الفصل التاسع

ترجمة النابغة الذبياني

توفي سنة ١٨ قبل الهجرة و٦٠٤ للمسيح

نسبه وكنيته

هو النابغة واسمه زياد بن معاوية بن ضباب بن جناب بن يربوع بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن ريث بن غطفان بن قيس عيلان بن مضر، ويُكَنَّى أبا أمامة، قيل: إنه إنما لقب النابغة لقوله:

وحدث في بني القين بن جسر
فقد نبغت لهم مِنَّا شئون

وقيل: لقب النابغة؛ لأنه كبر ولم يقُل شعرًا، فنبغ فيه بغتة، وقيل: هو مشتق من نبغت الحمامة إذا تغنت. وحكى ابن ولاد أنه يقال: نبغ الماء، ونبغ بالشعر كمادة الماء النابغ، قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء ونبغ بالشعر بعدما احتنك وهلك قبل أن يهتر.

طبقته في الشعراء

هو أحد فحول أهل الجاهلية، عَدَّهُ ابن سلام في الطبقة الأولى، وقرنه بامرئ القيس والأعشى وزهير، وتقدم الخلاف في أيِّهِم أشعر، وهو أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم، وهو أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتًا. كأن شعره كلام ليس فيه تكلُّف. قال الأصمعي: سألت بشارًا عن أشعر الناس؟ فقال: أجمع أهل البصرة على تقدم امرئ القيس وطرفة، وأهل الكوفة على بشر بن أبي خازم والأعشى، وأهل الحجاز على النابغة وزهير، وأهل الشام على جرير والفرزدق والأخطل، وتقدم ما فيه بعض مخالفة لما هنا بحسب اختلاف الآراء.

أول نبوغه في الشعر

روي عن الأصمعي أنه قال: أول ما تكلم به النابغة من الشعر أنه حضر مع عمه عند رجل، وكان عمه يشاهد به الناس ويخاف أن يكون عيبًا، فوضع الرجل كأسًا في يده وقال:

تطيب كئوسنا لولا قذاها
وتحتمل الجليس على أذاها

فقال النابغة وحمي لذلك:

قذاها أن صاحبها بخيل
يحاسب نفسه بكَمِ اشتراها

وهذا يعارضه ما قيل إنما لقب النابغة لأنه كبر ولم يقل شعرًا. وروي أن عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — قال: يا معشر غطفان من الذي يقول:

أتيتك عاريًا خلقًا ثيابي
على خوف تظن بي الظنون

قالوا: النابغة. قال: ذاك أشعر شعرائكم. وروي من وجه آخر أن عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — قال لجلسائه يومًا: من أشعر الناس؟ قالوا: أنت أعلم يا أمير المؤمنين، قال: من الذي يقول:

إلَّا سليمان إذا قال الإله له
قم في البَرِيَّةِ فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد

قالوا: النابغة. قال: فمن الذي يقول: «أتيتك عاريًا خلقًا ثيابي …» إلخ؟ قالوا: النابغة. قال: فمن الذي يقول:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني خيانة
لَمُبلغك الواشي أغش وأكذب
ولست بمستبقٍ أخًا لا تلمُّه
على شعث أي الرجال المهذب

قالوا: النابغة. قال: فهو أشعر العرب.

خبر هاجسه وشيء من سيرته

واسم هاجس النابغة هاذر، قال رجل من أهل الشام في قصة تَقَدَّمَ بعضُها في ترجمة امرئ القيس مع جني اجتمع به، فسأله من أشعر العرب؟ فأنشأ يقول:

ذهب ابن حجر بالقريض وقوله
ولقد أجاد فما يعاب زياد
لله هاذر إذ يجود بقوله
إن ابن ماهر بعدها لجواد

فقال له الشامي: من هاذر؟ قال: صاحب زياد الذبياني، وهو أشعر الجن وأضنهم بشعره، فالعجب له كيف سلسل لأخي ذبيان، ولقد علم بُنَيَّةً لي قصيدة له من فيه إلى أذنها، ثم صرخ بها: اخرجي فدى لك من ولدت حواء. فقلت له: ما أنصفت أيها الشيخ. فقال: ما قلت بأسًا. ثم رجعت إلى نفسي، فعرفت ما أراد، فسكتُّ ثم أنشدتني الجارية:

نأت بسعاد عنك نوى شطون
فبانت والفؤاد بها حزين

حتى أتت على قوله منها:

فألفيت الأمانة لم تخنها
كذلك كان نوح لا يخون

فقال: لو كان رأي قوم نوح فيه كرأي هاذر ما أصابهم الغرق. وكانوا يقولون: إن النابغة أشعر العرب إذا خاف؛ وذلك لجودة قصائده التي اعتذر فيها إلى النعمان، وهذا غير صحيح؛ لأن النعمان ما كان يقدر عليه وهو عند آل جفنة، وقد سئل أبو عمرو بن العلاء، فقيل له: أمن مخافته امتدحه وأتاه بعد هربه منه أم لغير ذلك؟ فقال: لا لعمر الله لا لمخافته فعل إن كان لآمنًا من أن يوجه إليه جيشًا، وما كان النابغة يأكل ويشرب إلا في آنية الذهب والفضة من عطايا النعمان وأبيه وجده ولا يستعمل غير ذلك.

وروي أن عبد الملك بن مروان أرسل إلى الحجاج أن ابعث إليَّ عامرًا الشعبي، وكان الشعبي من أمثل أهل وقته، فلما وصل إليه أمره بالجلوس. فجلس فالتفت عبد الملك إلى رجل كان عنده قبل مجيء الشعبي، فقال: ويحك! من أشعر الناس؟ قال: أنا يا أمير المؤمنين. قال الشعبي: فأظلم ما بيني وبين عبد الملك من البيت، ولم أصبر أن قلت: من هذا يا أمير المؤمنين الذي يزعم أنه أشعر الناس؟ فعجب عبد الملك من عجلتي قبل أن يسألني، وقال: هذا الأخطل. قلت: بل أشعر منك يا أخطل الذي يقول:

هذا غلام حسن وجهه
مستقبل الخير سريع التمام
للحارث الأكبر والحارث الأعـ
ـرج والأصغر خير الأنام
ثم لهند ولهند قد
أسرع في الخيرات منهم إمام
فستة آباؤهم ما هم
أكرم من يشرب صوب الغمام

قال: فردَّدتها حتى حفظها عبد الملك، فقال الأخطل: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الشعبي. قال الأخطل: والإنجيلِ هذا ما استعذت بالله من شره، صدق واللهِ، النابغة أشعر مني. فالتفت إلي عبد الملك، فقال: ما تقول يا شعبي؟ قلت: قدمه عمر بن الخطاب في غير موضع على جميع الشعراء. وكان مهيبًا وقدم المدينة، فأنشد الناس قصيدته الذي سيأتي سببها وهي:

من آل مية رائح أو مغتدِ
عجلان ذا زاد وغير مزود

وكان أَقْوَى فيها فما تجاسر أحد أن يقول له، فأتوه بقينة فغنت منها:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتَّقَتْنا باليد
بمخضَّب رَخْصٍ كأن بَنانه
عنم يكاد من اللطافة يُعقد

فمدت القينة صوتها باليد، فصارت الكسرة ياء ومدت يعقد، فصارت الضمة واوًا فانتبه، ولم يَعُدْ إلى الإقواء وغيَّر قوله: «يكاد من اللطافة يعقد» وجعله «عنم على أغصانه لم يعقد»، وقال: دخلت يثرب وفي شعري بعض العاهة فخرجت منها وأنا أشعر الناس.

تحاكم الشعراء إليه

وكانت تضرب للنابغة قبة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، ففي إحدى السنين فعل به ذلك، فأول من أنشده الأعشى، ثم حسان بن ثابت، ثم أنشدته الشعراء، ثم أنشدته الخنساء بنت عمرو بن الشريد قصيدتها التي تقول فيها ترثي صخرًا:

وإن صخرًا لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار

فقال: واللهِ لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلت: إنك أشعر الجن والإنس. فقام حسان وقال: واللهِ لأنا أشعر منك ومن أبيك، وفي رواية فقال حسان: أنا واللهِ أشعر منك ومنها ومن أبيك. فقال النابغة: حيث تقول ماذا؟ قال: حيث أقول:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دمَا
ولدنا بني العنقاء وابنَيْ محرق
فأكرم بنا خالًا وأكرم بنا ابنَمَا

فقال له: إنك شاعر، ولكنك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك — يعني أن الجفنات لأدنى العدد والكثير جفان، وكذلك أسياف لأدنى العدد والكثير سيوف — وقلت: بالضحى، ولو قلت يبرقن بالدجى لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف في الليل أكثر. وقلت: يقطرن من نجدة دمَا فدللت على قلة القتل، ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم. ولن تستطيع أن تقول:

فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنأى عنك واسع
خطاطيف حجن في حبال متينة
تمد بها أيد إليك نوازع

خبره مع النعمان بن المنذر

وروي أن حسان بن ثابت — رضي الله عنه — حدث أنه وفد في الجاهلية على النعمان بن المنذر، فلما دخل بلاده لقيه رجل، قال: فسألني عن وجهي وما أقدمني، فأنزلني، فإذا هو صائغ، وقال: ممن أنت؟ فقلت: من أهل الحجاز … إلى أن قال في حديث طويل أخبره فيه بكيفية وصوله إليه، وكيف يعامله، إلى أن قال حسان: فوجدته كما قال لي وجعلت أخبر صاحبي بما صنع، ويقول إنه لا يزال هكذا حتى يأتيه أبو أمامة — يعني النابغة — فإذا قدم فلا حَظَّ فيه لأحد من الشعراء. قال حسان: فأقمت كذلك إلى أن دخلت عليه ليلة، فدعا بالعشاء، فأُتِي بطبيخ فأكل منه بعض جلسائه إلى أن قال حسان: فواللهِ إني لجالس عنده إذا بصوت خلف قبته، وكان يوم ترد فيه النَّعم السود، ولم يكن للعرب نعم سود إلا للنعمان، فأقبل النابغة فاستأذن فقدم وهو يقول:

أنام أم يسمع رب القبَّهْ
يا أوهب الناس لعنس صلبَهْ
ضرابة بالمشفر إلا ذبَّهْ
ذات تجافٍ في يديها حدبَهْ

قال أبو إمامة: أدخلوه، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

ولست بمستبقٍ أخًا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب

فأمر له بمائة ناقة فيها رعاؤها ومطافيلها وكلابها من السود، قال حسان: فخرجت من عنده لا أدري أكنت له أحسد على شعره، أم على ما نال من جزيل عطائه، فرجعت إلى صاحبي، فأخبرته خبره، فقال: انصرف فلا شيء لك عندي سوى ما أخذت.

وكان النابغة من أخصاء النعمان، فدخل عليه يومًا فجأة ومعه امرأته المتجرِّدة، فالتفتت إليه مذعورة، فسقط نصيفها فاستترت بيدها وذراعها، فكادت ذراعها تستر وجهها لغلظها وكثرة لحمها، فأمره النعمان أن يقول قصيدة يصفها فيها، فقال قصيدته التي يقول فيها:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد

فوصف منها مواضع لا يليق ذكرها، وكان المنخل اليشكُري من ندماء النعمان، وكان فاسقًا، وأما النابغة فكان عفيفًا نقيًّا، فغار من وصف النابغة لها، فقال: واللهِ لا يقول هذا إلا من جرب. فغضب النعمان، وأراد أن يبطش بالنابغة، وكان للنعمان بواب يقال له عصام بن بشير الذي يقول في نفسه:

نفس عصام سودت عصامَا
وصيرته ملكًا همامَا

فصار مثلًا يضرب لمن شرف بنفسه، فقال النابغة وكان صديقًا له: إن النعمان مُوقِعٌ بك. فهرب إلى ملوك غسان بالشام، فكان يمدحهم، ثم إن النعمان اطَّلع على ما بين المتجردة امرأته والمنخل من الريبة، فقتلهما في قصة طويلة، فكتب إلى النابغة إنك لم تعتذر من سخطة إن كانت بلغتك، ولكنا تغيرنا لك عن شيء ممَّا كُنَّا لك عليه، ولقد كان في قومك ممتنع وحصن فتركته، ثم انطلقت إلى قوم، فقتلوا جدي وبيني وبينهم ما قد علمت. فقدم إليه فوجده محمولًا على سرير، وكانت العرب تحمل ملوكها على السرير إذا مرض أحدهم، فقال أبياته التي مطلعها:

ألم أقسم عليك لتخبرنِّي
أمحمول على النعش الهمام

وقيل: إن النابغة قدم في جوار رجلين من فزارة لهما منزلة عند النعمان، فرأى إحدى قيان النعمان فلقنها قصيدته التي اعتذر إليه فيها وهي:

يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأبد

فشرب النعمان، فلما سكر غنَّته إياها فطرب، وقال: هذا شعر علوي هذا شعر أبي أمامة. فرضي عنه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤