الفصل الأول

امرؤ القيس

مات سنة ٨٠ قبل الهجرة و٥٦٥ للميلاد

نسبه وكُنيته

هو امرؤ القيس بن حُجُر (بضم الحاء والجيم، وليس بهذا الضبط غيره) بن الحارث بن عمر بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتع. هكذا نسبه الأصمعي، وزاد الحارث بن معاوية: «وثور.» وقال إن ثورًا هو كندة، وهكذا ساق نسبه ابن حبيب، وزاد يعرب بين الحارث بن معاوية، وثور بن مرتع بن معاوية بن كندة. وقال بعض الرواة: هو امرؤ القيس بن السمط بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية بن ثور وهو كندة. وقال ابن الأعرابي: ثور هو كندة بن عفير بن الحارث بن مرة بن عدي بن أدد بن زيد بن عمرو بن مسمع بن عريب ابن زيد بن كهلان بن سبأ.

ويُكَنَّى امرؤ القيس أبا وهب، وكان يقال له: الملك الضليل. وقيل له ذو القروح؛ لقوله:

وبُدِّلْتُ قرحًا داميًا بعد صحة
لعل منايانا تحولن أَبْؤُسًا

قلت: واختُلِفَ في آكل المرار، فنقل العلَّامة عبد القادر البغدادي عن الشريف الجواني أن في آكل المرار خلافًا، هل هو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع، أو هو حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية؟ وإنما سُمي الحارث بآكل المرار؛ لأن عمرو بن الهبولة الغساني أغار عليهم — وكان الحارث غائبًا — فغنم وسبى، وكان فيمن سبى أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني امرأة الحارث، فقالت لعمرو بن الهبولة في مسيره: لكأني برجل أدلم أسود كأنَّ مشافره مشافر بعير آكل المرار، قد أخذ برقبتك. تعني الحارث فسُمي آكل المرار (المرار: كغُراب شجر إذا أكلتْه الإبل تقلصت مشافرها)، ثم تبعه الحارث في بكر بن وائل، فلحقه وقتله، واستنقذ امرأته وما كان أصاب. وقال ابن دريد في كتاب الاشتقاق: آكل المرار هو جَدُّ امرئ القيس الشاعر ابن حجر. وقال الميداني عند شرحه للمثل «لا غزو إلا التعقيب»: أول من قال ذلك حجر بن الحارث بن عمرو آكل المرار. وساق حديثه مع ابن الهبولة، وقتله إياه، وذكر في آخره أنه قتل هند الهنود لما استنقذها منه.

طبقته في الشعراء

امرؤ القيس فحل من فحول أهل الجاهلية، وهو رأس الطبقة الأولى، وقرن بن ابن سلام زهيرًا والنابغة وأعشى قيس، والأكثر على تقديم امرئ القيس. قال يونس بن حبيب: إن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس بن حُجُر، وإن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وإن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيرًا والنابغة. وقيل للفرزدق: من أشعر الناس؟ قال: ذو القرح. يعني امرأ القيس، وسُئِلَ لبيد: من أشعر الناس؟ فقال: الملك الضليل. قيل: ثم من؟ قال: ابن العشرين. يعني طرفة، قيل له: ثم من؟ أبو عقيل. يعني نفسه.

وليس مراد من قدَّمَ امرأ القيس أنه قال ما لم تَقُلْهُ العرب، ولكنه سبقهم إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب، واتَّبَعَه فيها الشعراء، منها: استيقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورِقَّة النسيب، وقرب المأخذ، وتشبيه النساء بالظباء والبِيض، والخيل بالعقبان والعصي وقيد الأوابد. ويدل على تقدُّمه في الشعر ما روي أنه وفد قوم من اليمن على النبي ، فقالوا: يا رسول الله، أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس بن حجر. قال: وكيف ذلك؟ قالوا: أقبلنا نريدك فضللنا الطريق فبَقِينا ثلاثًا بغير ماء، فاستظللنا بالطلح والسمر، فأقبل راكب ملتثم بعمامة، وتمثَّل رجل ببيتين وهما:

ولما رأت أن الشريعة همها
وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج
يفيء عليها الظل عرمضها طامي

فقال الراكب: من يقول هذا الشعر؟ قال: امرؤ القيس بن حجر. قال: والله ما كذب، هذا ضارج عندكم. قال: فجثونا على الركب إلى ماء كما ذكروا عليه العرمض يفيء عليه الطلح، فشربنا رِيَّنَا وحملنا ما يكفينا، ويُبلغنا الطريق. فقال النبي : ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة ومعه لواء الشعراء إلى النار. وروي: يتدهدى بهم في النار. فيروى أن كلًّا من لبيد وحسان بن ثابت قال: ليت هذا المقال فيَّ، وأنا المدهدى في النار.

ونَقَلَ السيوطي عن ابن عساكر عن ابن الكلبي قال: أتى قوم رسول الله فسألوه عن أشعر الناس، فقال: ائتوا حسان. فقال: ذو القروح — يعني امرأ القيس — إلا أنه لم يعقب ولدًا ذكرًا بل إناثًا. فرجعوا فأخبروا رسول الله ، فقال: صدق؛ رفيع في الدنيا، خامل في الآخرة، شريف في الدنيا، وضيع في الآخرة، هو قائد الشعراء إلى النار. ولا قول لأحد مع رسول الله فسقطت التفاصيل الواردة عن العلماء بالشعر. ولا يُحتج بقوله تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ لأن المراد ما علمناه قوله، وإلا فإن معرفة معاني كلام العرب مقصورة عليه .

هاجسه ورقيه من الجن

وهاجس١ امرئ القيس هو لافظ بن لاحظ. حدَّث رجل من أهل الشام أنه خرج في طلب لقاح له فحل كأنه فدن يسبق الريح حتى دفعه إلى خييمة وبفنائها شيخ كبير، قال: فسلمت فلم يرد عليَّ، فقال: من أين؟ وإلى أين؟ قال: فاستحمقته إذ بخل برَدِّ السلام وأسرع إلى السؤال، فقلت: من ها هنا — وأشرت إلى خلفي — وإلى ها هنا — وأشرت إلى أمامي. فقال: أما من ها هنا فنعم، وأما إلى ها هنا فوالله ما أراك تبهج بذلك إلا أن يسهل عليك مداراة من ترد عليه. قلت: وكيف ذلك أيها الشيخ؟ قال: لأن الشكل غير شكلك، والزي غير زيك. فضرب قلبي أنه من الجن. وقلت: أتروي من أشعار العرب شيئًا؟ قال: نعم وأقول. قلت: فأنشدني. كالمستهزئ به، فأنشدني قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فلما فرغ، قلت: لو أن امرأ القيس يُنْشَرُ لردعك عن هذا الكلام. فقال: ماذا تقول؟ قلت: هذا لامرئ القيس. قال: لست أول من كفر نعمة أسداها. قلت: ألا تستحي أيها الشيخ؟! ألمثل امرئ القيس يُقال هذا؟! قال: أنا واللهِ منحته ما أعجبك منه. قلت: فما اسمك؟ قال: لافظ بن لاحظ. فقلت: اسمان منكران. قال: أجل. فاستحمقت نفسي له بعدما استحمقته لها، وقد عرفت أنه من الجن.

حال امرئ القيس وأوليته

ولما نشأ امرؤ القيس طرده أبوه، واختُلِفَ في سبب ذلك، فقيل إنه لما ترعرع علق النساء، وأكثر الذكر لهن والميل إليهن، فكره ذلك أبوه حجر، فقال: كيف أصنع به؟ فقالوا: اجعله في رعاء إبلك، حتى يكون في أتعب عمل. فأرسله في الإبل، فخرج بها يرعاها يومه، ثم آواها مع الليل، وجعل ينيخها ويقول: يا حبذا طويلة الأقراب، غزيرة الحلاب، كريمة الصحاب، يا حبذا شداد الأوراك، عراض الأحناك، طوال الأسماك. ثم بات ليلته يدور إلى مُتَحَدَّثِهِ حيث كان يتحدث. فقال أبوه: ما شغلتُه بشيء. قيل له: فأرسله في الخيل. فأرسله في خيله فمكث فيها يومه، حتى آواها مع الليل، فدنا أبوه حجر يسمع، فإذا هو يقول: يا حبذا إناثها نساء، وذكورها ظباء، عدة ونساء، نِعْمَ الصحاب راجلًا وراكبًا، تدرك طالبًا، وتفوت هاربًا. قال أبوه: واللهِ ما صنعتُ شيئًا. فبات ليلته يدور حواليها، قيل له: اجعله في الضأن. فمكث يومه فيها، حتى إذا أمسى أراحها، فجاءت أمامه وجاء خلفها، فلما بلغت المراح، ودنا أبوه يسمع قال: أخزاها الله لا تهتدي طريقًا، ولا تعرف صديقًا، أخزاها الله لا تطيع راعيًا، ولا تسمع داعيًا. ثم سقط ليلته لا يتحرك، فلما أصبح قال أبوه: اخرج بها. فمضى حتى بعد من الحي، وأشرف على الوادي، فَحَثَا في وجهها التراب فارتدت، وجعل يقول: حجر في حجر، حجر لا مدر، هبهاب لحم وإهاب، للطير والذئاب. فلما رأى أبوه ذلك منه، وكان يرغب به عن النساء والشعر، وأبى أن يدع ذلك، فأخرجه عنه، فخرج مراغمًا لأبيه.

فكان يسير في العرب يطلب الصيد والغزل حتى قُتِلَ أبوه، وقيل: إن سبب طرد أبيه إياه أنه كان يتعشَّق امرأته هرا، وهذا غير معروف من أخلاق العرب، وغاية ما في ذلك أن الأبَ بعد موته كانت امرأته يكون أكبر أولاده من غيرها وليها، فإن شاء تزوَّجها، وإن شاء منعها حتى تموت، وإن شاء زوجها من غيره.

خبره بعد مقتل أبيه

قيل إن حجرًا والد امرئ القيس لما قتله بنو أسد في قصة طويلة — وكان طعنه أحدُهم ولم يُجْهِزْ عليه — أوصى، ودفع كتابه إلى رجل، وقال له: انطلق إلى ابني نافع — وكان أكبر ولده — فإن بكى وجزع فالهُ عنه، واسْتَقْرِهِمْ واحدًا واحدًا، حتى تأتي امرأ القيس — وكان أصغرهم — فأيهم لم يجزع فادفع إليه سلاحي وخيلي وقدوري ووصيتي. وقد كان بيَّن في وصيته من قتله، وكيف كان خبره، فانطلق الرجل بوصيته إلى نافع ابنه، فأخذ التراب فوضعه على رأسه، ثم استقراهم واحدًا واحدًا، فكلهم فعل ذلك، حتى أتى امرأ القيس، فوجده مع نديم له يشرب الخمر، ويلاعبه بالنَّرْدِ، فقال له: قُتِلَ حجر. فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه فقال له امرؤ القيس: اضرب. فضرب، حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد عليك دستك. ثم سأل الرسول عن أمر أبيه فأخبره فقال: الخمر والنساء عليَّ حرام حتى أقتل من بني أسد مائة، وأجز نواصي مائة. وقيل: إنه لما خرج مراغمًا له كان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شُذَّاذِهِم من طيئ وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم، وخرج إلى الصيد فتصيد ثم عاد فأكل وأكلوا عنه وشرب الخمر وسقاهم وغنَّته قيانه، ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل معه إلى غيره، فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بدمون أتاه به رجل من بني عجل يقال له: عامر الأعور، فلما أتاه بذلك قال:

تطاول الليل علينا دمون
دمون إنا معشر يمانون
وإننا لأهلنا محبون

ثم قال: ضيعني صغيرًا، وحمَّلَنِي ثأره كبيرًا. لأصحو اليوم، ولأسكر غدًا، اليوم خمر وغدًا أمر. فذهبت مثلًا؛ أي يشغلنا اليوم خمر، وغدًا يشغلنا أمر يعني أمر الحرب، وهذا المثل يضرب للدول الجالبة للمحبوب والمكروه، ثم شرب سبعة أيام ثم قال:

أتاني وأصحابي على رأس صيلع
حديث أطار النوم عني وأنعما
وقلت لعِجْلِيٍّ بعيد مآبُه
تبينْ وبَيِّنْ لي الحديث المُعَجَّمَا
فقال أبيتَ اللعن عمرو وكاهل
أباحوا حِمَى حُجُر فأصبح مسلَمَا

وله في ذلك أشعار كثيرة منها:

واللهِ لا يذهب شيخي باطلَا
حتى أبير مالكًا وكاهلَا
القاتلين الملك الحلاحلَا
خير مَعَدٍّ حسبًا ونائلَا
يا لهف هند إذ خطئن كاهلَا
نحن جلبنا القرح القوافلَا
يحملنا والأسل النواهلَا
مستفرمات بالحصى جوافلَا

خبره مع بني أسد

ثم أخذ امرؤ القيس يستعد لبني أسد، فبلغهم ذلك، فأوفدوا إليه رجالًا من ساداتهم فأكرم منزلهم، واحتجب عنهم ثلاثة أيام، ثم خرج عليهم في قباء وخُفٍّ وعمامة سوداء إشعارًا بأنه طالب بثأر أبيه، فلما لقيهم بدروه بالثناء عليه وعلى أبيه، وقالوا له: إن الواجب عليك أن ترضى مِنَّا بإحدى خلال نسميها لك: إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتًا، وأعلاها في بناء المكرمات صوتًا فقُدناه إليك بنسعه فتذبحه، أو ترضى منا بفداء بالغ ما بلغ، فأديناه إليك من نعمنا، فترد القضب إلى أجفانها، وإما أن توادعنا حتى تضع الحوامل، وتتأهب للحرب. فبكى امرؤ القيس ساعة، ثم رفع رأسه، وقال: لقد علمتِ العرب أن لا كفء لحجر، وأني لن أعتاض به جملًا أو ناقة فأكتسب بذلك مَسَبَّةً. وكانت العرب تتذمم من ذلك، قال شاعرهم يخاطب امرأته:

أكَلْتُ دَمًا إن لم أَرُعْكِ بضرة
بعيدة مهوَى القرط طيبة النشر

ثم قال لهم: وأما النظِرة فقد أوجبتْها الأجنة في بطون أمهاتها، وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك. ثم ارتحل امرؤ القيس حتى نزل بَكرًا وتغلب عليهم أخواه شرحبيل وسلمة، فاستنصرهما على بني أسد فنصراه، فنذر بنو أسد بما جمع لهم فرحلوا فأوقع امرؤ القيس ببني كنانة وهو يحسبهم بني أسد، فوضع السلاح فيهم، وقال: يا لثارات الملك يا لثارات الهُمام! فخرجت إليه عجوز من بني كنانة، فقالت: أبيتَ اللعن لسنا لك بثأر، نحن من كنانة فدونك ثأرك فاطلبهم؛ فإن القوم قد ساروا بالأمس. فتبع بني أسد ففاتوه فقال:

ألا يا لهف هند إثر قوم
همُ كانوا الشفاء فلم يصابوا
وقاهم جَدُّهُم ببني أبيهم
وبالأشقين ما كان العقاب
وأفلتهن علباء جريضًا
ولو أدركنه صفر الوطاب

ثم إنه اتَّبَع بني أسد حتى لحقهم وقد استراحوا ونزلوا على الماء وهو ومن معه في غاية التعب والعطش، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، حتى كثرت القتلى والجرحى، وحجز بينهم الليل، فهربت بنو أسد، فلما أسفر الصبح أراد أن يتبعهم، فامتنعت بكر وتغلب، وقالوا له: قد أصبت ثأرك. فقال: واللهِ ما فعلتُ ولا أصبت من بني كاهل أحدًا، وكان قد قال:

والله لا يذهب شيخي باطلًا
حتى أبير مالكًا وكاهلَا

فلما امتنعوا من المسير معه استنصر مرثد الخير وهو من أقيال حمير، فأمده بخمسمائة رجل من حمير، ومات مرثد قبل رحيل امرئ القيس، فأنفذ له ذلك قرمل الذي جلس في مكان مرثد، واستأجر كثيرًا من صعاليك العرب، فسار إلى بني أسد، ومر على ذي الخلصة، وهو صنم كانت العرب تعظمه فاستقسم عنده بقداحه وهي ثلاثة الآمر والناهي والمتربص، فأجالها فخرج الناهي ثلاث مرات، وكلما أجالها يخرج الناهي. فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم، وقال: لو كان المقتول أباك ما عقتني. ثم خرج فظفر ببني أسد.

مطاردة المنذر له وخبر موته

ثم إن المنذر حارب امرأ القيس، وألَّب العرب عليه، وأمده أنوشروان بجيش من الأساورة، فسرَّحهم في طلبه، فانفضَّت جموعه فنجا مع عصبة من بني آكل المرار، حتى نزل بالحارث بن شهاب من بني يربوع بن حنظلة ومعه أدرعه الخمس، وهي الفضفاضة والضيافة والمحصنة والخريق وأم الذيول، وكانت هذه الأدرع يتوارثها بنو آكل المرار ملكًا عن ملك، فلما بلغ المنذر أن امرأ القيس استقر عند الحارث المذكور، بعث إليه يتهدده إن لم يسلم إليه بني آكل المرار فسلمهم إليه، ونجا امرؤ القيس بما قدر على أخذه معه من المال والسلاح والأدرع المذكورة، فلجأ إلى السموأل بن عادياء الغساني ثم اليهودي مذهبًا، وكان معه فزاري يُدعى الربيع، فقال له: امدح السموأل فإن الشعر يعجبه. فنزل به وأنشده مديحه فيه، فأكرم مثواه، وترك عنده ابنته هند، وكتب له كتابًا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وأمره أن يوصله إلى قيصر ففعل، ولما وصل إلى قيصر قبِله وأكرمه وأمده بجيش كثيف، وفيهم جماعة من أبناء الملوك، وكان رجل يقال له الطماح من بني أسد واجدًا على امرئ القيس؛ لأنه قتل أخاه فيمن قتل، فاندس إلى قيصر وقال له: إن امرأ القيس عاهر، وإنه لما انصرف عنك ذكر أن ابنتك عشِقته، وأنه كان يواصلها، وهو قائل في ذلك شعرًا يشهرها به في العرب ويفضحها. فبعث إليه حينئذٍ بحلة منسوجةٍ بالذهب، وأودعها سمًّا قاتلًا، وكتب إليه: «إني أرسلت إليك حلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك، فإذا وصلتْ إليك فالبَسْها باليمن والبركة، واكتب إليَّ بخبرك من منزل منزل.» فلما وصلت إليه لبسها واشتد سروره بها، فأسرع فيه السم وسقط جلده؛ فلذلك سمي «ذا القروح»، وعلم أن الطماح هو سبب ذلك، فقال سينيته التي منها:

لقد طمح الطماح من بعد أرضه
ليُلبِسَني من دائه ما تلبَّسَا

ومنها:

وبُدِّلْتُ قرحًا دامِيًا بعد صحة
لعل منايانا تحولن أبؤسا

فلما وصل إلى بلدة من بلاد الروم يقال لها أنقرة، احتضر بها وقال: «رُبَّ طعنة مثعنجرهْ، وخطبة مسحنفرهْ، تبقى غدًا بأنقرهْ.» ويروى في هذه الكلمات غير ذلك. وقال ابن الكلبي: هذا آخر شيء تكلَّم به ثم مات، قيل: رأى قبر امرأة ماتت هناك وهي غريبة، فدفنت في سفح جبل يقال له: عسيب، فسأل عنها وأُخْبِرَ بقصتها فقال:

أجارتنا إن المزار قريب
وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان ها هنا
وكل غريب للغريب نسيب

ثم مات ودُفِنَ إلى جنب المرأة فقبرُه هناك. كذا قال أبو الفرج الأصبهاني وهو غلط محضٌ؛ لأن عسيبًا جبل بعالية نجد، وأنقرة من بلاد الروم، ولا يدل ضربه المثل بإقامة عسيب على أنه دُفِنَ به.

شيء من سيرته

ورُوِيَ أن امرأ القيس آلَى أن لا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنتين، فجعل يخطب النساء، فإذا سألهن عن هذا قلن أربعة عشر، فبَيْنَا هو يسير في جوف الليل إذ هو برجل يُحمَل له ابنة صغيرة كأنها البدر في ليلة تمامه، فأعجبته فقال لها: يا جارية ما ثمانية وأربعة واثنتان؟ فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة، وأما أربعة فأخلاف الناقة، وأما اثنتان فثديا المرأة. فخطبها إلى أبيها فزوَّجه إياها، وشرطت عليه أن تسأله ليلة بنائه بها عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك على أن يسوق إليها مائة من الإبل، وعشرةَ أعبُد، وعشر وصائف، وثلاثة أفراس، ففعل ذلك. ثم إنه بعث عبدًا له إلى المرأة، وأهدى إليها نحيًا من سمن، ونحيًا من عسل، وحلة من عصب، فنزل العبد ببعض المياه فنشر الحلة ولبسها، فتعلقت بشعرة، فانشقت وفتح النحيين فأطعم أهل الماء منهما فنقصا، ثم قدِم على حي المرأة وهم خلوف، فسألها عن أبيها وأمها وأخيها، ودفع إليها هديتها، فقالت له: أعلِمْ مولاك أن أبي ذهب يُقرِّب بعيدًا ويُبْعِد قريبًا، وأن أمي ذهبت تشق النفس نفسين، وأن أخي يراعي الشمس، وأن سماءكم انشقَّت، وأن وعاءيكما نضبا. فقدم الغلام على مولاه فأخبره فقال: أما قولها: «إن أبي ذهب يقرب بعيدًا ويبعد قريبًا.» فإن أباها ذهب يحالف قومًا على قومه، وأما قولها: «ذهبت أمي تشق النفس نفسين.» فإن أمها ذهبت تَقبِل امرأة نُفَسَاء، وأما قولها: «إن أخي يراعي الشمس.» فإن أخاها في سرح له.

وكان امرؤ القيس مفركًا لا تحبه النساء، ولا تكاد امرأة تصبر معه، فتزوج امرأة من طيئ فابتنى بها فأبغضته من ليلتها، وكرهت مكانها معه، فجعلت تقول: يا خير الفتيان أصبحت. فيرفع رأسه، فينظر فإذا الليل كما هو، فتقول: أصبح ليل. قال لها: قد علمت ما صنعت الليلة، وقد علمت أن ما صنعت من كراهية مكاني في نفسك، فما الذي كرهت مني؟ فقالت: ما كرهتك. فلم يزل بها حتى قالت: كرهت منك أنك خفيف العزلة ثقيل الصدر، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة. وذهب قولها: «أصبح ليل.» مثلًا يضرب في الليلة الشديدة التي يطول فيها الشر. حكى هذه القصة الميداني. وروي من غير هذا الوجه أنه لما جاور في طيئ نزل به علقمة الفحل التميمي، فقال كل واحد منهما لصاحبه: أنا أشعر منك فتحاكما إليها، فأنشد امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها:

خليليَّ مُرَّا بي على أم جندب
نقض لُبانَات الفؤاد المعذب

حتى مَرَّ بقوله:

فللسوط ألهوبٌ وللساق درة
وللزجر منه وقع أهوج منعب

وأنشد علقمة قوله:

ذهبت من الهجران في غير مذهب
ولم يك حقًّا كل هذا التجنُّب

حتى انتهى إلى قوله:

فأدركهن ثانيًا من عِنانه
يمر كغيثٍ رائح متحلب

فقالت له: علقمة أشعر منك. فقال: وكيف؟ فقالت: لأنك زجرت فرسك، وحركته بساقك، وضربته بسوطك، وإنه أدرك الصيد ثانيًا من عِنان فرسه. فغضب امرؤ القيس وقال: ليس كما قلت، ولكنك هويتِه، فطلقها فتزوجها علقمة، وبهذا لُقِّبَ علقمة الفحل.

مُماتنته الشعراء

وكان امرؤ القيس ينازع من يدَّعي الشعر، فنازع الحارث بن التوءم اليشكري، فقال: إن كنت شاعرًا فأجز أنصاف ما أقول. فقال الحارث: قل ما شئت.

فقال امرؤ القيس:

أحارِ ترى بريقًا هَبَّ وَهْنَا

فقال الحارث:

كنار مجوس تَسْتَعِرُ استعارَا

فقال امرؤ القيس:

أرقت له ونام أبو شريح

فقال الحارث:

إذا ما قلت قد هدأ استطارا

فقال امرؤ القيس:

كأن هزيزه بوراء غيب

فقال الحارث:

عشار والِهٌ لاقت عشارَا

فقال امرؤ القيس:

فلما أن دنا لقفا أضاخ

فقال الحارث:

وهت أعجاز رَيِّقِه فحارَا

فقال امرؤ القيس:

فلم يترك بذات السر ظَبْيًا

فقال الحارث:

ولم يترك بجلتها حِمَارَا

قال أبو حيان في شرح التسهيل: هذه القصة رَدٌّ على من شرط في الكلام صدوره من شخص واحد، يعني أن النحاة يقولون: إذا قال شخص: زيد، وقال آخر: قائم، لا يُسَمَّى هذا كلامًا عندهم. وما قاله أبو حيان واضح في بعض هذا الرجز.

ولقي عبيدُ بن الأبرص الأسدي امرَأ القيس يومًا فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال له: ألقِ ما شئت، فقال عبيد:

مَا حَيَّةٌ مَيْتَةٌ أَحْيَتْ بميتتها
درداء ما أنبتت سنًّا وأضراسَا

وروي: ما حية ميتة قامت … فقال امرؤ القيس:

تلك الشعيرة تُسقى في سنابلها
فأخرجت بعد طول المُكث أكداسَا

في عدة أبيات، إلى أن قال عبيد:

ما القاطعات لأرض الجو في طلق
قبل الصباح وما يسرين قرطاسَا

فقال امرؤ القيس:

تلك الأماني تتركن الفتى ملكًا
دون السماء ولم ترفع به راسَا

فقال عبيد:

ما الحاكمون بلا سمع ولا بصر
ولا لسان فصيح يُعجب الناسَا

فقال امرؤ القيس:

تلك الموازين والرحمَن أنزلها
رَبُّ البرية بين الناس مقياسَا

وهذه الحكاية رواها علي بن ظافر في كتاب «بدائع البدائه» وفي النفس منها شيء؛ لأن امرأ القيس يبعُد تصديقه بالموازين، أما حكاية ابن التوءم فقد نقلها الأعلم وغيره صحيحة.

١  الهاجس: أصله الخاطر الذي يخطر في القلب، والمراد به هنا ما يلقيه على لسانه رقيه من الجن على ما تعتقده العرب في ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤