا تقاوم التصنيف إلى «أنواع» كالحب أو الغضب، وهي الأنواع التي تعد على أحسن الفروض تقريبية تمامًا. وهذه حقيقة يعلق عليها دوكاس أهمية كبرى، ويقول إن عدم إدراكها «هو في اعتقادي التفسير الأساسي لما لقيته النظريات الانفعالية في الفن من معارضة».٩٣

ولعلنا جميعًا متفقون على أن رد دوكاس رد قوي. فكيف تستطيع الكلمات الوصفية البحتة أن تنفذ إلى اللون والطابع العميق الخاص بانفعالاتنا؟ إن الأمر يكاد يصل بنا إلى حد أن نميل إلى القول إن هذه بعينها هي مهمة الموسيقيين والمصورين، أعني أن يعبروا عن السمات المميزة لحياتنا الانفعالية. ومع ذلك ينبغي أن نتنبه جيدًا إلى ما تثبته حجة دوكاس وما لا تثبته؛ فدوكاس قد أثبت أن الحقيقة التي أشار إليها هانسليك — وهي أننا لا نستطيع تحديد اسم الانفعالات التي تعبر عنها الموسيقى — لا يترتب عليها أن الموسيقى غير معبرة عن انفعالات، ولكن يلاحظ بالطبع، من جهة أخرى، أن حجة دوكاس لا تثبت أن الموسيقى تعبر بالفعل عن انفعالات دائمة، حتى لو كانت هذه الانفعالات «مما يستحيل وصفه»؛ فقد يرد الناقد العنيد للنظرية الانفعالية بأن دوكاس احتمى وراء صفة استحالة التسمية في الانفعالات، فعندما يُعرَض عليه عمل لا يعبر عن انفعال، يستطيع، على حد تعبير الناقد، أن يرد وهو يظن نفسه بمنأى عن الخطأ: «كلا، إنه يعبر بالفعل عن انفعال، ولكن من سوء الحظ أني لا أستطيع أن أنبئك ما هو هذا الانفعال». غير أن هذا يؤدي إلى ترك مسألة إمكان عدم وجود انفعال على الإطلاق مفتوحًا. ولذا فإن مثل هذا الناقد قد يتمتم في سخط أن دوكاس إنما «يصادر على المطلوب»، أي أنه يكتفي بترديد النظرية التي يُفترض أنه يدافع عنها، بدلًا من أن يدافع عنها بالفعل.

إن المَخرَج الوحيد من هذا الطريق المسدود — كما هو الأمر دائمًا في مثل هذه الحالات — هو الإهابة بالشواهد التجريبية. فهل من الصحيح، واقعيًّا، أن الموضوع الجمالي ينطوي دائمًا على انفعال يصبح جزءًا من تجربة المدرك الجمالية؟ إن من المهم في هذه المسألة أن يعمل طرفَا النزاع على جمع الشواهد واختبارها بدقة. وعلى كل منهما ألا يحرص على إنقاذ نظريته أكثر مما يحرص على التعلم من الشواهد الموجودة. ولست أود أن أُتهَم بالتلاعب بالألفاظ حين أقول إن النظرية الانفعالية قد أثارت انفعالًا زائدًا عن الحد، إذ يبدو أن أنصارها يعتقدون أن هذه النظرية هي وحدها التي تُوَفِّي عمق التجربة الجمالية وحرارتها حقهما، أما في أية نظرية أخرى فإن التجربة تصبح عجفاء «باردة». أما ناقدو النظرية الانفعالية، مثل هانسليك، فيبدو أنهم يعتقدون أنها تبتذل التجربة الجمالية، وتجعلها مجرد حالة إغراق انفعالي تتجاهل القيمة الحقيقية للفن أو تحط من قدرها.

لا توجد في هذا الصدد شواهد متسقة، ولكنا لو نظرنا إلى نوع الشواهد التي يقول بها كلا الطرفين، لما كانت في اعتقادي تنطوي على تأييد للنظرية الانفعالية في كل الأحوال. أما دوكاس فيرى، من جانبه، أنه حتى اللون المنفرد له «مذاقه» الانفعالي الخاص، وأن هذا المذاق يختلف اختلافًا ملحوظًا عن «الدلالة الانفعالية» للون فرعي آخر.٩٤ ويبدو أن هذا أمر تثبته تجربة الكثيرين منا حين نشتري رباطًا للعنق أو ملابس، أو نختار لونًا لطلاء غرفة المعيشة. وفضلًا عن ذلك فهناك قدر هائل من الكتابات في النقد الفني تتحدث عن الفن حديثًا ذكيًّا موحيًا من خلال فكرة التعبير الانفعالي، ولكن هناك من جهة أخرى من لا يجدون مثل هذه «الدلالة الشعورية أو الانفعالية» في تجربتهم الجمالية.٩٥ وهذا يصادق بوجه خاص حين لا يكونون ممن يشاركون دوكاس رأيه القائل إن الموقف الجمالي متجه بصورة خاصة إلى إثارة الانفعال. فهم، مثل هانسليك، يدركون في الموسيقى بناء موضوعيًّا من «الصوت والحركة». وهم، مثل هانسليك أيضًا، يجدون أن «الجميل يكون جميلًا، ويظل جميلًا، على الرغم من أنه لا يثير أي انفعال على الإطلاق».٩٦ وكما قال الناقد الأمريكي جون كرو رانسم J. Crowe Ransom فإن «الفن ملمسه بارد لا حار».

وهناك عدد من المسائل القريبة في مجال هذه الشواهد، سوف أذكرها بإيجاز وأطلب إلى القارئ أن يفكر فيها بمزيد من التفصيل.

المسألة الأولى هي أنه حتى حين يكون هناك انفعال قد أثير بالفعل في التجربة الجمالية، فإن خصوم الانفعالية يرون أن هناك تباينًا هائلًا في نوع الانفعال الذي يحس به المشاهدون. وقد أشار هانسليك إلى أن «الجيل الحالي كثيرًا ما يعجب كيف استطاع أجداده أن يتخيلوا أن هذا الترتيب المعين للأصوات يمثل هذا الشعور بعينه تمثيلًا صادقًا».٩٧ وقد أخذ كاتب متأخر بهذه الحجة وأكملها قائلًا إن تنوع الاستجابات الانفعالية يثبت أن «الانفعال نتيجة عارضة للإدراك الجمالي»،٩٨ وبالتالي لا يمكن أن يُستخدم في تعريف التجربة الجمالية. فإذا شاء صاحب النظرية الانفعالية أن يرد على هذا الاعتراض، فلزام عليه أن يفسر كيف يمكن أن تتجسد «الدلالة الشعورية» في الموضوع، وتعجز مع ذلك عن التأثير في جميع المشاهدين على نفس النحو.٩٩ ويبدو أن الشواهد تدل على أن الانفعال ليس «داخلًا في» العمل، كما يقول دوكاس، وذلك على الأقل على النحو الذي يمكن أن يقال فيه إن خطوط اللوحة أو تغير المفتاح النغمي في القطعة الموسيقية كامن أو مندمج في العمل. فلا بد لصاحب النظرية الانفعالية أن يمضي أبعد من ذلك في تفسيره للطريقة التي يستطيع بها العمل أن يكون معبرة، دون أن يكون مجرد سبب للانفعال أو منبه له.
وفضلًا عن ذلك، فقد ذكر البعض أنه حين يتضمن العمل الفني عددًا هائلًا من الانفعالات المختلفة، فإن المشاهد لا يستطيع المشاركة فيها جميعًا.١٠٠ ففي التراجيديا التي تصور التأثير المتبادل بين انفعالات مجموعة كبيرة من الشخصيات في آنٍ واحد، يستحيل على المدرك أن يحاول الشعور بكل من هذه الانفعالات؛ فهو يكون واعيًا بالانفعالات ولكنه لا يشعر بها.
وأخيرًا، فمن الجائز أن الانفعال يُحَس في إدراك بعض الأعمال الفنية، لا كلها. ومن الجدير بالملاحظة أن فيرون، الذي كان هو ذاته من أبرز ممثلي النظرية الانفعالية، يقول بهذا الرأي ذاته. ومن هنا فإنه لا يدعو إلى نظرية انفعالية شاملة في التجربة الجمالية، بل إنه يعتقد أن هناك عددًا من المدارس و«الأساليب» في الفن لا تعبر في أعمالها عن انفعال، فمثل هذا الفن، الذي يطلق عليه فيرون اسم «الفن الزخرفي»، لا يهدف إلا إلى إمتاع الحواس عن طريق «الرشاقة، واللطف، والجمال».١٠١ وهذا يوحي بأن الفن «الكلاسيكي» في مقابل الرومانتيكي مثلًا، وكذلك فنون «التزيين»، يمكن أن يُستمتَع بها جماليًّا، وإن كانت تفتقر إلى «الدلالة الانفعالية». فهل تعبر إحدى «فوجات» باخ، أو إحدى الأواني اليونانية أو السجاجيد العجمية عن انفعال؟ إن على النظرية الانفعالية أن تثبت أنها تعبر بالفعل عن انفعال، وتبين كيف تعبر عنه.
وقد تلجأ النظرية، تحقيقًا لهذا الغرض، إلى استخدام فكرة «الحالة النفسية»، فالانفعالات التي يثيرها الفن، فضلًا عن بعض المناظر الطبيعية، ليست دائمًا اضطرابات حشوية شديدة، بل قد تكون مخففة وهادئة إلى حد بعيد.١٠٢ ويشير لفظ «الحالة النفسية mood» إلى الحالات الانفعالية التي تكون أقل شدة وأطول مدة من «السورات» الانفعالية. وهكذا قد يتبين أن الموسيقى الهادئة في إحدى مقطوعات «الديفر تمنتو divertimento» عند موتسارت تعبر عن حالة نفسية، وإن لم تكن انفعالية بطريقة واضحة. وقد تتمكن النظرية الانفعالية، عن طريق القيام بأمثال هذه التحليلات، من أن تثبت لنقادها أنها لا تسري فقط على إدراك الفن الصاخب المتشنج.

•••

ومجمل القول إن النظرية الانفعالية لم تثبت حتى الآن أن الوصف الذي تقدمه يصدق على كل تجربة جمالية على نحو شامل، ولكن على الرغم من أن نطاق هذه النظرية قد لا يكون كليًّا شاملًا، فإنها تتميز، في ناحية هامة، بأن لها فائدتها الواضحة بالقياس إلى نظريات الفن التي ناقشناها من قبل، فقد سبق أن رأينا أن أية نظرية جمالية ينبغي عليها أن تبين لنا كيف نقوم بتحليل أعمال فنية معينة، أو يجب أن تعطينا على الأقل إيحاءات واضحة بالطريقة التي يتسنى لنا بها القيام بهذا التحليل، فنحن نريد من هذه التحليلات أن تكون كاشفة، وأن تلفت انتباهنا إلى عناصر في العمل تساعد على إيضاح قيمته. وعلى هذا النحو نأمل في الارتفاع بمستوى تذوقنا للعمل. ولن يكون مثل هذا التحليل ممكنًا إذا كانت النظرية تؤدي بنا إلى تجاهل سمات هامة في الموضوع الفني أو الإقلال من شأنها. وهذا عيب تعاني منه نظرية «المحاكاة» والنزعة الشكلية معًا؛ فالأولى تركز اهتمامها أكثر مما ينبغي على ما يمثله العمل؛ والثانية ترفض الموضوع رفضًا يكاد يكون تامًّا. أما النظرية الانفعالية فإنها لا تقيد نفسها على هذا النحو؛ فهي تحلل ما يسميه دوكاس بالدلالة «الدرامية» للموضوع لكي تكشف عن قوته الانفعالية؛ وهي تعترف بأن «الشكل له أهميته في الموضوعات الجمالية لأنه هو ذاته، عند تأمله، يكون مصدرًا لانفعالات جمالية معينة لا يمكن أن تتمثل موضوعيًّا في أي شيء آخر».١٠٣ «وهكذا فإن النظرية الانفعالية تقدم إلينا مرشدًا هامًّا لتحليل أي شيء يدخل في نطاق الموضوع الجمالي ككل؛ هو التساؤل عن أهميته بالنسبة إلى «الدلالة الشعورية» للموضوع. ولا جدال في أنك صادفت هذا النوع من التحليل في دراستك للأدب والفنون الأخرى، كما يحدث عندما يتساءل كتاب دراسي معروف في الشعر في صدد قصيدة للشاعر بليك Blake: «كيف عمل الشاعر على إعطاء الإحساس بالكلام المباغت المنفعل؟»١٠٤
على أن النظرية الانفعالية لا تستطيع أن توفي العمل الكامل حقه إلا عندما تعد القدرة التعبيرية الانفعالية «متضمنة» في العمل. فإذا كانت تعد الانفعال خارجًا من مجال العمل، كما يقول هانسليك، فإنها تتعرض عندئذٍ للنقد القائل إنها تتجاهل الوسيط الفني وتركيب العمل ذاته. وعندئذٍ يصبح العمل مجرد منبه لإثارة الانفعال، ويكون الاشتباك في معركة أو الوقوع في الحب، كما يقول خصوم النظرية الانفعالية، أمرًا لا يقل تأثيرًا عن التطلع إلى عمل فني، ولكن عندما تعترف النظرية الانفعالية بما يطلق عليه دوكاس اسم «داخلية internality» الانفعال المعبَّر عنه، فإنها تدرك، وتجعلنا ندرك، أن الانفعال لا يمكن أن ينفصل عن العمل. ومن هنا فإن من الواجب أن نتنبه إلى الوسيط أو طريقة تركيبه الشكلي لو شئنا أن نحس بالانفعال الذي ينفرد به العمل. فليس للانفعال وجود إلا في تجسده الفني ومن خلاله.

•••

إننا نحلل الأعمال الفنية، لا لكي نفهمها على نحو أفضل فحسب، بل أيضًا لكي نصدر حكمًا عن قيمتها. وهذا يؤدي إلى إثارة مشكلة أخيرة بالنسبة إلى النظرية الانفعالية. فإذا كان الانفعال، في كل الأحوال، هو العنصر الرئيسي الهام في الفن وفي تذوقه، فكيف نميز الفن الجيد من الرديء؟

إن حقائق اللغة المستخدمة في النقد تثبت أن الانفعال كثيرًا ما يكون حيويًّا بالنسبة إلى قيمة العمل، فنحن نتحدث عن العمق الانفعالي للتراجيديا اليونانية، وعن الحماسة المعتدلة لسيمفونية متأخرة لموتسارت، ونحن نرفض العمل الذي يتسم «بالبرود»، كما يؤكد أصحاب النظرية الانفعالية على الدوام. ومع ذلك فمن المؤكد أن معيار القيمة لا يمكن أن يكون: «كلما كان هناك مزيد من الانفعال، كان العمل أفضل»، فهذا لا يتمشَّى مع التقديرات التي نعترف بها عادةً للفن، بل يؤدي إلى إعطاء المكانة العليا للأعمال التي تتسم بتشنج انفعالي لا يعرف ضابطًا، على حين أننا كثيرًا ما نضع هذه الأعمال في مرتبة أقل من أعمال أخرى تتسم بضبط النفس والهدوء، بل إننا نستخدم ألفاظًا مثل «العاطفي المفرط» أو «المغرق في العواطف» لكي تحمل على الأعمال التي يوجد فيها من الانفعال أكثر مما ينبغي، ولكن كيف نستطيع أن نحدد متى يصبح الانفعال أكثر مما ينبغي، وبالتالي رديئًا، إذا كان الانفعال هو المعيار الوحيد المتوافر لدينا لقياس الجودة والرداءة؟

فما هي إذن النظرية الانفعالية التي تقدم معيارًا مُرضيًا للقيمة الجمالية؟ هذه بدورها مسألة ينبغي أن تدرج ضمن الأعمال التي يتعين على من يؤمنون بالنظرية الانفعالية أن ينجزوها في المستقبل. إن فيرون يقيس القيمة تبعًا لمدى تجلي انفعال الفنان، ولكن ماذا يكون الأمر لو أن الانفعال عادي سقيم، أو — في الطرف الآخر — مجرد انفعال شاذ غريب، أو فياض أكثر مما ينبغي، كما هي الحال في العاطفية المفرطة؟ كما أن تولستوي يقيس القيمة بقدرة العمل على أن يكون «معديًا»، وهذا يعني مقدار شمول جاذبية العمل، أو درجة مشاركة الجمهور في انفعال الفنان. وقد رأينا من قبل مدى ضعف المعيار الأول. أما الثاني فيتعرض لنفس الانتقاد الموجه إلى معيار فيرون، وهو: ماذا يكون الأمر لو أن الانفعال الذي أصابتنا «عدواه» سقيم أو مغرق في عاطفيته؟ أما دوكاس فإنه يميز الفن الجيد من الرديء تبعًا لكون الانفعالات التي يعبر عنها ممتعة أو غير ممتعة. وعلى ذلك. فإن الانفعال ذاته لا يُتخَذ معيارًا للقيمة، ولا يفسر دوكاس ما الذي يجعل الانفعال ممتعًا أو غير ممتع. وهذا أمر له دلالته؛ إذ إنه يقوي الاعتقاد بأن الانفعال في ذاته لا يمكن أن يتخذ معيارًا كافيًا للقيمة. ففي العمل الفني، وفي تذوقه، مزيد من العناصر التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار إن شئنا أن نقوم بمهمة التقويم.

•••

وهكذا نرى أنه لا بد من أن تكون صحة النظرية الانفعالية متوقفة على شروط هامة؛ فهي قد لا تصدُق على كل فن وكل تجربة جمالية، ولا بد أن تفسر بوضوح عملية الخلق الفني، التي يصبح بها الموضوع «تعبيرًا عن» …، وكذلك كيف يكون الموضوع الجمالي «معبرًا ﻟ …»، كما ينبغي أن تزودنا بنظام يمكن تطبيقه عمليًّا، للحكم على قيمة الأعمال الفنية وغيرها من الموضوعات الجمالية. وعلى الرغم من ذلك كله فإن النظرية الانفعالية أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أنها من أرسخ النظريات الفنية وأعظمها فائدة. وهي في عمومها قريبة من وقائع تجربة أولئك الذين يصنعون الأعمال الفنية وأولئك الذين يستمتعون بها. وقد لا تكون هي النظرية الصحيحة الوحيدة في الفن والتجربة الجمالية، بل إنه يكاد يكون من المؤكد أنها ليست كذلك. ومع ذلك فحتى أولئك الذين لا يقبلون النظرية يتعين عليهم أن يواجهوا حججها، وأن يتعلموا من استبصاراتها.

مراجع

() دوكاس؛ كيرت: أنت، والفن، والنقاد.
Ducasse, Curt J., Art, the Critics, and You (N. Y., Liberal Arts Press, 1944).
() ريدر: مرجع حديث في علم الجمال، ص١٨٥–١٩٢، ٢٥٨–٢٨٢.

فيفاس وكريجر: مشكلات علم الجمال، ص٢٥٥–٢٦١، ٣٤٣–٣٨٦، ٤٠٦–٤١١.

فيتس: مشكلات في علم الجمال، ص٤١٠–٤١٧، ٦١٢–٦٢١.

ديوي: الفن بوصفه تجربة. الفصل الرابع.

أينشتين، ألفرد: الموسيقى في العصر الرومانتيكي.

Einstein, Alfred, Music in the Romatic Era (N. Y., Norton, 1947).

جارفن، لوشيوس: نقد «للحقيقة الفنية» من خلال النظريات الانفعالية». (مقال في مجلة الفلسفة).

Garvin, Lucius, “An Emotionalist Critique of Artistic Truth,” Journal of Philosophy, vol. XLII, 435–441.

جوتشوك، د. و: «الفن والجمال» (مقال في مجلة «مونيست»)

Gottshalk, D. W., “Art and Beauty,” Monist, vol. XLI, pp. 624–632.

جرين، بيتر: مشكلة الفن.

Green, Peter, The Problem of Art (London, Longmans Green, 1937).

هانسليك: الجميل في الموسيقى.

بيير، ستيفن: «المسافة الانفعالية في الفن» (مقال في مجلة علم الجمال والنقد الفني).

Pepper, Stephen C., “Emotional Distance in Art,” J. of Ae. & Art Cr., vol. IV (June 1946) pp. 235–239.

سكوت-جيمس: صناعة الأدب.

Scott-James, R. A., The Making of Literature (N. Y., Holt, 1943).

توماس، فنسنت: «رأي دوكاس في الفن وتذوقه» (مقال في مجلة الفلسفة والبحث الفينومينولوجي).

Tomas, Vincent, “Ducasse on Art and its Appreciation,” Phil. and Phen. Research., vol. XIII (Sept., 1952), pp. 69–83.

أسئلة

  • (١)
    اقرأ بعض الكتابات التي عبر فيها الفنانون الأوائل في العصر الرومانتيكي عن عقيدتهم، مثل مقدمة ووردزورث لكتاب Lyrical Ballads (الطبعة الثانية) ومقدمة فيكتور هوجو لرواية إرناني Hernani. في أي النواحي يفند هؤلاء الفنانون مختلف مدارس نظرية «المحاكاة»؟ وفي أي النواحي يشبهون النظرية الانفعالية في الفن؟
  • (٢)

    قيل في هذا الفصل إن هناك اختلافًا قاطعًا بين الانفعال السابق على العمل الفني والانفعال الذي يعبر عنه هذا العمل. اقرأ كتاب دوكاس: فلسفة الفن، ص١١٢–١١٤، ٦٨–٧١، وكتاب كو لنجوود: مبادئ الفن؛ واذكر كيف يصف هذان الفيلسوفان الفارق بين الانفعالات السابقة على العمل الفني والانفعالات التي يعبر عنها هذا العمل.

  • (٣)

    اقتبسنا في هذا الفصل كلمة للناقد جون كرو رانسم يقول فيها «الفن ملمسه بارد، لا حار». فهل ينبغي أن يكون العمل الفني «حار الملمس» لكي يعبر عن انفعال؟ هل تنطبق كلمة «رانسم» على كل فن؟ انظر إلى اللوحات وقارن بينها عند الإجابة عن هذين السؤالين.

  • (٤)

    على أي نحو تختلف نظرة دوكاس إلى الموقف الجمالي عن الموقف الذي عرضناه في الفصل الثاني؟ وأيهما تراه الموقف الأصلح؟

    هل تتفق مع دوكاس على أن الانفعال هو «اكتمال التأمل الجمالي ونجاحه»؟

  • (٥)

    ما هي في نظرك العلاقة بين شمول جاذبية العمل الفني وبين قيمته الجمالية، إن كان ثمة علاقة بينهما؟ هل شمول الجاذبية علامة على «العظمة» في الفن؟ ادرس حالة أعمال فنية محددة يشيع النظر إليها على أنها عظيمة.

  • (٦)

    ما هي في رأيك العلاقة بين القدرة التعبيرية لعمل معين وبين قيمته الجمالية؟ هل الاثنان شيء واحد؟ أم أن القدرة التعبيرية عنصر من عناصر القيمة؟ أهي مقياس للقيمة؟ اشرح إجابتك في كل حالة.

  • (٧)

    ما أوجه الشبه والاختلاف بين النظرية الانفعالية والنظرية الشكلية؟ وهل النظرية الشكلية مجرد فرع للنظرية الانفعالية؟

١  اقتبسه جولد ووتر وتريفز Goldwater & Treves في كتابهما المذكور من قبل، ص٢٤١.
٢  «النوم والشعر Sleep and Poetry» وبيجاسوس هو الحصان الأسطوري المجنح المرتبط بالفنون.
٣  ألفرد ستيفنز: انطباعات عن التصوير ص٤.
Alfred Stevens, Impressions on Painting, Trans. Adams (N. Y., Coombes, 1886).
٤  اقتبس هذا النص: جورج سانتسبري، في كتابه «تاريخ النقد». المجلد الثالث، ص٢٧٠.
George Saintsbury, A History of Criticism, 4th ed. (Edinburgh, Blackwood, 1923).
٥  أناندا كومارا سوامي: «فلسفة الفن المسيحية والشرقية أو الحقيقية» ص١٩.
Ananda K. Coomaraswamy, The Christian and Oriental or True Philosophy of Art (Newport, John Stevens, 1939).
وانظر أيضًا للمؤلف نفسه: تحويل الطبيعة في الفن.
Transformation of Nature in Art (Harvard U.,P., 1935) p. 23.
٦  جاك ماريتان: الحدس الإبداعي في الفن والشعر ص١٠.
Jacques Maritain, Creative Intuition in Art and Poetry (N. Y., Meridian, 1955).
٧  أوجين فيرون: «علم الجمال» ص١٠٤ هامش ١؛ وانظر أيضًا ص١٣٩.
Eugène Véron, “Aesthetics,” Trans. Armstrong (London, Chapman & Hall, 1879).
٨  المرجع نفسه، ص٧٣؛ وانظر أيضًا ص١٠٦.
٩  المرجع نفسه، ص٧٤؛ وانظر أيضًا ص١١٨، ١٢٠.
١٠  المرجع نفسه، ص١٠٧.
١١  المرجع نفسه ص٣٣٣.
١٢  المرجع نفسه، ص٥٢؛ وانظر أيضًا ص٥٤، ٦٥.
١٣  المرجع نفسه، ص٥٣.
١٤  المرجع نفسه، ص٤٦؛ وانظر أيضًا ص٧٧.
١٥  المرجع نفسه، ص٥٣.
١٦  المرجع نفسه.
١٧  المرجع نفسه، ص٣٥١.
١٨  أما الفقرة الواردة في ص١٨٤ فهي استثناء له أهميته وطرافته.
١٩  المرجع نفسه، ص٣٣٧.
٢٠  المرجع نفسه، ص١٨٦، ١٨٤.
٢١  فنتوري: تاريخ النقد الفني، ص٣٦.
٢٢  المرجع نفسه، ص١٣ من المقدمة، ٩٨ وما يليها.
٢٣  المرجع نفسه، ص٩٨.
٢٤  المرجع نفسه، ص١١٠.
٢٥  ليو تولستوي: «ما الفن؟»
What Is Art? Trans. Maude (Oxford U.P., 1955) p. 120.
٢٦  كيت دو كاس: فلسفة الفن، ص١٨؛ وانظر أيضًا ص١٢٢.
Curt Ducasse, The Philosophy of Art (N. Y., Dial, 1929).
٢٧  المرجع نفسه، ص١٩٠.
٢٨  انظر: [الباب الثاني: طبيعة الفن – الفصل الخامس: نظريات «المحاكاة»].
٢٩  الرؤية والتصميم، ص٢٩٢-٢٩٣.
٣٠  المرجع المذكور من قبل، ص٨٩.
٣١  ديوي: الفن بوصفة تجربة ص٦١٠.
٣٢  المرجع المذكور من قبل، ص١١٤؛ وانظر أيضًا ١٢٥.
٣٣  المرجع المذكور، ص٨٣؛ وانظر أيضًا ص١١٦.
٣٤  المرجع نفسه، ص٣٣١؛ وانظر أيضًا ص٧٥.
٣٥  هذه الفقرة مقتبسة عن كتاب كولنجوود: «مبادئ الفن»، ص١١–١١٥.
R. G. Collingwood, The Principles of Art (Oxford U.P., 1938).
وقد أعيد طبع هذا الجزء في كتاب فيفاس وكريجر المذكور من قبل ص٣٤٥–٣٤٧.
٣٦  المرجع المذكور من قبل، ص١١٢، ١١١.
٣٧  المرجع نفسه، ص١١٣.
٣٨  المرجع نفسه، ص١١٥.
٣٩  المرجع نفسه، ص٢٧٠-٢٧١؛ وانظر أيضًا كيرت دوكاس «بعض مسائل علم الجمال» مقال في مجلة «مونيست».
C. Duccasse, “Some Questions in Aesthetics,” Monist, XLII (1932) p. 47.
٤٠  المرجع نفسه، ص١١٤.
٤١  كيرت دوكاس: أنت، والنقاد، والفن، ص٨٢.
Art, the Critics, and You (N. Y., Liberal Arts, 1944).
٤٢  انظر مثلًا: هنري د. أيكن: «الفن بوصفه تعبيرًا وسطحًا» (مقال).
Henry D. Aiken, “Art as Expression and Surface,” Jour, of Ae. & Art Criticism, IV (1945), p. 89.
وأيضًا فتسنت توماس: رأي دوكاس في الفن وتذوقه (مقال).
Vincent Tomas., Ducasse on Art and its Appreciation,” Philosophy and Phenomenological Research, XIII (1952), p. 80.
٤٣  توماس، المرجع المذكور، ص٨٠.
٤٤  فلسفة الفن، ص١٢٨.
٤٥  انظر مثلًا: جوليوس بورتنوي: سيكولوجية الخلق الفني.
Julius Portnoy, A Psychology of Art Creation (Philadelphia, 1942).
٤٦  «فلسفة الفن» ص٢٦٩. وسوف تكون جميع إشاراتنا المقبلة إلى دوكاس منصبة على هذا الكتاب، ما لم يرد غير ذلك.
٤٧  المرجع نفسه، ص١٢٥.
٤٨  المرجع نفسه، ص١١٨، ١١٩.
٤٩  المرجع نفسه، ص١٢٢.
٥٠  المرجع المذكور من قبل، ص١٢١-١٢٢.
٥١  المرجع المذكور، ص١٢٣.
٥٢  المرجع نفسه، ص١٧٨.
٥٣  المرجع المذكور، ص٣٦.
٥٤  «بعض مسائل علم الجمال Some Questions in Aesthetics» ص٥٧.
٥٥  المرجع المذكور، ص٤٠؛ وانظر أيضًا ص٣٧، هامش ٧، ص٣٩.
٥٦  «رسائل جون كيتس» الناشر: بيج، ص١٧٣.
The Letters of John Keats, ed. Page (Oxford U.P., 1954).
٥٧  المرجع المذكور، ص٣٠.
٥٨  «أنت، والنقاد، والفن»، ص٤٦.
٥٩  المرجع المذكور، ص٢٢٨.
٦٠  المرجع نفسه، ص١٧٧.
٦١  المرجع نفسه، ص١٧٦.
٦٢  المرجع نفسه، ص١٧٨.
٦٣  المرجع نفسه، ص٢٢٧.
٦٤  المرجع نفسه، ص٢٤٩.
٦٥  المرجع نفسه، ص١٧٧.
٦٦  المرجع المذكور من قبل، ص٧ من المقدمة.
٦٧  المرجع نفسه، ص١٠١.
٦٨  المرجع المذكور من قبل، ص١٨٣.
٦٩  المرجع نفسه، ص٢٢٩.
٧٠  المرجع نفسه، ص١٩٠–١٩٢، ٢١٨-٢١٩، ٢٣٠.
٧١  المرجع نفسه، ص٢٢٨-٢٢٩.
٧٢  المرجع نفسه ص١٩٣.
٧٣  المرجع المذكور من قبل، ص١٠٥.
٧٤  مقتبس في كتاب فنتوري «تاريخ النقد الفني»، ص٢٢٦.
٧٥  المرجع الذكور، ص٢٧٤؛ وانظر أيضًا «أنت والنقاد والفن»، ص١٢٥.
٧٦  «أنت والنقاد والفن»، ص١٢٦.
٧٧  «الإدراك والقيمة الجمالية» ص١٥٤ Perception and Aesthetic Value.
٧٨  المرجع المذكور، ص١٤٠.
٧٩  المرجع نفسه، ص١٤١.
٨٠  المرجع نفسه، ص١٤٢.
٨١  الموضع نفسه.
٨٢  المرجع نفسه، ص١٤٠.
٨٣  المرجع نفسه، ص١٥٦، ٢٢٣-٢٢٤.
٨٤  المرجع نفسه.
٨٥  «الجميل في الموسيقى»، ص٢١.
٨٦  المرجع نفسه، ص٢٦.
٨٧  المرجع المذكور من قبل، ص١٧٩.
٨٨  المرجع نفسه، ص١٨٠–١٨٢.
٨٩  المرجع نفسه، ص١٨٢.
٩٠  المرجع المذكور من قبل، ص٤٠، ٤٤.
٩١  المرجع المذكور، ص١٧٥.
٩٢  المرجع نفسه، ص١٩٥؛ وانظر فيرون، المرجع المذكور من قبل، ص٣٢٦.
٩٣  المرجع نفسه، ص١٩٧-١٩٨.
٩٤  المرجع نفسه، ص١٧٤-١٧٥، ١٩٩.
٩٥  انظر ﻫ. ن. لي H. N. Lee، المرجع المذكور من قبل، ص٤٤، هامش رقم ٢٠.
٩٦  المرجع المذكور، ص١٩.
٩٧  المرجع نفسه، ص٢٥.
٩٨  إليزيونيفاس: «تعريف للتجربة الجمالية» في كتاب فيفاس وكريجر المذكور من قبل، ص٤٠٦.
٩٩  يتصدى دوكاس لهذه المسألة في كتابه المذكور من قبل، ص١٨٢–١٨٨.
١٠٠  موريس فيتس: «فلسفة الفنون»، ص١٧٤-١٧٥.
Morris Weitz, Philosophy of the Arts (Harvard U.P., 1950).
١٠١  المرجع المذكور، ص١١١.
١٠٢  انظر دو كاس: «أنت والفن والنقاد» ص٥٥.
١٠٣  المرجع المذكور من قبل، ص١٩٨.
١٠٤  كلينث بروكس وروبرت وارن: فهم الشعر، ص٢٩.
Cleanth Brooks and Robert P. Warren, Understanding Poetry. Rev. ed. (N. Y., Holt, 1956).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤