الفصل الثامن

نظرية «الجمال الفني»

(١) «جمال» الفن

الفن، بمعناه الواسع، يشير إلى أي نشاط بشري يؤدَّى ببراعة، ويستهدف غرضًا. ومن هنا فإنا نتحدث عن فن الطبخ، وفن إصابة الأهداف في لعبة الكرة، وفن الدبلوماسية، بل وعن جريمة القتل «الفنية». هذا هو النشاط الفني. والموضوع الذي ينتج على هذا النحو هو «العمل الفني». مثل هذا الموضوع لم ينتج بواسطة العمليات الطبيعية أو بفعل بشري عفوي أو عشوائي. ومن هنا فإن قدرًا كبيرًا من الموضوعات التي نراها حولنا في حياتنا اليومية يمكن أن توصف بأنها «أعمال فنية»، بل إنه في مدنية بلغت قدرًا كبيرًا من التقدم التكنولوجي كالمدنية التي نعيش فيها، تكاد جميع الأشياء التي نتصل بها أن تكون فنية؛ فملابسنا وأطباقنا وسبوراتنا وسياراتنا وجرائدنا، كلها أعمال فنية. ولنتصور الشخص الذي يقضي يومه في الحي التجاري بمدينة كبيرة؛ هل يرى مثل هذا الشخص في بيئته أي شيء «طبيعي»، في مقابل «الفني»؟ إنه لا يرى إلا أقل القليل، فيما عدا السماء، على افتراض أنه سيفكر في التطلع إلى أعلى لكي يراها.

وهكذا فإن مجال انطباق لفظ «الفن» واسع إلى حد بعيد، ولكن هذه بعينها هي النقطة التي قد تعترض عليها. أليس في هذا استخدام للفظ «الفن» بطريقة أوسع مما ينبغي؟ إن كثيرًا من متاع حياتنا اليومية سقيم تافه، فهل يتعين علينا أن نسمي هذه الأشياء «أعمالًا فنية»؟ وماذا نقول عن إناء الماء العادي، الذي هو أقرب إلى شكل الكوب، والذي لا يهدف إلا إلى حمل ما يوضع فيه؟ وماذا نقول أيضًا عن شيء بسيط كعلبة الثقاب؟ إن إطلاق اسم «الأعمال الفنية» على هذه الأشياء يثير غضبنا ويبدو في نظرنا استخداما لغويًّا باطلًا.

ولكن الواقع أن هذه، بمعنًى مُعيَّن، أعمال فنية بالفعل؛ فنحن نحتاج إلى ألفاظ لتحديد التمييزات الهامة في الواقع. ولفظ «الفن» يميز الطريقة التي ظهرت بها هذه الموضوعات إلى الوجود. ولنقل مرة أخرى إنها ليست طبيعية «كالسماء»، ولم يكن حدوثها «بمحض الصدفة».

ومع ذلك فليس هذا بالرد المقنع على الاعتراض السابق. فإذا كان هناك شيء ناتج عن جهد بشري مُتروٍّ، ولم يكن يتصف بجاذبية قوية، أو بطرافة خاصة عند تأمله، وإذا كان انتباهنا يقتصر على أن يلاحظه ثم ينتقل إلى غيره، ظللنا نتردد في تسميته موضوعًا «فنيًّا». وهكذا يظهر بوضوح ما ينطوي عليه الاعتراض في صميمه. فنحن في كثير من الأحيان تستخدم لفظ «الفن» تعبيرًا مختصرًا عن «الفن الجميل fine art». ونحن نقصر تعبير «الفن الجميل» على نواتج الإبداع البشري التي تتسم بأنها ممتعة أو طريفة أو جميلة إلى حد ملحوظ، بل إننا لا نستخدم لفظ «الفن» على هذا النحو من أجل استبعاد أشياء عادية كأكواب الماء فحسب بل إننا نؤكد ضرورة «الجمال fineness» في أنواع النشاط التي تختلف عن الطبخ أو الدبلوماسية في أنها تسمى عمومًا «الفنون الجميلة»؛ كالتصوير والموسيقى والأدب والرقص وما إليها. وهكذا فإن ناقدًا فنيًّا يختم عرضه النقدي لكتاب بالحكم الآتي: «هذه رواية جيدة إلى حد ما، ولكنها ليست عملًا فنيًّا.» ومن الواضح أن ما يقصده هو أن الرواية تفتقر إلى تلك المزايا التي تجعل منها عملًا فنيًّا نموذجيًّا.
وهكذا يتبين لنا الآن أن الطريقة التي نتحدث ونفكر بها عادة عن الفن تؤكد قيمته بالنسبة إلى الإدراك الإستطيقي. وهذه القيمة هي «جمال» «الفن الجميل» (the fineness of fine art)، فالموضوع لا يكون عملًا من أعمال الفن الجميل ما لم يجذبنا إستطيقيًّا. وترتكز نظرية الفن التي سنبحثها الآن على هذا الاعتقاد الذي يسلم به الذهن العادي.
«الفن الجميل fine art هو إنتاج الإنسان لموضوعات تتسم في ذاتها بأن من الطريف إدراكها؛ وأي موضوع يتسم بجمال الفن fineness of art إذا كان الإنسان ينتجه ببراعة من شأنها أن يكون إدراكه في ذاته طريفًا.١ هذا والتعريف الأساسي في النظرية التي يدافع عنها الأستاذ جوتشوك Gotshalk. «إن تركيب الموضوعات بالنسبة إلى التجربة الإستطيقية سيكون إذن هو السمة المميزة للفن الجميل … وتقترب أوجه النشاط البشري من الفن الجميل بقدر يكون هذا النمط في التركيب أساسيًّا أو بارزًا فيها».٢
على أن الجمال الفني (fineness) صفة لا تتمثل في «الفنون الجميلة fine arts» وحدها، بل إن كثيرًا من الموضوعات والأفعال التي يقصد منها أن تكون مفيدة — كالقاطرة أو حركات لاعب رياضي — تتسم بدورها بقيمة إستطيقية. ونحن نضع في «متاحف الفن الجميل» موضوعات من حضارات غابرة كانت تخدم أغراضًا غير إستطيقية، كالأواني والتمائم والرماح. فهل تعد هذه الموضوعات، تبعًا لنظرية «الجمال fineness» أعمالًا فنية؟ يقول جوتشوك إن الإجابة مسألة «درجات». فبقدر ما يكون للموضوعات النافعة جاذبية إدراكية، تعد «فنًّا جميلًا». غير أن اللوحات والسيمفونيات والقصائد … إلخ، لها مزايا إستطيقية إلى درجة ملحوظة. وفي كثير من الأحيان نكاد نقول إن كل ما تصلح له هو أن تتأمل ويستمتع بها. وفي مقابل ذلك فإن أولئك الذين يخلقون موضوعات نافعة لا يسعون «أولًا إلى تكوين موضوعات من أجل ما فيها من جاذبية إدراكية كامنة».٣ وهنا أيضًا نجد الذهن المعتاد يؤيد رأي جوتشوك. فنحن نعجب بالصناع الذين يقدمون إلينا ملابس وآنية فضية وأثاثًا جذابًا عند النظر إليه، ولكنا نعتقد أن الصانع يكون شاذًّا لو جعل الجاذبية هدفه الأساسي في وضعه لتصميم هذه الموضوعات، فالقطار الذي لا يسير، والملابس التي لا يريحنا لبسها، تؤدي بنا إلى القول إن صانعها قد أخفق، مهما كانت هذه الأشياء بديعة في منظرها، فالأهمية الرئيسية لطابع المنفعة أو ظهور هذا الطابع بصورة أبرز من غيره، هو الذي يميز «الصنائع» من الفنون.
ومن هنا فإن مقصد الفنان هو العامل المميز. فما يحاول أن يصنعه هو الذي يجعل من إنتاجه «فنًّا جميلًا». وهكذا يشير جوتشوك إلى أن الفنان قد تكون له أغراض متعددة في قيامه بالخلق. فقد يبحث عن المال أو الشهرة أو الإصلاح الاجتماعي. غير أن ما يميز المشتغلين بالفنون الجميلة هو أنهم «يسعون إلى تكوين شيء يكون له من الرائع إدراكه».٤
وكما رأينا في الفصل السابق، فإن أية نظرية متعلقة بمقصد الفنان لا يمكن تأييدها إلا باختبار الشواهد النفسية المتوافرة لدينا عن الفنان. فليس من الممكن اختبارها عن طريق فحص العمل الفني فحسب. وإذن، فلا يكفي بالنسبة إلى نظرية في الجمال الفني fineness أن يكون للعمل «جاذبية إدراكية. كامنة»، بل إن النظرية تقول إن الفنان أراد أن تكون للموضوع مثل هذه الجاذبية.
ومن الواضح أن الذهن العادي يوافق على القول إن الموسيقيين والشعراء … إلخ، يحاولون عمل شيء «يكون من الرائع إدراكه». وهناك شواهد مستمدة من الفنانين تؤيد هذا الرأي: «فالرغبة في إحداث تأثير إستطيقي ملائم كانت على وجه العموم، هدفًا مميزًا»٥ للفنان. ومع ذلك فإن الشواهد مختلطة. فمن الواجب إذن، كما في حالة النظرية الانفعالية، أن نحذر قبول أي وصف منفرد لأغراض الفنان؛ ذلك لأن لمختلف الفنانين دوافع مختلفة. ونحن لا نستطيع القول إنهم يقصدون دائمًا أن يخلقوا شيئًا ممتعًا من الوجهة الإستطيقية. فليس هذا هدف الفنان الذي يلتمس «دواءً شاعريًّا» هو التغلب على الانفعالات، التي قد تكون مؤلمة أحيانًا، عن طريق التعبير عنها. كما أنه ليس مقصد الفنان الذي يأخذ على عاتقه حل مشكلة تكنيكية معينة في الوسيط المادي الذي يستخدمه. وعلى الرغم من أن الأستاذ مورو Munro يقول إن الرغبة في إنتاج موضوع إستطيقي هي «هدف مميز»، فإنه ينتقل من ذلك إلى القول إن هذا «ليس هو الهدف الوحيد، وكثيرًا ما لا يكون الهدف الرئيسي»٦ للفنان.
إزاء هذه الشواهد، قد تسحب نظرية «الجمال الفني fineness»، ادِّعاءها بأنها تصف قصد الفنان. وهذا بعينه ما فعله أحد الباحثين النظريين فيها، إذ قال: «إن مقصد الفنان أقل أهمية من قدرة العمل الفعلية على إشعارنا بقيمته.»٧ ومع ذلك فإن جوتشوك، الذي ندرسه بوصفه المدافع الرئيسي عن نظرية «الجمال الفني fineness»، لا يتراجع على هذا النحو؛ فهو يرى أن من الممكن فهم مقاصد كالتعبير عن الانفعال، من خلال نظرية «الجمال الفني»: «ألا يمكن بنفس المقدار وصف الفنان بأنه يسعى إلى تكوين موضوع يتسم بسمة إدراكية كامنة معينة، هي كلية الشعور الذي يعبر عنه؟»٨ إن جوتشوك يرى أنه مَهما كان هدف الفنان، فمن الممكن أن يدرج هذا الهدف ضمن نطاق نظريته؛ ذلك لأن «كل هذه الأهداف، من حيث هي فنية، يمكن أن تترجم إلى عبارات متعلقة بالسمات الإدراكية الكامنة».٩ «والسمات الإدراكية الكامنة» هي، في رأي جوتشوك، سمات تثير اهتمامنا إستطيقيًّا. وهكذا يصف «الإدراك الكامن» بأنه «الاستسلام المنتبه» من جانب المدرك، للموضوع من أجل … القيمة التي يقدمها الموضوع»،١٠ أي بعبارة أخرى، التأمل الإستطيقي.
فهل تدرك ما يود جوتشوك أن يصل إليه بحجته هذه؟ لقد عرض نظرية تجريبية عن مقصد الفنان. ولا بد أن تُختبر أية نظرية تجريبية بالشواهد الفعلية. ويبدو أن هناك شواهد سلبية ضد نظرية جوتشوك؛ إذ إن بعض الفنانين على الأقل، خلال بعض الوقت، لا يجعلون غرضهم الرئيسي هو خلق موضوع إستطيقي. والواقع أن جوتشوك يدرك هذه الوقائع، وهو، على خلاف المفكر الدجماطيقي والداعية اللذين لا همَّ لهما إلا المحافظة على اعتقاداتهما أو كسب التأييد لرأيهما، لا يحاول تجاهل ما يسميه وليم جيمس «الوقائع السخيفة». وعلى ذلك يكون أمامه طريقان؛ فإما أن يضيق حدود نظريته ويجعلها مشروطة، ويعترف بأنها لا تسري إلا على بعض الشواهد، وهو — كما رأينا من قبل — طريق لا يسلكه جوتشوك، وإما أن يزعم أن نظريته بالفعل واسعة إلى الحد الذي يكفي لاستيعاب كل الشواهد. وهذا ما يحاول أن يفعله حين يقول إن أي وصف لغرض الفنان «يمكن أن يُترجَم إلى عبارات متعلقة بسمات إدراكية كامنة». وهكذا يحاول أن يثبت أن نظرية «الجمال الفني fineness» أغنى وأشمل من النظريات الأخرى في الخلق الفني.

ومع ذلك فعندما «تُترجَم» عبارة إلى عبارة أخرى، ينبغي أن يكون لهما نفس المعنى. فهل يصدُق هذا على «ترجمة» جوتشوك؟ سوف أحاول أن أثبت أنه لا يصدق عليها، وبالتالي أن حجته غير مقبولة.

هَبْ أن فنانًا يسعى إلى «التعبير عن الانفعال» دون أن يفكر في الجاذبية المحتملة لعمله بالنسبة إلى الجمهور — وقد رأينا من قبل أن هناك بالفعل فنانين من هذا النوع. في هذه الحالة يقول جوتشوك إن الفنان يحاول خلق موضوع له «سمات إدراكية كامنة»، أي سمات تثير اهتمامًا إستطيقيًّا. على أنه قد يحدث بعد أن يخلق الفنان موضوعًا يعبر عن انفعاله، أن ترغب في إدراك الموضوع بطريقة إستطيقية. وعندئذٍ يصبح الانفعال الذي عبر عنه الفنان «سمة إدراكية كامنة» بالنسبة إلينا، ولكن هذا لا يعني أن الفنان قصد أن يكون الموضوع ممتعًا لنا. لقد قلنا في البداية إنه لم يكن لديه هذا القصد بالفعل. وعلى ذلك فلا يمكن أن نستدل على قصده من تجربتنا الإستطيقية. فمن الممكن أن يدرك أي موضوع بطريقة إستطيقية، حتى الموضوع غير الفني، كالزهرة. ولكن على الرغم من أن أي موضوع إستطيقي يتسم، حسب تعريفه، «بسمات إدراكية كامنة» فلا يترتب على ذلك القول إن الموضوع قد خلق من أجل أن تكون له هذه السمات.

وبعبارة أخرى فإن جوتشوك يشوه «بترجمته» وقائع الإبداع الفني؛ فهو يفسر نشاط الفنان من خلال تجربة المشاهد. ولكن مقاصد الفنان متميزة تمامًا عن مقاصد المشاهد. فقد يستمتع المدرك بعمل لم يقصد الفنان أن يقدمه ليتذوقه الناس، أو قد يجد في العمل قيمة لم يحلم بها الفنان أبدًا. فمن الخطأ البيِّن «ترجمة» تأثيرات الموضوع الفني إلى مقاصد الفنان.

إن النظرية لا تكون تجريبية أصيلة حقًّا إلا حين تقدم تأكيدًا دقيقًا معينًا عن الواقع. فلا بد أن نقول «إن الوقائع هي كذا، وليست على نحو آخر». وعلى هذا النحو وحده يمكن أن تزيدنا النظرية علمًا، ولكن النظرية تتعرض عندئذٍ لخطر تكذيب الوقائع السلبية لها. أما إذا ادعت النظرية أنها تستطيع أن تفسر الوقائع، فإنها تكون أوسع مما ينبغي.

إن نظرية «الجمال الفني» واضحة ودقيقة حين تقول إن قصد الفنان هو خلق موضوع إستطيقي، ولكنها حين تحاول أن تقول إن هذا دائمًا قصد الفنان، مهما كان قصده بحق، فعندئذٍ تصبح النظرية غامضة مضللة، ويبدو أنها تتحدث عن مقصد الفنان، وإن كانت في الواقع تتحدث عن شيء مختلف كل الاختلاف، هو الجاذبية الإستطيقية للموضوع الفني.

•••

والآن، فلنفرض أن نظرية «الجمال الفني fineness» ليست متعلقة بمقصد الفنان. في هذه الحالة سنقول إن المقصد مرتبط بحالة الفنان الذهنية خلال الإبداع، ومن ثَم فهو جزء من منشأ الموضوع الفني. فلنترك المسألة المنشئية جانبًا، ولنبحث في نظرية «الجمال الفني» بوصفها نظرية متعلقة بالعمل الفني وحده. وكما قال أحد المدافعين عن هذه النظرية، فإن «المهم هو الموضوع، أو الشيء، أو العمل الفني … لا النشاط أو العملية المؤدية إلى تكوينه».١١

عندئذٍ ترى نظرية «الجمال الفني» أن الموضوع يكون عملًا فنيًّا! (١) إذا كان نتاجًا لصنعة بشرية بارعة، (٢) وإذا كانت له جاذبية إستطيقية واضحة (بغض النظر عن مقصد الفنان).

ولا تتمثل الجاذبية الإستطيقية، في نظر جوتشوك، فيما هو «جميل تقليديًّا» فحسب، بل إنه يعترف، متمشيًا في ذلك مع أصحاب النظرية الانفعالية بأن الفن يمكن أن تكون له قيمة جمالية كبرى حتى عندما يكون «مريرًا» «كئيبًا»، «يمزق القلوب».١٢
وكما رأينا عند بداية هذا الفصل، فإن الرأي الذي ينظر إلى الفن من خلال صفة «الجمال الفني» واسع الانتشار بين الناس العاديين. فبقدر ما تكون الأشياء رشيقة أو جذابة، يقال إن لها «جمالًا فنيًّا fineness»، وفضلًا عن ذلك فإننا نحتفظ باسم «الفنون الجميلة fine arts» لموضوعات كالتصوير والسيمفونيات، لديها قدرة كبيرة على إثارة الاهتمام الإستطيقي وإرضائه.
ومن جهة أخرى، فإن التعريف لا يتمشى مع كل استخدام لغوي؛ فهو يثير نفس الإشكالات التي تثيرها أية نظرية في «التوصيل communication» وهذه الإشكالات، باختصار، هي: إن كون الشيء «فنًّا» بالنسبة إلى نظرية «الجمال الفني»، يتوقف على ما يفعله، أي على كونه يثير اهتمامًا إستطيقيًّا في المشاهد. فإذا كان للموضوع جاذبية بالنسبة إلى أحد المشاهدين لا بالنسبة إلى آخر، أو بالنسبة إلى جيل دون آخر، فعندئذٍ يبدو أننا مضطرون إلى القول إنه عمل فني وليس عملًا فنيًّا في الآن نفسه. أو قد نضطر إلى القول إن الموضوع الواحد كان في البداية عملًا فنيًّا ثم أصبح غير فني حين لم يستمتع به إستطيقيًّا. وهذا يبدو غريبًا. فصحيح أننا على استعداد دائمًا لأن نختلف حول ما إذا كان الشيء قيمًا من الوجهة الإستطيقية، ولا نتحرج عادة من القول إن العمل جميل بالنسبة إلى «س» ولكن صلا يهتم به. ومع ذلك فإننا نتردد في القول إنه يمكن أن يكون «عملًا فنيًّا»، بالنسبة إلى شخص ولا يكون كذلك بالنسبة إلى شخص آخر. فنحن نعتقد أنه إذا كان الموضوع «فنًّا»، فإن هذا أمر لا بد أن يعد منتهيًا، وهو قد انتهى بفضل الطريقة التي أنتج بها الموضوع. ويرى أحد أنصار نظرية «الجمال الفني» أنه حتى لو لم نكن نجد الموضوع قيِّمًا، فلا بد لنا من أن نسميه «فنًّا» إذا كان ينقل قيَمًا إلى الآخرين.١٣ والواقع أنه لا بد من الالتجاء إلى مخرج كهذا حين تصبح صفة «الإستطيقي» جزءًا من تعريف «الفن».

•••

إن الأشياء الموجودة في الطبيعة، شأنها شأن الأعمال الفنية، يمكن أن تكون موضوعات إستطيقية. وتميز نظرية «الجمال الفني fineness» بين نوعَي الموضوعات بالإشارة إلى أن الأعمال الفنية من صنع الإنسان. فهل ترجع أهمية هذا التمييز إلى أسباب نظرية فحسب، هي تعريف «الفن» أم أن له أهمية بالنسبة إلى المشاهد الإستطيقي بدوره؟ وهل تؤدي معرفته بأن الموضوع فني، أو طبيعي إلى إحداث فارق في طبيعة تجربته وقيمها؟١٤
تثير فلسفة ديوي مشكلة موضوع ممتع إستطيقيًّا، ويُظَن نتاجًا للقدرة البشرية الخلاقة، ثم يتبين أنه ناتج عارض للطبيعة. وهذا يؤدي بنا إلى سحب اسم «العمل الفني» منه، ولكن يترتب على ذلك حدوث شيء آخر. إذ يقول ديوي إنه «يحدث فارق في الإدراك التذوقي، وذلك بطريقة مباشرة».١٥ فعندما نتذوق عملًا فنيًّا من الوجهة الإستطيقية، نصبح على وعي «بالسمات التي تتوقف على الإشارة إلى أصله وطريقة إنتاجه».١٦ وهذه السمات تغيب بالضرورة حين يكون الموضوع طبيعيًّا.

أما المعترضون على رأي ديوي فسوف يردون بأن أصل الموضوع لا يحدث فارقًا بالنسبة إلى المدرك، الذي سيستجيب لما هو موجود في الشيء الماثل أمامه، سواء أكان هذا الشيء فنيًّا أم طبيعيًّا. ولا جدال في أن للأعمال الفنية، في عمومها، دلالة اجتماعية ورمزية أعظم، كما هي الحال مثلًا في رواية تعالج مشكلة اجتماعية معينة، أو تلحين موسيقي لفقرة من الكتاب المقدس. غير أن هذه الدلالة ليست مفقودة تمامًا في حالة تذوقنا للطبيعة، كما هي الحال حين نقول إن منظرًا طبيعيًّا معينًا يكشف عن العظمة الإلهية. وفضلًا عن ذلك فإن المشاهد لو أصبح يهتم بأصل الموضوع الفني، لانصرف انتباهه عن العمل ذاته، إذ يصبح تفكيره منصبًّا على تاريخ حياة الفنان أو شخصيته، أو على المشكلات التكنيكية التي ينطوي عليها خلق العمل.

على أن من الممكن أن يقال، دفاعًا عن وجهة النظر الأخرى، إن معرفتنا بأن الموضوع فني تؤدي بالفعل إلى إحداث فارق. فمن الممكن أن تؤثر معرفتنا هذه في تذوقنا على أنحاء شتى؛ إذ يمكن أن نشعر بصلة القرابة مع ذلك الإنسان الذي تسري «دماء حياته الغالية» في العمل. ومن الممكن أن نستجيب لشخصيته — كما نفعل إزاء اهتمام زولا العميق بالمسائل الاجتماعية، أو إزاء الكبرياء والترفع في شخصية بروكوفييف. وقد نعجب بحساسيته للوسيط الفني الذي يستخدمه، وسيطرته عليه. وقد نُقدِّر البراعة والسهولة اللتين تغلب بهما على المشكلات التكنيكية. وبذلك لا تكون هذه النواحي المتعلقة «بأصل العمل وطريقة إنتاجه» خارجة عن نطاق التجربة الجمالية، فهي سمات تتغلغل في العمل ذاته، وبذلك تزيد من متعتنا الجمالية.

إن على القارئ أن يقرر بنفسه أين تكمن الحقيقة في هذا النزاع. وأود الآن أن أبين أن هذا النزاع يثير سؤالًا أكبر، له أهمية عظيمة بالنسبة إلى نقد نظرية «الجمال الفني»، وأعني به السؤال: ما الذي ينبغي أن نبحث عنه في الفن؟

•••

ربما كان القارئ قد لاحظ بالفعل فارقًا غريبًا بين نظرية «الجمال الفني» وبين النظريات الفنية التي نوقشت في الفصول السابقة؛ فالنظريات الأخيرة تلفت كلها الأنظار إلى سمة معينة في الفن تعدها أساسية، وتطلب إلينا أن نبحث عنها خلال عملية التذوق. فهي إما أن تؤكد الموضوع (في إحدى صيغ نظرية «المحاكاة») وإما «الشكل ذا الدلالة»، وإما «الدلالة الانفعالية». وكل من هذه العناصر١٧ ليست إلا واحدة من العناصر التي تؤلف الموضوع الفني الكامل. غير أن نظرية «الجمال الفني» لا تفعل شيئًا من هذا القبيل؛ فهي تنظر إلى العمل الفني الكامل على أنه هو الموضوع الإستطيقي. وهي لا تخصص أية سمة واحدة معينة للفن. ومن هنا فإنها لا تحدد ما الذي ينبغي أن نتطلع إليه بوجه خاص أثناء الإدراك الجمالي.
ويرى جوتشوك أن هذه قد تكون أعظم نقاط القوة في نظرية «الجمال الفني». فهو يذهب إلى أن النظريات الأخرى، بتركيزها اهتمامها على سمة معينة في الفن، كانت ضيقة ومحدودة أكثر مما ينبغي. فهي لا توفي الموضوع الفني حقه، في ثرائه وتعقده. ذلك لأن للموضوع «أبعادًا» متعددة، كما يسميها جوتشوك، هي «المادة» الحسية، والشكل أو القالب، والتعبير، ومختلف «الوظائف» التي يمكن أن يقوم بها. ومن هنا فإن النظرية التي تؤكد أهمية الشكل أو التعبير ليست مخطئة بقدر ما هي «متحيزة إلى جانب واحد». ويرى جوتشوك أن نظريته «شاملة بالقدر الكافي للإحاطة بالحقائق المتعددة التي تنطوي عليها نظريات الشكل والتعبير هذه».١٨

•••

إن الاسم الفني الذي يطلق على النظرية التي تحاول التأليف بين آراء متباينة هو أنها نظرية «تلفيقية eclectic». فإذا أخذنا بعبارة الكتاب المقدس (طوبى لمن يصنعون السلم)، فلا بد أن نثني على أية نظرية تلفيقية ثناءً عاطرًا: إذ إنها تهدِّئ سورة الخلاف بين النظريات المنحازة إلى جانب واحد، والتي يتمسك كل منها بمواقفه دون أن يتزحزح عنه. وهي تعترف بالحقيقة الكامنة في كل من هذه النظريات، ولكنها تكشف لنا عن حقيقة أوسع مما تكشف عنه أية نظرية من هذه بمفردها. وهي تبين أن العمل الفني يمكن أن يشتمل على الموضوع والشكل والتعبير، وأن لكل من هذه أهميته؛ فنظرية الجمال الفني تذكرنا بتعقد العمل الفني، وبذلك تحول بيننا وبين النظر إلى الفن بطريقة قاصرة محدودة. ولو تساءلنا: «ما الذي ينبغي أن نبحث عنه في العمل الفني؟» لأجابت النظرية: «ينبغي أن تبحث عن كل ما فيه». وهذه ليست بالإجابة التافهة. فهي تعبر عن الشمول الكامن في «التعاطف» الجمالي، وتحذِّرنا من التضحية بأية قيمة تنطوي عليها التجربة الجمالية.

ولما كانت نظرية «الجمال الفني» شاملة على هذا النحو، فإنها تصلح أساسًا سليمًا للنقد الفني؛ إذ إنها تعطينا أدوات عديدة متنوعة لتحليل العمل الفني. فنحن لا نقتصر على الموضوع، كما هي؛ الحال في نظرية المحاكاة، ولا على البناء الشكلي، كما هي الحال في النظرية الشكلية. صحيح أن النظرية الانفعالية تعمل حسابًا للموضوع والشكل معًا، ولكن هذا لا يكون إلا حين تكون لهما «دلالة شعورية أو انفعالية». أما مفاهيم «جوتشوك» فإنها تبلغ من الاتساع حدًّا يتيح لها أن تستوعب كل ما نجده بالفعل في العمل الفني المحدد، كما أننا لا نحتاج في استخدام هذه المفاهيم إلى افتراض أن ما سنجده لا يمكن أن يكون طريفًا أو قيمًا إلا على نحو واحد. والحق أننا إذا تأملنا مقدار ما شاب النقد الفني في كثير من الأحيان من التعصب، وكيف انحصرت وجهات النظر في حدود أضيق مما ينبغي، لاتضح لنا أن نظرة جوتشوك تمثل تغيرًا مجددًا ينبغي الترحيب به.

ومع ذلك فإن نظرية «الجمال الفني» تبدو باهتة غير مثيرة بالقياس إلى النظريات الأخرى في الفن. فحين تتصارع النظريات التي تدافع كل منها عن وجهة نظر خاصة، كنظرية المحاكاة أو النظرية الشكلية أو الانفعالية، فإن كلًّا منها يأخذ جانبًا له معالم واضحة. صحيح أن النظرية الواحدة قد تكون محدودة أكثر مما ينبغي، ومع ذلك فإنها تلقي ضوءًا على سمة بارزة على الأقل في ميدان الفن، وتثيرنا بتحيزها هذا نفسه إلى جانب واحد، فقد تقول نظرية إن الفن هو «لغة الانفعال»، أو «تصوير لما هو شامل في التجربة البشرية». مثل هذا الرأي، بالنسبة إلى شخص مبتدئ أو هاوٍ في الفنون (وهذا ينطبق على معظمنا)، يؤدى إلى بلورة الأعمال الفنية وإضفاء معنى عليها. فهو يجعل للفن أهمية لم تكن له من قبل. وفي مقابل ذلك فإن الإثارة التي يمكن أن تنطوي عليها نظرية «الجمال الفني»، بما تتسم به من عمومية، تبدو أقل وضوحًا؛ فهي تقول لنا إن العمل الفني هو ما يكونه أي موضوع إستطيقي — أي وحدة لأبعاد الموضوع والشكل … إلخ، وهي تفتقر، شأنها شأن أية نظرية تلفيقية، إلى لذعة النظريات المنحازة إلى جانب واحد وحماستها. إنها لا تنبئنا عن «الفن الجميل» بأي شيء مميز سوى أنه نتاج القدرة البشرية الخلاقة (وهذا يصدق على كل فن، بالمعنى الشامل لهذا اللفظ)، وأنه ذو قيمة من الوجهة الإستطيقية.

وفضلًا عن ذلك فإن النظرية التلفيقية لا تستطيع أن تؤلف بين ما تعتقد أنه آراء «محدودة» إلا بعد أن تكون هذه الآراء قد عرضت، فالنظرية التلفيقية «تقتات على» النظرية الموحدة أو ذات البعد الواحد، إن جاز هذا التعبير. فإذا كان الأمر متعلقًا بتحليل خاص، للقالب التشكيلي في الفنون البصرية مثلًا، فإن نظرية «الجمال الفني» يتعين عليها أن ترجع إلى نظريات كتلك التي قال بها «بل» و«وفراى». فلا بد للفلاسفة أصحاب الآراء المنحازة إلى جانب واحد، أن يقوموا بتمهيد الطريق، عن طريق تفسير ذلك البعد الفني الذي يراه كل منهم أهم من سائر الأبعاد، ومن هنا فإن المرء لا يستطيع أن يأخذ بنظرية «الجمال الفني» إلا بعد أن يكون قد درس نظريات أقل منها شمولًا وأشد قطعية وانحيازًا.

(٢) نظريات الفن: استنتاجات ختامية

درسنا الآن أربع نظريات في طبيعة الفن الجميل (في الفصول ٥–٨). ولست بحاجة إلى القول إن هذه ليست هي النظريات الوحيدة في الفن، التي عرفها التفكير الجمالي، ولكن من المستحيل بطبيعة الحال الإحاطة بهذه النظريات جميعًا. ومع ذلك ففي استطاعتك، بعد أن رأيت كيف يتم التحليل النقدي لنظرية ما، أن تطبق نفس المناهج على نظريات أخرى ربما كنت قد قرأت عنها أو درستها.

غير أن النظريات التي تحدثنا عنها من أقوى النظريات المتعلقة بالفن تأثيرًا ومن أكثرها ترددًا؛ ففي خلال تاريخ الإستطيقا والنقد الفني كانت هذه النظريات هي المسيطرة إلى حد بعيد على تفكير الناس في الفن، وبالتالي كانت هي التي وجهت النشاط الخلاق والنشاط التذوقي؛ فهذه الاعتقادات المتعلقة بالفن وقيمته قد وجهت يد الفنان، وإدراك المشاهد، وحكم الناقد. ولم يكن هذا التأثير بأقل من ذلك حين كانت هذه النظريات يُؤخَذ بها لاشعوريًّا؛ ذلك لأن البشر يتأثرون إلى حد هائل بالاعتقادات التي يأخذونها «قضية مسلمة بها»، والتي لا يتريثون بالتالي للتفكير فيها. ومهمة التفكير الجمالي هي التعبير بدقة عن هذه الاعتقادات، وتحديد ما إذا كانت مرشدًا يُعتَمد عليه في السلوك.

ولم تكن للنظريات التي درسناها أهميتها في الماضي فحسب، بل إنها كلها حية قوية التأثير في الوقت الراهن (وقد تبدو نظرية «المحاكاة البسيطة» استثناءً من هذا الحكم، غير أنها ما زالت واسعة الانتشار إلى حد بعيد في التفكير الشعبي على الأقل)؛ ففي استطاعتنا اليوم أن نستمع إلى أصوات المفكرين الجماليين والنقاد الفنيين وهي تعلو دفاعًا عنها (ويبدو أن النظرية الانفعالية هي أكثر النظريات الموجودة ضمنًا في النقد المعاصر شيوعًا). ولا جدال في أنك تستطيع أن تجد تطبيقات لجميع هذه النظريات في المراجع الدراسية المتعلقة بالفنون، وفي المقالات النقدية التي تظهر في الصحف عن الحفلات الموسيقية والكتب، بل فيما هو أقرب من هذا كله إليك، أعني في آراء الأصدقاء الذين تناقش معهم أعمالًا فنية محددة.

ولقد قمنا من قبل بتحليل نظرية «المحاكاة»، والنظرية الشكلية، والنظرية الانفعالية، ونظرية «الجمال الفني»، لكي نعرف الإجابات التي تقدمها عن سؤالين أساسيين، هما: (١) ما السمات التي تميز «أعمال الفن الجميل» عن الموضوعات الأخرى، وعن الموضوعات الفنية الأخرى بوجه خاص؟ (٢) ما هي سمات التجربة الجمالية التي تقوم بأعظم دور في تحديد قيمتها؟

والآن، فإن من الطبيعي أن يثار، في ختام دراستنا هذه، السؤال الآتي: أي هذه النظريات تقدم إلينا إجابات صحيحة عن هذين السؤالين؟

يمكن القول، بمعنًى حقيقي تمامًا، إن في استطاعة القارئ، بل من واجبه، أن يقرر هذا الأمر بنفسه. وربما كنت قد فعلت ذلك من قبل. فمن الجائز أنك قررت أن نظرية معينة تقدم فهما سليمًا وكافيًا للفن والتجربة الجمالية. فإن كان الأمر كذلك، فلا بد أن تكون مستعدًا لتبرير رأيك؛ إذ إن الاعتقاد لا يكون معقولًا ما لم يكن من الممكن الإتيان بشواهد موضوعية دفاعًا عنه. وإذن فلا بد لك أن تكون على استعداد لأن تبين كيف ترتكز المفاهيم الرئيسية للنظرية التي اخترتها على وقائع الفن والإبداع الفني والإدراك الجمالي. ولا بد أن تكون قادرًا على مواجهة الاعتراضات التي أثيرت ضد النظرية في مناقشتنا السابقة، ولكن من الجائز، من جهة أخرى، أنك لم تختر بعد بين النظريات المختلفة.

وسواءٌ أكان القارئ قد وصل إلى نتيجة أم لم يصل، فإني أود الآن أن أعرض عليه نتيجة من نوع آخر.

•••

لقد درسنا أربع نظريات (ولو شئنا الدقة لقلنا إن العدد أكبر، إذ إننا قد رأينا أن هناك صيغة متباينة لنظرية المحاكاة والنظرية الانفعالية مثلًا) وقد قمنا بتحليل نقدي لكل نظرية؛ إذ ليس من الواجب قبول أية نظرية على علاتها لمجرد أنها كانت قوية التأثير من الوجهة التاريخية، أو لأن الداعين إليها كانوا مفكرين مشهورين. فقد تساءلنا في صدد كل نظرية: ما معنى مفاهيمها الرئيسية؟ وهل الاستدلال الذي تلجأ إليه صحيح؟ وهل تؤيدها الشواهد التجريبية؟

ولكي تكون أحكامنا على كل نظرية أحكامًا فلسفية بالمعنى الصحيح، فلا بد أن تتحدد في ضوء الإجابات التي تقدم عن هذه الأسئلة. وعلى هذا النحو نكون قد استمعنا إلى نصيحة سقراط، الفيلسوف الكبير الأول، حين قال إن علينا أن «نسير وراء الحجة حيثما أدت بنا».

وفي اعتقادي أن أول نتيجة هامة أدت إليها المناقشة هي: ليس ثمة نظرية واحدة من نظريات الفن والتجربة الجمالية تعد بذاتها مرضية وشاملة تمامًا؛ ذلك لأن أية نظرية من النظريات التي نوقشت لم تقدم أوراق اعتماد مرضية تمامًا تواجه بها تحدي التحليل النقدي. ولأضرب لذلك مثلًا بتذكير القارئ ببعض الاستنتاجات التي توصلنا إليها من مناقشتنا السابقة (وربما كان في إمكانك أن تفكر في أمثلة أخرى)؛ فمن حيث المعنى، تتسم بعض المفاهيم الأساسية لنظرية «الجوهر» وللنظرية الانفعالية بقدر من الوضوح يقل عما نحتاج إليه من أجل الفهم الكامل. فما هو المعنى الدقيق «للجوهر» أو «الكلي الشامل»؟ وهل يمكن على وجه التحديد أن يكون هناك أكثر من جوهر واحد لفئة معينة؟ وما معنى «التعبير»؟ وهل من الممكن، على وجه التحديد، أن يقال عن الفنان إنه يعبر في الموضوع الفني عن نفس الانفعال الذي كان يشعر به قبل الخلق؟ إن المشكلة ليست، بطبيعة الحال، في أن هذه الألفاظ خلو تمامًا من المعنى، بل إن المفكرين النظريين الذين يستخدمون هذه الألفاظ قد شرحوها إلى حد بعيد؛ ومع ذلك يتضح عند تحليل هذه المفاهيم أنها غامضة في جوانب حاسمة.

وفيما يتعلق بسلامة الاستدلال، يتبين أن النزعة الشكلية تقع في خطأ الدور المنطقي في تعريفاتها الأساسية. كما أن تولستوي وفيرون يرتكبان خطأ الاستدلال الفاسد حين يفترضان أنه إذا كانت تجربة الفنان الخلاق انفعالية فينبغي أن تكون تجربة المدرك الجمالي بدوره مماثلة لها.

والأهم من ذلك كله، أن الشواهد التجريبية المؤيدة لكل من هذه النظريات محدودة. فلا توجد واحدة منها ترتكز على كل الشواهد المتعلقة بالموضوع. فلو قلنا إن نظرية «الجمال الفني» تتعلق بأغراض الخلق الفني، لَأمكن الاهتداء إلى شواهد سلبية في أقوال مختلف الفنانين وتصرفاتهم العملية. ولو كان من الواجب على أية نظرية في الفن أن تعرض الخصائص التي يشيع وجودها بين الموضوعات التي تعد عادة أعمالًا فنية، والتي لا توجد في أية موضوعات أخرى، لكانت النتيجة هي إخفاق نظرية «المحاكاة» والنظرية الشكلية معًا إلى حد ما؛ فالأولى لا تضم إلا الأعمال ذات الموضوع الذي يمكن تمثيله أو تصويره، وبذلك لا تعمل حساب لعدد كبير من الأعمال الفنية. والثانية تأبي اسم «الفن الخالص» على كل الأعمال التي تفتقر إلى قيمة تشكيلية، وبالتالي تكاد تستبعد (في حالة «بل Bell») الأدب كله، وقدرًا كبيرًا من الفنون الجميلة الأخرى، ومن الممكن الإتيان بأمثلة أخرى للدلالة على هذا الرأي.

فإذا كان صحيحًا أن كلًّا من النظريات الأربع غير كافية من الوجهة التجريبية، فإن من حقنا أن نتساءل عن السبب الذي أدى إلى ذلك. ولا جدوى من الاعتقاد بأن هذا راجع إلى أن أولئك الذين عرضوا هذه الآراء لم يُعملوا فكرهم بما فيه الكفاية، أو أن معلوماتهم عن الفن لم تكن كافية، فقد كان كل من الفلاسفة الذين درسناهم مهتمًّا أشد الاهتمام بالفن، وكل منهم قد كرَّس جزءا كبيرًا من حياته للتفكير الحاد المنظم فيه، بل لقد كان البعض منهم من بين كبار الفنانين (رينولدز وتولستوي)، وكان بعضهم نقادًا مشهورين (جونسون وفراي)، وهم جميعًا كانوا يعرفون عن الفن أكثر مما يعرف معظم الناس. فلماذا إذن عجزوا عن تحقيق هدفهم في الإتيان بنظرية تصدق على كل فن وتلقي عليه ضوءًا؟

لهذه الظاهرة عدد من الأسباب، وهذه الأسباب كلها تبين مدى اتساع وتعقد المعطيات التي يعمل بها المفكر النظري في الفن.

•••

فهو أولًا لا يبدأ بصفحة بيضاء؛ ذلك لأن لفظ «الفن» يشيع استخدامه في الحديث اليومي، غير النقدي. ومن هنا كان له بالفعل معنًى، حتى على الرغم من أن أولئك الذين يستخدمونه ربما لم يحاولوا أبدًا أن يحددوا لأنفسهم معناه بدقة. ويميل المفكر النظري إلى أن يظل ملتزمًا هذا المعنى الشائع بقدر استطاعته، فهو لا يريد تعريفًا يتنافى تمامًا مع الفهم الشائع للفن. ولكنا عندما نفحص الاستخدام العادي، لا نجد للفن معنًى واحدًا فحسب، بل إن له معاني متعددة، فمن المتفق عليه عادة أن سيمفونية لبيتهوفن، أو رواية همنجوي هي «أعمال من الفن الجميل»، ولكن السمات التي تشترك فيها هذه الموضوعات وتكون كلها «فنية» بفضلها ليست واضحة، بل إن الإنسان في موقفه الطبيعي يأخذ، في واقع الأمر، بعدد كبير من المفاهيم المختلفة عن طبيعة الفن، وهذه المفاهيم لا توضَّح عادةً؛ إذ إن لفظ «الفن» يُستخدم عادةً بطريقة غير نقدية. ونحن لا ندرك تنوع المعاني الشائعة إلا بطريقة غير مباشرة — حين نجد الناس يختلفون حول ما هو هام في عمل فني معين، ويردون على رأي خصومهم بقولهم «هذا لا يجعل العمل فنيًّا»، بل قد يعجزون عن الاتفاق، في الحالات المتطرفة، حول ما إذا كان الموضوع المعين «فنيًّا». ويقدم إلينا القاموس شواهد تؤدي إلى هذه النتيجة ذاتها. فالقواميس التي تسجل الاستعمالات الشائعة، تتحدث عن لفظ «الفن» تحت عدد من رءوس الموضوعات المتباينة. وهكذا يبدو من الواضح أن مفاهيم كل نظرية درسناها عن الفن — وضمنها «المحاكاة البسيطة» التي هي من أوسع هذه النظريات انتشارًا — تتمثل دائمًا في استعمالنا اليومي لهذا اللفظ.

فهل يمكن القول إننا نتفق على «ماصدق» اللفظ، أي الموضوعات التي تعد «فنًّا جميلًا»، ونختلف على «المفهوم»، أي على السمات التي تدخل في تعريفه؟ إننا على وجه العموم نتفق على «الماصدق»، كما أوضحت الآن. غير أن هذا لا يصدق في كل الأحوال؛ ذلك لأن وصفنا لموضوع معين بأنه «فني» يتوقف على مفهوم اللفظ. والمسألة الحاسمة هي أن السمات التي تُعد أساسية في الفن كثيرًا ما تختلف بعضها عن البعض إلى حد يعجز معه الموضوع الواحد عن أن يضمها جميعًا. وهكذا فإن الموضوع الذي يعد «فنيًّا» بمعنًى معين لا يكون كذلك بمعنًى آخر، والعكس بالعكس. مثال ذلك أن من المعاني الشائعة للفن معنى «المحاكاة البسيطة»، وهناك معنًى آخر هو القدرة على التعبير عن الانفعال. وعلى ذلك فإن اللوحة التي هي ترديد أمين «للحياة الواقعية» وإن كانت فارغة من الوجهة الانفعالية، تعد «عملًا فنيًّا» بالنسبة إلى الاستخدام الأول، لا بالنسبة إلى الثاني. وعلى العكس فإن المعنيَين يكونان متعارضين في حالة لوحة تستخدم «التحريف distortion»، الذي يتميز بأن له قوة انفعالية. وبالمثل أظهرت مناقشتنا لنظرية «الجمال الفني fineness» أن للتفكير الشائع اتجاهَين بصدد «الجمال الفني»: في أحدهما يكون الشيء «فنًّا جميلًا» لمجرد أنه قد أُنتِج على نحو معين، وفي الآخر لا يمكن أن يكون العمل الفني «جميلًا fine» إلا إذا ثبت أنه جذاب من الوجهة الإستطيقية. وعلى ذلك فإن الموقف العادي أو الطبيعي common sense ليس مجموعة موحدة من المعتقدات، وإنما تكمن في داخله اعتقادات كثيرة متباينة عن الفن، لا تختلف فيما بينها فحسب، بل كثيرًا ما يتنافر بعضها مع البعض. فلا عجب إذن أن كنا نجد الناس في حديثهم المعتاد يصيحون: «أتسمي هذا فنًّا؟!»

وهكذا ندرك الآن لماذا لم يكن من الممكن أن تتفق أية نظرية في الفن اتفاقًا تامًّا مع الاعتقادات المعتادة عن الفن؛ فالحديث والتفكير غير النقدي فيه من التعقد والافتقار إلى التنظيم والاتساق الداخلي قدر أعظم من أن يسمح بإدراجه تحت، تعريف واحد. ومهما حاول المفكر النظري أن يظل ملتزمًا بما يعنيه الناس عادةً «بالفن»، فإن نجاحه لا يمكن أن يكون إلا جزئيًّا فحسب؛ إذ إن في استطاعة ناقده دائمًا أن يشير إلى معنًى شائع آخر أغفلته النظرية، فمن الواضح على سبيل المثال، أن النظرية الشكلية، التي ترفض كل تمثيل في الفن، يمكن أن تتعرض للهجوم على هذا النحو.

غير أن تعقُّد الاعتقادات الشائعة ما هو إلا انعكاس للتعقد الأهم الذي تتسم به الفنون ذاتها. فلنتريث قليلًا لكي نفكر في تلك المجموعة الهائلة من الموضوعات التي تُعَد عادة «فنية». ولنتصور الفوارق الضخمة بين الوسائط الفنية — من حجارة وألفاظ وأصوات — والتباين الكبير بين الأساليب، والمدارس وطرق الأداء في تاريخ الفنون، والتفاوت الهائل في الظروف الاجتماعية والتاريخية والشخصية، التي كانت الأعمال الفنية تُخلق فيها. مثل هذه المعطيات التي تبلغ حدًّا هائلًا من الثراء والتنوع، ينبغي أن تجمع بينها كلها نظرية واحدة في الفن. ولنتذكر أيضًا أن الفنون حسب طبيعتها ذاتها، تسير بلا انقطاع في طريق المغامرة الخلاقة، فتاريخ الفن يُظهر بوضوح أن القوالب التقليدية تُرفَض حين لا تعود تفي بحاجات الفنان. وتؤدي التجديدات الناتجة إلى فهم جديد كل الجدة لطبيعة الفن وقيمته. وقد لمسنا ذلك في دراستنا هذه، فالنظرية الشكلية قد ظهرت بنمو فن «ما بعد الانطباعية»، والنظرية الانفعالية، كانت تعبر عن الفن الرومانتيكي في القرن التاسع عشر. ولا يمكن أن تتوقف الثورة والتجديد في الفنون إلا إذا لم يعد الإنسان يخلق أعمالًا فنية.

وهكذا فإن مملكة الفن تتألف من موضوعات شديدة التباين، تظل في تغير ونمو لا ينقطع.

وأخيرًا، فنحن لا نستطيع حتى أن نفترض أن طبيعة عمل فني تقليدي أبدع منذ قرون عديدة قد أصبحت معروفة تمامًا، وبصورة نهائية، في نظرنا؛ فقد نتصور أن العمل التقليدي، الذي أنتجته حركة فنية استنفدت أغراضها، سيظل «واقفًا بلا حراك» أمامنا لكي نحلل خصائصه. غير أن الأعمال الفنية لا تفعل ذلك في كثير من الأحيان. وهذا في الواقع أحد الأسباب التي تجعلها خلابة ساحرة. فمن الممكن أن تُفهَم وتُتذَوق بعد إبداعها بوقت طويل، بطريقة تختلف كل الاختلاف عن التفسيرات السابقة، بحيث يُلقي التفسير الجديد ضوءًا على سمات للعمل كان الناس يغفلونها من قبل، ويقلل من أهمية سمات أخرى كانت الأجيال السابقة تعدها أهم السمات، وقد تكون إعادة التقويم هذه من عمل ناقد واحد له نفوذه، مثل ت. س. إليوت في عصرنا الحاضر، ولكنها في الأغلب ناتجة عن تغير في طريقة فهم الإنسان لعالمه، كذلك الذي تتميز بها مراحل التحول الكبرى في التاريخ العقلي والاجتماعي. وعندما ننظر إلى الأعمال القديمة بروح جديدة، فإنا نتطلع فيها إلى أشياء مختلفة، ونقدرها لأسباب مختلفة.

ومن هنا فإن الفن متحول متغير، ليس فقط من حيث إنه ينمو في المستقبل؛ ذلك لأن ماضيه، بمعنًى حقيقي تمامًا، ليس «أمرًا منتهيًا مقررًا» على الإطلاق، وإنما هو في تحول مستمر. وكثيرًا ما تؤدي «الرؤية الجديدة» للماضي، بإلقائها ضوء على قيم جديدة، إلى جعل النظريات المستقرة في الفن تبدو غير كافية أو ضيقة.

لهذه الأسباب — أعني الافتقار إلى التجانس في الكلام والتفكير المعتاد عن الفن، والفوارق التي لا حصر لها بين الأعمال الفنية، وإعادة التفسير المستمرة للفن التقليدي — كانت وقائع الفن متنوعة إلى حد لا حصر له. وحين تكون الظواهر التجريبية متنوعة إلى هذا الحد، لا يكون من الصعب أن ندرك سبب اتساع نطاق السؤال «ما الفن؟» إلى هذا الحد، وبالتالي عدم قدرة أية نظرية واحدة في الفن على أن تقدم إلينا جوابًا مُرضيًا تمامًا.

•••

عند هذه النقطة قد يشعر بعض القراء بالرغبة في أن يقولوا إن البحث في نظرية الفن عقيم؛ فقد تبين لنا أن كلًّا من النظريات الأربع التي درسناها من قبل قاصرة في ناحية أو أكثر، كما رأينا الآن أن أية نظرية في الفن تأخذ على عاتقها مهمة تكاد تكون مستحيلة. ألَا ينبغي إذن أن نتخلى عن نظرية الفن كلية؟

هذه، في اعتقادي، نصيحة اليائس، وصحيح أن رد الفعل الذي تعبر عنه مفهوم تمامًا، غير أنها — شأنها شأن كل نصائح اليأس — متشائمة أكثر مما ينبغي، ومن ثَم فإن توصيتها قصيرة النظر.

فلنلاحظ أولًا أن النظريات المختلفة في الفن لا تتساوى في قصورها، فهي لا تهبط جميعًا إلى مستوى واحد من الخطأ، بل إنها تملك حقيقة عن الفن بدرجات متفاوتة، ومن المتفق عليه بوجه عام أن «المحاكاة البسيطة» هي أقل النظريات إرضاء؛ فهي لا تقدم وصفًا أمينًا لعملية الإبداع الفني، ولا تصف إلا عددًا قليلًا نسبيًّا من الأعمال الفنية، وهي تسيء تصور طبيعة التذوق الجمالي ومصادر قيمته. أما نظرية كالشكلية، فعلى الرغم من أنها بدورها محدودة نسبيًّا في نطاقها التجريبي، فإنها تستطيع مع ذلك أن تلقى ضوءًا واضحًا على طبيعة الأعمال التي تنطبق عليها وقيمتها. أما النظرية الانفعالية فإن لها نطاقًا واسعًا في عالم الفن، وإن لم يكن ذلك نطاقًا شاملًا.

وإذا كان في استطاعتنا الآن أن نقوم بأمثال هذه المقارنات بطريقة لها ما يبررها، فذلك راجع إلى أن لدينا شواهد يمكن تقدير النظريات في ضوئها؛ فلدينا رصيد ضخم من المعرفة عن الفن وإبداعه وتذوقه، مستمد من تجربة الفنانين والنقاد والمشاهدين. وليست الصعوبة بالنسبة إلى نظرية الفن هي عدم وجود شواهد، بل إنه إذا كانت هناك صعوبة، فإنها عكس هذه؛ فمن الجائز أن الشواهد أكثر مما ينبغي، ولكن حيث تكون هناك وقائع، يكون هناك أساس يمكن أن يُبنى عليه التفكير، فالتفكير النظري لا يكون مستحيلًا إلا إذا لم تكن هناك وقائع، أو كان الحصول عليها مستحيلًا. وعندئذٍ فقط يكون التفكير النظري فارغًا تمامًا، إذ إنه يفتقر إلى تأييد من الشواهد، ولا يمكن ثمة سبيل إلى تقدير حقيقته. وفي هذه الحالة وحدها تكون نصيحة اليأس في محلها.

لذلك فإن من غير المشروع أن نستنتج أن التفكير النظري في الفن مقدَّر له أن يكون عقيمًا. ومن الخطأ البيِّن أن ندير ظهورنا لكل ما يمكن تعلمه من المفكرين النظريين في الفن. «فلا يمكن أن تظل نظرية تلقى تأييدًا من مفكرين جادين وقتًا طويلًا، أو تعود إلى الظهور مرارًا وتكرارًا في تاريخ الفكر، ما لم تكن هناك شواهد مؤيدة لها».١٩ وفضلًا عن ذلك فإننا لو استغنينا عن التفكير النظري لضحينا بذلك الكسب الفكري الذي نحصل عليه عندما نجمع الوقائع سويًّا ونربط بينها في نسق فكري؛ ذلك لأن نظرية الفن، التي تتسم، شأنها شأن كل فلسفة، بأنها «جامعة»، تربط، وبالتالي توضح، معطيات من مجال النقد الفني، وشهادة الفنانين، وعلم النفس، والتاريخ، وما إلى ذلك. ومثل هذا التنظيم للمعرفة هو في ذاته إسهام كبير في المعرفة.

غير أن خسارتنا عندئذٍ لن تكون عقلية فحسب. فسوف تخسر تلك الاستبصارات الغنية النفاذة في الفن، التي تكشف عنها كل من النظريات، وهذه الاستبصارات بعينها هي التي تميط اللثام أمامنا عن معنى الأعمال الفنية وقيمتها، فهذه النظريات تكشف لنا، بصورة مباشرة وكذلك بصورة غير مباشرة عن طريق تأثيرها في النقاد والمربين، ما ينبغي أن نبحث عنه في الفن، ولو لم تفعل ذلك لأصاب تجربتنا قدر كبير من الهزال.

إن كل نظرية في الفن تتصل مباشرةً ببعض الأعمال الفنية. وعلينا ألا ننسى هذه الحقيقة العظيمة الأهمية لمجرد كوننا قد قررنا أنه لا توجد نظرية ذات صحة شاملة، بل إن الأصح هو أننا، حتى مع اعترافنا بحدود كل نظرية، نستطيع استخدامها في إيضاح فهمنا وتذوقنا للأعمال التي تنطبق عليها. فكل نظرية تطرح أسئلة مختلفة عن الموضوع الفني، وتلقي ضوءًا على جوانب مختلفة منه، ففي بعض الحالات يكون من المناسب أن نسأل، كما تفعل نظرية «الجوهر»: «ما مقدار ما تكشف عنه هذه الرواية أو الدراما من القوى الدائمة المتأصلة بعمق في المصير الإنساني؟» ولو نظرنا إلى العمل في هذا الضوء، فقد نتمكن من أن نرى فيه أكثر من مجرد السلوك السطحي لبعض الشخصيات الفردية، وسنجد أن لهذه الشخصيات دلالة تتجاوز ذاتها، وبذلك تزداد تجربتنا عمقًا، وتكتسب دلالات جديدة. كذلك فإن النظرية الشكلية تستطيع أن تعلمنا كيف ندرك ما له أهمية في الفن «التجريدي» والموسيقي، وتعصمنا من توجيه أسئلة خطأ، مثل: «ما الذي يعنيه هذا؟» و«أية قصة يرويها؟» وهي أسئلة تشل التفكير وتهدم نفسها بنفسها. والواقع أن التأثير العميق الذي أصبحت النظرية الشكلية تمارسه في عصرنا الحاضر إنما هو دليل على أهمية النظرية الفنية بالنسبة إلى تقدير الجماهير للفن وتذوقها له. وكثيرًا ما يكون من الممكن الجمع بين اثنتين أو أكثر من هذه النظريات بطريقة مثمرة، فمن الممكن مثلًا، إذا جمعنا بين نظرية «المثل الأعلى» والنظرية الانفعالية، أن نتساءل إن كان الخواء الانفعالي لعمل معين راجعًا إلى عجزه عن معالجة الموضوع بما يقتضيه من سمو أخلاقي.

إن كل نظرية يمكنها أن تحلل بسهولة نوعًا أو أسلوبًا فنيًّا معينًا — فنظرية «الماهية» و«المثل الأعلى» تحلل الفن الكلاسيكي الجديد، والنظرية الشكلية تحلل الفن التجريدي، والنظرية الانفعالية تحلل الفن الرومانتيكي. غير أن القدرة التفسيرية لهذه النظريات لا يمكن أن تُجزَّأ تبعًا لفترات أو عصور تاريخ الفن، فكثيرًا ما يمكن تطبيق إحدى النظريات على فن فترة سابقة، ويأتي هذا التطبيق بنتائج مثمرة. وعلى هذا النحو استُخدمت النظرية الشكلية في تحليل فن عصر النهضة، كما أصبح باخ يُعرف في العهود القريبة بطريقة «رومانتيكية». وفضلًا عن ذلك فإن الموضوع الفني الواحد يمكن أن يُفسَّر بنظريتَين متعارضتَين. وبطبيعة الحال فإن النظريتَين ستشيران عندئذٍ إلى سمات مختلفة في العمل، «وتقرأانه» بطريقة متباينة، ولكن في الأعمال الفنية العظيمة الأهمية من الثراء، وفي مظاهرها من الكثرة والتباين، ما يسمح لهذين التفسيرَين المتعارضَين بأن يكونا مشروعين وممتعين من الوجهة الجمالية.

فكيف نعرف النظرية التي تنطبق على عمل فني معين؟ إن السبيل الوحيد إلى معرفة ذلك هي اختبار الطبيعة العينية المحددة لكل عمل، فقد نطبق نظريتنا ونجد أنها تخفق، إذ تكون الأسئلة التي تطرحها أمام العمل خارجة عن الموضوع في معظم الأحيان، وتتجاهل كثيرًا مما يبدو ذا أهمية في العمل. وعندئذٍ ينبغي أن نبحث عن نظرية تكون أكثر انطباقًا وأقدر على التوضيح. وقد يبدو ذلك أشبه بطريقة آلية جامدة في العمل، ولكن الواقع أن هذه، تقريبًا، هي الطريقة التي نسير عليها عادةً بالفعل، وإن لم نكن نسلك على هذا النحو المنظم دائمًا، ولا سيما حين نصادف أعمالًا فنية جديدة غير مألوفة، فنحن في البداية نشترط على العمل الفني نفس الشروط التي كانت تفي بها الأعمال التي رأيناها في الماضي، فإذا لم تكن هذه الشروط تتوافر في العمل، بدأنا ننظر إليه على نحو آخر. وهذا التحول في الإدراك هو، بطريقة ضمنية، التزام بنظرية أخرى في طبيعة الموضوع الفني. وحين يتبين لنا أن أية نظرية موجودة في الفن لا تنفذ بنا إلى صميم العمل وتركيبه الباطن — كما حدث في كثير من الأحيان خلال تاريخ الفن — فإن الحاجة تدعو عندئذٍ إلى فهم جديد كل الجدة للفن. ويكفي في هذا الصدد أن نتذكر مرة أخرى كيف أدى الفن «بعد الانطباعي Post-Impressionist» إلى ظهور النظرية الشكلية.

وإذن فكل نظرية في الفن ترتكز على شواهد قوية، وإن كان ذلك في مجالات مختلفة للفن، أو على أنحاء متباينة بالنسبة إلى الموضوعات الفنية الواحدة. وأود أن أقنع القارئ بأن من واجبنا أن نقبل تعدد النظريات في الفن، بل نرحب به، ففي رحاب الفن مساكن متعددة. ونحن في حاجة إلى كل ما تستطيع هذه النظريات أن تقدمه إلينا من إرشاد وتنوير.

•••

ولكن قد يحتج امرؤ، برغم ذلك، قائلًا: «كيف نقبل كل هذا العدد من النظريات المتباينة؟ ألا توجد نظرية واحدة تلخص الحقيقة المتعلقة بالفن؟»

إن كل المناقشة التي دارت حتى الآن تبين كيف أود أن أسير في إجابتي عن هذين السؤالين؛ فقد اختبرنا معظم النظريات الرئيسية في الفن بإمعان وبشيء من التفصيل. ثم تتبَّعنا وقائع الفن في تعقُّدها الهائل. وعلى أساس ما قمنا به في هذا المجال، أعتقد أنه مما يتنافى مع الوقائع، بل مما يُعَد إهانة لذكاء القارئ، أن يدعي أحد وجود أية نظرية واحدة تملك الحقيقة الكاملة عن الفن كله. صحيح أن الذهن البشري يتصف بالرغبة في الحصول على إجابة، وكلما كانت هذه الإجابة أسرع وأبسط كان ذلك أفضل، ولكنا، كما قال أرسطو، نخدع أنفسنا لو حاولنا الحصول على إجابة «أدق ما تسمح به طبيعة الموضوع». فلدينا بالفعل إجابات عن أسئلتنا المتعلقة بالفن والتذوق الجمالي، ولكنها تتباين بقدر ما تتباين وقائع «موضوعنا». ومن واجبنا أن نقاوم الميل إلى الاكتفاء بعبارة تبدو بسيطة قاطعة مثل «الفن سجل القيم البشرية» أو «الفن شكل ذو دلالة»؛ فالظواهر التجريبية أعقد وأكثر مرونة من أن تتبلور في أية صيغة بسيطة، ولكن هذا أمر لا يثبط إلا همم الذين يعانون جبنًا عقليًّا.

وفضلًا عن ذلك فإن أية محاولة للجمع بين النظريات المختلفة في تعريف شامل محيط، مقدر لها أن تخفق منذ البداية. فالنزعة التلفيقية، على خلاف النظريات المحددة المعالم، لا تقدم إلينا معرفة واقعية خاصة بها. وهي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الخلط والاضطراب؛ إذ إن كل نظرية تجذبها في اتجاه مخالف، وتتجه بها نحو أساليب معينة أو عصور خاصة في الفن، أو نحو جوانب خاصة فيه. وقد يكون من الممكن أحيانًا الجمع بين مفاهيم النظريات المختلفة في تحليل الأعمال الخاصة، ولكن هذه المفاهيم، على وجه العموم، متعارضة أكثر منها متكاملة. «فالمحاكاة البسيطة»، مثلًا على طرفي نقيض مع الصيغتين الأخريين لنظرية «المحاكاة»، والنظرية الشكلية تتعارض مع نزعة المحاكاة عمومًا. وإذا كان الواجب يقضي علينا باستخدام هذه النظريات حين تكون ذات ارتباط بالعمل، كما تفعل نظرية «الجمال الفني» عند جوتشوك، فإن تكوين مركب شامل على أساس تعريف موحد هو أمر مقطوع باستحالته.

ومرة أخرى نجد أنه لا مفر لنا من الانتهاء إلى النتيجة القائلة بأن من الواجب علينا قبول عدد من النظريات لا يمكن اختصاره، وبأن من المحتم علينا أن نتعامل مع هذه النظريات. وكما قلت من قبل، فليس في هذا ما يدعو إلى القنوط؛ إذ إن ثراء النظريات يوسع نطاق معرفتنا ويزيد تذوقنا غنًى وتنوعًا.

والدرس الذي نتعلمه هنا، كما في غير ذلك من مجالات الفكر البشري، هو أن علينا أن «نترك نوافذ العقل مفتوحة»، فقد علَّمنا فلاسفة الفن الكثير مما له قيمة عظيمة، ولكن اتساع الأفق ضروري في اتجاهات متعددة. فسواءٌ أقرر المرء أن يتمسك بنظرية واحدة أم رأى أن كل نظرية تصدق في ناحية معينة، فعليه أن يكون واعيًا بالشواهد والحجج التي تؤيد هذه النظريات، وأن يستوعب موقف النظريات المنافسة لها، ويكوِّن معلومات عن مواقفها. وعليه أن يفطن إلى الشواهد الجديدة، سواءٌ أتت من حركات فنية جديدة، أم من إعادة تفسير الفن التقليدي. «فهل تم أي شيء وانتهى حتى ننتهي نحن إلى أي شيء؟» إن على المرء أن يكون مستعدًّا لتعديل اعتقاداته أو التخلي عنها إذا اقتضت الشواهد ذلك. فإن لم تقرر قبول أية نظرية، فهناك، كما حاولت أن أبين، بديل حقيقي معقول عن التردد والخبرة الكاملة — هو الاعتراف بصحة كل من النظريات الكبرى في بعض مجالات الفن، وتطبيقها على هذا الأساس. وعندئذٍ يتخذ اتساع الأفق شكلًا آخر. وعلينا ألا نطبق أية نظرية مسبقة حتى يبين لنا التحليل التجريبي أن مفاهيم هذه النظرية قادرة على تفسير العمل المعين بطريقة مثمرة.

(٣) فردانية العمل الفني وتكامله

من الممكن الجمع بين النظريات الأربع على نمط يبرز فوارق هامة بينها. فنظرية المحاكاة والنظرية الانفعالية يمكن أن تجتمعا معًا، في مقابل النظرية الشكلية ونظرية «الجمال الفني»؛ ذلك لأن النظريتَين الأولَيَين تفهمان الموضوع الفني من خلال شيء يقع خارج نطاق العمل ذاته، فنظرية المحاكاة تؤكد اعتماد العمل على الواقع غير الفني، الذي قد يكون وقائع الحياة المعتادة (في نظرية «المحاكاة البسيطة») أو ما هو كلي شامل في الطبيعة (نظرية الجوهر) أو ما هو رفيع جماليًّا أو أخلاقيًّا (نظرية المثل الأعلى)، وإذن فالفن، بمعنى معين، هو محاكاة «للحياة» أو «الطبيعة». أما النظرية الانفعالية، التي تتحدث باسم الفنان الرومانتيكي، فلا تعترف بالحاجة إلى أي تشابه مع الواقع أو ارتفاع بالفن إلى مستوى المثل الأعلى … ولكنها بدورها تنظر إلى العمل الفني في صلته بما يوجد خارجه، أي التجربة الشخصية للفنان، وخاصة تجربته الانفعالية. فالعمل يحقق غرض الفنان في «التعبير» عما يشعر به قبل ممارسته لنشاطه الخلاق. ومن هنا فإن الطبيعة العامة للعمل توصف بأنها هي «التعبير عن الانفعال».

وفي مقابل ذلك، تركز النظريتان الأخريان اهتمامهما على ما يوجد في العمل ذاته، فَهُما لا تبديان اهتمامًا بعلاقاته بأي شيء آخر، أو بالأصل الذي نشأ منه العمل أو الحياة الواقعية والتي يصورها،٢٠ بل إن هاتَين النظريتَين إنما تتحدثان عن التركيب الباطن والقيمة الكامنة للعمل، فالنظرية الشكلية ترفض بشدة أية دلالة متعلقة «بالحياة الواقعية» وتقتصر على عناصر الوسيط التي ينطوي عليها العمل، وكذلك على تنظيمها الشكلي. ونظرية «الجمال الفني» تنظر إلى العمل بوصفه موضوعًا إستطيقيًّا، وبالتالي تؤكد «سماته الإدراكية الكامنة»، وإن كان «جوتشوك» لا يضيِّق نطاق هذه السمات على طريقة «بل» «وفراي».

هذا التصنيف يتيح لنا أن نفهم نقاط القوة والضعف في هذه النظريات على نحو أفضل.

وأول ما يلاحظ في هذا الصدد أن النظريتَين اللتين تدخلان عناصر خارجة عن مجال الفن يبدو أنهما تقولان لنا عن الفن أكثر مما تقوله النظريتان اللتان تبحثان في العمل ذاته فحسب، وفي هذا الحكم مفارقة، ولكي أعتقد أن معظمنا يشعرون بذلك عندما يدرسون هذه النظريات. فلنتأمل أولًا نظرية المحاكاة. إننا عندما ندرك العلاقة بين الفن و«الحياة»، نجد أمامنا أشياء كثيرة جدًّا تستحق أن نتكلم عنها. فلماذا اختار الفنان أن يصور هؤلاء الأشخاص وهذه الحوادث؟ وكيف عمل على تحريف نماذجها أو صبغها بصبغة مثالية؟ وما الذي ينبئنا به العمل عن التجربة البشرية؟ وعن أي «الحقائق» يكشف؟ إننا لو أخذنا نظرية المحاكاة مأخذ الجد، فإن الحياة والواقع بأسره يمكن أن يصبحا مرتبطَين بالعمل. وهذا أمر يظهر بوضوح في قدر كبير من النقد الأدبي. ولعلك قد لمست ذلك بنفسك في دراستك لأعمال مثل مسرحيات شيكسبير أو روايات ملفيل أو ديكنز فما إن تبدأ الكلام عن هذه الأعمال، حتى تجد أنك تتحدث عن مشكلة الدوافع في السلوك الإنساني أو مشكلات العدالة الاجتماعية. وبالمثل فإن النظرية الانفعالية تنبئنا عن الفن بأمر مثير إلى أبعد حد؛ هو أن الفن، دون سواه، هو مجال التجربة البشرية الذي تسجل فيه الانفعالات عن وعي وتوصل إلى الآخرين. وهذا بدوره يؤدي إلى إثارة تفكيرنا عن العمل من زوايا متعددة، إذ نود أن نعرف ما الذي دفع الفنان إلى التعبير، وأن نكتشف الأساليب التي استخدمها في الوصول إلى التعبير، وربما كان الأهم من ذلك كله أننا نريد أن نشاركه انفعالاته.

وفي مقابل ذلك تبدو النظرية الشكلية ونظرية الجمال الفني شحيحتَين، نسبيًّا، فيما تقدمانه من معلومات. صحيح أن النظرية الشكلية توجه انتباهنا إلى القيم «التشكيلية» في الفنون البصرية، وهذا إسهام كبير. غير أن هذه النظرية تفتقر إلى الدقة عند حديثها عن هذه القيم — وهذا أمر غريب بحق؛ فهي لا تستطيع تعريف مصطلحها الأساسي وهو «الشكل ذو الدلالة». كما أن نظرية «الجمال الفني» تنبئنا بأن العمل موضوع إستطيقي. وعندما تضيف النظرية أن للعمل موضوعًا وشكلًا وتعبيرًا، فإنها لا تقدم إلينا، مثلما تقدم نظرية المحاكاة والنظرية الانفعالية، أية طريقة واحدة لإدراك ما ينطوي عليه العمل. ومن هنا كانت النظرية الشكلية ونظرية الجمال الفني، كلٌّ على طريقتها الخاصة، أقلَّ صراحة وتحددًا من النظريتين الأخريين؛ الأولى إذ تفتقر إلى الوضوح، والثانية إذ لا تستقر على اتجاه محدد.

ومع ذلك فإن من الخطأ البين أن نستنتج من ذلك أن نظريتَي المحاكاة والانفعال أفضل لهذا السبب؛ إذ إن للمسألة وجهًا آخر.

فلنتأمل النمط الذي توصلنا إليه الآن، إن نظرية المحاكاة والنظرية الانفعالية تقولان الكثير، وهما النظريتان اللتان تدخلان معطيات خارجة عن المجال الفني؛ أما النظرية الشكلية ونظرية «الجمال الفني» فأقل صراحة، وهما لا تهتمان إلا بالعمل الفني ذاته. وهذا يوحي أولًا بأن ما تقوله النظريتان الأوليان عن الفن قد يبعدنا عن العمل إلى أمور أخرى، فإذا كان الأمر كذلك، فإنهما لا تنظران إلى العمل بوصفه موضوعًا مكتفيًا بنفسه له أهميته في ذاته.

ولو عدت بذاكرتك إلى تحليلاتنا السابقة، لوجدت أن هذه النتيجة بعينها هي التي تصدق على تلك النظريات، فنظرية المحاكاة تجعل قيمة العمل متوقفة على علاقته «بالحياة»؛ أي التشابه مع الواقع، وما إلى ذلك. وهنا يكون الوجه الوحيد الهام في العمل هو موضوعه؛ أي الترديد الأمين للموضوعات المعتادة، أو التعبير عن «الصورة العامة»، أو تقديم ما هو «لائق» و«رفيع». وهكذا تتفكك الوحدة الكلية للعمل؛ ذلك لأن العمل الكلي أكثر، بل أكثر بكثير، من موضوعه وحده؛ فهو موضوع متجسد بطريقة محسوسة معينة، وببناء شكلي معين، وحافل بالارتباطات الانفعالية والتخيلية. أما الاقتصار على الموضوع وحده ففيه تجاهل لكل ما عدا ذلك، مما يكون جزءًا من العمل، وبالتالي تحطيم لتكامل العمل وطابعه الكلي. وهذه نظرة مضادة للموقف الجمالي، الذي يسعى إلى بلوغ الامتلاء العيني الكامل للعمل.

ويقلل فيرون وتولستوي من الدلالة الباطنة للعمل على نحو مختلف إلى حد ما؛ فهما يذهبان إلى أن العمل ليس إلا تجسدًا للانفعالات التي كان الفنان يشعر بها من قبل، وهو بالنسبة إلى المشاهد مجرد أداة لتوصيل هذه الانفعالات، ولكنا قد رأينا أن هذا الرأي يرتكب خطأً كبيرًا. فعناصر الوسيط، والشكل، والرموز التي تؤلف العمل، قد تكون لها دلالة تزيد بكثير عن الحالة النفسية الأصلية للفنان. وليس العمل عادة مجرد نسخة طبق الأصل لأفكار الفنان ومشاعره الأصلية … ومن ثَم فمن الممكن أن يفسره المشاهدون اللاحقون ويستمتعوا به على أنحاء متباينة كل التباين، قد لا تشترك مع تجربة الفنان الأصلية إلا في القليل، أو لا تشترك معها في شيء على الإطلاق. فللعمل حياة وقيمة خاصة به؛ وهو لا يمكن أن يظل مقيدًا بأصله.

وهكذا فإن النظريتَين الأولَيَين تهدمان الدلالة الباطنة للعمل أو تسيئان تصورها على نحوَين مختلفَين؛ ذلك لأننا لو سرنا وراءهما في الطريق الخارج عن نطاق الفن، الذي تدعواننا إليه، لأدى ذلك إلى تحويل اهتمامنا عن العمل بوصفه موضوعًا جماليًّا، ولجردنا موضوع العمل وربطناه «بالحياة الواقعية»، أو لنظرنا إلى العمل على أنه وثيقة نفسية، واستخدمناه مفتاحًا للاستدلال على تجربة الفنان.

أما النظريتان الأخريان فموقعهما في الطرف المضاد؛ فهما لا تُعنيان إلا بالعمل بوصفه موضوعًا مكتفيًا بذاته، ولكن هاتين، كما قلنا، هما النظريتان اللتان لا تتحدثان عن العمل بنفس القدر من الوضوح والتحدد الذي تتحدث به عن نظرية المحاكاة والنظرية الانفعالية. ومن المهم أن ندرك السبب في ذلك.

إن النظرية الشكلية لا تستطيع تقديم تعريف «للشكل ذي الدلالة»، ولكن ذلك قد يكون راجعًا إلى أن الأشكال التي تؤلف العمل لا يمكن أن توصف بالكلمات؛ فهي تنتمي إلى مجال التصوير أو النحت وحده، وما «تقوله»، لا يمكن أن يقال على أي نحو آخر. ولكي تعرف «الشكل ذا الدلالة»، فإن كل ما عليك هو أن تراه، أو تدركه «حدسيًّا»، وهي كلمة شائعة الاستخدام، في عمل معين. فإذا كانت النظرية تعجز عن وصف السمات التي تعدها أساسية في الفن، فمن المعقول أن يعزَى ذلك إلى فردانية الأعمال الفنية واستحالة التعبير عنها. وإذا كانت النظرية الشكلية خرساء، فما ذلك إلا لأنها تود أن تتكلم عن العمل الفني وحده، ولكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك. وهي لا تود أن تتكلم عن شيء آخر، «كالحياة الواقعية»، يقع خارج نطاق العمل الفني، وبالتالي يمكن الكلام عنه.

أما نظرية «الجمال الفني»، فلا تلتزم اتجاهًا واحدًا في بحثها للعمل الفني، كعلاقته «بالحياة» أو بتجربة الفنان مثلًا، وإنما تضم كل أوجه العمل، أعني الموضوع، والشكل، والتعبير، وما إلى ذلك. ومن ثَم فهي قد تبدو مفتقرة إلى تحدُّد المعالم والإثارة بالقياس إلى النظريات الأخرى، ولكنها، كالنظرية الشكلية، تحاول أن تحترم ما هو موجود في العمل. وهي، على خلاف النظرية الشكلية، تجد في الفن عناصر كثيرة متباينة. وعلى ذلك فإن نظرية «الجمال الفني» ترى أن من الخطأ تأكيد أي «بُعد» واحد من أبعاد الفن، فالفن عندما يُنظَر إليه من الوجهة الإستطيقية، يتألف من كثير من العناصر المتباينة، وله قيم مختلفة متعددة. وعلى نظرية الفن أن تكون من الاتساع بحيث تحيط بهذه جميعًا.

وهكذا فإن النظريتَين الأخريين تحاولان أن توفيا العمل ذاته حقه. وهما لا ترغبان في تشويهه بعناصر خارجة عن مجال الفن. ولهذا السبب كانت النظرية الشكلية عاجزة عن الاهتداء إلى الألفاظ التي تعبر عن أفكارها الرئيسية، وكانت نظرية والجمال الفني، متسعة وشاملة إلى حد المسالمة التامة.

•••

هذا التحليل يُفضي إلى نتيجة أعتقد أن لها أهمية قصوى بالنسبة إلى كل من يهتم بالفن؛ ففي كل مرة نتكلم فيها عن الأعمال الفنية بوصفها موضوعات جمالية، يتعين علينا أن نتأكد من أننا نتكلم عما هو متضمن في العمل ذاته. ولو لم نفعل ذلك، لكان ما نقوله خلطًا محضًا، إذ يبدو في ظاهره موجَّهًا نحو العمل، على حين أنه في حقيقة الأمر متعلق بأمور نفسية أو تاريخية خارجة عن مجال العمل نفسه. وهذا بالفعل ما نجده في كثير من الكتب المتعلقة بالفنانين، ودراسات «التذوق الفني»، وشروح برامج الحفلات الموسيقية … إلخ. مثل هذا الكلام لا يؤدي إلا إلى تشتيت الاهتمام الجمالي أو القضاء عليه.

إننا نستطيع أن نتعلم من النظرية الشكلية احترام فردانية العمل الفني. ونستطيع أن نتعلم من نظرية «الجمال الفني» احترام تكامل العمل أو كليته. ومن النظريتَين معًا نستطيع أن نتعلم أن العمل الفني، عندما يُنظَر إليه بوصفه موضوعًا إستطيقيًّا، تكون له دلالة وقيمة كامنة فيه وحده. وبالتالي فإنا نستطيع أن نتعلم أيضًا من النظرية الشكلية أن أية كلمات لن تكون أبدًا بديلًا كافيًا عن العمل ذاته، ولكن هذا لا يعني أبدًا أن نظرية «المحاكاة» والنظرية الانفعالية ليس لديهما ما تعلماننا إياه، فهذا استنتاج بعيد كل البعد عن الصواب، بل لقد كان انطباعنا الأصلي عنهما هو أنهما تنبئاننا عن العمل بأكثر مما تنبئنا به النظريتان الأخريان. وكما رأينا من قبل، فهما تنبئاننا «بأكثر»، بمعنى أنهما تقدمان إلينا توجيهات دقيقة محددة عن طبيعة الفن. ولو لم نكن ندرس علاقة الأدب، ولا سيما الدراما والرواية، «بالحياة»، لما استطعنا أن نتقدم خطوة واحدة في مناقشة هذه الفنون. وكثيرًا ما نجد أن العمل يمكن تفسيره والاستمتاع به بوصفه تصريحًا انفعاليًّا شخصيًّا للفنان.

ولكنا نستطيع أن ندرك الآن كيف ينبغي تنظيم وجهات النظر هذه إلى الفن إذا ما شئنا أن تكون عونًا لنا، لا خطرًا علينا. فمن الواجب أن ترتبط بما هو داخل في نطاق العمل ذاته، وألا تصرفنا عن العمل وتحولنا بعيدًا عنه. فعلينا أن نبحث في موضوع العمل بوصفه بُعدًا واحدًا ضمن أبعاد أخرى للعمل، حين نعالج الفن الذي يصور موضوعات (أو الفن التمثيلي representational). وعلى ذلك فلن نتحدث عن الحياة الواقعية، إلا بقدر ما يكون لها اتصال بالموضوع، كأن نبحث إن كانت الشخصيات في إحدى المسرحيات معقولة، أو نتأمل الاستبصار الأخلاقي الذي تنطوي عليه إحدى الروايات. وبالمثل فإنا لن نتحدث عن تاريخ حياة الفنان، وضمنه انفعالاته، إلا بقدر ما يكون ذلك متعلقًا بما يوجد في العمل.

وبعبارة أخرى، فلا بد من تحقيق توازن بين وجهتَي النظر الخارجتين عن نطاق العمل الفني، وهما نظرية المحاكاة والنظرية الانفعالية، وبين وجهة النظر الإستطيقية الخالصة، وهما النزعة الشكلية ونظرية «الجمال الفني»؛ فنحن لا نود أن نكتفي بالصمت إزاء الفن؛ إذ إننا لن نجني من ذلك إلا الجهل، والهزال الجمالي، ولكن ما نقوله بالفعل عن الفن ينبغي أن يكون متعلقًا بالفن. فما نقوله ينبغي أن يُلقي ضوءًا وضاحًا على ما في العمل من ثراء باطن، ومن فردانية غالية، ومن روعة، بقدر ما يسَع الكلمات أن تفعل ذلك.

مراجع

() جوتشوك: الفن والنظام الاجتماعي: الفصل الثاني.

فيفاس وكريجر: مشكلات علم الجمال، ص٩٠–١٠٥.

() فيتس: مشكلات علم الجمال، ص٦١–٧٦، ١٠٧–١٣٩، ١٤٥–١٧١.

ثيرستن، كارل: «المخاطر الرئيسية في تعريف الفن» مقال في «مجلة الفلسفة».

Thurston, Carl, “Major Hazards in Defining Art,” Journal of Philosophy, vol. XLIV, pp. 129–132.

فيتس، موريس: «دور النظرية في علم الجمال»، مقال في مجلة الإستطيقا والنقد الفني.

Weitz, Morris, “The Role of Theory in Aesthetics,” Journal of Ae. & Art Cr, vol. XV (Sept., 1956), 27–37

أسئلة

  • (١)

    «لكي يكون العمل فنيًّا بحق، ينبغي أن يكون إستطيقيًّا أيضًا». ديوي، المرجع المذكور من قبل، ص٤٨. ما المعنى المقصود هنا بلفظ «الفني» في رأيك؟ وبأي معاني اللفظ لا تكون هذه العبارة صحيحة؟ انظر كتاب دوكاس: «فلسفة الفن»، ص٢٠.

  • (٢)

    أية نظرية من النظريات الرئيسية الأربع تراها أفضل من غيرها؟ وكيف ترد على الانتقادات التي وجهت إلى هذه النظرية في الفصول السابقة؟

  • (٣)

    بيِّن كيف يمكن استخدام نظريتَين رئيسيتَين أو أكثر معًا في تحليل عمل معين مألوف لديك. وضح كيف تكون نظريتان في الفن متنافرتين في تحليل أعمال أخرى. استعن باللوحات الواردة في آخر الكتاب للإجابة عن هذا السؤال.

  • (٤)

    ما هو في رأيك أعظم الأمور قيمة من بين ما يمكننا تعلمه من دراسة نظريات الفن؟

  • (٥)
    «إن كل العيوب التي يمكن أن تشوب طريقة التعريف عندما تطبق على علم الجمال ترتد إلى عيب واحد، هو عدم إبداء الاهتمام الكافي بالوقائع»، ثيرستن Thurston، المرجع المذكور من قبل، ص١٣٢.
    ما المقصود من هذا في رأيك؟ وهل توافق عليه؟ قارن بين هذا الرأي ورأي فيتس Weitz في المقال المشار إليه في قائمة المراجع.
١  جوتشوك: «الفن والنظام الاجتماعي»، ص٤٢٩.
٢  المرجع نفسه، ص٣١.
٣  الموضع نفسه.
٤  المرجع نفسه، ص٣٠.
٥  توماس مونرو: «الفنون وعلاقاتها المتبادلة»، ص٩٠.
Thomas Munro, The Arts and their interrelations (N. Y., Liperal Arts, 1951).
٦  المرجع نفسه، ص٩٠؛ وانظر أيضًا ص٩٢.
٧  ﻫ. ن. لي، المرجع المذكور من قبل، ص١٤٨.
٨  المرجع المذكور، ص٤٠.
٩  المرجع نفسه، ص٤١.
١٠  المرجع نفسه، ص٤٢.
١١  لي Lee، المرجع المذكور من قبل، ص١٥٠.
١٢  المرجع المذكور، ص٤٦.
١٣  لي Lee، المرجع المذكور، ص١٥٨.
١٤  انظر القسم الرابع من الفصل الثاني من قبل.
١٥  الفن بوصفه تجربة، ص٤٨-٤٩.
١٦  المرجع نفسه، ص٤٩.
١٧  باستثناء نظرية «الشكل ذي الدلالة» في بعض الحالات.
١٨  المرجع المذكور من قبل، ص٣٩؛ وانظر أيضًا ص١٣ من المقدمة.
١٩  ديويت باركر: «طبيعة الفن»، في كتاب «فيفاس وكريجر» المذكور من قبل ص٩٣.
٢٠  حذفنا من هذا القسم الموجز ما أوردناه في الفصول السابقة من شروط وتحفظات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤