السكران

عار عليك! أنت التي بدأت فعلمتني الخِيانة.

دي موسيه
واصل اللهوَ فالزمانُ مُؤاتِ
واطَّرح ذكرَ كلِّ ما هُو آتِ
ذاك سرُّ الغدِ الذي خبأتْه
مُبهَمات الأيَّام في المُبهَمات
واسقنِيها صفراءَ مثل شعاع الشَّمْـ
ـسِ تُحيي في النَّفسِ كلَّ مَواتِ
تبعَث السَّعد مِن مظنَّاته في الـْ
ـغيبِ حتى يصِير في المُمكنات
وهْي توحِي إلى الجنان ليزدا
د اتِّساعًا في فَهم معنى الحيَاة
صففت في الكئوس فاختطفت ألْـ
ـحَـاظنا بالأشعَّة الخاطِفات
وتبدَّت كُئوسُها كنجومٍ
في سماءِ الخِوان مُنتَثرات
هاتِها تنجَلي عَروسًا فإني
كلِفٌ بالأعرَاس والجلَوات
نحن في روضةٍ وهذا رَبيعٌ
حافلٌ بالعبير والنسَمات
فانظرِ الأرضَ والسماءَ فكَم بَيـْ
ـنَهما للنُّهى من الآيات
رقَّ وجهُ السماء حتى اجتلينا
معجزاتِ السَّماءِ في مرآة
وبدا الأفْقُ مائجًا بضِياءٍ
أرسلتْه لواحظُ الآلِهات
خطَرت شمسُه تجرُّ ذيول النُّو
رِ فيه كخَطرة الملِكات
وقفَتْ ساعةُ الأصيل تحيِّيـ
ـنا بنَثر الشَّقيق والوردات
فهْي لليوم كالرَّبيعِ من العا
مِ يكونان أطيبَ الأوقاتِ
انظُر الروضَ كلُّ غصنٍ لدَيه
زهرةٌ كالفَتى بقُرب الفَتاة
قد سقى النورُ كلَّ زهرٍ هَناءً
إنما النُّور خمرةُ الزهَرات
فلذا مال كلُّ غصنٍ هُيامًا
لاعبًا في النواسِم اللاعباتِ

•••

اسقنيها مثل الضياءَ لأجلُو
عن فؤادي الهُموم كالظُّلُمات
إنني ضاحكٌ وقلبيَ باكٍ
ودمُوعي قد مازجتْ ضَحِكاتي
إن وقتَ الأصيل يبعث بالذِّكـْ
ـرَى شُجونًا ثقيلةَ الوَطِئات

•••

لبسَتْ هذه الرياضُ ثيابًا
جُدُدًا في ألوانِها زاهِيات
جدَّدتِ زِيَّها وفي كلِّ فَصلٍ
جِدَّةٌ في الأَزياءِ للغَانيات
إنما هذه الطَّبيعةُ أُنثى
قد حوتْ في الغرام كل السِّمَات
تتحلَّى بكل وَشيٍ من النبـْ
ـتِ كوَشْي الزخارِف المُتقَنات
تتهادَى في كلِّ ثوبٍ مِن الحُسْـ
ـنِ فريدٍ في هذه الأَشتَاتِ
كل جزءٍ بشَكلهِ صار كلًّا
كامِلًا في المحاسنِ الكامِلات
كل معنًى فيه بهيجٌ كأحْـلا
مِ الليالي البواسم السَّافرات
تَبذُل الماءَ لارتشافٍ كما يُبـْ
ذَلُ ثغرُ المِلاح للرَّشَفات
ضَرَّجَ الحسنُ خدَّها فدَعانا
لشميمِ التُّفَّاح في الوجَنات
ضمَّها النورُ في فراشٍ من العُشـْ
ـبِ لذيذِ العِناق والقبُلات
فأثارتْ كوامنَ الوَجد في النَّفـْ
ـسِ وهاجتْ مطارحَ اللَّذَّات

•••

اسقِنيها وغنِّني فحُمَيَّا الـْ
ـكَأسِ تتميمُ موقعِ النغَمات
غَنِّني الشِّعرَ واسقِني الخمرَ واعذُر
نزَعات الجُنونِ في نزَعاتي
إنَّ في الشِّعر رنةً تبِعَتْها
راحةٌ تنتهي إلى القافِيَات
إنَّ في الخمر سورةً تُخمد اليأْ
سَ وتُنسِي المصائبَ الصَّائبات
ربَّ يأسٍ ألمَّ بي لأمُورٍ
ضاقَ صدرِي بها وطالَتْ شكَاتي
من شقاءٍ وعَثرةٍ وغرامٍ
وسَقامٍ وغُربة وشَتاتِ
داوِنِي بالنسيان والخَمر والشِّعْـ
ـرِ وسكِّن جوانحِي الثائراتِ
فالأمانِي صرعَى مشيتُ عَليها
فكأني مَشيتُ فوق رُفات
ليتني قد فقدتُ حسِّي فما تُو
جِعُني كلُّ هذه الموجِعات
ليتَني قد وجَدت عقلِي فما أرْ
تاعُ مِن كلِّ هذه الحادِثات
ليتني ليتني بعيدٌ عن النـَّ
ـاسِ أنيسُ الوحوش في الفلَوات

•••

هاتِها إنها ابنةُ النُّور باللَّو
نِ وأمُّ الظَّلام بالفَعَلات
بهجةُ العَين حُرقةُ القلبِ فيها
كلُّ ما شئتَ من منًى وأذَاة
هيَ روحٌ بنفسِه مستقلٌّ
عن قُيود الأجسامِ قامَ بذَات
وهبَتْها ملائكُ الله للنَّا
سِ فكانَت منهم أجلَّ الهِبات
فهْي تروي عن السَّماء حَديثًا
كحديثِ العُيون بالنظَرات
تتلقَّاه كلُّ نفسٍ بما يَطْـ
ـبَع فيها الزَّمانُ من حَالات

•••

فُضِحَ السرُّ يا نَديميَ فامْلأ
كأسَ خمرٍ وسَمِّ هندًا وهَات
واسقنِيها على اسمِ هندَ كما يُبـ
ـدأُ باسمِ الإله في الصَّلَوات
زحفَ الليلُ بالغُروب على الكَو
نِ كزَحف الجيوشِ بالرَّايات
ليتَ هندًا هُنا إذًا لرأيتَ الشَّـ
ـمْـسِ في الليل في أتمِّ صِفات
آه يا هند أنتِ معنَى وُجودي
ولعينيكِ قد كَرِهتُ حياتي
قاطعِيني كما تُريدينَ إنِّي
بكَ صَبٌّ حُشِرتُ بين الغُواة
وتناسَيْ حُبي ولا تذكُريني
وتمنِّي على الزَّمان مَماتي
فأنا حافظٌ عهودَ فؤادِي
ومطيلٌ على الشَّقاءِ أنَاتي
كلُّ حبٍ يزولُ في يومِه إن
لم يكُ ابْنَ العواطفِ الخَالِدات
ابحَثي في دمِي فحبُّكِ فيه
راسخٌ كالقَواعد الرَّاسِخات
ثابتٌ كالجِبال في الأرض لا يقـْ
ـوَى عليها الزَّمانُ بالعاصِفات

•••

كل يوم حوادثٌ تفعِم الصَّدْ
رَ وقولٌ يدُور بين الوُشَاة
ودعاةٌ إلى التَّنابُذ والبَغـْ
ـضاءِ والكَيد قامَ بين السُّعاة
كل ذَنبي يا هندُ كثرةُ عِشقي
لكَ والعاشِقون غيرُ الجُناة
عشراتُ السِّنين مرَّت على حُبِّ
ـي فواهًا لهُن من عشَرات
لم أخنْ مرةً ولم أُلفَ يَومًا
غافلَ القَلبِ فاترَ العزَمات
بل جعلتُ الغرامَ حليةَ نفسي
مثلَ قطرِ الصَّباح فوق النَّبَات
مُنزلًا ذلك الغَرامَ من النَّفـْ
ـسِ نزولَ الأنوار في الحدَقات
نابِذًا في الحياة ما ليسَ حبًّا
واسعَ الصَّدر صادِقَ النيَّات
مُعطيًا ما ملكتُ قولًا وفعلًا
وفؤادي في أوَّل الأَعطِيات١
ناسيًا أنَّ لي شبابًا أضحِّي
فيه حُبَّ الهوى بغَير تقاة٢
لم أعوِّد فَمي فيلفِظ غيرَ اسـْ
ـمكِ حتى اشتهرتُ بين اللِّدَات
مُغفلًا كلَّ من يحدِّثني عَن
غَير حبي أُعدُّه من عِداتي
جاعلًا ذلك الغَرام أَمام
الله والنَّاس واضِحًا كالأضاة٣
عاقلًا لم يُضَرْ بحمق وطيشٍ
طاهرًا لم يشُب بأَدنى الهنَات
كلُّ هذا نسِيته وتباعَدْ
تِ فماذا جرَى من الآفاتِ
وَدِّعيني على الأقل وأَبقي
ليَ هذا العَزاءَ في خَلَواتي
إن أَشاع الرُّواةُ عني كَلامًا
كذِّبي كذِّبي كلامَ الرُّواة
كلماتُ البُهتان تَبدو جَليًّا
إن كلَّ الجحيم في كلِمات
راجعيني بلفظةٍ وأَعِيري
كلَّ ماضيَّ فيك بعضَ التِفات
لم أكن آفِنَ المدارك حتى
تَنبُذيني يا هندُ نبذ النَّواة٤

•••

أنا سكرانُ فاعذروا هذَياني
ودعُوني ألجُّ في سكَراتي
أنا في روعةٍ فهاتوا أمانًا
أنا أبكِي فكَفكِفوا عَبراتي
إنَّ ما بين أضلُعي جمراتٌ
أَطفئوا نارَ هذه الجَمَرات

•••

إيهِ رُدِّي إليَّ عُمري فهَذِي
شمسُ عُمري قد آذنَتْ بفَوات
وأعيري إن لم تردِّي ولو بعـْ
ـضَ ثوانٍ أقضِي بها حاجَاتي
يا ظلامَ العُصور أين شَبابي
أين عَزمي وصحَّتي وثَباتي
أي ذنبٍ جنيتُ حتى دهاني
قَدَرٌ قد جرَى على مِيقات
ليس عهدي أنِّي جنيتُ ذُنوبًا
إن عَهدي توافُر الحسَنات
سلبَتْني الأحداثُ حالي ومَالي
وأَطالتْ على الهوَى حسَراتي
أينَ هندٌ وهل أرادَت لي الأوْ
جاعَ هندٌ وهل أنا في سُبات
أي شَيءٍ أرى أَمامِيَ؟ لا لا
إنما أنتَ ساكبُ الكاسَات
وقفَ الليلُ يملأُ القلبَ خوفًا
بالخيالاتِ من جميع الجِهات
يا نجومَ السَّماءِ أهلًا وسَهلًا
بالحِسان الفواتنِ الطَّاهرات
يا عيونَ الدُّجى أطلِّي على الكَو
نِ ومُدِّي لحاظَك الباهراتِ
نحن في الأرض حائرونَ فما با
لُك في ظُلمة الدُّجى حائِرات
أنا ضيَّعتُ كلَّ شيءٍ فهَل عِنـ
ـدَك علمٌ ببَعض مَفقُوداتي
أنتِ من فوق للأنام سلامٌ
نيِّرٌ في وجُوهك النيِّرات
طالعِيها وعاتِبيها فهندٌ
لك أختٌ باللَّحظ والبسَماتِ

•••

أَسكِروني ما شاءَ يأسِي وحبي
أوَلستم بين الأنامِ ثِقاتي
واكتُموا ما أذعتُه بلِسَان الـ
ـخَمر عنها وفرِّجوا أَزَمَاتي

•••

إيهِ يا هندُ والزَّمانُ طويلٌ
بيننا والأيامُ خيرُ قُضاة
سوف يبدو لكِ الصريحُ ويبقَى
لك جُرم الخواتِل الجارِمات
اذهبي إنني سَئمتُك وامضِي
في طريقٍ قامتْ بغير هُداة
اسرَحي وامرَحي فإنيَ مشغُو
لٌ أُداوي جِراحيَ الدَّامِيات
لا تُنَهنِهْك أدمُعي إنَّها را
حَتْ من الغَيظ لا الهَوى جارِياتِ
واتركي كلَّ ما يوافِيك عني
ودعِي فهمَ هذه الزَّفَرات
لغةُ النفسِ كلُّها فسَدت عنـ
ـدي ولَلهجرُ مُفسدٌ للُّغات

•••

أبلغُوها قطيعَتي وسلامًا
طيبًا كالنَّواسم الطَّيِّبات
ولتدمْ في حمايةِ الله ولتَنـْ
ـسَ الذي خلَّفته في الشَّقَوات

•••

أَضجِعوني على الثرى وافرِشُوه
بالحصَى واذهَبوا على البرَكات
ودَعوني لكي أَنامَ ويا لله
ممَّا تُعيد لي يقَظاتي
… … …
… … …
أبريل سنة ١٩١٩

هوامش

(١) تصغير عَطاء عُطي، وجمعها أَعطِيَتُه، وجمعُ الجمع أَعطِيات.
(٢) أي: إيثارًا للحب بلا مُبالاة.
(٣) المرآة.
(٤) أفن الرجل: ضعُف رأيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤