الفصل التاسع

المادة والشكل

(١) تركيب الفن

تحت هذا العنوان تندرج الأجزاء أو العناصر التي تؤلف بتجمعها العمل الفني. وسوف نرى ما هي هذه العناصر، وكيف ترتبط سويًّا، وعلى أي نحو تسهم في القيمة الجمالية للعمل. ولن نفترض مقدمًا أية نظرية بعينها في طبيعة الفن، بل إن المناقشة سوف تستمد عناصر من كل من النظريات التي درسناها، بحيث نستخدم كلًّا منها حيث تعيننا على تفسير بناء الفن، ولكنا نود أن نفهم، إلى أكمل حد ممكن، جميع العناصر التي تؤلف العمل. ومن هنا فإن أية نظرية جزئية لن تفي بغرضنا. ولهذا السبب نفسه، فإن وجهة نظرنا ستكون أقرب إلى موقف نظرية «الجمال الفني» التلفيقية.

وسوف يخدم بحثنا هذا أغراضًا متعددة. فنحن نأمل، كما قلنا منذ قليل، أن نعرف ما الذي يجعل العمل الفني يثير إعجابنا. وفضلًا عن ذلك فلا بد لنا أن نفهم تركيب الفن قبل أن نستطيع تقويمه. وما القول إن العمل «جيد» أو «جميل» أو «أدنى مرتبة» سوى بداية التقويم. فإذا شئنا أن تكون للحكم أية منزلة في أذهان الآخرين، فلا بد لنا أن نكون على استعداد لتأييده بمبررات. هذه المبررات تتميز بأنها تتخذ طابع الإشارة إلى العناصر التي تؤلف العمل، كأن نقول: «إن إيقاع القصيدة متوثب ومثير»، «إن ألوان اللوحة باهتة»، «إن المؤلف الموسيقي قد طور ألحانه الرئيسية ببراعة فائقة». وتتيح لنا دراسة تركيب الفن أن نستخلص هذه العناصر ونقدر أهميتها. وفضلًا عن ذلك فمن الممكن أن تؤدي دراستنا إلى زيادة استمتاعنا بالفن. فما إن نفهم العناصر المكونة للعمل وعلاقاتها المتبادلة، حتى نصبح أكثر حساسية لكل ما هو متضمن بوفرة في العمل. وبذلك يزداد الإبصار الجمالي حدة، وبالتالي تزداد التجربة الجمالية إمتاعًا.

وقد يكون من المفيد، في هذه المرحلة، أن نعرض بإيجاز قائمة بالعناصر التي تدخل في تركيب الفن، فهذا الفصل سيعالج «المادة والشكل»، بينما سيناقش الفصل التالي «التعبير».

أما «المادة» فتدل على «قوالب البناء» الحسية التي يتركب منها العمل؛ من أصوات وألوان وألفاظ … إلخ. وفي العمل ترتب هذه القوالب وتنظم على نحو معين؛ هو الشكل. غير أن العمل أكثر من مجرد ترتيب لعناصر مادية. فعندما ندركه جماليًّا، نجده ينطوي على انفعالات، وصور، وأفكار، ونجد في الموسيقي «حزنًا»، وفي الرواية «تشاؤمًا». وهناك عنصر آخر يوجد في بعض الأعمال الفنية، وإن لم يكن في كلها. وقد أسميناه من قبل بموضوع العمل الفني subject matter أي الموضوعات والحوادث التي تصوَّر في الفن التمثيلي كالدراما والتصوير التقليدي. وسوف نشير إلى هذا الموضوع عندما نناقش تركيب هذا النوع من الفن.

•••

ولا بد أن يكون قد ظهر الآن بوضوح أن دراسة التركيب الفني تنطوي على تحليل للفن. فلا بد لنا من تفكيك العمل الفني ككل لكي نميز عناصره. وعند هذه النقطة بعينها قد يرتفع صوت بالاحتجاج، قائلًا إن هذه طريقة باطلة تمامًا في حالة الفن؛ فالعمل الفني وحدة، وهو لا يمكن أن يُفهَم نظريًّا. أو يتذوق جماليًّا إلا على هذا الأساس. ونحن حين نستمتع بعمل ما، لا نكون واعين «بالصورة» و«المادة» والتعبير بوصفها كيانات مستقلة؛ ففي تفتيت العمل إلى هذه الأجزاء قضاء على معناه وقيمته.

فكيف يمكن الرد على هذا الاتهام؟ إننا بالفعل نقوم «بتحليل» للعمل حين نحكم على قيمته، كما رأينا من قبل؛ فنحن نتحدث عن إيقاعه أو لونه، بل إن من الواجب أن نفعل ذلك؛ فالعمل الفني شديد التعقيد (وهذا ما يثبته تحليل بناء العمل الفني، إن لم نكن قد أدركنا ذلك من قبل). فإذا ما شئنا أن نتحدث عنه على أي نحو، فلا بد لنا من أن نحلل تعقُّده إلى أجزائه المكوِّنة له. وليس في استطاعتنا أن نتحدث إلا عن شيء واحد في المرة الواحدة. فالتحليل إذن محتوم، وإلا كان علينا أن نظل خُرسًا إزاء العمل، أعني «خرسًا» بأكثر من معنًى واحد؛ إذ إننا لن نستطيع أن نعرف أي شيء عن العمل أو نزيد من مقدار تذوقنا له.

غير أن التحليل يمكن أن يكون مضللًا إلى حد خطير، كما يقول الناقد الذي أوضحنا اعتراضه من قبل، إذا ما أسأنا استخدامه. ونحن نسيء استخدامه عندما نرتكب «مغالطة التجريد الباطل fallacy of vicious abstraction»، أعني تجريد عنصر واحد من موضوع كلي عيني، ثم الاعتقاد بأن هذا العنصر سيكون له، عندما يُعزل على هذا النحو، نفس الخصائص التي كانت له عندما كان جزءًا من الموضوع. فلماذا يُعَد هذا الاعتقاد باطلًا؟ لأنه حين يكون العنصر جزءًا من الموضوع، تكون له علاقات بالعناصر الأخرى للموضوع، وهذه العلاقات تؤثر فيه وتحدث اختلافًا في طبيعته. فلو بحثت الحاجات الاقتصادية وحدها الإنسان ما، أي قمت بالتجريد المشهور الذي يعرف باسم «الإنسان الاقتصادي»، فسوف تقرر كيف ينفق هذا الشخص نقوده على موضوعات معينة، ولكن عندما تبحث في الإنسان الفعلي، الذي تربطه ببقية الناس والجماعات علاقات شخصية وسياسية وعاطفية، فسوف تدرك مدى ابتعاد استنتاجاتك عن الصواب؛ إذ إن سلوكه الاقتصادي يتأثر بكل هذه العوامل (وهذا بعينه هو السبب في اختلال ميزانيات كثير من الأفراد والأسر).

«والتجريد الباطل» في الفن هو محاولة فهم عنصر معين في العمل، كالشكل أو التعبير، وكأن له وجودًا بمعزل عن العمل. ويترتب على ذلك، الاعتقاد خطأً بأن طبيعة العنصر وقيمته يمكن أن تُعرف معرفة كاملة بمعزل عن بقية العمل. ثم ينبني على ذلك خطأ آخر، هو أن نعتقد، بعد حساب قيمة كل من العناصر، بأن قيمة العمل لا تعدو أن تكون مجموع كل هذه القيم الجزئية. والأمر في ذلك أشبه بحالة أنصار علم النفس التجريبي الذين ظنوا أنهم لو استطاعوا تحديد القيمة الجمالية لكل لون في لوحة، لكان من السهل بعد ذلك تحديد قيمة اللوحة بأكملها.

هذه الأخطاء خطيرة إلى أبعد حد. ولو وقعنا فيها، لأدت بنا إلى نتائج ممتنعة. ولا يقل عن ذلك سوءًا ما تؤدي إليه من خلط وتشويه في إدراكنا الجمالي.

فلا بد لنا من أن نحتاط من هذه الأخطاء طوال مناقشتنا التالية للتركيب الفني. وعلينا ألا ننسى لحظة واحدة أن الشكل والمادة والتعبير، بالنسبة إلى العمل الفني الواحد، لا وجود لها إلا في داخل ذلك العمل؛ ففيه يؤثر بعضها في البعض ويتفاعل معه. وهي لا تكون على ما هي عليه، ولا تكون لها قيمتها إلا نتيجة لعلاقاتها المتبادلة.

وإذن فالتحليل أمر لا بد منه؛ إذ إننا بدونه لن نستطيع الكلام عن الفن، ولكن ينبغي علينا، أثناء قيامنا بالتحليل، أن نتنبه إلى الطريقة التي نمارسه بها. فلن تكون مناقشتنا لأي عنصر مناقشة مستنيرة إلا إذا تذكرنا على الدوام طريقة ارتباطه بالعناصر الأخرى، بل إن المناقشة ذاتها ستذكِّرنا بهذه العلاقات المتبادلة في مواضع متعددة؛ إذ سنجد أننا لا نستطيع حتى أن نتكلم عن أي عنصر واحد كلامًا ذا معنًى إلا إذا تذكرنا مكانه داخل الكيان الكامل للعمل.

وصفوة القول «إن الحقيقة القصوى في كل نظرية جمالية في العمل الفني المكتمل بكل ما فيه من عينية ووحدة عضوية. صحيح أن من الضروري لنا، من أجل تحليله، أن نفككه، ونتعدى بذلك على تركيبه الحي … ولكن النظر إلى العمل الفني على أنه مجرد مجموع من العناصر المكونة، والاعتقاد بالتالي أن أي عنصر مكون … يمكن أن يظهر أو يختفي دون أن يجني منه العمل كسبًا أو خسارة أساسية، إنما هو ارتكاب الخطيئة لا تغتفر في دراسة الفن».١

•••

وهناك كلمة تمهيدية أخرى نود أن نقولها قبل البدء في عملنا: فالمقصود من تحليل البناء أو التركيب الفني أن يصدق على كل فن. وعلى ذلك فلا مفر من أن يكون التحليل على مستوى عالٍ من العمومية. وإن نفس ألفاظ «المادة» و«الشكل» و«التعبير» لتتسم بالشمول الشديد؛ فهي «مقولات»، أي أنها تصنف أوجه الشبه بين عناصر مختلف الموضوعات الفنية، فأنغام سيمفونيتين مختلفتين هي العناصر الحسية لهذين العملين، وبالتالي فهي تندرج تحت مقولة «المادة». ومع ذلك فإن كل عنصر مادي، كما يقع في عمل بعينه، هو أيضًا عنصر ينفرد به ذلك العمل وحده. وبالمثل فلا يمكن أن يكون للعمل «تعبير» فحسب، بل إن ما يعبر عنه له طابع نوعي خاص؛ فهو مؤثر أو مرح بطريقة ينفرد بها ذلك العمل ذاته.

على ذلك فليست المقولات الثلاث بديلًا عن الدراسة التجريبية للعمل العيني، وما كان يمكن أن تكون كذلك؛ إذ إنها أكثر تجريدًا من أن تسمح بهذا. ولا بد لنا من أن نكسوها لحمًا، بأن نتبين ما هي الأمثلة الخاصة للمادة والشكل والتعبير التي تتمثل في الأعمال الفردية. فالمقولات معالم إرشادية للتحليل الفني. وهي توضح طريقة إجراء التمييز بين عناصر العمل، ولكن لا يمكن استخدامها على نحو مثمر إلا وهي مقترنة بما لدينا من معرفة عن الفنون الخاصة. وما الهدف من تحليل البناء الفني، شأنه شأن التفكير النظري الجمالي عامة، سوى توضيح المفاهيم التي نستخدمها عند الكلام عن الفن. فهو إذن مُعين لا غناء عنه بالنسبة إلى ناقد الفنون ودارسها. ومع ذلك فهو لا يدَّعي سوى أنه الخطوة الأولى في عملية تحليل القصائد والسيمفونيات واللوحات.

(٢) «مادة» الفن

منذ البداية الأولى لبحثنا، سنجد أن العلاقة المتبادلة بين مقولات الفن تبلغ من الوثوق حدًّا يسترعى النظر بحق؛ ذلك لأننا سنبدأ بأبسط العناصر، وأكثرها أولية، وهو «المادة» المحسوسة للعمل. ومع ذلك فإن نفس معنى هذا اللفظ يؤدي بنا إلى التفكير في «الشكل»، فاللفظان مرتبطان؛ إذ إننا لا نجد المادة قائمة بذاتها أبدًا، بل إن لها على الدوام شكلًا ما، فالعناصر المحسوسة للعمل تنظم دائمًا على نحو ما، حتى لو كان الشكل يفتقر إلى الوضوح أو الانتظام. وعلى العكس من ذلك، فإن الشكل يتعلق على الدوام بمادة ما، ومن هنا كان «الشكل ذو الدلالة» عند «بل Bell» ترتيبًا للخطوط والألوان وما إليها.
كذلك تظهر العلاقة المتبادلة بين المادة والشكل حين ننظر إلى المادة على نحو آخر: فعندما يأخذ الفنان على عاتقه عملية الخلق، لا يكوِّن العمل من خليط من المناظر والأصوات مأخوذ اعتباطًا، بل إن أحجار بناء العمل تكون قد نظمت بالفعل في نمط ثابت — هو الوسيط الفني (medium). وأوضح أمثلة الوسيط الفني هو السلم الموسيقي، فالمؤلف الموسيقي لا يختار مادته من بين الأصوات اللانهائية العدد، التي تتألف منها تجربتنا المعتادة، وإنما يمارس عمله على أنغام مرتبة بطريقة منظمة تبعًا لمدى ارتفاعها وانخفاضها. ومثل هذه الأنغام لا وجود لها في تجربتنا المعتادة، بل إننا نجد في هذه التجربة ضجيجًا — كصوت الباب حين يغلق بعنف، أو صفير القطار، وهي أصوات أشد عشوائية وتفككًا من أن تسمح بالإفادة منها بطريقة خلاقة.٢ أما في السلم الموسيقى فإن لكل نغمة درجة ارتفاع محددة، وهي ترتبط بجميع الأنغام الأخرى عن طريق «مسافات» كمية ثابتة. وهكذا فإن السلم الموسيقى — الذي يتضح للمرء حين يفكر فيه أنه من أروع إنجازات الجهد البشري — تكمُن فيه وسيلة تكوين مادة المؤلف الموسيقي. فنظرًا إلى ثبات العلاقات بين الأنغام، فإنه يستطيع أن يحسب أي الأنغام تتمشى معًا، وكيف يمكن وضع كل منها مقابل الأخرى، وما هي التطويرات التوافقية الممكنة حين تتخذ نغمة معينة «قرارًا» للقطعة الموسيقية (ولا جدال في أنه سوف يفيد أيضًا من الأساليب الموسيقية ونظرية التوافق (الهارمونية) التي استقرت خلال التاريخ، غير أن هذه بدورها لم تكن لتصبح ممكنة لولا تركيب السلم الموسيقى). وعلى ذلك فإن وسيط الموسيقي يجمع بين العناصر الحسية للأنغام وبين الترتيب الشكلي تبعًا لنمط معين.
ولا يوجد في الفنون الأخرى فن يستطيع أن يفخر بأن الوسيط الذي يستخدمه يتسم بهذا القدر من التنظيم الدقيق المحدد المعالم. فقد ظلت الموسيقى على الدوام أقرب الفنون جميعًا إلى الرياضيات، وقد اتخذت، منذ أيام فيثاغورس (القرن السادس ق.م.) موضوعًا للتحليل الرياضي. ومع ذلك فإن وسيط التصوير يقترب منها. وكما أن الأنغام تتميز بارتفاعها وانخفاضها، فكذلك تتميز الألوان بدرجتها اللونية. وتُرتب الدرجات اللونية في «دائرة لونية» أو سلم لوني يكشف عن علاقات الألوان «التكميلية» بعضها ببعض. وترتبط الدرجات اللونية، ومعها سائر جوانب اللون، «كالتشبع»، أي كمية الرمادي في اللون، و«القيمة»، وخفة اللون أو ثقله، في «المخروط اللوني colour cone»٣ ارتباطًا متبادلًا. وبذلك يستطيع المصور أن يتنبأ، في حدود معينة، بنتائج المزج والترتيب اللوني. وفضلًا عن ذلك فإن المصور، والفنان الأديب بصورة أوضح، لا يختار مادته من بين مجموعة محدودة من العناصر كأنغام السلم. وبالإضافة إلى هذا فإن الوسيط المستخدم في الأدب، وهو الألفاظ، أبعد الوسائط جميعًا عن أن يكون ذا تركيب شكلي كامن فيه، ما لم نقل إن كل لفظ، في النحو الخاص بكل لغة، يكون جزءًا معينًا «من أجزاء الكلام»، بحيث يمكن تجمعه على النحو الصحيح مع بعض الألفاظ دون غيرها.
وعلى ذلك فإن «مادة» العمل الفني تتألف من العناصر الحسية، التي قد تكون بصرية أو سمعية، والتي اختيرت من الوسيط. هذه العناصر، في مجال الموسيقى، هي الأنغام والأعمدة التوافقية chords، والسكون، وعلينا ألا ننسى هذا الأخير؛ إذ إن «السكتات» هي بالطبع من أكثر الوسائل الموسيقية فعالية. وفي مجال التصوير تكون هذه العناصر هي اللون، والخط، والكتلة، والمسطح، والنور والظل، كما رأينا من قبل عند بحث النظرية الشكلية، وفي الرقص أو الباليه، هي المظهر الحسي للجسم الإنساني، وهكذا في سائر الفنون.
وإذن فالمادة، بالنسبة إلى العمل، هي جوهره العيني أو «جسمه». وبدونها يكون العمل هزيلًا خاويًا، شأنه شأن تلك التخطيطات الخارجية للتركيب الشكلي للوحة معينة، وهي التخطيطات التي ترد العمل إلى هيكل من المساحات غير الملونة والأسهم التي تشير إلى «خطوط القوة»؛ «فالقول إن استمتاع المرء بالموسيقى حين يقرؤها من المدونة الموسيقية، لا يقل عن استمتاعه بها حين تُعزف على الآلات، إما أن يكون مجرد ادعاء، وإما قولًا مشكوكًا فيه إلى حد بعيد»؛٤ فتألق آلات «الترمبت trumpet» عند ريمسكي كورساكوف، والصوت الأركسترالي الأخاذ عند ريشارد شتراوس وسترافنسكي، والنسيج المتلاحم للآلات في رباعية لهايدن — هذه كلها من بين القيم الرئيسية للموسيقى، بل إننا حتى حين لا نكون قادرين على إدراك عنصر الشكل أو القالب في لوحة أو قطعة موسيقية معينة، أو فهم معناه، نستطيع أن نستمتع بما فيها من لون أو صوت. والواقع أن مادة الفن تحيي فينا من جديد ذلك الاهتمام الذي كان يلازمنا جميعًا في طفولتنا «بمنظر العالم» «وملمسه». وعلى الرغم من أن للمادة أهمية ضئيلة نسبية في بعض الأعمال الفنية، فإنها تكون عادة جزءًا لا يتجزأ من قيمة العمل؛ «فتأثير المادة يمكنه أن يزيد من تأثير أي شكل أو صورة … فلو تخيلنا معبد البارثينون مصنوعًا من غير الرخام، وتاج الملك من غير الذهب، والنجوم من غير النار، لكانت أشياءَ هزيلة لا تثير اهتمامًا».٥
ويتميز الفنان كما رأينا من قبل، بحساسيته لوسيط معين،٦ فلديه وعي زائد بطابع الأصوات أو الألوان أو الألفاظ. ونظرًا إلى أن المادة ليست جامدة، بل هي نابضة حية، فإنها تعمل على توجيه مجرى النشاط الإبداعي. «إنك لا تستطيع أن تصنع من الفخار نفس ما يمكنك أن تصنعه من الحديد الخام، إلا إذا كان ذلك غصبًا وافتعالًا، فالإحساس الذي يبعثه العمل يكون … مختلفًا كل الاختلاف؛ ذلك لأن المعدن يتحداك، ويستحثك … على أن تصنع منه شيئًا معينًا، حيثما أحسست بتماسكه ومرونته».٧ وهناك قدر كبير من النشاط الخلاق مكرس لاستغلال الجاذبية الحسية للمادة، والاسترشاد «بإيحاءاتها».

ولا تتمثل قيمة المادة في جاذبيتها للحواس فحسب. صحيح أن «مرآها» أو «مسمعها» يلذ لنا، ولكنها ليست كذلك فحسب، بل إن المادة «معبِّرة». وهنا أيضًا نجد أن الحديث عن أحد أبعاد العمل يؤدي إلى الحديث عن بُعد آخر.

إن العناصر الحسية للفن تستطيع، في ذاتها، أن تُثير صورة وحالات نفسية وأفكارًا. وهذا يصدُق بوجه خاص على مادة الفنون البصرية؛ فقد دلت تجارب نفسية لا حصر لها، فضلًا عن التجربة المعتادة، على أن الألوان والخطوط مأخوذة على حدة لها طابع انفعالي وتخيلي واضح، فاللون الأحمر «عدواني» أو «لامع» أو «لاذع»، والأزرق «منطوٍ على نفسه» أو «رقيق». والخط المتعرج الملتوي يبدو «مضطربًا» على عكس القوس الطويل المنساب. وبناءً على هذه السمات كان في استطاعة المصورين أن يتحدثوا بقدر كبير من التفاهم والاتفاق عن «دفء» الألوان و«حرارتها» وفضلًا عن ذلك فمن الممكن أن تكتسب الألوان معاني تصورية ذهنية، كما هي الحال في اللون الأسود الذي يدل (في البلاد الغربية على الأقل) على الحزن أو الحداد. كذلك قد تكون الأنغام والأعمدة التوافقية معبرة بدورها، ولكن بدرجة أقل. فلتجرب أن تعزف نغمة، ثم تعزفها هي ذاتها ناقصة نصف صوت (بيمول)، أو اعزف نفس النغمتين في طبقتين مختلفتين، ألن تشعر بأن إحساسك بها قد اختلف؟ كذلك فإن الألفاظ المنفردة كثيرًا ما يكون لها «طعم» خاص بها. وفي هذا يقول الشاعر كيتس «هناك لذة هادئة في نفس صوت كلمة «وداعًا vale».» ولكن معظمنا، ممن لا تتوافر لهم عادة حساسية أذن الشاعر، ولا همهم إلا معاني الألفاظ، لا نتوصل عادة إلى هذه الارتباطات التعبيرية حتى تُوضَّح لنا داخل القصيدة.

إن تذوق مادة الفن وحدها غير كافٍ؛ فمثل هذه التجربة محدودة أكثر مما ينبغي، ولكن حتى في هذه الحالة تكون للمتعة الحسية قيمة في ذاتها. وعندما تكون مصحوبة بفهم للشكل بدوره، بحيث لا يعود في استطاعة المدرك التمييز بينهما، تكون التجربة الجمالية قد بلغت أكثر درجاتها اكتمالًا وإرضاءً. إن الناس يُعرِبون أحيانًا عن استخفافهم بقطعة موسيقية معينة بالقول «إنها ليست إلا صوتًا»، أو يقولون عن إحدى اللوحات «إنها زخرفية فحسب»، والمعنى الذي يقصدون إليه بالطبع هو أن العمل قد خلا من الأهمية الشكلية أو من الدلالة التعبيرية. ولا جدال في أن هذا نقد سليم وهام حين يوجه إلى بعض الأعمال الفنية، ولكن من الواجب، في الوقت ذاته، ألا ننسى أن العمل الذي يكون جسمه المحسوس سقيمًا هامدًا يخيِّب آمالنا في ناحية على جانب كبير من الأهمية.

•••

ومع ذلك فمن الواجب ألا نرتكب خطأ الاعتقاد بأن جميع الأعمال الفنية ينبغي ألا تتضمن من المواد إلا أكثرها جاذبية. فقد نظن، بناءً على ما قلناه منذ قليل، أن الفنان يختار على الدوام عناصر هي في ذاتها متألقة حسيًّا ومثيرة انفعاليًّا. وتؤدي هذه الطريقة في التفكير إلى القول بأن مادة الفن «ليست أية مادة عتيقة … فألفاظ الشاعر العظيم … ليست نفس الألفاظ المتكررة الجوفاء التي نجدها في الخطابات المصلحية».٨ ولكن لا بد أن ينهار مثل هذا الرأي لو أُخذ بمعناه الحرفي، بوصفه قاعدة تسري على الشعر كله؛ ذلك لأن قصيدة واحدة على الأقل (توجد إلى جانبها أمثلة أخرى) تستخدم اللغة المصلحية استخدامًا مباشرًا صريحًا. وربما كانت تلك أشهر قصيدة في عصرنا الحاضر، وهي «الأرض البوار» لإليوت، التي نجد فيها تعبيرات مثل «سيف٩ لندن – البوالص حالًا».١٠
إن القاعدة تتعرض لهذا النقد لأنها ترتكب خطأً أساسيًّا في تحليل الفن؛ فهي تقوم بتعميم شامل بشأن قيمة عنصر واحد، هو المادة، دون أن تأخذ في اعتبارها الطريقة التي يستخدم بها هذا العنصر في عمل فني متكامل؛ ذلك لأن الأعمال الفنية هائلة التنوع، ولذا كان أي تعميم كهذا محفوفًا بالخطر. ولا يمكن معرفة ما إذا كانت المادة حيوية ومعبرة، إلا بتجربة جمالية وتحليل للعمل الذي تظهر فيه؛ فقد تكون الألفاظ مأخوذة على حدة «نمطية جوفاء»، ولكنها تصبح حافلة بالحرارة والإثارة عندما تقع داخل القصيدة الكاملة؛ ففي قصيدة إليوت، تؤدي الألفاظ التجارية بسرعة وفعالية إلى كشف طبيعة «المستر يوجنيدس، تاجر سميرنا Smyrna»، الذي ترتبط به هذه الألفاظ. وهي تساعد، بصورة أعم، على وصف عمق «المدينة غير الحقيقية»، مما يؤدي بدوره إلى مزيد من الدعم للفكرة الرئيسية في القصيدة، وهي خواء العالم الحديث؛ فالقيمة الجمالية للمادة تتحدد على أساس جميع علاقاتها السياقية المتبادلة مع كل شيء آخر في العمل.
ومن الممكن توجيه هذا النقد ذاته إلى النظرية القديمة في «الكلام الشعري poetic diction» التي كانت تحث الشاعر على تجنب استخدام الألفاظ «المتداولة». وقد ترتب على ذلك، في بعض الأحيان، التوسع في استخدام ألفاظ لا توجد عادة إلا في هذا النوع من الشعر القديم، مثل لفظ mead (رحيق) وverdant (نضر) وsere (ذابل)، وما إليها. غير أن هناك عددًا لا حصر له من القصائد التي لا ينكر أحد قيمتها، كانت الكلمات المستخدمة في كل منها عادية تمامًا، مثل:
النور يهوي من الهواء،
والملكات متن صغارًا يافعات،
التراب أغمض عينَي هليينا.١١

فكل لفظ من الألفاظ المستخدمة في هذه الأبيات مألوف تمامًا في الحديث المعتاد.

وفي استطاعتنا أيضًا أن ندرك تحيُّز الرأي القائل إن المادة الفنية ينبغي أن تكون «جميلة» لو تأملنا هذا الرأي من جانبه الآخر؛ فالقصائد التي تَستخدِم كثيرًا من الألفاظ الخلابة ذات الوقع الجميل، دون أن تكون لها إلا مزايا أخرى طفيفة، تحتل عادة مكانة غير رفيعة على الإطلاق. وقد كان هذا عيبًا من عيوب قدر كبير من شعر سونبرن A. C. Swinburne. وإذن فلنقل مرة أخرى إن المادة ينبغي أن تقدر في علاقتها بجميع العناصر الأخرى.

هذه الآراء لا تثبت أن أي تعميم عن المادة غير صحيح، فمن الصحيح بوجه عام أن الألفاظ والأصوات والألوان التي يستخدمها الفنان هي في ذاتها حيوية معبرة. وفي استطاعتنا أن نهتدي إلى أمثلة متعددة الأعمال استخدمت هذه الخصائص وأفادها هذا الاستخدام كثيرًا. ومع ذلك فقد أوضحت مناقشتُنا أن من الضروري في كل الأحوال أن تقترن هذه التعميمات بشرط مثل «من الصحيح في كثير من الأحيان أن …» أو ما شابهها من العبارات. وفضلًا عن ذلك فمن الواجب أن تتجاوز هذه التعميمات نطاقها الخاص لكي تشير إلى العناصر الشكلية والتعبيرية في الفن. وعندئذٍ يمكن أن تكون مرشدًا مفيدًا للتحليل الفني.

•••

وفي استطاعتنا الآن أن نقدِّر — وفي ذهننا هذا التحذير — الدور الذي تسهم به المادة في تحديد مدى الفعالية الجمالية الكاملة للعمل؛ فالخفة أو الثقل، والتألق أو الإظلام، والدفء أو البرودة؛ كل هذه الخصائص التي نشعر بها في تجربتنا الحسية تضفي على الفن مذاقًا وقدرة تعبيرية. ففي قطعة زوراخ Zorach النحتية «طفلة مع قطة» (انظر اللوحة رقم ٢٨)، نجد أن نعومة الرخام وجاذبيته تكون جزءًا لا يتجزأ مع الجاذبية الرقيقة لموضوع النحت. ومع ذلك فالوسيط هو الرخام، ومن ثَم فهو ليس «بديعًا» فحسب، بل إنه يتصف بالقوة والتماسك، وهما أمران لا بد منهما من أجل تحقيق الوقار١٢ الذي هو صفة أخرى للطفلة والقطة، ولكن لنلاحظ أن تأثير المادة في العناصر الأخرى متبادَل؛ فالصفات الحسية والتعبيرية للحجر تتكشف بفضل رقة الموضوع وهدوئه، ورقة الخطوط، والجمع الذكي بين الانفعال وضبط النفس، الذي يعبر عنه العمل ككل. ولو تصورنا نفس القطعة من الحجر دون أن تعمل فيها يد الفنان لكان من الجائز أن تظل شيئًا يلذ لنا أن نراه، ولكنها ما كانت لتبعث من المتعة ما يقرب مما تبعثه الآن. أو لو كانت قد نحتت لتصوير شكل من نوع مختلف تمامًا عن الطفلة والقطة، لبدا لنا منظرها وإحساسنا بها مختلفًا. وبالمثل فإن الدفء والجاذبية اللذين تشتهر بهما ألوان رنوار لا يرجعان فقط إلى الدرجات اللونية ذاتها، بل أيضًا إلى طريقة وضعهما الشكلي في اللوحة، وإلى موضوعات رنوار الوديعة أو المحببة إلى القلوب، وإلى ذلك الهدوء العام الذي يشيع في أعماله، فتلك أمثلة للتكامل الناجح بين المادة وبين الأبعاد الشكلية أو التعبيرية. أما حيث يكون هناك تعارض بين هذه الأبعاد، فإنا نشعر بوجود تنافر كامن في العمل؛ فالموضوع الذي يتسم بالتكتل المادي والكآبة الانفعالية لا يمكن التعبير عنه بسهولة عن طريق مادة هشة كالسيلوفان أو رقيقة كالخزف.

وإنه لمن المستحيل إيراد قائمة شاملة للطرق التي لا حصر لها، والتي تؤدي بها المادة إلى تقوية الشكل والقدرة التعبيرية للفن. فهذه الطرق تبلغ من التنوع قدر ما تتنوع الأعمال الفنية ذاتها. ومن الممكن أن نترك للقارئ مهمة تحليل وظيفة المادة وقيمتها في الأعمال الفنية المألوفة لديه. وستكون مناقشتنا قد أدت الغرض المقصود منها إذا كشفت للقارئ عن الإمكانيات الحسية والتعبيرية للمادة، وكيف أن طابعها وقيمتها المحسوسة تتوقفان على علاقاتها المتبادلة بالعناصر الأخرى للعمل.

(٣) الحواس «العليا» و«الدنيا»

المادة هي الوجه المحسوس للفن، ولكن ينبغي أن يلاحظ أن ما قيل عن الفن قد اقتصر كله تقريبًا على ما يُدرك بحاستين فقط؛ وهما البصر والسمع، إذ يبدو أن الفنون الرئيسية؛ وهي الأدب والموسيقى والتصوير والنحت، فضلًا عن الرقص والعمارة والسينما، موجهة إلى هاتين الحاستَين وحدهما، ولكن ما القول في الحواس الأخرى؛ وهي اللمس والشم والذوق؟ هل يستخدم الفن، على أي نحو، مادة تجتذب هذه الحواس؟ أو بعبارة أعم: هل يمكن أن تُستخدَم هذه الحواس طرقًا لتوصيل المتعة الجمالية، سواءٌ أكان الموضوع فنيًّا أم طبيعيًّا؟

يبدو أن أوضح إجابة عن السؤال الأخير في الإجابة بالإيجاب؛ فنحن نتذوق الروائح وأنواع الملمس والمذاق لذاتها. ونحن نستمتع برائحة الزهور، ومذاق الأطعمة، وملمس السطوح المختلفة. فهذه إذن، نتيجة لذلك، موضوعات جمالية أصيلة. وفضلًا عن ذلك فكثيرًا ما تُبعَث هذه الإحساسات بواسطة أعمال فنية بصرية أو سمعية قبل كل شيء. وربما كان الأدب أغنى الفنون في هذا الصدد؛ ففي استطاعة اللغة، بفضل معانيها التي لا تعرف حدودًا، أن تثير إحساسات المذاق والملمس والرائحة. ويكفي في هذا الصدد أن نذكر تعبير كيتس: jellies soother than the creamy curd (عصارات أرق من زبدة الحليب) وتعبير روبرت بروك Rupert Brooke:
mysty reek that lingers/About dead leaves and last year’s ferns.

(الدخن المتعفن العالق بأوراق الأشجار الميتة وغصون السرخس المتخلفة عن عام مضى).

وكذلك تعبيره: the rough male kiss/Of blankets (القبلة الرجولية الخشنة — لأغطية الفراش) وعلى الرغم من أن التصوير والنحت لا يستطيعان استغلال مثل هذا القدر من الأوجه الحسية، فإنهما أغنى حتى من الأدب في اجتذابهما لحاسة اللمس؛ فمواد النحت بوجه خاص تغرينا على أن نمر بأيدينا على سطح العمل النحتي (لو سمح حراس المتاحف). ولكي يتذوق المشاهد أعمال هنري مور النحتية، فإنه لا يود التطلع إليها فحسب، بل يريد أن يشعر بملمس المادة ويتتبع مرتفعاتها ومنخفضاتها (انظر اللوحة رقم ٢٢) وفضلًا عن ذلك، فكثيرًا ما تثير التماثيل والمباني إحساسات جسمية حركية، هي إحساسات الانتقال إلى العمل ورفعه وحمله. وقد أشاع الناقد المعاصر برنار برنسون Bernard Berenson فكرة «القيم اللمسية»، فقال إنها «تحفز الخيال إلى أن يحس بكتلة الأعمال الفنية، ويقدر ثقلها، ويدرك قدرتها على المقاومة، ويقدِّر بُعدها عنا، وتشجعنا — بالخيال دائمًا — على أن نلمسها عن كثب، أو نتمسك بها، أو نعانقها، أو ندور حولها».١٣ وبطبيعة الحال فإن الموسيقى أقل الفنون قدرة على إثارة إحساسات غير تلك التي تلائم وسيطها المادي الخاص. ومع ذلك فإنا نتحدث أحيانًا، ويكون لحديثنا ما يبرره، عن «ملمس» رباعية، قد نشعر بأنها ناعمة أو صلبة أو خشنة.

وإذن فمن الممكن أن تكون الإحساسات بالروائح والطعوم والملمس ذات قيمة جمالية في ذاتها، ومن الممكن أن تضفي على الأعمال الفنية قدرة تعبيرية. وهذا أمر واضح الصحة. ومع ذلك فمن الصحيح أيضًا أنه لا يوجد نوع فني هام يخاطب أساسًا حاسة اللمس أو الذوق أو اللمس. صحيح أننا نتحدث عن «فن صناعة العطور» وعن «فن الطبخ»، ومن المؤكد أن القيام بهذه المهام يحتاج إلى قدر كبير من البراعة. ومع ذلك فإن أحدًا لا يفكر في أن يجعل لها نفس مرتبة الأدب أو الموسيقى أو التصوير.

ويرتد الاعتقاد بأن اللمس والذوق والشم أدنى مرتبة من الحواس «العليا»، وهي البصر والسمع، إلى الفكر اليوناني القديم. فسقراط يقول، أثناء قيامه بمحاولة من أولى محاولاته من أجل تعريف «الجمال»: «لست أرمي إلى إدراج جميع اللذات، بل ما نستمتع به عن طريق حاستي السمع والإبصار لدينا فحسب.»١٤ وهو يواصل كلامه قائلًا: «سيضحك علينا الجميع لو قلنا إن الأكل لا يبعث لذة، بل هو جميل، أو أن الرائحة الذكية لا تجلب لذة، بل هي جميلة.»١٥ ويرى أفلاطون أن السمع والإبصار يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالعمليات الذهنية، على خلاف الحواس الأخرى، وقد ظل هذا الرأي سائدًا لدى أرسطو وأفلوطين وتوما الأكويني؛١٦ فالتراث الأفلاطوني المسيحي يصف حواس اللمس والذوق والشم بأنها الحواس «الأدنى»، وهو لفظ يدل على أنها منحطة أخلاقية، وربما كانت مخجلة. ولعل من أسباب ذلك ما يوجد من ارتباط بين اللمس وبين النشاط الجنسي.
فإذا تركنا جانبًا العوامل الأخلاقية واللاهوتية، فماذا عسى أن تكون أسباب الضآلة النسبية في أهمية الحواس الدنيا؟ ها هي ذي الإجابات الرئيسية التي قدمت عن هذا السؤال:
  • (١)
    الإبصار والسمع يتلقيان موضوعاتهما عن بُعد، أي أن الموضوعات التي يدركانها لا تحتك مباشرة بعضو الإحساس، أما الذوق واللمس، فإنهما يوجهان الانتباه إلى الجسم، وكذلك الحال في الشم، ولكن بدرجة أقل. ونظرًا إلى أن هذه الحواس الأخيرة لا تسمح بمسافة مادية، فإن «المسافة النفسانية» أو التنزه عن الغرض يضيعان بدورهما. وعلى ذلك فإن الإحساسات «الدنيا» مهيأة لأنواع النشاط العملي، لا الجمالي. ولا شك أن لهذا القول نصيبًا من الصحة. غير أن التجربة المعتادة تتضمن شواهد تدل على أن هذه النظرية ليست ذات صحة مطلقة. فمن الممكن أن نتذوق السمات الموضوعية للملمس والرائحة والمذاق، بل إننا نفعل ذلك أحيانًا. كما أننا لسنا بحاجة إلى أن نكون من الذواقين المحترفين أو من خبراء العطور لكي نفعل ذلك. فليس من الصحيح دائمًا أننا حين نأكل «يكون المهم هو إرضاء الرغبة الجسمية، لا الاهتمام بمذاق الطعام أو ملمسه»؛١٧ فملمس «الجمبري»، ورائحة الشاي، يمكن تذوقهما لذاتهما. وربما كان الأكل هو وجه النشاط اليومي الأكثر شيوعًا من بين أوجه النشاط التي يمكن فيها إرضاء الرغبة الجمالية مع غيرها من الرغبات في آنٍ واحد. وفضلًا عن ذلك، فإن تجربة العميان، كتلك التي روتها هيلين كيلر، وسكان حضارات الشرق الأقصى،١٨ تدل على مدى العمق الذي يمكن أن يصل إليه الإحساس الجمالي باللمس.
  • (٢)
    والحواس «العليا» أشد رهافة وحساسية من الدنيا. ففي استطاعتها أن تميز الاختلافات الكيفية بطريقة أدق، كما أنها تستطيع، في حالة امتزاج عدة منبهات سمعية أو بصرية، أن تميز كل عنصر من العناصر المكونة في هذا المزيج. وتلك في الواقع نظرية أقوى بكثير من النظرية الأولى؛ فالإبصار والسمع هما أرقى حواس الإنسان من حيث التطور (وإن كان اللمس أهم الحواس بالنسبة إلى الطفل الوليد). وهما أفضل الوسائل التي نتلقى بها معلومات عن عالمنا، ونتكيف بها معه. وبفضل قدرتهما على التمييز الدقيق، نستطيع أن نفهم مزيجًا معقدًا من الألوان، أو نمطًا موسيقيًّا كخاتمة افتتاحية «أساطين الطرب Die Meistersinger»، التي يُسمع فيها في وقت واحد عدد من الموضوعات اللحنية المختلفة، ونظل مع ذلك نميز كل عنصر على حدة. وإذا كان ذلك يصدق على الحواس الأخرى، فإنه لا يصدق عليها إلا إلى درجة أقل بكثير. فعلى الرغم من أننا نستطيع جميعًا التمييز بين طعم الخل وطعم حلوى «الشوكولاتة»، فإن هناك فوارق وتدرجات ذوقية أخرى أدق لا بد أن تفوتنا إلا إذا كانت أذواقنا شديدة الحساسية. وكثيرًا ما يختلط عدد كبير من الأذواق والروائح في طبق من «السلطة»، حتى ليكاد يكون أقرب طعم إليها هو ورق النشاف المبلل!
  • (٣)
    وربما كان التفسير الذي يقدمه برول Prall هو أقوى الأسباب التي أدت إلى عدم ظهور أنواع رئيسية من الفنون تستخدم الحواس «الدنيا»؛ ذلك لأن وسائط الموسيقى والتصوير، كما رأينا من قبل، توجد بينها علاقات شكلية تحدد لكل عنصر مكانه بالقياس إلى جميع العناصر الأخرى؛ فالدرجة الصوتية الواحدة تعرف على أساس صلتها بجميع الدرجات الصوتية الأخرى في السلم. ويبيِّن برول أن هذا «التركيب الطبيعي الباطن» بعينه هو ما تفتقر إليه الروائح والطعوم؛ ذلك لأن الرائحة الواحدة، على خلاف الأنغام والألوان، «لا توحي برائحة أخرى متصلة بها وقريبة منها تبعًا لنظام موضوعي ضروري».١٩ فمنبهات الحواس «الدنيا» توجد فيما بينها فوارق ضخمة، كالناعم الخشن، والحلو والمر، وهي، إلى حد ما، لا يتناقض بعضها مع البعض، ولكن هذه العناصر الحسية «ليس لها تركيب معقول ولا أي نظام في التنوع يمكن الاهتداء إليه».٢٠ «فما الذي يمكن أن يقال عنه إنه … يبعد عن رائحة أوراق الصنوبر في اتجاه معين بنفس القدر الذي تبعد به عنها رائحة أخرى في اتجاه آخر؟»٢١ ومن هنا لم يكن من الممكن الجمع بين هذه الإحساسات سويًّا، ووضع البعض منها في مقابل البعض الآخر، وتحقيق توازن بينها، كما يحدث في حالة منبهات الحواس «العليا». فليس في استطاعة الطباخين وخبراء العطور أن يعملوا إلا بأساليب خشنة، مبنية على المحاولة والخطأ، وفرصهم في خلق بناءات شكلية ضخمة كالسيمفونية ضئيلة نسبيًّا.
    ويعترف برول بأننا قد نهتدي فيما بعد إلى مبادئ تؤدي إلى تحديد دقيق لنوع من الترتيب الكامن للروائح والطعوم.٢٢ كما تجري محاولات لبناء سلم متدرج للصفة اللمسية.٢٣ ومع ذلك، فأيًّا كان ما سيثبت المستقبل صحته، فلا يوجد في الوقت الراهن وسيط في المنبهات الحواس «الدنيا». وبدون هذا الوسيط، وما يتيحه من إمكانات لتنمية أنواع معقدة، فلا بد أن تظل فنون الحواس «الدنيا» في حالة بدائية.
  • (٤)
    تفتقر منبهات الحواس الدنيا إلى الدلالة الرمزية و«الروحية»، وهذا أمر مؤكد قطعًا، فليس لها نفس المعنى الذي تثيره فينا رموز معينة، كالصليب أو أغانٍ معينة. ومع ذلك فإن التقاليد الحضارية، في هذه المسألة بدورها، قد تختلف من مجتمع إلى آخر؛ إذ إن منبهات الحواس الدنيا تتخذ في الهند رموزًا دينية وأخلاقية.٢٤

•••

إن من العسير تحديد مدى الدور الذي أسهم به التعصب الأخلاقي والفلسفي في إماتة إحساس الإنسان الغربي بتذوق الروائح والملموسات والطعوم، فمن الجائز أن عاداته الحضارية الخاصة جعلته عاجزًا عن تذوق هذه الإحساسات جماليًّا، فاصطنع نظريات التفسير مكانتها «الدنيا». ومع ذلك يظل من الصحيح أنه لم يتم حتى الآن خلق أعمال فنية هامة باستخدام منبهات الحواس «الدنيا»، ولكن لا ينبغي أن يؤدي ذلك بنا إلى الاعتقاد بأن التجديدات في المستقبل مستحيلة، أو يحول بيننا وبين تقدير مذاق هذه المنبهات وطابعها الخاص، سواء أحدثت في الفن أم في الطبيعة.

(٤) الوظائف الجمالية للشكل

يُعَد الاستمتاع بالمادة أبسط ضروب التذوق المادي وأوسعها انتشارًا؛ فمن الممكن أن يكون منظر العمل الفني أو صوته أو ملمسه مصدرًا لقيمة نشعر بها على نحو مباشر، فالمادة هي «جسم» العمل، ومن ثَم كانت ضرورة لا غناءَ عنها. ومع ذلك فإن الفلاسفة ومحبي الفن في كل العصور، وضمنها عصرنا الحاضر، كانوا يرون على الدوام أن الشكل هو القيمة النفيسة في الفن، والمميزة له.

إن مظاهر الجمال الحسي موجودة في الطبيعة؛ كرائحة الزهور، وملمس الصخر. وكذلك الحال بالنسبة إلى المواقف والناس الذين هم «نماذج» للفن التمثيلي. ومن الممكن أيضًا أن تكون هناك قدرة تعبيرية في حركات البشر، كما في رموز المؤسسات والأمم، ولكن «الشكل» لا يتمثل إلا حين يقوم فنان بتشكيل المادة والموضوع والانفعال والخيال في عمل منظم مكتفٍ بذاته، له أهميته الكامنة.

إن الشكل يوضِّح؛ فالرواية أو المسرحية تستعير الشخصيات والحوادث من «الحياة الواقعية»، ولكن تصرفات الشخصيات وتأثير الظروف وعلاقاتها المتبادلة تعرض بطريقة بارزة، وتتحد معالمها بحيث نكتسب فهمًا للطبيعة البشرية أعظم من أي فهم يمكننا اكتسابه من الحياة الواقعية، ذاتها. والشكل يثري؛٢٥ فالعناصر التي يختارها الفنان من وسيطه المادي تُرتَّب في العمل على نحو من شأنه مضاعفة سحرها وحيويتها، وتقوية الارتباطات الانفعالية للأنموذج وتعميقها. والشكل ينظم التعقيد. فمن الممكن أن يكون بناء قطعة من الموسيقى البوليفونية أو رواية ضخمة بناء زاخرًا إلى أبعد حد، ومع ذلك فإن الشكل يضفي عليه، في الوقت ذاته، صقلًا وتنظيمًا. وأخيرًا، فالشكل يوحد؛ فهو يضفي على العمل الفني ذلك الطابع الكلي، وذلك الاكتمال الذاتي، الذي يجعله يبرز من بين بقية جوانب التجربة، ويبدو عالمًا قائمًا بذاته.

•••

وإذن، فليس من المستغرَب أن الشكل، على الرغم من ذلك كله، قد يكون أكثر الكلمات غموضًا في لغة الفن، فقدرة الشكل على القيام بوظائف متنوعة في الفن، وكونه مصدرًا لقيم متباينة، هو بعينه الذي يجعل هذا اللفظ مستعصيًا على التعريف البسيط. ومع ذلك فلا بد من أن تبدأ مناقشتُنا لمشكلة الشكل بتعريف ما، يكون بمثابة نقطة الانطلاق بالنسبة إلى المناقشة التي ستتلوه، والتي سنرى فيها أولًا الأنواع المختلفة للتركيب الشكلي، التي تتمثل في الفن، ثم ندرس الطرق التي يعمل بها الشكل على إضفاء قيمة على التجربة الجمالية، وهو أهم الموضوعات جميعًا.

وهناك سبب آخر لبحث معنى «الشكل». فللفظ، كما قلت، معانٍ متعددة. ولو استطعنا أن نكوِّن صورة واضحة عما بينها من فوارق، لكان في ذلك كسب كبير. فعندئذٍ يمكننا أن نكون أكثر حرصًا ودقة عندما نستخدم نحن أنفسنا اللفظ، ونستطيع أن نفهم بسهولة أكبر ما الذي يقصده المعلمون والنقاد وغيرهم عندما يستخدمون هذا اللفظ دون أن يحددوا معناه.

وها هي ذي أربعة من أكثر معاني هذا اللفظ شيوعًا:
  • (١)
    «تنظيم عناصر الوسيط المادي، التي يتضمنها العمل، وتحقيق الارتباط المتبادل بينها»؛ فعناصر الوسيط هي الأنغام والخطوط … إلخ، و«الشكل» لفظ يدل على الطريقة التي تتخذ بها هذه العناصر موضعها في العمل كل بالنسبة إلى الآخر، والطريقة التي يؤثر بها كل منها في الآخر، فهو إذن يشتمل على ضروب من العلاقة منها تعاقب الحوادث التي تكون عقدة الرواية أو المسرحية، ونوع الوزن في الشعر، والترتيب المكاني للمساحات اللونية في التصوير، والتوازن أو التضاد بين هذه المساحات، وتعاقب الحركات الجسمية في الرقص. ويدل الشكل بهذا المعنى أيضًا على نوع الوحدة التي تتحقق بتنظيم المادة الحسية، أو الموضوع المصور في حالة الفن التمثيلي (representational art).

    هذا التعريف عام إلى حد بعيد، ومن ثم كان هزيلًا بالضرورة، فهو لا يقدم إلينا من المعلومات أكثر مما يقدم وصف كولريدج المماثل للشعر بأنه «أفضل الكلمات في أفضل نظام»، فلا بد من مزيد من التخصيص للتعريف، ولا بد بالتالي من جعله أداة لكسب المزيد من المعلومات على مستويات متعددة، وذلك أولًا بالكشف عن مختلف أنواع الترتيب الشكلي، ثم عن الأساليب الشكلية المتعلقة بفن بعينه كالموسيقى، وأخيرًا البناء الشكلي لأعمال معينة. ومع ذلك فإن مثل هذا التحليل يفترض مقدمًا هذا المعنى الأول الذي نحن بصدده. وهو جدير بانتباهنا لسبب آخر؛ فهو يقول إن الشكل إنما يتعلق بالعناصر الحسية، وأنه يوجد في علاقاتها المتبادلة وحدها. وعلى ذلك فإن هذا التعريف تذكرة مفيدة لنا بأن الشكل ليس نوعًا من الوعاء المستقل، كعلبة الثقاب، يضع فيه الفنان مواده، وإنما هو أشبه بنسيج العنكبوت الذي يتألف من مواد وينظم هذه المواد. وإذن فالمعنى الأول يَحول بين تحليلنا وبين إيجاد ثنائية باطنة في داخل العمل — من الشكل والمادة بوصفهما كيانَين مستقلَّين وهو أمر يتنافى مع طبيعته. ولأكرر مرة أخرى هذا القول الذي لا يحتاج إلى مزيد من التكرار، وهو أنه، برغم أن تحليل الفن يقتضي منا أن نميز الأبعاد المختلفة، فمن الواجب ألا نتصور أن هذه التمييزات تناظر جوانب منفصلة في الموضوع الفني ذاته. والأمر الذي يحول بيننا وبين الوقوع في هذا الخطأ هو أن نربط بين المقولة — كما فعلنا في هذا التعريف — وبين الأبعاد الأخرى التي تخرج عن نطاقها الخاص.

  • (٢)
    ولكن على الرغم من أن المعنى الأول شديد الاتساع والعمومية، فإنه مع ذلك ليس شاملًا بما فيه الكفاية؛ فعناصر الوسيط لا تتسم فقط بصفات حسية، كالدرجة اللونية أو الصوتية، وبالطابع الصوتي والمعنى الحرفي في حالة الألفاظ، بل إن لها أيضًا، وهي فرادى وعلى الأخص في تجمعها بعضها مع البعض، دلالة تعبيرية؛ «فالقوة» والطابع «الاندفاعي» اللذان تتسم بهما البقعة اللونية الحمراء يبدوان عنصرًا داخلًا في اللون ذاته على نحو ما يدرك. وبالمثل فإن روايات توماس هاردي يتغلغل فيها إحساس غير مريح بالقدرية؛ فالشكل، بهذا المعنى الثاني، يشتمل على المعنى الأول، وكذلك على «تنظيم الدلالة التعبيرية». هذا المعنى الثاني لا غناءَ عنه في التحليل الفني. فلا بد لنا، إذا شئنا أن نفهم قيمة العمل، من أن نرى كيف يعمل الفنان طوال ممارسته لنشاطه على تطوير الصورة الخيالية التي توحي بها المادة الحسية وتنويعها، وكيف يبرز معنًى مثل قدرية هاردي من خلال أحداث الرواية، وكيف توضع الانفعالات المتعارضة كلٌّ في مقابل الآخر. هذا التنظيم الشكلى للتعبير هو الذي يتيح لشارح (هو ج. و. ن. سليفان J. W. N. Sullivan) أن يصف الحركة الأخيرة من رباعية بيتهوفن رقم ١٤، مصنف رقم ١٣١، بالعبارات الآتية: «إن بطولة تتسم في الوقت ذاته بأنها حزينة، تسير نحو حتفها، يحوطها الحنين والألم.» فتنظيم التعبير لا يؤدي فقط إلى زيادة الدلالة الفكرية والانفعالية للعمل، بل إنه يضفي على العمل وحدة أيضًا. وهكذا تكون هناك روح عامة سائدة هي التي تجمع بين أطراف القطعة الموسيقية الانطباعية (impressionist) أو مسرحية لتشيكوف.

    وسوف يُستخدم لفظ «الشكل»، خلال المناقشة المقبلة، بهذا المعنى الثاني، ما لم نُشِر إلى غير ذلك.

  • (٣)
    وكثيرًا ما يُستخدم لفظ «الشكل» للدلالة على نمط محدد معين من التنظيم، يتصف بأنه تقليدي ومعروف. ومن أمثلة ذلك «شكل السونيت sonnet»، وفروعه مثل السونيت البتراركية Petrarchan sonnet أو السبنسرية Spenserian و«السوناتا»، والفوجة … إلخ. ومن الواضح أن هذا معنًى أكثر تحدُّدًا بكثير من المعنى الأول أو الثاني. وهو يشير عادة إلى التنظيم الشكلي بالمعنى الأول فقط — أي بمعنى نظام معين من نهايات القوافي في السونيت، وترتيب معيَّن لعرض الموضوعات اللحنية وتطويرها وتلخيصها الختامي في السوناتا — دون اعتبار للدلالة التعبيرية. ومع ذلك فإن العلاقات المتبادلة بين أبعاد الفن تعود فتفرض نفسها علينا مرةً أخرى؛ فالمقارنة بين الفوجة والسوناتا سرعان ما تؤدي بالمرء إلى مقارنة الإمكانات التعبيرية لكل منهما، وحدودهما التي لا يستطيعان تعديها. كما أن نفس أسماء الأشكال والأنواع الأخرى، «كالملاحم»، و«كوميديا العادات»،٢٦ توحي بالطابع الانفعالي لمثل هذه الأعمال.

    ومن الممكن أن تكون النماذج الشكلية التقليدية، وخاصة عندما تكون تفصيلية كتركيب القوافي في قصيدة من نوع «السونيت»، ذات قيمة كبيرة بالنسبة إلى الفنان والمشاهد معًا؛ فالفنان يتوافر لديه الشكل الخاص بعمله، في ناحية معينة على الأقل. أما بالنسبة إلى المشاهد، فإن هذا النمط يتيح له وسيلة مريحة لتنظيم العمل وتفسيره. ومع ذلك فلستُ بحاجة إلى أن أضيف أن الشكل، بهذا المعنى الثالث، لا يمثل إلا معنًى جزئيًّا للفظ. ولا بد لأغراض التحليل الفني من إكماله بالمعنيَين الأول والثاني.

  • (٤)

    كانت جميع معاني «الشكل»، التي ميزنا بينها حتى الآن وصفية؛ فهي لا تقول شيئًا عن جودة الشكل أو رداءته في أعمال معينة، ولكنك حين تستمع إلى أناس يتحدثون عن الفن، سرعان ما يتضح لك أنهم يستخدمون لفظ «الشكل» في كثير من الأحيان بمعنى فيه مدح أو استحسان، فيقولون عن لوحة: «يا له من شكل!» أو يقولون، في حالة الذم: «إنها لوحة بلا شكل». ومن الواضح أن «الشكل» هنا يعني «الشكل الجيد»؛ ذلك لأن أي عمل فني له شكل ما، ولو أخذنا الألفاظ بمعناها الحرفي لكان من الممتنع أن نصف أية لوحة بأنها «بلا شكل». ومع ذلك فإن اللغة البشرية لا تراعي مثل هذه الشروط الدقيقة، ومن ثَم فإن من الواجب أن نتنبه إلى هذا المعنى الرابع.

    هذا المعنى للفظ «الشكل» لا يمكن أن يُستَخدَم بذاته في التحليل الفني؛ ذلك لأننا نود أيضًا أن يكون في استطاعتنا الكلام بطريقة لها معنًى عن «الشكل الرديء» بدوره. ومن هنا فلا بد من معنًى أوسع. وفضلًا عن ذلك فنحن لا نستطيع أن نقرر إن كان الشكل جيدًا أو رديئًا إلا إذا كنا نعرف ما هو الشكل، وكيف يختلف عن العناصر الأخرى للعمل. وفي هذه الحالة نجد أنفسنا محتاجين إلى المعنيَين الأول والثاني.

•••

والآن نصل إلى المرحلة الثانية لمناقشتنا — وهي أنواع التنظيم الشكلي التي توجد في الأعمال الفنية على أوسع نطاق ممكن. ومن الخطأ الاعتقاد بأن القائمة التي سنقدمها تشتمل على كل المظاهر الممكنة للشكل. فالموضوعات الفنية وتركيبها الشكلي أشد تنوعًا من أن تسمح بذلك. ومع ذلك فإن معظم الأنواع المعتادة من التنظيم الفني ممثلة هنا. وسوف أقدم، أثناء سير المناقشة، أمثلة موجزة لكل منها. ولا شك أن قيمة هذه المناقشة ستكون أعظم بكثير بالنسبة إلى القارئ لو فكر في أمثلة خاصة به، مستمدة من تلك الأعمال الفنية المألوفة لديه أكثر من غيرها. ولتذكر أيضًا أن الأهمية الحقيقية لهذه القائمة هي تقديم مفاهيم يمكن استخدامها، عندما تصبح أكثر تحديدًا، في التحليل المفصل لأعمال فنية خاصة.

•••

كان المعتقد، من الوجهة التقليدية، أن أهم نوع من التركيب الشكلي هو «الوحدة في التنوع» (unity in variety)، أو «الوحدة العضوية». وتتحقق هذه الوحدة، على حد تعبير الأستاذ باركر Parker، عندما «يكون كل عنصر في العمل الفني ضروريًّا لقيمته … بحيث لا يكون العمل متضمنًا أي عنصر ليس ضروريًّا على هذا النحو … ويكون كل ما هو لازم موجودًا فيه».٢٧ فالعمل يتصف بالتنوع والتعقد. ومع ذلك فإن كلًّا من العناصر يسهم بشيء لا غناءَ عنه لكي يكون الكل ذا قيمة. كما أن العناصر. يتكامل بعضها مع البعض على نحو يبلغ من الوثوق حدًّا لا تؤدى معه الفروق الموجودة بينها إلى فصم وحدة العمل، بل تمتزج سويًّا من أجل تحقيق هذه الوحدة. ومن هذا التكامل تنشأ قيمة لا يمكن أن تتمثل في الأجزاء وهي فرادى، أو وهي متجمعة في نظام آخر. والواقع أن أي عمل فني يتسم «بالوحدة في التنوع» يمكن أن يقال عنه ما قاله الشاعر براوننج Browning عن الموسيقى:
لم أسمع، إلا هنا، عن موهبة كهذه أتيحت للإنسان:
أن يستطيع، من ثلاثة أصوات، لا أن يكوِّن صوتًا رابعًا، بل نجمًا.
آبت فوجلر Abt Vogler
إن عناصر العمل تكون لازمة له لأنها ضرورية بعضها للبعض؛ فكلٌّ منها يقوي دلالة الآخر وقيمته، كما هي الحال في العمل النحتي لزوراخ Zorach، الذي تعمل فيه المادة الحسية، والموضوع، وطبيعة الخط وتنظيمه، والجو الانفعالي للعمل؛ يعمل فيه كل جانب على دعم الآخر ومساندته. وفي الأعمال الأكثر تعقيدًا، حيث تكون المواد والموضوعات … إلخ، أشد تنوعًا بكثير، يكون تحقيق الوحدة أصعب بنفس المقدار، وعندما تتحقق، تكون المتعة التي تجلبها أعظم. ثم تأتي تلك الأعمال التي تجعلنا نفهم لماذا يغدق الناس كل هذا التكريم على الفن، أعني تلك الأعمال ذات المضمون الزاخر العظيم الثراء، الذي يخضع كله مع ذلك لتنظيم وانسجام دقيق، ولا يكون أي عنصر فيه زائدًا عن بقية العمل أو متنافرًا معه، بل يكون الكل معًا كيانًا غنيًّا متكاملًا، أو «نجمًا»، فأي شيء في التجربة البشرية، غير الفن، يقدم إلينا مثل هذا الثراء وهذا النظام في آن واحد؟
ولكن هنا، كما يقول روبرت فروست: «تقتحم ديارنا الحقيقة، بكل ما فيها من واقعية صارمة.» ولست أعني بذلك أن مبدأ «الوحدة في التنوع» مبدأ باطل، ولكن من البطلان القول، صراحة أو ضمنًا، إن كل الأعمال الفنية، أو حتى معظمها، «لا تتضمن عناصر غير ضرورية، وأن كل ما هو لازم موجود فيها»، بل إن في هذا القول مبالغة رومانتيكية. فهل تضيع قيمة معظم المؤلفات الموسيقية أو يطرأ عليها نقص ملحوظ لو حُذفت نغمة واحدة، أو حتى جزء كامل من أجزاء التطوير اللحني (development)؟ إن قادة الفرق الموسيقية والعازفين الذين يقومون بالتصرُّف في حذف أو إضافة فقرات كاملة من أجل أدائهم يعتقدون أن العكس هو الصحيح. وهناك مستمع واحد على الأقل يرى، على الرغم من تقديره وإعجابه باللون الأوركسترالي الزاهي الغريب لقطعة «شهرزاد» لريمسكي كورساكوف، أن العمل يغدو أفضل لو حُذفت من مدونته الموسيقية صفحات كاملة (وإن كان القارئ قد يختلف معي في هذا الرأي بطبيعة الحال). وبالمثل فكثيرًا ما تُختصَر المسرحيات من أجل تمثيلها، ليس فقط لكي يكون الوقت كافيًا، بل بناءً على الاعتقاد بأن الفقرات المحذوفة لا تضيف شيئًا إلى التأثير الدرامي للعمل، بل تُضعِفه. وربما كنت قد سمعت رد «بن جونسون Ben Johnson»، المشهور على الزعم القائل إن شيكسبير لم «يشطب» أبدًا أي بيت: «إن ردي هو: ليته شطب ألفًا.» (أما في اللوحات والأعمال النحتية فإن الأمر أسهل لأن القماش المادي أو التمثال هو العمل الوحيد من نوعه، فلا يمكن أن ينسخ حرفيًّا، كالمدونات الموسيقية أو نصوص المسرحيات. ومعنى ذلك أنه بينما يظل الأصل موجودًا عند تغيير مدونة أو نص، فإن أي تغيير في اللوحة أو التمثال يقضي على العمل الأصلي، ولكن ليس معنى ذلك أن أعمال الفنون البصرية لا تتضمن في كثير من الأحيان «بقعًا ميتة» وزوائد لا داعي لها).

وعلى ذلك فإن «الوحدة في التنوع»، إذا ما فسِّرت حرفيًّا، لا تتمثل إلا في أعمال قليلة نسبيًّا. وهذه هي عادة الأعمال المحدودة النطاق، كالقصائد الغنائية. و«الوحدة في التنوع» أشبه ما تكون بمثل أعلى للشكل، قد يتحقق أحيانًا، ولكنا في معظم الأحيان نقترب منه فحسب، ولكن ينبغي أن يلاحظ أن هذه التقريبات ذاتها يمكن أن تكون مصدرًا لقيمة جمالية كبرى.

ولكن ربما اعترض امرؤ قائلًا: «ولكنك إذا غيرت أي شيء، وإذا حذفت فقرة من مدونة المؤلف الموسيقي أو منظرًا من نص الكاتب المسرحي، كان لديك عندئذٍ عمل مختلف. ومن الجائز أنك لم «تقضِ» على قيمته، ولكن لا بد أنك غيرته؛ فهو لم يَعُد نفس العمل الذي كان من قبل، وبالتالي لم تعد قيمته الجمالية على ما هي عليه.»

هذا النقد، في صورته هذه، سليم. غير أنه يثير تساؤلًا آخر، أعمق حتى من السابق، عن معنى «الوحدة في التنوع». فهل الصفة المميزة لهذه الوحدة هي أنه عندما يحذف عنصر أو يراجع، يتغير العمل بأكمله؟ إن هذا لو صح لكان معناه أن أي موضوع يتسم «بالوحدة في التعدد»؛ فالرجل عندما يصبح أصلع، والآلة عندما يعاد تجميعها، والفكرة الجديدة حين تضاف إلى نظرية وتستبعد منها فكرة قديمة؛ في كل هذه الحالات يصبح الموضوع الكامل مختلفًا. فإذا غيرت جزءًا من أي شيء، تغير هذا الشيء بالضرورة. ولا جدال في أننا لا نود أن نعزو «الوحدة في التنوع» إلى كل شيء، وإنما إلى الأعمال الفنية وحدها، بل والأعمال الفنية الجيدة وحدها.

فما الذي يميز «الوحدة في التنوع» من ذلك النوع الآخر من «الوحدة»، الذي تتسم به الأشياء الأخرى؟ من المشكوك فيه أن يكون أي جواب واضح كل الوضوح قد قُدِّم عن هذا السؤال في أي وقت. والأمر المؤكد هو أن من تقدموا بفكرة «الوحدة العضوية»، قد أعجبهم، كما يعجبنا جميعًا، امتزاج التنوُّع والنظام في الأعمال الفنية الجيدة، ولكنهم لم يتمكنوا مع ذلك من صياغة معيار واضح لا لبسَ فيه لهذه «الوحدة العضوية».

ولقد رأينا منذ قليل أنه لا يمكن أن تكون الصفة المميزة للوحدة في التنوع هي مجرد أنه إذا تغيَّر جزء تغيَّر الكل. قد لا يكون هذا المعيار هو أنَّ تغيُّر الجزء يجعل الكل مختلفًا، بل هو أن أي تغير يؤدي إلى حدوث اختلاف حاسم — إذ يقضي على الطبيعة الأساسية للكل. فلا يمكن أن يعود الموضوع قادرًا على أداء الوظيفة التي قصد منه أداؤها لو تبدل أي جزء من أجزائه؛ ذلك لأن قيامه بوظيفته يتوقف على تماسكه الداخلي. هذا التفسير أقرب إلى المعقول من ذلك الذي رفضناه منذ قليل. ومع ذلك فما زالت الفكرة أعم مما ينبغي؛ إذ إن هناك أشياء متعددة ليست أعمالًا فنية، ومع ذلك يكون من الصحيح أن يقال بشأنها إن استبعاد أي جزء أو تغييره يحول دون أداتها السليم لوظيفتها. ألا ينطبق ذلك على لغز الكلمات المتقطعة، أو على محرك السيارة الذي تُنتزَع منه قطعة أساسية، أو على فريق كرة السلة الجيد حين يفقد لاعبًا «رئيسيًّا»، أو على البرهان الرياضي بدون إحدى بديهياته أو مصادراته؟

وإذن فليس من الممكن تمييز «الوحدة العضوية» في الفن من غيرها من أنواع الوحدة في الموضوعات الأخرى على أساس علاقة الجزء والكل هذه وحدها. فكيف يمكن إذن تمييز الوحدة الفنية؟ عن طريق إدراك أن الوحدة تنتمي إلى العمل الفني في وظيفته المميزة، أي بوصفه موضوعًا جماليًّا. وهذا يؤدي إلى تمييز الفن من ألغاز الكلمات المتقطعة ومحركات السيارات؛ فالعمل الفني يتسم «بالوحدة في التنوع» عندما يؤدي تغيير عناصره إلى إحداث نقص شديد في قيمته بالنسبة إلى التجربة الجمالية، أو إلى القضاء عليها تمامًا.

ولنلخص ما وصلنا إليه حتى الآن، فنقول إننا انتهينا إلى أن «الوحدة في التنوع»، في المجال الفني، تنطوي على: (١) أن تغير أي جزء يؤدي، لا إلى حدوث فارق فحسب، بل إلى حدوث فارق هام؛ (٢) وأن هذا الفارق إنما يكون في القيمة الجمالية للموضوع.

لقد أصبحت النظرية الآن في موقف أفضل. ومع ذلك فمن المؤسف أننا لم ننتهِ بعد. فهل يؤدي تغيُّر أي جزء إلى القضاء على قيمة العمل؟ من الواضح أن الجواب بالسلب. صحيح أن الاقتطاع دون تمييز يدمر العمل، ولكنَّ بعضَ العناصر، كالأبيات التي تمنى بن جونسون لو أنها «شُطِبت»، أقلُّ ضرورة من بعضها الآخر. وهذا يصدق أيضًا على الكائن العضوي الحي الذي كان هو الذي أوحى لأفلاطون وأرسطو،٢٨ لأول مرة، باستعارة «الوحدة العضوية؛ فإزالة القلب تقضي على هذا الكائن، أما خلع سن فلا يؤدي إلى ذلك.

وإذن فمسألة «ضرورة» الأجزاء للكل هي مسألة نسبية، إلا في حالة أعمال قليلة نسبيًّا. وهناك تعديل آخر ينبغي إدخاله على مبدأ «الوحدة في التنوع»؛ فالتمييز بين «وحدة» الأعمال الفنية والموضوعات الأخرى ليس تمييزًا مطلقًا؛ فكثيرًا ما تتسم الموضوعات الطبيعية، كالأزهار والقواقع والمناظر الريفية، بتماسك شكلي عظيم. وإذن فلا بد لنا مرةً أخرى من أن نكون أكثر تواضعًا عندما ننسب صفة «الوحدة في التنوع» إلى الفن، وأن نقول إن الأعمال الفنية هي «في عمومها» أكثر تكاملًا وانسجامًا من الموضوعات الجمالية الأخرى.

هذا التحليل بأسره يثبت أن نظرية «الوحدة في التنوع» لا يمكن أن تؤخذ على علاتها، ودون قيد أو شرط. فإذا كان معنى هذه النظرية أن تغيُّر أحد العناصر يجعل العمل مختلفًا، لكانت ضئيلة القيمة. وإذا كان معناها أن تغيُّر أي عنصر يقلل إلى حد خطير من القيمة الجمالية للعمل، أو يقضي عليها، لكانت باطلة عادة. وفضلًا عن ذلك فإن النظرية لا تكون صحيحة إلا إذا قالت إن حذف «بعض» العناصر يقلل «إلى حد بعيد»، من قيمة العمل. فأية عناصر هذه؟ وإلى أي مدى يؤثر حذفها في العمل؟ هذه أسئلة لا يمكن الإجابة عنها بفحص التركيب الموضوعي للعمل فحسب، بل إن من المستحيل البت فيها — شأنها شأن أية أسئلة متعلقة بالسمات الجمالية للأشياء — إلا على أساس الشواهد المستمدة من التجربة الجمالية، أي على أساس الإجابة عن السؤال: ما هي التجربة التي يمر بها المشاهد إزاء العمل بعد تغيره؟

على أننا لو وضعنا مفهوم «الوحدة في التنوع» في إطار شروطه الضرورية وحدوده التي لا يتعداها، لكان يلخص حقائق عظيمة الأهمية عن الفن. فلو فُسِّر على أنه مثل أعلى للفن، لما كان مجرد مبدأ واحد للقيمة، بل لأدى بنا إلى البحث عن عدد من الأشياء المختلفة في التركيب الشكلي للفن، بحيث تكون الأعمال التي تتصف بهذه السمات، بقدر ما تتصف بها، أعمالًا فنية جيدة. وعندما نهتدي إلى هذه السمات، نستطيع أن نفهم على نحو أفضل السبب الذي تستحوذ علينا من أجله هذه الأعمال إلى هذا الحد، والذي تبدو من أجله مركزة عميقة، لا سطحية مفككة. وها هي ذي الصفات المميزة للشكل، كما تحددها فكرة «الوحدة العضوية»، وعلى الرغم من أننا قد تحدثنا عنها من قبل، فإنها تستحق التكرار: العنصر الفني ينطوي، حين يكون داخل العمل، على فعالية جمالية يفتقر إليها وهو في حالته المنعزلة؛ وهو يكتسب مثل هذه الدلالة نظرًا إلى تفاعله مع العناصر الأخرى للعمل؛ وهو يسهم في تحقيق الفعالية الجمالية الكاملة للعمل، ويكتسب بدوره ثراء بفضل موقعه داخل العمل ككل؛ والعمل الفني الجيد يشعرنا بأنه لا يتضمن عناصر زائدة أو غير مرتبطة بالعمل من الوجهة الجمالية، ومن ثَم فهو متعدد وواحد في الآن نفسه.

•••

ولو فسرنا مبدأ «الوحدة في التنوع» على هذا النحو، لما كان نوعًا خاصًّا من التركيب الشكلي، بقدر ما هو مثل أعلى يتم تحقيقه باستخدام أساليب شكلية محددة. وسوف نورد الآن قائمة بهذه الأساليب، التي يمكن أن توصف بطريقة أكثر إيجازًا بكثير من «الوحدة العضوية». وليذكر القارئ أن أهميتها لا يمكن أن تُفهَم حتى نرى فيما بعد كيف تؤدي عملها في التجربة الجمالية.

إن العَوْد recurrence هو ظهور العنصر نفسه في عدد من الأماكن المختلفة، مثلما يتكرر نفس الموضوع اللحني في قطعة موسيقية، أو «لازمة» في أغنية أو قصيدة، أو شكل من أشكال القوس في بناء، أو حركة جسمية في رقصة. وقد قلت إن هذا هو «نفس» العنصر، ولكن على الرغم من أن هذا صحيح حرفيًّا، فإنه عادة ليس صحيحة من الوجهة الجمالية. فقد تكون أنغام موضوع لحني تُعزَف عند نهاية حركة سيمفونية، هي ذاتها تلك التي عزفت في البداية، ولكن دلالتها بالنسبة إلى السامع تكون مختلفة كل الاختلاف. فعندما تُسمَع ثانية، يكون ذلك بعد تطوير الموضوع اللحني وتوسيعه وعرضه في مقابل الموضوعات الأخرى. وبذلك يصبح المستمع الآن شاعرًا بدلالتها التخيلية والتعبيرية على نحو لم يكن يشعر به من قبل. وفضلًا عن ذلك، فبعد أن يحل محل العرض الأصلي للموضوع اللحني عرضٌ آخر بمقام مختلف، أو عندما يُستبعَد تمامًا لكي يفسح الطريق لألحان أخرى، يشعر المستمع بإحساس من التوقع، وبرغبة في سماعه مرة أخرى كما كان في الأصل. وهذا يصدق بوجه خاص، بطبيعة الحال. عندما يكون قد اعتاد أسلوب المؤلف الموسيقي أو القطعة الموسيقية ذاتها، وبالتالي يستطيع أن يتوقع قرب ظهور «الاستعادة الختامية». ويؤدي التوقع إلى خلق إحساس بالإلحاح و«الترقُّب». وعندما يتحقق ما توقعه السامع بعودة الموضوع اللحني، تكتسب التجربة مزيدًا من الحرارة والمتعة. ومن الممكن تقديم وصف مماثل لقراءة الأبيات المتكررة في قصيدة، وغيرها من أمثلة «العَوْد». والأمر الذي يهمنا أن نتذكره هو ذلك المبدأ العام الذي ذكرناه في هذا الفصل من قبل؛ وهو أن الأهمية المالية لعنصر ما تتوقف على السياق الذي يقع فيه، وبالتالي على مكانه في العمل. وليس ما قلناه إلا تطبيقًا لهذا المبدأ على فكرة العَوْد.
وربما كان العَوْد البسيط أقل حدوثًا في الفن من «العَوْد مع التنوع»، الذي تكون فيه العناصر المتكررة مشابهة إلى حد ملحوظ لتلك التي تتمثل في موضع آخر من العمل، مع وجود بعض الاختلاف بينهما في الوقت ذاته. وبعبارة أخرى، فليس الفارق بينهما مقتصرًا على ذلك الفارق المحتوم الذي يرجع إلى اختلاف السياق، بل إن العنصر المتكرر يتغير هو ذاته إلى حد ما؛ فاللحن يسمع مرة أخرى في إطار القطعة الموسيقية، ولكن أصبح له الآن توزيع أركسترالي مختلف؛ وفي الأقصوصة الشعرية (ballad) المعروفة باسم «لورد راندال»، نجد أن البيت الأخير في كل فقرة، وهو «فأنا تعبت من القنص، وبنفسي أن أرقد»، يطرأ عليه تغيُّر درامي عند نهاية الفقرة الأخيرة فيصبح «فأنا قلبي مريض، وبنفسي أن أرقد». ومن الممكن أن تستخدم نفس الدرجة اللونية في مواضع متعددة من إحدى اللوحات، كما هي الحال عند سيزان والأعمال المبكرة لبيكاسو، ولكن تطرأ تغيُّرات طفيفة على «نغمتها اللونية» tonality.
أما الإيقاع الذي تحدثنا عنه في فصل سابق، فيمثل إما عَوْدًا وإما عَوْدًا مع التنوع. وهو نمط من التأكيد والتوقف، كما هي الحال في الإيقاع الموسيقي أو الوزن الشعري، الذي يتكرر طوال العمل. وفي هذه الحالة بدورها تحدث تنوعات عندما تتكرر هذه العناصر، كما هي الحال في تغيير المركز الإيقاعي syncopation وهو الانتقال المفاجئ، في الموسيقى، إلى تأكيد الجانب الذي لم يكن يؤكد من قبل.
وكما رأينا في مناقشتنا السابقة، فإن الإيقاع بالمعنى الدقيق ليس واسع الانتشار في الفنون البصرية (باستثناء العمارة) بقدر ما هو في الشعر والموسيقى. ومع ذلك فلعل القارئ يذكر أن التصوير والنحت لا ينبغي أن يوصفا بأنهما فنان «لا زمانيان». فعندما تدرك الأعمال المنتمية إلى هذين النوعَين جماليًّا، يتضح أنها سارية في الزمان وخلاله، وتخلق إحساسًا «بالحركة». وهذا راجع إلى أسباب من بينها أسلوب شكلي مشابه جزئيًّا للإيقاع، أعني تأكيد بعض العناصر بالنسبة إلى البعض الآخر، وإن لم يكن ذلك في النمط الثابت المتكرر المعروف في الإيقاع بمعناه الصحيح. هذا التوزيع للتأكيد هو ما يطلق عليه الأستاذ باركر اسم «تدرج المرتبة hierarchy» أو «السيطرة dominance٢٩ وقد تبين من المثل الذي ضربناه من قبل، أن من الممكن تحقيق «السيطرة» في لوحة بعدد من الوسائل المختلفة. أي عن طريق المنظور، والإضاءة وأهمية الموضوع. فعندما يكون هناك عنصر واحد يسيطر على العمل، كالوجه الذي يضاء بنور ألمع من بقية العمل في لوحة لرمبرانت، يكون التنظيم الشكلي هو تنظيم «المركزية centrality».٣٠ وفي استطاعة القارئ أن يتصور دون صعوبة أمثلة لتدرج الرتبة في الروايات والمسرحيات التي يعرفها جيدًا.
ومن أكثر أنواع التنظيم الشكلي شيوعًا، التوازن، أي ترتيب العناصر بحيث يكمل كل منها الآخر أو «يعوِّضه». ومن الممكن استخدام لفظ «التماثل symmetry» للتعبير عن توازن العناصر المتشابهة، كما هي الحال عندما توضع الموضوعات المتشابهة، داخل لوحة، في نفس الموقع على كلا جانبَي المحور المركزي، ولكن هنا أيضًا ينبغي ألا نغفل، في تعدادنا للمبادئ الشكلية، ذلك الطابع الحقيقي الذي تكون عليه الأعمال الفنية. فالفنانون عادة يتجنبون التكرار الآلي المحض، في استخدامهم للتوازن، كما يتجنبونه في استخدامهم للإيقاع والعود مع التنوع. وعلى ذلك فإن التوازن يتحقق في معظم الأحيان بالتقابل، أي بوضع عناصر غير متشابهة كل مقابل الآخر، بحيث تكون هذه العناصر مع ذلك منسجمة كل مع الآخر، فالطابع المميز لكل عنصر يلفت أنظارنا إلى طابع العنصر المقابل له، كاللون «الحار» إزاء اللون «البارد» مثلًا. ومع ذلك فإن الفوارق بين هذه العناصر تصبح معًا موحَّدة، فوضع الألوان «الحارة» مع «الباردة» يكوِّن نمطًا ممتعًا من الوجهة الحسية. وفي كثير من الأعمال الفنية، نجد العناصر المتوازنة متشابهة في نواحٍ معينة، وغير متشابهة في غيرها؛ ففي «الملك لير» نجد توازيًّا بين علاقة لير ببناته وجلوسستر بأبنائه؛ ففي كلتا الحالتين يَلقى الأب معاملة سيئة من أولاده، وفي كلتا الحالتَين، يجد معاونة من واحد من أولاده. وبطبيعة الحال فإن قصة لير «مسيطرة» على قصة جلوستر، ولكن الأخيرة تمثل صدًى وترديدًا للأولى. وهذا يصدق أيضًا، إلى حد بعيد، على هاملت، ولايرتس Laertes وفورتنبراس Fortinbras.
وأخيرًا، «فالتطور evolution» هو «وحدة عملية تتحكم فيها الأجزاء السابقة في اللاحقة، ويخلق الجميع معًا معنى كليًّا».٣١ وأوضح مثل لذلك هو تنمية عقدة الرواية في الأدب، حيث تشير العلاقة المتبادلة للحوادث والأسباب إلى الذروة، وتؤدي إلى وقوعها آخر الأمر، كما يتمثل التطور في بعض أعمال الفن غير الأدبي. ومن هذا القبيل قول الأستاذ باركر عن لوحة للفنان إلجريكو، إننا، عندما ننظر إليها «نتتبع حركة درامية عميقة من الجزء الأدنى للصورة إلى جزئها الأعلى».٣٢
وبعد أن عددنا هذه الأنواع الرئيسية للتنظيم الشكلي،٣٣ نستطيع الآن أن ننتقل إلى بحثِ أهم الأسئلة جميعًا، وهو: ما الذي يفعله الشكل في التجربة الجمالية؟ وكيف يسهم في زيادة قيمة هذه التجربة؟

•••

سأبدأ بتقديم عرض موجز للوظائف الجمالية الثلاث للشكل، وهي الوظائف التي ستدور حولها المناقشة: (١) الشكل يضبط إدراك المشاهد ويرشده، ويوجه انتباهه في اتجاه معين، بحيث يكون العمل واضحًا مفهومًا موحدًا في نظره. (٢) الشكل يرتب عناصر العمل على نحو من شأنه إبراز قيمتها الحسية والتعبيرية وزيادتها. (٣) التنظيم الشكلي له في ذاته قيمة جمالية كاملة.

  • (١)
    كنا حتى الآن نتحدث عن الشكل بوصفه التركيب الكامن في الموضوع الفني أساسًا، ولكن فحص تركيب العمل الفني ليس هو وحده الوسيلة التي يتقرر بواسطتها إن كان ذلك العمل حسن التنظيم من الوجهة الشكلية، بل إن ذلك لا يتحدد، آخر الأمر، إلا عن طريق تجربة أولئك الذين يدركونه جماليًّا؛ وذلك لأن وحدة العمل الفني إنما تناظر وحدة في تجربة المشاهد».٣٤ فكيف يؤدي الشكل إلى تحقيق هذه الوحدة؟

    لقد أشرنا في فصل سابق إلى أنه حين يكون العمل الفني غير مألوف لنا على الإطلاق، كما هي الحال مثلًا بالنسبة إلى قطعة من الموسيقى «الحديثة» فإننا لا نعرف ما «نبحث عنه»، ومن ثَم فإنها تخيفنا وتنفرنا. وعندما نعجز عن التمييز بين ما هو هام وما هو منعدم الأهمية، بحيث لا تبدو القطعة الموسيقية سوى تعاقب من الأصوات، فعندئذٍ لا يكون هناك شيء هام. والأسوأ من ذلك أنه لا يكون هناك شيء طريف يهمنا؛ فالعمل لا يكتسب دلالة في نظرنا إلا عندما نعرف أي أجزائه هي التي ينبغي أن نركز انتباهنا عليها، وكيف تتميز هذه عن العناصر الأقل أهمية. وإذن فمن وظائف الشكل أنه ينبهنا إلى عناصر مختارة معينة، ويجعل المدرك يركز اهتمامه عليها؛ فالتنظيم الشكلي للعمل أشبه بمرشد يعلن في مواضع معينة: «هذا شيء له أهمية خاصة، فلا تدعه يفوتك.» ويعلِّق في مواضع أخرى: «هذه فترة انتقالية، أو تمهيد لرفع الستار، أو استراحة هزلية، ومن الممكن أن يستريح الانتباه هنا.» والفارق الوحيد، بطبيعة الحال، أن الشكل يقول ذلك عن طريق ما يفعله، أي بالطريقة التي يضع بها العناصر بعضها بالنسبة إلى البعض، كالهدوء الحالم قبل الذروة، والتوسع في تطوير موضوعات لحنية معينة، وما إلى ذلك.

    كذلك ينبغي ألا نرتكب خطأ الاعتقاد بأن العناصر الأقل ليست لها دلالة؛ فهي تمهد الطريق للفقرات الرئيسية، أو تؤدي إليها. وكثيرًا ما تكون لها بعض الأهمية في ذاتها. وعلى ذلك فإن التركيب الشكلي للعمل يكون مخلًّا في إحدى حالتين: حين لا تسهم العناصر الأقل أهمية على الإطلاق في تنظيم العمل، ولا تكون لها أهمية في ذاتها، كالأجزاء الانتقالية في محاضرات بعض الأساتذة، وهي الأجزاء التي لا يسجل الطلاب مذكرات فيها، بل يدربون أنفسهم على ألا يسمعوها، وتلك هي البقع الجامدة أو «الميتة» في بعض الأعمال الفنية. أو — في الطرف المضاد — حين تكتسب فترة معينة كان ينبغي أن تكون ثانوية بالقياس إلى الدلالة الكلية للعمل أهمية لا تتناسب معها، «وتطغى» على العمل. فأولئك الذين يعتقدون أن أفضل ما في «ماكبث» هو حديث بورتر Porter وهو ثمل، يقدمون مثلًا لهذه الظاهرة (ولكنا لسنا مضطرين إلى أن نشاركهم رأيهم).
    إن أيًّا من مبادئ الشكل يمكنه أن يوضح الأهمية النسبية لعناصر العمل، ولكن مبدأ الترتيب المتدرج هو أوضح الأمثلة عن طريق وضع العناصر حسب ترتيب الأهمية، يبين للمدرك كيف ينبغي أن يوزع اهتمامه. وكما لاحظنا من قبل فلولا هذا المرشد، لتشتت الانتباه تمامًا، ولما عاد للتجربة عندئذٍ ذلك العمق والحيوية اللذان يتميز بهما التذوق الجمالي. وبالمثل فإن التطوير نحو قمة يجعلنا ننتبه إلى ما يدرك حاليًا في ضوء دلالته بالنسبة إلى ما سيحدث في المستقبل، وبذلك يصبح الانتباه موجَّهًا نحو الحاضر والمستقبل معًا. «إن الكاتب يدافع عن رأي ثم يضع له في الوقت ذاته تحفظات، ويخلق تأثيرًا ثم يعدِل عنه، حتى يتم في الوقت المناسب استيعابه واستخدامه في الصفحة التي كان مقصودًا أن يظهر فيها».٣٥
    ولكن ليس يكفي أن ترتب العناصر ترتيبًا متدرجًا. فقد تكون أهميتها النسبية واضحة، ومع ذلك فلو كانت في العمل عناصر أكثر مما ينبغي لما أمكن أن يكون ذلك العمل موضوعًا جماليًّا بالنسبة إلينا. وكثير من العناصر تصبح «أكثر مما ينبغي» عندما تكون أكبر عددًا مما يستطيع الذهن استيعابه والاحتفاظ به في الانتباه. وفي هذا الصدد يقول أرسطو إن الموضوع ذا الحجم الضخم لا يمكن أن يكون جميلًا «إذ إنه لمَّا كانت العين تعجز عن الإحاطة به كله مرة واحدة، فإن وحدة الكل ومعناه تضيع على المشاهد، كما هي الحال مثلًا لو وجد عمل طوله ألف ميل».٣٦ كذلك فإننا نعجز عن «الإحاطة بالموضوع كله مرة واحدة» لو كان انسيابه الباطن هائلًا إلى حد لا نستطيع معه تمييز الأجزاء كل عن الآخر. هذا الانهيار في الانتباه يصحبه انهيار في الذاكرة. والواقع أن من الضروري لنا أن نتذكر الأقسام السابقة في عمل ما لو شئنا تذوق دلالتها في الفقرات اللاحقة، كما ينبغي أن نعرف متى تُعرض نتائج حادث معين، ومتى تكون هناك عودة إلى موضوع سابق. فإذا زاد التعقد عن الحد المعقول، فاق حدود ما يمكننا فهمه وتذكره، وتركنا حيارى موزعي النفوس.
    لهذا السبب كان التنظيم الصارم الذي يجلبه الشكل ضروريًّا؛ فمن الواجب تخفيف تعقد العمل حسب قدرات المشاهد، ويجب عرض العناصر بوضوح يكفي لاختزانها في الذاكرة واستبقائها في المخيلة. وأبسط وسيلة شكلية لتحقيق هذه الغاية هي العَوْد؛ إذ لو كانت العناصر الجديدة تتعاقب بلا انقطاع، لفاقت طاقة الانتباه على الاستيعاب. أما التعرف على ما سبق للمرء أن صادفه، فإنه يثبت تجربة المشاهد. ومن الممكن أن تُبنى عناصر جديدة أخرى حول نواة التشابه هذه. ويرى الأستاذ جوتشوك أن التكرار يحدث أغلب ما يحدث في تلك الفنون المسماة «الزمنية»،٣٧ كالأدب والموسيقى؛ فالسيمفونية أو الرواية يستغرق تكشُّفها عادةً وقتًا يبلغ من الطول حدًّا لا نستطيع معه «استيعاب الموضوع» ما لم تتكرر الشخصيات والحوادث. وفي القالب الموسيقي المسمى بالروندو Rondo تظل الموسيقى تعود إلى لحن واحد بعد أن تُسمع فقرات مقابلة أو مضادة.
    ولكن إذا كان العمل مفرطًا في البساطة، نشأ الموقف المضاد؛ ففي هذه الحالة لا يعود المشاهد مضطرًّا إلى أن يفهم أكثر مما ينبغي، بل أقل مما يكفي لشد انتباهه؛ فالعمل يخلو من الحافز أو التحدي. وقد يكون ذلك راجعًا إلى عوامل أخرى غير الشكل، أي إلى ضيق نطاق الموضوع وقلة أهميته، ولكن الشكل الهزيل، الذي يعجر عن «الكشف عن» الموضوع، قد يكون عاملًا له دوره. وقد يكون من أمثلة البساطة المفرطة، لوحة ماليفيتش Malevich المسماة «أبيض على أبيض White on White».
    وفي الأعمال الأشد تعقيدًا، تصبح العناصر مفهومة، لا عن طريق «العَوْد» فحسب، بل بأساليب شكلية أخرى أيضًا؛ فاستمرار إيقاع معيَّن يؤدي إلى تحقيق التماسك لقصيدة أو لقطعة موسيقية؛ وعندما تُعرَض العناصرُ كلٌّ مقابلَ الآخر عن طريق توازن التقابل أو التضاد، نستطيع التعرف عليها وفهمها بسهولة. وعندما يتخذ عمل فني نمط التطور، لا تكون العناصر الجديدة، عند دخولها لأول مرة، غريبة تمامًا؛ ذلك لأنها تحتل مكانها في سلسلة الحوادث التي خلقت من قبل، ونرى كيف تنشأ مما حدث من قبل. وفضلًا عن ذلك فإن التطور يثير في المدرك توقعات تتطلع إلى الذروة الختامية التي ستظهر في العمل فيما بعد. ويؤدي تحقيق هذه التوقعات إلى توحيد التجربة الجمالية. أما حين لا تتحقق الذروة التطورية، فإن التجربة تتهاوى وتتفكك، ويكون هناك فقدان ملحوظ للقيمة، كما يستطيع أي منا أن يشهد إذا كان قد تتبع رواية أو مسرحية إلى النهاية، ليجد أن الذروة الأخيرة غير معقولة أو متكلفة. وهناك بعض لوحات لرافاييل تعاني من عيب مماثل. ومن هذا القبيل ما يقوله الأستاذ جرين Greene عن لوحة «تتويج العذراء»: «إن الأجزاء العليا والدنيا … لا يكاد يكون من الممكن الجمع بينها عن طريق النظرة الصاعدة للنظارة.»٣٨ الذين تصورهم اللوحة.

    وإذا كنت قد تحدثت عن التوحيد الشكلي عن طريق تنظيم المادة والموضوع، فإن هذا التوحيد يمكن أن يتحقق أيضًا بتنظيم العناصر التعبيرية للعمل؛ فالقصيد النغمي أو قطعة الموسيقى الانطباعية قد تبدو مفتقرة إلى التركيب الواضح المباشر الموسيقى القرن الثامن عشر. ومع ذلك فإن هذه الأعمال ليست مفككة مختلطة، بل هي في كثير من الأحيان موحدة بفضل جو شائع معين يخيم على العمل الموسيقي بأسره، بحيث إن ما يسمعه المستمع في أية لحظة معينة يتسم بالألفة الناتجة عن تشابهه الانفعالي مع بقية العمل.

  • (٢)

    ولو لم يكن الشكل يوجه إدراكنا وينظمه، لكان التذوق مستحيلًا. غير أن قيمة التذوق ترجع إلى ما تكتسبه العناصر الأخرى من حيوية وإثارة حين ينظمها الشكل؛ فالشكل لا يجعل هذه العناصر مفهومة فحسب، بل إنه يزيد من جاذبيتها ويؤكدها؛ إذ إن ما لا يلفت النظر إليه وهو منفرد يستحوذ على اهتمامنا حين يوضع مع العناصر الأخرى وفي مقابلها. فلنتناول في هذا الصدد أكثر الأمثلة بدائية؛ فاللون الذي هو في ذاته باهت أو لا يتسم إلا بقدر بسيط من الجاذبية، يصبح موضوعًا دراميًّا متألقًا حين يوضع داخل النمط الذي تكوِّنه لوحة. ولولا الشكل لكانت المادة الحسية ضئيلة الأهمية، ولَمَا كان للموضوع الذي يعالجه العمل إلا قدر ضئيل من الإثارة، لا يزيد عن ذلك القدر الذي يثيره فينا عادة «أنموذجه» المنتمي إلى مجال الحياة الواقعية، ولكانت الأفكار التي يعرضها العمل مبهمة، والانفعالات التي يعبر عنها متكلفة. فلا بد أن يحيا الشكل داخل كل عنصر من عناصر العمل، ويشيع فيها روحه، ويجعل كل منها يدعم الآخر ويؤكده.

    ومن الممكن أن تُستخدم كل الأساليب الشكلية، فرادى أو متجمعة، في «إظهار» ما هو في العمل. فالتوازن يؤكد الصفات الحسية للون والصوت؛ والذروة المتطورة للمسرحية تبرز فهمًا معينًا للشخصية الإنسانية والمصير الإنساني. والعَوْد البسيط أو العَوْد مع التنوع يخلق تأثيرًا انفعاليًّا تراكميًّا. وهكذا ينبهنا الناقد الشيكسبيري جرانفيل-باركر إلى تكرار اللفظ المجازي weed (عشب ضار) في مسرحية «هاملت»؛ فاللفظ يظهر في بداية المسرحية، في مناجاة هاملت لذاته. وهو يعبر عن اشمئزازه من الشر في العالم بأن يصف العالم بأنه «بستان لم يطهر من عشبه الضار ينمو حتى يبلغ أشده.» (١، ٢). وفيما بعد، حين يحث أمه على تجنب كاوديوس، يستخدم نفس اللفظ لكي يرمز إلى خطيئتهما. فهو يبتهل إليها ألا «تنثر سمادًا على العشب الضار لتزيده ثباتًا وتأصلًا».٣٩ ويدل تكرار اللفظ على نقمة هاملت، كما يضيف مزيدًا من التأكيد إلى إلحاحه الذي كان إلحاح اليائس بحق.
    ولنحاول أن تحدد أي أنواع الشكل يتضمنه المثال الآتي: «في لوحة جوتو Giotto: موت القديس فرانسيس، يفيد تنظيم الشخصيات، المصورة حول الجسد الأفقي على نحو يؤدي في إيقاعات بطيئة عميقة نحو رأس القديس التي تحيطها هالة مقدسة، في توزيع الحزن العميق المادي الذي تعبر عنه كل شخصية وكل جماعة موجودة تعبيرًا مختلفًا، وفي إبراز هذا الحزن بصورة أكثر فعالية»٤٠ (انظر اللوحة رقم ٢٣).

    ومع ذلك فمن السذاجة والخطأ السعي إلى إجراء تطبيق آلي لمبادئ الشكل في كل عمل فني. ولنذكر أن مقولات العَوْد، والترتيب المتدرج، والتوازن … إلخ، ليست إلا معاني موجهة لتحليل أعمال محددة. وليس في وسعنا أن نستخدمها إلا إلى المدى الذي تساعد فيه على كشف التركيب الشكلي للعمل. وهذا التركيب الشكلي يكشف عادة عن تأثير واحدة أو أكثر من المقولات العامة، ولكنه لا بد أن يكون فرديًّا، شأنه شأن المادة والموضوع والطابع التعبيري، وهي العناصر التي يضفي عليها ذلك التركيب شكلًا وقالبًا.

    •••

    ولو احترمنا فردانية العمل، لتجنبنا أيضًا وضع مبادئ قبلية a priori بشأن ما يستطيع الفنانون وما لا يستطيعون القيام به في استخدامهم للشكل. والواقع أن الإغراء على وضع مثل هذه القواعد أقوى عند مناقشة الشكل منه عند مناقشة الموضوع، ولكنه لا يقل خطرًا عن القواعد المتعلقة بالمادة، والتي تحدثنا عنها من قبل.
    فلنتأمل تأكيدًا مثل: «إن الشرط الدائم، بالنسبة إلى أي نوع من الكتابة الواسعة الخيال، هو بلوغ تأثير موحد، وضرورة استبعاد التفصيلات الخارجة عن المطلوب.»٤١ هذا يبدو شرطًا لا غبار عليه، بل إن من الممكن أن يعد مجرد نتيجة مترتبة على مبدأ «الوحدة في التنوع»، ولكن، ما هو «الخارج عن المطلوب في العمل الفني؟ إن جزءًا كبيرًا من رواية ترسترام شاندي Tristram Shandy للكاتب سترن Sterne يتألف من استطرادات بعيدة عن الموضوع الرئيسي الواضح؛ وهو تاريخ حياة البطل. وهكذا تجد نقطة غير متعلقة بالموضوع تؤدي إلى أخرى، وهذه إلى ثالثة، وتزداد هذه النقاط نموًّا حتى تبلغ أبعادًا ضخمًا، بل إن الوقائع المسرودة التي تبعد انتباهنا عن الموضوع الرئيسي لا تؤدي فقط إلى إلقاء ظل من الغموض على اهتمامنا بحياة شاندي، بل إن طولها، والتقطع المستمر فيها، يبلغان حدًّا نعجز معه حتى عن تذكر الطريقة التي بدأت بها هذه الاستطرادات ذاتها. فمن المحال إذن أن تكون هناك «تفصيلات خارجة عن المطلوب»، أكثر مما نجد في هذا العمل، ولكن هل يترتب على ذلك أن «ترسترام شاندي» عمل أدبي رديء إلى حد ميئوس منه؟ كلا، البتة. فهذا العمل يُعَد من أروع الأعمال الكوميدية في الأدب الإنجليزي (وعليك أن تقرأ بنفسك «ترسترام شاندي» لكي تتحقق من هذا الحكم، ولكي تحقق هدفًا آخر لا يقل في أهميته عن الهدف السابق، وهو الاستمتاع بواحد من أفضل الكتب المضحكة التي كتبت على الإطلاق)؛ فالمسألة هي أن هذه الفقرات الخارجة عن المطلوب، أساسية بالنسبة إلى الجو المنطلق المتحرر للكتاب. وهي تمتعنا إلى حد تخلى معه عن البحث عن «الوحدة» بمعناها «المعتاد» (ويداعبنا سترن في هذا الموضوع حين يقول ساخرًا إنه يبذل جهدًا مضنيًا «لكي يحتفظ بكل شيء متماسكًا في مخيلة القارئ») وعندئذٍ نستطيع تذوق ما في العمل من ابتعاد عن المعقولية وعن الجد والوقار. وليس معنى ذلك أن الأعمال الفنية لا تتضمن أحيانًا «تفصيلات خارجة عن الموضوع» أو أن «التفصيل الخارج عن الموضوع» شيء مرغوب فيه، بل إن ما أحاول إثباته هو أن ما هو متعلق بالموضوع، وما هو «خارج» عنه يتوقف على الطبيعة الخاصة للعمل المعين. فرواية «ترسترام شاندي»، شأنها شأن كثير من الكتابات الهزلية، تزدهر بفضل «الخروج عن الموضوع». والشكل الذي يبدو مفكَّكًا فيها هو عنصر أساسي في قيمتها.
    ولأضرب مثلًا آخر أكثر جدية، وأهم من الوجهة التاريخية. فقد رأينا أن أرسطو يؤكد في كتاب الشعر أن الحوادث في التراجيديا ترتبط فيما بينها ارتباطا وثيقًا كارتباط «العلة بالمعلول»، بحيث تسفر آخر الأمر عن الذروة المحتومة. كما رأينا أيضًا أهمية التطور الشكلي بوصفه وسيلة لتوحيد العمل الفني وجمع أطراف تجربة المشاهد. على أن أرسطو يمضي بعد ذلك قائلًا إنَّ «تكشُّف العقدة … ينبغي أن ينشأ عن العقدة ذاتها، فمن الواجب ألا يحدث بفعل إله مصطنع.»٤٢ وهو يضرب لهذا النوع الأخير من العقدة مثلًا بمسرحية «ميديا» ليوريبيدس؛ ففي نهاية هذه المسرحية، تظهر فجأة، ودون تفسير، عربة مجنَّحة تنقذ البطلة بعد أن قتلت أطفالها. وهنا أيضًا ينبغي أن نتساءل: هل يسهم هذا التركيب الشكلي، الذي يبدو غير متماسك، بأي شيء في الدلالة التعبيرية للعمل؟ هناك تفسير معقول يؤدي إلى القول بأن هذا بعينه هو ما يفعله؛ فهو يؤكد بصورة درامية واضحة ذلك المعنى الرئيسي في المسرحية، وهو أن «الأشياء البدائية في الكون … غير معقولة».٤٣ «إن العربة السحرية إنما هي لمحة مخيفة … مما يوجد في الكون من قوى لا نستطيع فهمها أو السيطرة عليها».٤٤ ومن هنا فإن الذروة تضفي على «ميديا» النوع الخاص بها من «الوحدة». وسأضرب مثلًا آخر معاصرًا هو قصة سارتر القصيرة «الجدار»، التي تُعَد خاتمتها الممتنعة غير المتوقعة على الإطلاق، صورة مصغرة لتلك اللامعقولية التي يتسم بها كل مسعى أخلاقي.

    وهناك مسألة أخرى ينبغي التنبيه إليها؛ ففي الأمثلة التي تحدثنا عنها الآن، لم يتجاهل الفنانون المبادئ الشائعة للشكل أو يرفضوها، بل إن هذه الأعمال تفترض مقدمًا تلك المبادئ بمعنًى هام؛ ذلك لأن قوة هذه الأعمال بأسرها تتوقف على نوع من الانحراف الجذري عن الأنواع المعتادة من الشكل، إذ نجد أنفسنا إزاء مجموعة من الاستطرادات، أو إزاء عربة مجنحة، حيث كنا نتوقع سردًا مرتبًا أو نهاية قابلة للتنبؤ، فهذه الأعمال إذن تستغل مبادئ الشكل، وتستخدمها عن طريق تحديها، وعلى هذا النحو تحقق غرضها. ولولا معايير الشكل التي نشعر بها شعورًا ضمنيًّا، لما أدركنا ما تتصف به هذه الأعمال من امتناع، سواء أكانت كوميدية أم تراجيدية، بل إن مؤلف «شاندي» يحرص على تذكيرنا بهذه المبادئ؛ إذ يتحدث عن «ذلك الاتزان والتعادل الضروري … بين فصل وآخر، الذي يسفر عن اتخاذ العمل الكامل أبعادًا سليمة، ويؤدي إلى إضفاء الانسجام عليه»، ومع ذلك فإن السرد يستمر بنفس الطريقة المختلطة المضطربة التي كان يسير عليها من قبل.

    وبالمثل فإن لوحة جويا المحفورة «حادث في حلبة المصارعة في مدريد» (انظر اللوحة رقم ٢٤) تفتقر تمامًا إلى التماثل؛ إذ إن مركز الاهتمام — وهو الرجل الذي يحمله الثور على قرنيه — في أقصى الطرف الأيمن، على حين لا يكاد يعرض أي شيء في الجانب الأيسر. ومع ذلك فإن هذا الافتقار الواضح، المريع، إلى التوازن، يؤدي إلى تأكيد الموضوع المخيف؛ فالمركزية لا تتحقق بتجاهل التوازن تمامًا، بل بانحراف عنيف عن التوازن. وهنا أيضًا يتوقف التأثير على معرفة المشاهد الضمنية بالأساليب المألوفة للشكل.

    وسوف أستشهد بمثل آخر لكي أبين كيف يستطيع الشكل، أن يؤكد أهمية موضوع العمل الفني، ويحدث تأثيرًا انفعاليًّا قويًّا، فها هي ذي الفقرة التي تعد ذروة رواية جراهام جرين: «هذه البندقية للإيجار This Gun for Hire» والتي تصف موت الشخصية الرئيسية، وهي السفاح المجرم ريفن Raven.
    «لم تكن يده (أي ماذر Mather، وهو شرطي) طليقة لتصل إلى مسدسه عندما استدار ريفن. فظل واقفًا يدور حول نفسه خارج النافذة … وكان هدفًا أعزل لمسدس ريفن. وأخذ ريفن يرقبه بعينَين مبتهجتَين، محاولًا أن يحكم التصويب نحوه. ولم تكن طلقة صعبة، ولكن كان يبدو كما لو كان قد فقد اهتمامه بالقتل. لم يكن يشعر إلا بألم ويأس كان أقرب إلى السأم التام منه إلى أي شيء آخر. ولم يستطع أن يستجمع أي قدر من المرارة إزاء الخيانة التي لحقت به؛ فقد كانت هذه النهاية مقدَّرة له منذ ولادته، أن يخونه كل شخص واحدًا بعد الآخر (أوصاف أخرى لأفكار ريفن). فأخذ يصوب ببطء، وبذهن شارد، وبشعور غريب من الإذلال … إن المشكلة الوحيدة، بعد أن تكون قد وُلِدتَ، هي أن تخرج من الحياة بطريقة أنظف وأسرع من تلك التي دخلت بها إليها. ولأول مرة طافت بذهنه فكرة انتحار أمه بلا مرارة، وهو يُحكم التصويب آخر الأمر بتردد وعلى كُره منه، في الوقت الذي أطلق فيه سوندرز الرصاص عليه من الخلف من خلال الباب المفتوح.»٤٥

    إن استعمالات الشكل متنوعة متعددة إلى أبعد حد. وليس في استطاعتنا التعبير عنها جميعًا، كما ينبغي ألا نتوقع أن تكشف لنا الأعمال الفنية الكبرى عن كل نماذجها الشكلية على الفور، ولكنا إذا جمعنا بين مبادئ الشكل. وبين الحساسية المرهفة لتنوعاتها وتجمعاتها في أعمال محددة، أصبحنا بالتدريج أقدر على تذوق هذا العنصر الذي هو أكثر عناصر الفن عمقًا وخفاءً.

  • (٣)
    إن وصف القيمة الجمالية للشكل في ذاته ليس بالأمر الهين، ولهذا السبب كانت نظريات الشكليين، مثل فراي في الفنون البصرية وهانسليك في الموسيقى، تبدو في كثير من الأحيان غير مُرضية على الإطلاق؛ فهي تقول الكثير عن «العلاقات الشكلية» أو «الشكل ذي الدلالة» منفصلًا عن موضوع العمل الفني، ولكنها لا تستطيع أن تقدم إلينا أوصافًا دقيقة لهذه الأنماط. وهكذا يعترف هانسليك بأن «من العسير إلى أبعد حد تعريف هذا الجمال الموسيقي القائم بذاته، والذي ينفرد به هذا الفن».٤٦ وفضلًا عن ذلك فإن الشكل كما قلنا من قبل ليس إلا عنصرًا واحدًا من العناصر الداخلة في تكوين العمل العيني، ومن ثَم كان في حكم المستحيل أن نناقش قيم الشكل منظورًا إليه بمعزل عن العناصر الأخرى.

    ومع ذلك فليس في وسع أحد أن يشك في أن الشكل في ذاته يتسم بالقيمة الجمالية؛ فالتوازن لا يقتصر على تيسير الإدراك وإبراز القيم الحسية والتعبيرية، بل إنه في ذاته بهيج وممتع. والدليل على ذلك شعورنا بعدم الرضا حين نرى ألوانًا أو كتلًا غير متوازنة (بدون سبب، جمالي معقول). ومن الممكن أن نتذوق نمطًا من الألحان والرموز المتشابكة، وكذلك ما يتسم به التصميم الشكلي من بساطة وإحكام، وما يتصف به العمل من وحدة وثيقة. ولو كنت قد بذلت أية محاولة الكتابة قصة أو قطعة موسيقية، لأدركت مدى صعوبة الانتقال بطريقة طبيعية يسيرة بين الأجزاء الرئيسية للعمل. وعندئذٍ يمكنك أن تكون أعظم تقديرًا لتلك البراعة والسهولة التي يتحقق بها مثل هذا الانتقال في الأعمال الفنية الجديدة. مثل هذا الانسياب في التنظيم يمثل نوعًا آخر من القيمة الشكلية.

    وعندما يختار المؤلف الموسيقيُّ نمطًا شكليًّا تقليديًّا مثل السوناتا، فإنه يستخدم طرقًا معينة معروفة في التنظيم والتحوير الموسيقي. ولما كان السامع يستطيع أن يتنبأ إلى حد معقول بالمجرى الذي ستتخذه الموسيقى، فإنه يستطيع أن يستمع إلى الموسيقى بانتباه؛ وأن يستجمع أطرافها في مخيلته. وقد ناقشنا هذه الوظيفة للشكل تحت رقم (١) من قبل.٤٧ ولكن، لنضف إلى ذلك أنه حين لا تسير الموسيقى بدقة في الطريق الذي تفرضه التقاليد السائدة، فإن الشكل يصبح مثيرًا في ذاته إذ إن إعاقة توقعات المستمع أو إحباطها مؤقتًا هو أمر يثير الدهشة والاهتمام؛ «فالمؤلف الموسيقي يتلاعب بالتوقعات الضمنية للسامع، إن جاز هذا التعبير».٤٨ وهكذا فإن العمل الموسيقي قد ينحرف فجأة عن مفتاحه أو إيقاعه المستقر، أو قد يدخل التنافر فجأة ليضيف تنوعًا. وقد كتب الناقد الموسيقي الكبير، السير دونالد توفي، يقول في تحليله لمطلع الحركة الأولى من سيمفونية «إيرويكا» (البطولة) لبيتهوفن: حين تدخل الفيولينات بنغمة عالية سريعة النبض، تظهر سحابة من الغموض تغشى الهارمونية (أو التوافق) … وعليك دائمًا أن تذكر هذه السحابة، أيًّا كان ما تستمع به أو تفتقده في سيمفونية الإيرويكا؛ فهي تؤدي فيما بعد إلى ضربة من أغرب الضربات الدرامية وأعمقها في تاريخ الموسيقى بأسره؛٤٩ ذلك لأنه حين يبدو، خلال هذه الحركة فيما بعد، أن الاستعادة موشكة على الحدوث في المقام الأساسي، تعود السحابة الصغيرة. «وتتبدد السحابة في اتجاه جديد، وتظهر الشمس في واحد من المقامين اللذين تُعَد صفتهما الوحيدة هي أنهما نقيضان تمامًا للمقام الأساسي الذي تم الرجوع إليه بعد كل هذا الترقب».٥٠ ثم يُسمَع المقام المناقض الآخر، وأخيرًا يعود المقام الأساسي، وتستأنف الموسيقى أخيرًا سيرها المعتاد. فهل ترى، حتى لو لم تكن تعرف هذه القطعة الموسيقية ذاتها، إلى أي حد يوحي هذا التحليل بالشك، والترقب، وأخيرًا الرضاء الذي يمكن أن تبعثه طريقة استخدام الشكل؟

    وبطبيعة الحال، فإن المهارة والخيال الخصب في استخدام الشكل ليسا بكافيَين؛ فلا بد أن يتم العمل بالقوة في الأبعاد الأخرى بدورها، وإلا لقلنا عنه إنه «فارغ» أو «متكلف»، وربما وصفناه بأنه «يخاطب العقل وحده»، ولكن هذا اتهام لا يمكن أن يوجه إلى سيمفونية «الإيرويكا»؛ فهي مثال للطريقة التي يمكن بها الجمع بين القيمة الكامنة للشكل وقيمة العناصر الأخرى، وهي تبين إلى أي حد يمكن أن تتمشى القيمة الكامنة للشكل مع وظائف الجمالية الأخرى.

•••

«إن الشكل … لا يجتذب من كان غير منتبه، فهذا الأخير لا يكتسب من العمل إلا إحساسًا غامضًا … وهو لا يتوقف لكي يفحص الأجزاء أو يقدر علاقتها … ولكن جمال الشكل هو ما يجتذب الطبيعة الحالية بوجه خاص، وهو بعيد عن سذاجة الإثارة المفتقرة إلى الشكل بقدر ما هو بعيد عن الانطلاق الانفعالي لحلم اليقظة.»٥١
فما الذي يجعل الناس، عادة، أقل حساسية بالشكل منهم بكل الأبعاد الأخرى للفن؟ إن الناس يستجيبون للطابع الحسي للمادة ويستمتعون به، وللأهمية الدرامية للموضوع، وللانفعالات والأفكار الأوضح ظهورًا، التي يعبر عنها العمل الفني. فلماذا لم يكن الشكل يعني، في نظر الكثير من الناس، أكثر من ترتيب الأجزاء من حيث ما يأتي «قبل وبعد»، أو «أعلى وأدنى»؟ في رأيي أن لذلك سببين:
  • (١)

    إن الفقرة التي اقتبسناها منذ قليل تنطوي ضمنًا على السبب الأول، وهو أن تذوق الشكل يقتضي انتباهًا عميقًا واعيًا؛ فالعلاقات الشكلية تمتد في جميع أرجاء العمل بأسره. ولو شئنا أن نعقلها، وهو لفظ يعني حرفيًّا «أن نربط أطرافها معًا»، لوجب أن يُربَط ما يُدرَك في أية لحظة بعينها بما حدث من قبل وما سيحدث فيما بعد. فمن الواجب ألا ندع أحد فصول الرواية، أو أحد ألحان القطعة الموسيقية، أو إحدى المساحات اللونية في لوحة، تختفي عن وعينا بعد إدراكنا لها واستمتاعنا بها، بل ينبغي الاحتفاظ بها في الذاكرة نظرًا إلى ما تبشر به بالنسبة إلى الحياة المقبلة للعمل. ولا بد لنا في الوقت ذاته من أن نترقب المستقبل، ونتوقع الذروة أو عودة نغمة القرار، وهي كلها أمور لا تدرك الآن، ولكنها تضفي دلالةً على ما يُرى أو يُسمع الآن بالفعل.

    «إن الوحدة هدف ينبغي تحقيقه … وليس الموضوع الجمالي وحدة سهلة في متناول اليد»،٥٢ بل ينبغي أن تُكتسب هذه الوحدة بانتباه لا يتحول، وذاكرة رحبة، وترقُّب يقظ. ولولا ذلك لتداعى الموضوع الجمالي، ولأصبحت تجربتنا «حلم يقظة نعسان تتخلله سورات عصبية».
    والذي يحدث عادة، لو كنا نبدي أي انتباه بالعمل، هو أننا نستطيع التعرف على نفس الشخصية في مواضع متعددة في الرواية، أو على اللحن حين يعود مرة أخرى، ولكن هذا القدر وحده من الانتباه لا يكفي إلا لجعل تجربة العمل مفككة مشتتة، لا ترتبط أجزاؤها معًا إلا ارتباط واهيًا. وقد لا نشعر بذلك عن وعي لو كان اهتمامنا منصبًّا على كل من المراحل المتعاقبة في رواية فحسب، ولكن قيمة التجربة تزداد إلى حد هائل لو كانت أشد إحكامًا ووثاقة. ولنستمع إلى قول الناقد «لبوك Lubbock» وهو يصف رواية «مدام بوفاري»: «إن الكتاب ليس سلسلة من الوقائع، وإنما هو صورة (image) واحدة».٥٣ ولا شك أن الشعور عن وعي بهذه الوحدة كفيل بإلقاء ضوء جديد على «القصة» والشخصيات، حتى لو كانت هذه بعض الأهمية في ذاتها بدون معرفة «الصورة image» التي يتضمنها الكتاب. كما أن الإشارات المتكررة إلى الحوت الأبيض في رواية «موبي ديك» تكشف عن دلالة هذا الرمز، وينبغي تذكر كل من هذه الإشارات لكي تضاف إلى ما سيأتي من إيحاءات بمعناه، بحيث يصبح المعنى في آخر الأمر غنيًّا متنوعًا وقد لا يظهر هذا المعنى بوضوح تام أبدًا، ولكن هذا يسهم في ذاته في جو الغموض المخيم على الكتاب.٥٤
    فامتداد الشكل عبر المعمل الفني بأسره، وما يتسم به من تعقد شديد، هو الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى تجاهله. ولا بد لتذوق الشكل من تجربة متكررة بالعمل من أجل تكوين «ألفة»٥٥ به. وفضلًا عن ذلك فمن الواجب في كثير من الأحيان الاستعانة بتحليل نقدي؛ فقد كشف لنا «توفي» عن العلاقات بين نقطتين تفصل بينهما مسافة كبيرة في حركة سيمفونية طويلة،٥٦ كما شرح جرانفيل باركر دلالة تكرار لفظ واحد يفصل بين وروده في المرة الأولى ووروده في المرة الثانية أكثر من فصلين كاملين في مسرحية أطول من المسرحيات التي أُلفت.٥٧ ويتساءل جرانفيل-باركر: «ولكن هل سيدرك المستمع المنتبه العادي هذا الارتباط الموزع على مدى ما يربو على نصف طول الرواية؟»٥٨ والجواب هو أنه قد لا يفعل ذلك حتى يرى النقاد المنتبهون بدلًا منه، وبذلك يمكنونه من أن يرى بنفسه.
  • (٢)
    الشكل هو على وجه العموم، أكثر جوانب الفن خفاءً، فكثيرًا ما يكون للعناصر الحسية جاذبية واضحة، إذ إنها أشبه بما نراه خارج نطاق الفن، في غروب الشمس، وفي ملابس الناس. كذلك فإن الموضوع الذي يعالج العمل الفني يمكن فهمه والاستمتاع به لأنه مشابه «للحياة الواقعية»، وإن كان عادة أكثر إثارة منها — كما هي الحال في رحلة إلى «جزيرة الكنز» وما إلى ذلك. وبالمثل يحدث العَوْد، والتوازن، وغيرهما من أنواع الصورة، خارج نطاق الفن، ولكن ذلك لا يكون بالتعقد والثراء الذي يتسمان به في الأعمال الفنية الكبرى، فالنسيج المحكم القطعة من الموسيقى البوليفونية، والتنظيم التفصيلي لرواية «يوليسيز»، لويس، والنمط الذي تكوِّنه لوحة «غير موضوعية»، مثل لوحة «تكوين» لموهولي-ناجي Moholy-Nagy (انظر اللوحة رقم ٢٠)؛ كل هذه أمور ليس لها مقابل في الطبيعة. ولهذا السبب كان الشكليون في نظرية الفن، مثل «بل»، وفراي، وهانسليك، من أصحاب النزعة الخالصة purists أيضًا: فهم يرون أن الشكل الفني لا يمكن أن يُدرك ويُتذوق إلا بشروطه الخاصة وعلى أرضه الخاصة، فمن المحال أن يترجم إلى كلمات، أو على أي نحو آخر.

    ومن هنا فإن الاستمتاع بقيم الشكل يقتضي، كما يقول سانتيانا، بصيرة «جمالية على التخصيص». فلا بد أن يكون المشاهد قادرًا على الاستجابة حتى لو لم تكن تجربته غير الجمالية قد هيأته لذلك. ولا بد أن يكون قادرًا على إدراك ما هو مميز للفن، وبالتالي ما هو مختلف عن أي شيء آخر، والاستمتاع به. ولكي تتحقق هذه الغاية، فلا بد أيضًا من الألفة بالعمل، والانتباه الدقيق، والاستعانة بالتحليل النقدي في مختلف الفنون. غير أن مجرد تنظيم العمل في إطار شكلي من نوع «أ ب أ» وما شابهه ليس كافيًا، بل إن من الواجب أن تُدمَج المعرفة المكتسبة من مثل هذا التحليل في نفس عملية رؤية العمل والاستماع إليه. ولو ظلت هذه المعرفة خارجة عن نطاق الإدراك الجمالي، ولم تجعل العمل موضوعًا أغنى وأقوى دلالة، لكانت تهدم نفسها بنفسها. وبالمثل فإن تحليل الشكل ينبغي أن يعترف بحدوده التي لا يتعداها؛ فالشكل لا يكون أبدًا بديلًا عن التصميم الفريد للعمل. وقد تستطيع الكلمات أن تساعدنا ولكنها لا يمكن أن تكون كافية أبدًا.

    وربما كان أول ما ينبغي عمله هو معرفة طبيعة الشكل، وإدراك أن الشكل في الفن ينطوي على أكثر بكثير من مجرد تعاقب الأجزاء واحدًا تلو الآخر. وآمل أن تكون مناقشتنا هذه قد أسهمت في تحقيق هذا الفهم.

المراجع

() ريدر: مرجع حديث في علم الجمال، ص٦٢–٨٨، ٢٣٥–٢٥٧، ٣٥٧–٣٧٨.
() فيفاس وكريجر: مشكلات علم الجمال، ص١٨٢–٢٠٨، ٢٦٢–٢٧٦، ٢٨٥–٢٩٠.
() فيتس: مشكلات في علم الجمال، ص١٧٥–١٨٤، ٣١٢–٣٤٤، ٤١٩–٤٥٤، ٤٦٣–٥٤٢.

ديوي: الفن بوصفه تجربة. الفصول من ٧ إلى ١٠.

جوتشوك: الفن والنظام الاجتماعي. الفصلان ٤، ٥.

جرين: الفنون وفن النقد. الفصول من ١ إلى ١١.

Greene, The Arts and the Art of Criticism.

هرنج، فرانسس: «اللمس – الحاسة المنسية» مقال.

Herring, Frences W., “Touch: The Neglected Sense,” J. of Ae. and Art Cr., vol. VII, pp. 199–215.

لبوك، بيرسي: «صنعة الكتابة الروائية».

Lubbuck, Percy, The Craft of Fiction (N. Y., Viking, 1957)

ماير، لينارد: الانفعال والمعنى في الموسيقى.

Meyer, Leonard B., Emotion and Meaning in Music (Univ. of Chicago Press, 1957).

مور، جيرد: «العمل الفني ومادته» (مقال).

Moore, Jared S., “The Work of Art and its Material,” J. of Ae. & Art Cr., vol. VI, pp, 331–338.

موير، إدوين: تركيب الرواية.

Muir, Edwin, The Structure of the Novel (London, Hogarth, 1928).

مونرو، توماس: «الفنون وعلاقاتها المتبادلة». الفصل السابع.

Munro, Thomas, The Arts and their Interrelations (N. Y., Liberal Arts, 1951).

مونرو، توماس: نحو نظرة علمية إلى الإستطيقا.

المجلد الأول، الفصول ٢، ٤، ٥.

Toward Science in Aesthetics (N. Y., Liberal Arts, 1956).

باركر، ديويت: تحليل الفن.

Parker, De Witt H., The Analysis of Art (Yale U.P., 1926).

بيبر، ستيفن: مبادئ التذوق الجمالي. الفصول ٣–٥، ٨.

Pepper, Stephen C., Principles of Art Appreciation (N. Y., Harcourt, Brace, 1949).

برول الحكم الجمالي. الفصل ٥–٩.

Prall, Aesthetic Judgment.

سانتيانا، جورج: الإحساس بالجمال. الجزءان ٢، ٣.

Santayana, George, The Sense of Beauty (N. Y., Scribrer’s, 1936).

توفي، دونالد: دراسات في التحليل الموسيقي.

Tovey, Donald F., Essays in Musical Analysis (N. Y., Oxford U.P., 1935, 1936, 1937).

أسئلة

  • (١)

    اختبِر بعض الأعمال الفنية الخاصة التي يقال عنها في كثير من الأحيان إنها تفتقر إلى الجاذبية الحسية، مثل روايات درايزر، والموسيقى المتأخرة لشونبرج. هل تعتقد أن هذه الأحكام صحيحة؟ وهل تعد «رتابة» المادة الحسية ضرورة لا غناء عنها من أجل القيمة الجمالية لهذه الأعمال؟ إذا كان الأمر كذلك، فهل «الرتابة» الفنية عيب في العمل، أم أن العنصر المادي ينقص من قيمة هذه الأعمال؟

  • (٢)

    هل تعتقد أن أنواع الشكل التي عرضت في هذا الفصل يمكن أن تساعد في تحليل أعمال خاصة، أم أنها أكثر تجريدًا من أن تفي بهذا الغرض؟

  • (٣)

    هل توافق على رأي جوتشوك القائل إن التكرار يحدث أغلب ما يحدث في الفنون «الزمنية»؟ هل تستطيع ضرب أمثلة؟ وهل يمكنك ضرب أمثلة للتكرار في الفنون المكانية»؟

  • (٤)

    ادرس تحليلات الشكل في الرواية، في كتابي لبوك وموير المذكورين في قائمة المراجع. هل تعتقد أن الشكل له في الرواية نفس أهميته في الشعر والموسيقى والتصوير؟

  • (٥)

    ادرس تحليلات توفي النقدية للمؤلفات الموسيقية، في القراءات المشار إليها في المراجع (واستمع إلى الموسيقى أيضًا). هل تعتقد أن توفي يمكن أن يُتهم «بالقتل من أجل التشريح»؟ وإن لم يكن، فلمَ؟

  • (٦)

    هل تجد، في تجربتك الخاصة، أن تذوق الشكل أقل أهمية من الاستجابة للمادة والموضوع والتعبير؟ وهل تجد أنك لا تتذوق الشكل إلا بعد أن تكون قد اكتسبت إلفًا بالعمل؟ أهناك أعمال فنية ترى، من تجربتك، أن الشكل أعظم عناصرها قيمة؟

١  جرين Greene، المرجع المذكور من قبل، ص١٢٦.
٢  ومع ذلك فلو استمع القارئ إلى قطعة «التأين Ionization» للموسيقي المعاصر فاريز Varèse لوجده يستخدم أصواتًا كهذه.
٣  ستيفن بيبر: مبادئ التذوق الفني. الفصل الثامن.
Stephen C. Pepper, Principles of Art Appreciation (N. Y., Harcourt, Brace, 1949).
٤  برول: الحكم الجمالي، ص١٤١.
Prall, “Aesthetic Judgment”.
٥  سانتيانا: «الإحساس بالجمال» ص٦٠.
Santayana, The Sense of Beauty.
٦  انظر ص١٠٣ وما يليها.
٧  برنارد بوزا نكيت: «ثلاث محاضرات في علم الجمال»، ص٥٩-٦٠.
Bernard Bosanquet, Three Lectures on Aesthetic (London, Macmillan, 1923).
٨  جوتشوك، المرجع المذكور من قبل، ص٩٤. وأشك في أن الأستاذ جو تشوك يقصد هذا المعنى على أنه رأيٌ قاطع يسري على جميع الحالات. قارن ص٩٥، ١٠٠.
٩  لفظ «سيفC.I.F.» في لغة الأعمال التجارية اختصار لعبارة «الثمن، مضاف إليه التأمين والشحن Cost, insurance, freight». (المترجم)
١٠  انظر و. ك. ويمزات (الابن): مقال بعنوان «ميدان النقد».
W. K. Wimsatt, jr., “The Domain of Criticism,” J. of Ae. & Art Cr., VIII (1950).
١١  توماس ناش، من قصيدة «وصية الصيف الأخير».
T. Nash, “Summer’s Last Will and Testament”.
١٢  لفظ «الوقار dignity» مُستغرَب من المؤلف في هذا الموضع؛ إذ يفترض أنه صفة ملازمة للطفل والقط. وأعتقد أن التعبير هنا غير موفق.
١٣  انظر كتاب: علم الجمال والتاريخ Aesthetics and History. ص٦٩–٧٣، ٨٤–٨٦.
١٤  محاورة (هيبياس الكبرى)، ٢٩٧، في (محاورات أفلاطون)، ترجمة جويت، الطبعة الرابعة (Oxford U.P., 1953)، المجلد الأول، ص٥٨٦. وليس هنا موضع البحث في مسألة كون هذه المحاورة منحولة أم صحيحة.
١٥  المرجع نفسه، ٢٩٩، ص٥٨٧.
١٦  جلبرت وكون Gilbert & Kuhn، المرجع المذكور من قبل، ص ٧٩، ١٤٠، ١١٧.
١٧  تشاندلر: المرجع المذكور من قبل، ص١١.
١٨  فرانسس هيرنج: «اللمس – الحاسة المنسية» (مقال).
Frances W. Herring, “Touch: The Neglected Sense,” J. of Ae. and Art Cr., VII (1949) pp. 204 ff.
١٩  «الحكم الجمالي»، ص٦٢.
٢٠  المرجع نفسه، ص٦٣.
٢١  «التحليل الجمالي»، ص٤٧.
٢٢  «الحكم الجمالي»، ص٦٣.
٢٣  انظر «هيرنج» المرجع المذكور من قبل، ص٢٠٩-٢١٠.
٢٤  انظر «مونرو»، المرجع المذكور من قبل، ص١٣٨.
٢٥  انظر الفصل الخامس من قبل.
٢٦  comedy of manners، وهي نوع من الكوميديا يسخر من عادات أفراد معينين أو طبقات معينة في المجتمع. (المترجم)
٢٧  ديويت ها، باركر: تحليل الفن، ص٣٤.
De Witt H. Parker, The Analysis of Art (Yale U.P., 1926).
وأنا أدين — شأن الجميع — بالكثير للفصل الثاني من هذا الكتاب.
٢٨  بالنسبة إلى أفلاطون، انظر محاورة «فايدروس» ٢٦٤ج؛ وبالنسبة إلى أرسطو، كتاب الشعر، الفصل الثامن.
٢٩  المرجع المذكور من قبل، ص٤٧-٤٨.
٣٠  قارن جوتشوك، المرجع المذكور من قبل، ص١١٢–١١٤.
٣١  باركر، المرجع المذكور من قبل، ص٤٢.
٣٢  المرجع نفسه ص٤٣.
٣٣  للاطلاع على تحليلات أكثر تفصيلًا لمبادئ الشكل وعلاقاتها المتبادلة، ينبغي على القارئ الرجوع إلى الكتب الواردة في قائمة المراجع.
٣٤  باركر، المرجع المذكور من قبل، وننصح الطالب بأن يعيد قراءة القسمين ١-٢ من الفصل الثالث مقترنين بالمناقشة الحالية.
٣٥  بيرسي لبوك: صنعة الكتابة الروائية، ص٢٣٤-٢٣٥.
Percy Lubbuck, The Craft of Fiction (N. Y., Scribner’s, n.d).
٣٦  كتاب الشعر، الباب السابع، الموضع المذكور من قبل، ص١١-١٢.
٣٧  المرجع المذكور من قبل، ص١١١.
٣٨  المرجع المذكور من قبل، ص٢١٨. واللوحة واردة في ص٦٠٦ من ذلك الكتاب.
٣٩  هارلي جرانفيل-باركر: مدخل إلى هاملت. ص١٨٧-١٨٨.
Harley Granville-Barker, Preface to Hamlet (N. Y., Hill and Wang, 1957).
٤٠  جوتشوك، المرجع المذكور من قبل، ص١٢٧.
٤١  هيلين باركهيرست: «الجمال»، ص١٦٣.
Helen H. Parkhurst, Beauty (London, Douglas, 1931), p. 163.
٤٢  كتاب الشعر، ١٥؛ المرجع المذكور من قبل، ص٢٠. (ملحوظة للمترجم: التعبير الأخير ترجمة للفظ deus ex machina ويدل على أية قوة خفية لم يكن لها وجود في الأصل، ويلجأ إليها المؤلف خصيصًا لكي يتخلص بطريقة مصطنعة من موقف معقد وصل إليه عمله الفني).
٤٣  ﻫ. د. ف. كيتو: التراجيديا الإغريقية، ص٢٠٨.
H. D. F. Kitto, Greek Tragedy (Garden City, Doubleday, 1914).
٤٤  المرجع نفسه، ص٢٠٩.
٤٥  جراهام جرين: هذه البندقية للإيجار، ص١٤٦.
Graham Greene, This Gun for Hire (London, Heinemann, n.d).
٤٦  المرجع المذكور من قبل، ص٧٠.
٤٧  انظر ص٣٦٢–٣٦٧ من قبل.
٤٨  لينارد ماير: «الانفعال والمعنى في الموسيقى» ص١٥٢.
Leonard B. Meyer, Emotion and Meaning in Music (Univ. of Chicago Press, 1957).
٤٩  دونالد توفي: أبحاث في التحليل الموسيقي. المجلد الأول ص٣٠.
Donald F. Tovey, Essays in Musical Analysis (Oxford U.P., 1935).
٥٠  المرجع نفسه، ص٣١.
٥١  سانتيانا: الإحساس بالجمال، ص٧٤.
٥٢  موريس: «العملية الجمالية»، ص٢١.
Morris, The Aesthetic Process.
٥٣  المرجع المذكور من قبل، ص٦٢.
٥٤  انظر: أ. ك. براون: «الايقاع في الرواية» ص٥٥–٥٧.
٥٥  انظر القسم الثاني من الفصل الثالث من قبل.
٥٦  انظر ص٣٦٤-٣٦٥ من قبل.
٥٧  انظر ص٣٥٨ من قبل.
٥٨  المرجع المذكور من قبل، ص١٨٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤