سليم وسلمى

إِلى نادِرَةِ العَصرِ
وعلَم النَّظمِ والنَّثر
مُجَدد الصِّناعَتَينِ
وَنابِغَة القُطرَين
خليل مطران

الهدية

هذه قصة قلبيـ
ـنِ قضى كلٌّ شَهيدا
وقليلٌ لهما أن
يُذكرا ذكرًا حميدا
في قصيدٍ لست بالآ
مِل أن يُدعى قَصيدا
فلذا قلدتُها اسمًا
طائرَ الصِّيت بعيدا
مُحسنًا يُرعي عليها
ضامنَ الذكر مَديدا
صغتُها في قالبٍ لو
لاه ما كان جَديدا
فغدا في ذاك عندي
مبدئَ الفضل مُعيدا
إن يُعِرها نظرةً منـ
ـهُ فقد صرتُ سعيدا

القصة

يعاتبُها فيه الفؤادُ مفنِّدا
فتُغريه حتى ينثَني متودِّدا
وتُسمِعُه من سُورة الوجد آيةً
يعود بها أدمَى وأضنَى وأوجَدا
ألَا إن ثوْراتِ الفؤاد قواتلٌ
إذا لم تُصبْ من خالص العقل مُسعدا
ولكنه فات الزمان وأُطفِئت
مناراتُه فازورَّ واشتطَّ مَبعدا
وفي كل يوم غفوةٌ وانتباهةٌ
لناحلةٍ وَجدًا وفاقدةٍ هُدى
على ذلك القَلب الذي أضمَر الأسَى
إلى ذلك الوَجه الذي حجَب المدَى

•••

أحبَّتْه ملءَ الصدر في مرَح الصِّبا
جميلَ المحيا فاترَ اللَّحظ أصيَدا
ولم تستشِر فيه النُّهى إن حكمَها
يُعيد لها وجهَ المحبَّة أسوَدا
فتًى مثلُ رَيحان الجَنان نَضارةً
يطالِعُها بدرًا ويخطِر أملَدا
وتبرُق عيناه ذكاءً كأنما
محبَّتُها مَرَّت بعينيه إثمِدا
لقد نزلتْ من قلبِه في مكانةٍ
يَنُم عليها خدُّه متورِّدا
ودلَّ على حبٍّ عظيمٍ مُثولُه
لديها حييًّا واهيًا متجلِّدا
إذا لحظتْها مُقلتَاه تنهَّدت
وإن لحَظته مقلتاها تنهَّدا
تُحب الغواني في الفتى شيمةَ الحيا
ويُعرضنَ عن مستوقِحٍ قد تمرَّدا

•••

سَليم وسلمى اسمَاهما سرُّ رامزٍ
بقلبَين في رُوح الهوَى قد توحَّدا
تعشَّقها بنتَ السراة ولم يكُن
يضارِعها عزًّا وجاهًا ومحتِدا
وليس له في العمر إلَّا شبابُهُ
وعقلٌ يراه في الأمور مسدَّدا
وسلمى فتاةً تُشبه الشمسَ طلعةً
لها وَجنة كالوَرد كلَّله النَّدَى
وعينان إنساناهما قد تَلألآ
كنَجمَي سماءٍ يبرُقان زمرُّدا
وجِيدٌ كأن الفجر شقَّ عمودَه
وحلَّاه بالنجم المضيء وقلَّدا
وشَعرٌ كعَقدِ التاج زيَّن رأسَها
فإن أسبَلَته انسابَ تبرًا مجعَّدا
وقَدٌّ كغصن الزنبق الغضُّ ناعمٌ
إذا راوحتْه الناسماتُ تأوَّدا
وتمشي كأَن الأرض ليستْ تَمَسُّها
لها قدما ظبيٍ تُقلَّان أمْيَدا
وتضحَك ضحكات الطَّهارة مثلَما
تجاوبَ طيرٌ في الأراك وغرَّدا
وتبسم عن درٍّ نظيمٍ مُطلَّةً
بوجهٍ لها يزهو لُجينًا وعَسجدا
فيعشَقها في صُبحه ومَسائه
وفي أمسِه الماضي ويعشَقها غَدا
ويعبُدها في الخُلق والخَلق ربَّةً
له وفخارٌ أَن تجلَّ وتُعبَدا
يكدُّ ليُرضيها بإعلاءِ شأنِه
إذا نال في الدنيا عَلاءً وسُؤددا
إن انحطَّ عنها في الحياة فإنَّها
أقامتْ له مِرقاةَ حبٍّ ليَصعَدا
وقد وعدَته أن يكونَ حليلَها
ولم تكُ ممن ليس يصدق مَوعدا

•••

لها والدٌ لم يُنضج العلمُ رأسَه
فما انفكَّ في الطبع القديم مقيَّدا
يرى سَطوة الآباء حقًّا مؤيَّدًا
تُبيح على الأبناء حقًّا مؤيِّدا
ولا يفهَم الدُّنيا الحديثة إذ يَرى
تمديُنَ أهل العصر للخَلق مُفسِدا
وهل يُبصر النورَ امرؤٌ حين تنجِلي
أشعَّته إن كان أحسَر أرمَدا
يرى وهَجًا في طيه كُدرةٌ بدَت
ويجهَل أنْ هذا بعينَيه قد بَدا
ولا شكَّ في نقص الجَديد وإنما
يفُوق كمالًا للقَديم غدا سُدى
وإن أبا سلمى كثيرٌ مثالُه
يَضيقون حَصرًا في الورى وتعدُّدا

•••

وجاءَت أَباها مرَّةً وشكَت له
غرامَ سليمٍ وهو إن طَال أَقصَدا١
وقالت له ما ضرَّ لو زوِّجتْ به
وما كان إلَّا كاملَ الخلق أيِّدا
فإن يكُ عنهم قد تداني مقامُه
فمنْ يتزوج سيِّدًا كانَ سيِّدا
ولكن أبوها كان صلبًا طباعُه
وكان عليها قاسيَ القلب أصلَدا
فقام إليها مجفلًا متباعدًا
وظنَّ الذي قالتْه سلمى له دَدَا
وكذَّب فيها سمعَه وعيانَهُ
وراجعَها فيما تقول مؤكِّدا
فما زاده إلَّا اقتناعًا حديثُها
فهاج غَضوبًا شاتمًا متهدِّدا
وأوسعَها سبًّا وخلَّى نهارَها
ظلامًا بما أرغَى عليها وأزبَدا
أتعشق بنتُ الشؤْم ثم تجيئُه
ليسعفَها فيمن تحب ويُنجِدا
ولا تستحِي فيما تقول ومَن له
مكانُ سليمٍ إن يزوجها الردَى
كذاك ضعيفُ الشأن خاملُ سمعَة
تسَربَل أثواب المهانة وارتدَى
أَيجرُؤ أن يهوى فتاةً كبِنته
ويخطب قلبًا منه أسمَى وأبعَدا
ألا لا وبئس العمر أن تقدمَ ابنةٌ
على أمرِها كيما تضِلَّ وتفقدا
وأَقسم أَن لا تبرح البيتَ ناصحًا
بأَن تستشيرَ الراشِدات لترشُدا

•••

هنيئًا لأهل الفقرِ شدَّةُ فقرِهم
فربَّ ثراءٍ كان فقرًا مشدَّدا
وإن الغنى حرِّية القلبِ في الورَى
وما زاد عنها فالحِكاية والصَّدا
وراحةُ فكر المرءِ أكبر نعمةٍ
بها كان عيشُ المرء أخضرَ أرغَدا
وما ضرَّ تزويجُ الوضيع بغادةٍ
أجلَّ مقامًا منه إن كان أغيَدا
على أنَّها الأحسابُ أكثر ما تُرى
لتُذعر أَن يدنَى إليها وتنقدا
تريكَ الذي لا يملِك المرءُ وجهه
لديه وأنكَى لو تريك وأنكَدا
يقلِّد بعضُ الناس بعضَهمُ وهل
يعيشُ الذي يقضِي الحياة مقلِّدا
وأكثر ما يأتيه عاداتُ سابقٍ
له وهْو آتٍ بعده قد تعوَّدا
ألا إنها العادات سِلعةُ خاسر
ولن يترقَّى القومُ إلا تجدُّدا
ولن يلدَ العقلُ الكبير كَبيرة
إذا لم يجُل في حَومة العمر مجهَدا
فتنسَخ عاداتٌ وتنشأ غيرُها
فإن راجَ بعضٌ أصبح البعض مُكسدا
وقيمةُ هذا العمرِ يومٌ وليلة
وما السَّعد إلَّا في الذي لاح مُسعِدا
وما النورُ إلَّا ما ترى العينَ صافيًا
وما الليل إلَّا ما ترى العين أربَدا
ولم يخشَ بعضُ الناس إشقاءَ بعضهم
لوهمٍ قديمٍ في النفوس توطَّدا

•••

نعم زوجوها جاهلًا غيرَ أنه
له ثروةٌ طابتْ كما طاب مولِدا
أخا بدواتٍ في الحياة مرافقًا
ثلاثًا مِلاحًا في الفواجر خُرَّدا
فيصرِف في الحانات معظمَ وقته
على مِنضدات اللِّعب جنحًا ومُغتدَى
ويغرَم بين الكاس والطَّاس صحَّةً
ويغرم مالًا في القِمار مبدِّدا
فإن أخلصتْ سلمى له النصحَ ردَّها
ثقيلًا عليها ناهيًا متمرِّدا
يقصُّ سفاهاتِ الأزقَّة كلَّها
ويروي فظاعاتِ المقاصف مُنشِدا
ويُغلِظ في عرضِ الحديث فإن شكَتْ
فأهون أمرٍ زجرُها متوعِّدا
وإن رغِبت أمرًا لها رام ضدَّه
حَرونًا وغالى في النِّكاية واعتدَى
ويضجر أَن يأوي إلى البيت ساعةً
فيخرُج غضبانًا ويأتي مُعَربِدا
فلاقتْ عذابًا هوَّن الموتَ بعضُه
بما وردَت من شِرعة الذلِّ مَوردا
وساعةُ تعذيبٍ تساوي ثراءَها
وتُنسي جميعَ الجاه والعزِّ والجدَى
وتكتُم سلمى بؤسَها وغرامَها
بمن أبعدوا عنها أسيرًا مصفَّدا
هوًى في شَغاف القلبِ عاصٍ كأَنه
إذا لجَّت الذكرى لهيبٌ توقَّدا٢
كما رُميت دونَ الورود غَزالةٌ
وقد أفلتتْ لم تُظفِر المتصيِّدا
وفازت بقتَّالين سهمٍ وغلةٍ
يمضَّانها حتى تموت فيهمَدا
كذلك سلمى إذ تفاقمَ خطبُها
عليها وشهَّى أن تموتَ وتُلحدا

•••

وأين سليم؟ … إنه بعد قطعِه
أسيفًا مضَى لا يُعرف اليومَ والغدا
مضى حاملًا في القلب جرحَ غرامِه
لدُنْ سال واستَشرى به وتفصَّدا
على أنه جرحٌ دخيلٌ ومن له
بأن يأسُوَ الجرح الدَّخيل ويضمدا
ألا أبلغوها في القطيعة أنه
أصاب عذابًا مُفنيًا وتكبدا
وما مات إلَّا أنه كلَّ ساعة
يموت بها يأسًا ويحيَى تجلُّدا
ويطوِي على العلَّات ضيِّقَ صدره
ليسلو الهوى في الشُّغل كدحًا ومكتدَى٣
وهيهات سُلوانٌ لولهانَ عاشقٍ
أخي حُرَقٍ في الحب لن يتبرَّدا
إذا عاشَ بعد اليأس منها فإنه
لِسِرٍّ أقام الكائنات وأقعَدا

•••

أتعرف سلمى الصاحباتُ فإنها
ضجيعةُ مهدٍ للشقاءِ تمهَّدا
تخرَّم داءُ القلب خافقَ قلبِها
فأوسعَه يأسًا وسُقمًا وأجهَدا
تعدُّ الليالي الباقياتِ تفجعًا
وتبكي الليالي الماضياتِ توجُّدا
وترثي شبابًا كان نورًا وقد خبَا
وتندُب قلبًا كان جمرًا فأُخمِدا
وتحسِب ما قد مرَّ من عهد حبِّها
وترجِع بالذكرى إليه تفقُّدا
إلَّا أنها صانت عواطفَها كما
تُصان الغِراسُ النامياتُ تعهُّدا
وكم أقلقتْ ذكرى سليمٍ فؤادَها
فأحيتْ له الليلَ الطويل تسهُّدا
إن اضطجعت من دائها مستريحةً
رأتْ شبحًا بالقُرب منها توسَّدا
وإن نهضتْ تمشي تمثَّل شخصُهُ
لدى ناظرَيها واقفًا متجسِّدا
فتبصره طورًا شقيًّا مخيَّبًا
وطورًا قريرَ العين جذلانَ مسعدا
فتزعجها أشباحُه وهي حوَّمٌ
تروحُ وتغدو في الأماكن رُوَّدا
ويصرَعها الداءُ الدفين وإنه
أحارَ أُساةً في العلاج وعُوَّدا
إلى أن تمادَى عاديًا متثاقلًا
وحلَّ قواها الفانيات وأهمَدا
فماتتْ وغصَّاتُ الأسى في فؤادها
ومُقلتها في الأفقِ ترقُب فرقَدا

•••

نعَوها إليه فاستقرَّ ملجلجًا
كما هزَّت الأنواءُ صَرحًا مشيَّدا
ولم يبكِ لكن أجمدَ اليأسُ دمعه
وشَرُّ دموع العين ما قد تجمَّدا
فضجَّ عليه قلبه متقطِّعا
ولجَّ عليه عقلُه متشرِّدا
وثارتْ عليه الروحُ تطلبُ ثأرَها
كما هزَّ قرمٌ في الجِلاد مهنَّدا
فبات بحُمًّى صدَّع الرأسَ جمرُها
كما أبرق الغيمُ الجَهام وأرعَدا
ووافى أباها غاديًا وهو حاملٌ
حديدًا طليقَ الشفرتين محدَّدا
وقال له: يا مذبِلًا زَهَر الصِّبا
ويا جاعلًا ماءَ الشبيبة أركَدا
أعدْ ليَ سلمى أينَ سلمى؟ ألم تكن
تُفَدَّى بأرواح لكنتُ لها الفِدى
وطار شرارُ الموت في لحَظاته
فأمسكه من راهِشَيه مشدِّدا٤
وأشفقَ مذعور النُّهى متراجِعًا
مَهولًا كما لَو حَيَّةٌ لسَعتْ يدا
ألا إنه نذلُ الفؤاد جبانُه
بإيذاءِ شيخٍ أحدبِ الظهر أدرَدا
أيقتل هِمًّا قد تداعَى عمودُه
ويُغضب سلمى في التراب تعمُّدا٥
ويردِي بها من كان أصلَ حياتِها
ومن كان لو تُودَى بمُهجَته ودَى٦
أتاها الأذى منه ولم يكُ قاصدًا
ولا ثأرَ ممن لم يكُن مُتقصِّدا
نعَم لا ولكنْ ثورةُ الحِقد لم تمُتْ
وحسبُ سليم أن يثورَ ويحقِدا
لقد أعجمَ الهولُ الفظيع لسانَه
مغيرًا بباقي عقلِه متنجِّدا
فلزَّ إلى أضلاعه النَّصلُ خارقًا
وغيَّب في العظم الحديدَ وأغمَدا
ومال صريعًا كالمنارة إذ هوَتْ
وكالجِذع مَلقيًّا طريحًا ممدَّدا
… … … …
… … … …

•••

ألا استقْبِليه صادقَ العهد وافيًا
أمينًا بلا وعدٍ أتاك ولا نِدا
وناما بأمنِ اللهِ في ظل جنَّة
أُقيمتْ لأرواح المحبِّين سرمَدا
وقرَّا بها عينًا وطِيبا سريرةٍ
وعِيشا بها عيشَ الهناء مخلَّدا
تنبَّهتما في رحمةِ الله فاذكُرا
محبَّين ظلُّوا في المصائب رُقَّدا
أكتوبر سنة ١٩١٧

هوامش

(١) قتل.
(٢) الشَّغاف بالفتح: غِلاف القلب.
(٣) أي: عملًا وسعيًا.
(٤) الراهش: عرق في الذراع.
(٥) الهِمُّ بالكسر: الشيخ الفاني.
(٦) أي: أعطى ديةَ دمِها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤