المزاج في الحب

تعب كلها الحياة.

المعري
لجَّ الهوى وتفاقمَ الخَطْبُ
فإلامَ أشقَى أيها الحبُّ
وعلامَ دائي برؤُه صَعْبُ
الحبُّ لا برءٌ ولا طبُّ
يا هند إني العاشقُ الصَّبُّ
اليومَ لا عينٌ ولا أثَرٌ
عندي ولا صفوٌ ولا كدَر
إن كنتُ والأحداثُ تبتدِر
حَذِرًا فماذا ينفَع الحذَر
إن الليالي سِلمُها حَرْب
والحبُّ أوله وآخِرُه
سُقمٌ إذا لم ينهَ آمره
وإذا نهى فالقلبُ ناصِرُه
وإذا سَها وقفتْ دوائرُه
وتشاكل الإيجابُ والسَّلْب
أما الحياةُ فكلها تعَبٌ
حالٌ نبدِّلها ونرتَقِب
ونُزيلها فتُزيلنا الحِقَب
إن الليالي شأنها عجَب
فينا وسَيل الدَّهر ينصَبُّ
وأَحَقُّنا باللَّوم ذو قلَقٍ
يشكُو بقلبٍ دائم الحُرَق
بين الظلام وحمرة الشفَق
بين النَّهار وظلمة الغَسَق
نورانِ ذا يبدُو وذا يخبُو
فعلامَ هذا الخوفُ والوجَل
والعُمر معترَكٌ ومُقتتَل
إن الشبيبةَ وهي تقتَبِل
هرمٌ يؤخِّر وقعَه أجَل
طرَفاه مما يُمسِك الربُّ

•••

قالتْ أراك مُعاهد النَّفْسِ
أن لا تجيبَ دواعيَ الأُنْس
فأجبتُها لا توقظي بؤْسِي
إن الرجاءَ مولِّد اليأْسِ
وأنا كباقي الناس لي قَلْب
لكن أميلُ إلى الجمالِ به
في الكَون يطلع وجه كوكَبِه
زُهرًا وزَهرًا في تقلُّبِه
يجلُو بمَشرقه ومغرِبِه
صَدري كما تجلُو الدجى الشُّهْب
قالتْ: ولكنَّ الحياة إذا
لم تجرِ فيه أضاع كل شذَا
ويكونُ في عين الخليِّ قذًى
ما غايةُ الإنسان وهو كذَا
لا همَّ إلَّا الأكل والشُّرْب؟
جاءَ الحديثُ بفرحةٍ وأسًى
ثوران صدرٍ يشبه الهوَسا
فرأيتُني بين الورَى تعسًا
مما ينازعني صباحَ مَسا
أهفُو وإن جُنَّ الدجى أصبُو
بقيَت تجاذِبني وتدفَعني
والحبُّ أصرَعه ويصرَعني
تبدو شقاوَتُه فتردَعُني
وأرَى سعادَته تشجِّعُني
حتى كبوتُ وكنتُ لا أكبُو
ففقدتُ راحةَ عيشتي ومضَى
عَزمي وزالَ وأحدثَ المرَضا
سهرانَ أطلبُ في السَّما غرَضًا
متشردَ الإدراك منقَبِضا
حتى رثَى لشقائيَ الصَّحْبُ

•••

يا روضةً للحُبِّ دَبَّجها
ربُّ السَّما ما كان أبهجَها
نَشَر العبيرَ بها وتوَّجَها
بالنُّور منتَسقًا وموَّجَها
بالنور يشربه النَّدى الرَّطْب
كنز العقيقَ بتربها فنَما
وافترَّ ثغرُ الورد مبتَسِما
وكسا الغصونَ زمرُّدًا فسَما
تِيهًا على أعطافها وهمَى
جفنُ الضحى فتكلَّلَ العُشْب
ودعا الطُّيورَ فآنستْ كرَما
منها وراحتْ تبدع النغَما
بسطَ المياهَ وأطلق النَّسما
فيها وفوَّح تربها شَبِما
فزكا على علَّاته التُّرْب
وهناك مما يعقِد الشجَر
متفيَّأٌ يحلُو به السمَر
أحنَى عليه جبينَه الزَّهَر
وأقام يحرُس غصنَه الخفَر
وسرَى به نفحُ الشَّذا العذْب

•••

قالتْ تعال هناك نأتَنِس
إذ يهجَع السُّمَّارُ والحرَس
من نُور هذا النجم نقتَبِس
سَعدًا ومعنى العُمر مُلتَبِس
وبمثل هذا يُدفع الكَرْب
جاءتْ وجئتُ وكلُّنا ثمِل
في مُقلَتيها يبسِم الأمَل
جلسَتْ إليَّ ولحظُها غَزَل
وجلستُ ملءُ فؤاديَ الوجَل
أبكي وملءُ فؤادِها العُجْب
والدَّمعُ أَفصح ما يفُوه بِه
قلبٌ تَوقَّفَ في تهيُّبِه
عن بثِّ بعضٍ من تعتُّبِه
العَتبُ يُكثر من تلهُّبِه
لو كان ينفع في الهَوى العَتب
مدت إليَّ يدًا مكَفكِفةً
دمعي مسكِّنةً ملطِّفَة
قالتْ مؤنِّبةً معنِّفَة
ألِمثل هذا جئتُ مسعِفَة
يا ليتَه ما قادني الحُبُّ
الحبُّ! أنت! نعم به نطقَتْ
يا ليتَها في قولها صدَقَت
قولي أعيدي لفظةً سُرِقَت
من مُقلتيكِ حروفُها اخترَقَت
قلبي فصَار يرفرفُ القلْب
مالي ومالكِ يا ابنةَ الفجْر
غُضِّي عيونَك وارحمي صدْرِي
إن العيونَ نوافثُ السِّحر
أصبحتُ كالثاوي على الجَمرِ
وغدوتُ يجهل مَضجعي الجَنْبُ
يا بنتَ آمالي وأحلامي
ومقرَّ أفراحِي وآلامي
ضاعَت بغير الحب أيَّامي
فالقلبُ مكلومُ الحشا دامِي
والعين قرَّح جفنها السَّكبُ
هذي مُنى نفسي عليكِ جرَت
من مُقلتي وحُشاشتي استعَرَت
يا أختَ روحي أختُك انفطَرَت
جزعًا فهلَّا أُختُها نظَرَت
في خَطبها فتيسَّر الخَطْبُ
مدَّت إليَّ يمينَ مستلِمٍ
وبوَجنَتيها لاعِجُ الضَّرَم
فدنوتُ محترقَ الفؤاد ظَمِي
ولثَمتُها لهفًا فمًا لفَمِ
فشعرتُ أني ضاقَ بي الرَّحْبُ
وشعرتُ أني قد رُفِعتُ إلى
أُفقٍ نواسِمه سرَتْ أمَلا
طارتْ معالم أنسِه جَزَلًا
وبروضِه عَرشُ الغرامِ عَلا
ولديه من زهرِ المنى سرْبُ
وَقَفَ الهلالُ يرى ويضطَرِبُ
حسَدًا وقلبُ الشُّهب يلتَهِبُ
والماءُ كلُّ أنينه طرَب
والزَّهرُ ملءُ عيونِه عجَب
والليل منه رقَّتِ الحجْب
حتى إذا عادَت إلى الرُّشُد
قالت كفَاك الآن فاتَّئِد
ولعلني آتيكَ بعد غَد
فأَجبْتُها ما حيلة الولَد
إمَّا هم فُطموا ولا ذَنْب
ذهبتْ وسِترُ الليل ما رُفِعا
والنجمُ أَشفقَ وجهُه جزَعا
وبقيتُ وحدي طائرًا فزِعا
أهذي كربِّ أريكةٍ خُلِعا
عنها وضيَّع عزَّه الربُّ
يا ليلُ كيفَ ظلامُك انصرَما
يا صبح كيف طلعتَ مُبتسِما
يا شمسُ كيف جهلتِ ما عُلِما
ذاك النسيمُ وروضه وَهِما
خَفَتا وطار العقلُ واللُّبُّ
وبقيتُ أرقُبُ عودَها وأنَا
قلقٌ وطالَ فضاعَف الشَّجَنا
يا هندُ صرتُ أسائل الزمَنا
هل كان يومًا أن يعودَ لَنا
فيعيد فيك حياتيَ القُرْب
اللهَ مما يُحدِث القدَرُ
العاشقون صفاؤُهم كدَر
إِن تبتسمْ في أفقها الدُّرَر
فشَماتةً والشَّمسُ والقمَر
لها استقلَّ الشرق والغَربُ
وعلمتُ هندًا سافرَت ومضَت
عني وراحتْ بعدَ أَن قبَضَت
رُوحي فهلَّا فكرةٌ عرضَت
منها ولكنْ لا فقَد نقضَت
ودِّي لأَن غرامَها لِعْب

•••

واليومَ دار العامُ دورَتَه
والحبُّ ما أخمدْت ثورَتَه
متذكرًا ليلي ونعمتَه
في هند وهي تطيل لذَّتَه
فكأَنه وكأَنها كِذب
هذي التي تركَت لي النَّدَما
حتى نَضَبتُ حشاشةً ودَما
إن قمتُ أدفعُ عني السَّقَما
ألفيتُ مِلءَ جوانحِي ضَرَما
يذكُو وحَدُّ عزيمتي ينبُو
عمرٌ يمرُّ وكلُّه نَكَد
يا دهرُ ماذا أنتَ والأَبَد
وأقول أسلُوها غدًا وغَدٌ
يمضِي وبعد غدٍ ولا أجِد
إلَّا الشقاءَ وأَنني صَبُّ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤