المنسوجات

ذاعت شهرة المنسوجات الإيرانية منذ عصر هيرودوت، وكان أهل روما يدفعون فيها الأثمان الباهظة، ثم أقبل أهل بيزنطة على تقليدها، وبلغت صناعة النسج أوج عزها في العصر الساساني. وقد وصلت إلينا بعض قطع من المنسوجات الحريرية الساسانية. والزخارف مكونة في أكثر هذه القطع من مجموعات دوائر أو أشكال هندسية أخرى فيها رسوم حيوانات أو طيور أو فرسان في الصيد، متقابلة أو متدابرة، في ترتيب هندسي جميل. كما أن بين الحيوانات المتقابلة رسمًا تخطيطيًّا محوَّرًا عن الطبيعة ويمثل شجرة.١ والمعروف أن الصينيين كانوا يُعجبون بهذه المنسوجات الحريرية الساسانية، وأن حكام الأقاليم الصينية الواقعة بين الصين وإيران كانوا يقدمون من هذه المنسوجات جِزْيَة إلى ملوك الصين. والحق أن الإيرانيين في ذلك العصر البعيد وُفِّقوا في ألوان منسوجاتهم جد التوفيق؛ فكان انسجام هذه الألوان وهدوءها يُبْرِزان عظمة الزخارف ويُكْسِبان القطعة سحرًا وجمالًا.

(١) في فجر الإسلام

ولما انتشر الإسلام في إيران، وانقضى دور الزهد والتقشف الذي ساد العالم الإسلامي في نشأته، واختلط العرب بغيرهم من الأمم العريقة في المدنية، تقدمت الصناعات والفنون، ولقيت صناعة النسج تشجيعًا خاصًّا في الأقاليم الإسلامية المختلفة لِمَا سَنَّه الخلفاء والأمراء في مكافأة رجالات الدولة بالْخِلَع الثمينة من نفيس المنسوجات الحريرية.

وأفادت إيران بطبيعة الحال من توحيد جزء كبير من الشرق الأدنى تحت سلطان المسلمين، وما نتج عن ذلك من نشاط التجارة في إيران واتساع صادراتها من المنسوجات الحريرية إلى سائر الأقطار الإسلامية. وأكبر الظن أن الطبقة الأرستقراطية في عصر بني أمية وبني العباس كانت تُقْبِلُ كثيرًا على شراء المنسوجات النفيسة المصنوعة في إيران.٢

ومما يَشْهد بازدهار صناعة النسج بإيران في فجر الإسلام أن بعض المدن الإيرانية كانت تدفع الجزية عددًا من منسوجاتها النفيسة، وترسله إلى بلاط الخليفة.

وقد كتب الجغرافيون والمؤرخون المسلمون في العصور الوسطى عن المدن الإيرانية وما كانت تنتجه من التحف ولا سيما المنسوجات، فإن ابن خرداذبة في كتاب «المسالك والممالك»، واليعقوبي في كتاب «البلدان»، وابن الفقيه في كتاب «البلدان»، وابن رسته في كتاب «الأعلاق النفيسة»، والمسعودي في كتاب «مروج الذهب»، والإصطخري في كتاب «مسالك الممالك»، وابن حوقل في كتاب «المسالك والممالك»، والمقدسي في كتاب «أحسن التقاسيم»، ثم ياقوت في «معجم البلدان»، هؤلاء كلهم وغيرهم من المؤلفين أطنبوا في الحديث عن ازدهار صناعة النسج في كثير من الأقاليم الإيرانية، ولا سيما تُسْتَر. وقد ذكر الإصطخري أنها كانت مركزًا عظيمًا لإنتاج الديباج الذي كان يُصَدَّر إلى شتى بقاع الدنيا،٣ وكانت تصنع منه كسوة الكعبة، ثم أصبهان والري ونيسابور وقزوين ويزد وبصنا وقاشان وآمل ومرو وكازرون وشيراز، وقد كانت كلها تنتج من المنسوجات الحريرية والقطنية والصوفية ما ذاع صيته في العصور الوسطى.٤

وقد ذكر المسعودي وياقوت أن شابور ذا الأكتاف (شابور الثاني ٣١٠–٣٧٩م)، كان قد غزا بلاد الجزيرة وآمد (ديار بكر)، وغير ذلك من المدن التي كانت تابعة للروم في ذلك الوقت، ونقل كثيرين من أهلها النساجين إلى إقليم خوزستان في إيران؛ فتناسلوا وازدهرت صناعة النسج في هذا الإقليم منذ ذلك التاريخ.

ومما يؤسف له أن كتابات المؤرخين في هذا الشأن ليست لها كل الفائدة المنتظرة؛ لأننا لا نستطيع بفضلها أن نصل إلى تحديد أنواع المنسوجات التي كانت تُصنع بإيران في فجر الإسلام، ولا المراكز المختلفة التي كانت تُنسج فيها.

ومهما يكن من الأمر فإننا لا نكاد نعرف اليوم نماذج تستحق الذكر من منتجات إيران في صناعة النسج في فجر الإسلام،٥ ولكننا إذا ذكرنا ما نعرفه من حالة سائر الفنون الإيرانية في ذلك العصر، وأنها ظلت مدة طويلة لا تعرف من التجديد ما يُخرجها تمامًا من دائرة الأساليب الفنية الساسانية، نقول: إذا ذكرنا ذلك عرفنا أن صناعة النسج في إيران ظلت في القرون الأولى بعد الإسلام متأثرة بالطراز الساساني في استخدام الزخرفة بالنقط والأشرطة ووريقات الشجر والخطوط المتشابكة والمتقاطعة، وفي استخدام الدوائر المتماسة أو المتداخلة، والمناطق أو الجامات المختلفة الشكل، تضم كل منها بعض مناظر الصيد أو رسوم الحيوانات أو الطيور، الخرافي منها والطبيعي. ولا غَرْوَ فقد كان للمنسوجات الساسانية صِيت واسع في الشرق الأدنى منذ العصر الجاهلي، فضلًا عن أن النساجين في كل البلاد والعصور ميالون بطبيعتهم إلى المحافظة على أساليبهم الصناعية والفنية إلى حد كبير، ولم يَلْقَ النساجون الإيرانيون في فجر الإسلام أدنى صعوبة في هذا السبيل؛ لأن العرب الفاتحين لم تكن لديهم خبرة بفن النسج وأساليبه.

على أن القوم بدءوا يهجرون هذه الزخارف منذ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، ولم يكن هذا عسيرًا عليهم؛ فقد كانوا — حتى قبل ذلك الحين — يعرفون في منسوجاتهم بعض الزخارف الأخرى ولا سيما الزهور والنبات.

وقد مر بنا أن الصور في المخطوطات السلجوقية أو المنسوبة إلى مدرسة العراق تمتاز بالملابس المزركشة التي يلبسها الأشخاص. والحق أن زخارف تلك الملابس مثال طيب للجمع بين الأساليب الزخرفية الساسانية والأساليب التي جدَّت في القرون الأولى بعد الهجرة.

ومن المنسوجات التي تُنسب إلى إيران بين القرنين الثاني والرابع بعد الهجرة (الثامن والعاشر بعد الميلاد) ضرب من الحرير عليه رسوم حيوانات بخطوط منكسرة وزوايا ظاهرة. وقد كان العالم الإنجليزي السير أوريل شتاين Aurel Stein قد عثر في حفائره ببلاد التركستان الصينية على أقمشة تشبه هذا النوع الذي يُنسب إلى إيران، وفي اعتقاده أنها من صناعة بلاد التركستان الغربية، ولا سيما سمرقند وبُخارَى.
ومن المنسوجات الإيرانية التي نعرفها الآن قطعة منسوجة من الحرير والقطن كانت في كنيسة سان جوس Saint-Josse، وهي قرية واقعة على مقربة من مدينة كاليه بفرنسا، وهذه التحفة الثمينة معروضة الآن في متحف اللوفر بباريس، وعليها كتابة نصها: «عز وإقبال للقائد أبي منصور بختكين أطال الله ﺑﻘ[ﺎءه]»،٦ ولعله القائد الذي عاش في بلاط عبد الملك بن نوح أمير خراسان وما وراء النهر، وقد حُبِسَ وقُتل على يد هذا الأمير في سنة ٣٤٩ﻫ/٩٦٠ ميلادية.٧
وقوام الزخارف في هذه القطعة رسوم فِيَلة كبيرة متواجهة يحف بها شريطان فيهما رسوم طاووس وإبل؛ مما يدل على ما حدث في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) من غلبة الأساليب الإسلامية في زخرفة المنسوجات بأشرطة من رسوم الحيوانات أو بزخارف خطية ونباتية (انظر شكل ١٠٧).

على أن الأقمشة الإيرانية التي ترجع إلى القرون الأربعة الأولى بعد الفتح العربي ليس لها شأن عظيم من الناحية الفنية، على الرغم من دقة صناعتها وجمال ألوانها، وعلى الرغم من الإقبال الذي كانت تَلْقاه الرايات والأعلام الجميلة ذات الكتابات الكوفية، مما كانت تنتجه حينئذ مصانع النسج في إيران.

(٢) في عصر السلاجقة

والحق أن عصر السلاجقة هو الذي بدأت فيه النهضة الشاملة والتقدم الواضح في صناعة النسج؛ وذلك بتأثير تيارين مختلفين: الأول ما أفاده الإيرانيون على يد السلاجقة من الأساليب الصينية التي تتجلى في دقة رسم النبات والطير والحيوان، والثاني ما ازدهر في بلاد الجزيرة من أساليب إسلامية في استخدام الفروع النباتية والأشرطة عوضًا عن الموضوعات الزخرفية الساسانية.

والأقمشة السلجوقية معروفة لنا بفضل مجموعة من النسيج الحريري، عثر عليها المنقبون في أطلال مدينة الري، وتعتبر مثالًا صادقًا للمنسوجات السلجوقية، وتمتاز بأن مظهرها العام يختلف كل الاختلاف عن مظهر المنسوجات الإيرانية في العصور السابقة، ولو أنها محتفظة ببعض العناصر الزخرفية القديمة، مع دقة في الرسم، وإتقان في النسج، ورقة وخفة في الوزن؛ فنرى على بعضها زخارف من أشكال هندسية متعددة الأضلاع، أو زخارف كتابية بالخط الكوفي أو أشرطة من الرسوم الحيوانية، أو دوائر فيها طيور وحيوانات بينها شجرة الحياة، ولكنها دوائر أصغر حجمًا تُكسب التحفة طابعًا فنيًّا، وتبعدها عن القوَّة والبداوة التي تبدو على بعض الرسوم الساسانية.

ولا ريب في أن مدينة الري كانت في العصور الوسطى مركزًا عظيم الشأن في صناعة النسج، كما كانت في صناعة الخزف؛ فقد ذكر المؤرخون والجغرافيون ذيوع صيتها في هذا الميدان، فضلًا عن أن أعمال التنقيب عن الآثار في أطلالها لم تسفر عن المنسوجات التي أشرنا إليها فحسب، بل عثر القوم على أنوال تُرَجِّح أن تلك الأقمشة كانت تُصنع في مدينة الري نفسها.

وتُنْسَبُ إلى الري قطع تمتاز بجمالها الفني وإبداع ما فيها من الرسوم الحيوانية والآدمية، فضلًا عن السطور المكتوبة بالخط الكوفي. وتشبه زخارف هذه الأقمشة ما نعرفه من الرسوم في الخزف المنسوب إلى مدينة الري، ولا سيما رسوم الحيوانات ذات الأجسام الممتدة تتقدم في شبه نشاط وخفة. ومن الزخارف التي تكثر في منسوجات الري دون غيرها رسم الطاووس.

وقد اشْتَهَرَتْ تلك المدينة بصناعة نسيج من الحرير ذي لُحْمَتَيْنِ اسمه «المنير»، ولكننا لا نظن أن نسجه كان وَقْفًا عليها دون غيرها من البلاد الإيرانية.

ومما يُنسب إلى إقليم فارس — جنوب غربي إيران — قطعة جميلة من نسيج الْكَتَّان محفوظة في مجموعة المسز وليم مور، وفيها أشرطة منسوجة من الحرير الأبيض والأسود نرى بين زخارفها مناطق فيها رسوم بط وإوز، كما نرى رسوم نجوم مثمَّنة، وفيها رسوم حِمار بين فُروع نباتية وفوق رأسه طائر.٨
وثمة قطعة نسيج أخرى تُنسب إلى الإقليم نفسه، وترجع إلى القرن الخامس أو السادس بعد الهجرة (الحادي عشر أو الثاني عشر بعد الميلاد)، وقد كانت سابقًا في مجموعة رابنو، وتنتهي هذه القطعة بشريط من أربع مناطق، العليا والسفلى واسعتان وفيهما رسوم نباتية سلجوقية الطراز، بينها إوز مرسوم بأسلوب زخرفي جميل، أما المنطقتان الواقعتان في الوسط ففيهما سطران من الكتابة الكوفية (انظر شكل ١١٥).
ومما يُنسب إلى مدينة يزد قطعة نسيج في مجموعة المسز وليم مور، وترجع هذه التحفة إلى القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) وأرضيتها زرقاء مائلة إلى السواد، وعليها شريط من الكتابة بخط كوفي رائع المظهر، وتزينه رسوم نباتية جميلة٩ (انظر شكل ١٠٩).
ويُنسب إلى قاشان ضرب من المنسوجات تكثر في زخارفه رسوم وثيقة الصلة بالرسوم والأساطير التي عرفتها إيران قبل الإسلام؛ ومثال ذلك شجرة الشمس ذات الحبوب الكثيرة والقرون النباتية التي تتفرع منها، ثم رسوم الخيل يتدلى إلى جانبها جراب السيف المقدس،١٠ كما نرى على قطعة مشهورة رسم فارسين بينهما شجرة وفي يد كل منهما باز، وتحت حصان كل منهما أسد رابض، كل هذا في مِنْطقة يحدُّها شريطان ملفوفان،١١ وعلى قطعة أخرى رسم نسر كبير ذي رأسين وجناحاه مبسوطان وبينهما رسم إنسان متوَّج، وعلى يمينه ويساره رسم أسد مجنح.

(٣) في عصر المغول

في القرنين السابع والثامن بعد الهجرة (الثالث عشر والرابع عشر بعد الميلاد) زاد تأثر المصانع الإيرانية بالأساليب الصينية في زخرفة المنسوجات؛ بسبب ازدياد الوارد من الأقمشة الصينية واتساع تجارة إيران مع الشرق، ثم بسبب غزوات المغول وقدوم كثيرين من النساجين الصينيين إلى إيران.

وقد مر بنا أن الصين في ذلك الوقت خضعت لأسرة يوان المغولية الأصل، والتي ظلت تحكمها حتى سنة ٦٦٨ﻫ/١٣٦٧ ميلادية. وكان طبيعيًّا أن يعظم التبادل الثقافي والفني بين أبناء البيت الواحد من المغول في إمبراطوريتهم بالصين وإمبراطوريتهم في إيران. والمعروف أن جاليات إسلامية نمت في الصين حينئذ، واشتغلت بنسج الحرير الذي كان يُصَدَّر إلى أنحاء الشرق الإسلامي؛ فيؤثر على الأساليب الفنية في مراكز النسج فيه، بل أتيح أيضًا أن يؤثر على أساليب الزخرفة في مصانع النسج الإيطالية. وأقبل النساجون في إيران على تقليد الموضوعات الزخرفية الصينية كالتنين والعنقاء وما إلى ذلك من الحيوانات الخرافية، ثم زهرة اللوتس،١٢ وعود الصليب (الفاوانيا)، ورسوم السحب الصينية أو «تشي» التي امتازت بها المنسوجات الصينية منذ عصر أسرة هان (٢٠٢ ق.م–٢٢٠م).
والمعروف أن بعض مراكز النسج الإيرانية، ولا سيما السوس وتُسْتَر، فقدت في عصر المغول شهرتها السابقة؛ بسبب ما أصابها من التدمير على يد جيوشهم، ولكنا لا نجهل أن بعض المراكز الأخرى، ولا سيما هراة ونيسابور، لقيت منهم تعضيدًا عظيمًا، كما أنهم حين دمروا مدينة مرو أبقَوْا على حياة عدد كبير من الفنانين فيها،١٣ ومن المدن التي ذاع صِيتها في تجارة المنسوجات في ذلك العصر مدينتا تبريز١٤ وقم.١٥

على أن عناية المغول بصناعة النسج تظهر من جمال المنسوجات المرسومة في الصور المنسوبة إلى عصرهم، والتي يلبسها الأشخاص المرسومون في الصورة، أو تُصنع منها المظلات والستائر وأغطية الأرائك، وغير ذلك من الأشياء الثانوية فيها.

ويُلاحَظ في رسوم المنسوجات المغولية انتشار الزخرفة بالأشرطة على النحو الذي أقبل عليه النساجون في شتى أنحاء العالم الإسلامي، على أن الأشرطة في الأقمشة المغولية أصبحت ضيقة وروعي في جمعها التنويع وجمال المنظر، كما مُلِئَ بعضها بخطوط هندسية مستقيمة أو منكسرة أو متقاطعة.١٦

وقد نرى في رسوم تلك المنسوجات في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) موضوعات زخرفية نباتية محوَّرة عن الطبيعة تحويرًا لا يُفقدها كل اتصال بها. وتمتاز تلك الموضوعات بأن رسوم أوراق الشجر فيها مدببة، فضلًا عن أنها لا تنمو في الساق فحسب، بل قد تنبت من الجذر أيضًا، وأحيانًا من الأرض نفسها؛ فتغطي النسيج كله وتجعله كالحديقة الغَنَّاء، وتزيد الشبه بينه وبين أرضية الصور في المخطوطات التي ترجع إلى نهاية العصر المغولي وإلى المدارس التيمورية المختلفة، ولا سيما مدرسة هراة.

ومن أهم الموضوعات الزخرفية التي انتشرت على المنسوجات في عصر المغول وعصر بني تيمور، رسوم الفروع النباتية (الأرابسك) ورسوم بلاط القاشاني.١٧
وتُنسب إلى مدينة تبريز مجموعة من الأقمشة المغولية الحريرية، عليها رسوم طيور كبيرة فوق أرضية من أطلس (ساتينيه).١٨ وعلى إحدى القطع من تلك المجموعة كتابة بالخط النسخي الكبير باسم السلطان «أبو سعيد» (٧١٧–٧٣٦ﻫ؛ أي ١٣١٧–١٣٣٥م)، وهي محفوظة الآن في إحدى متاحف فيينا، وقد كانت جزءًا من كفن رودلف الرابع دوق النمسا.١٩
وثمة مجموعة أخرى تظهر فيها شدة التأثر بالأساليب الفنية الصينية، وأشهر القطع المعروفة من هذه المجموعة محفوظة في إحدى الكنائس بمدينة دانزج Marienkirche وفي متاحف برلين.٢٠ ويُظن أنها صُنعت للسلطان المملوكي محمد بن قلاوون. وقوام زخرفتها رسم طائرين متدابرين في منطقة هندسية ذات اثني عشر ضلعًا، فضلًا عن مناطق أخرى فيها كتابة بالخط النسخي.٢١
ومن الأقمشة التي يظهر فيها التأثر العظيم بأساليب الشرق الأقصى مجموعة ذات زخارف في أشرطة، بعضها مقسم إلى مناطق متعددة. وقد جاء على إحدى هذه القطع اسم ناسجها «عبد العزيز».٢٢

وقد لاحظ الأخصائيون في صناعة النسج أن عصر المغول لم يأتِ بجديد في هذا الميدان، بل إن بعض الأنواع الدقيقة لم يتقنها النساجون في ذلك العصر، فضلًا عن أن الألوان قَلَّ بهاؤها وتنوعها، ولكن الأرجح أن هذا لا يرجع إلى عيب في الصناعة وإنما إلى مراعاة الذوق السائد في تلك الأيام. ولا ريب في أن الألوان الهادئة التي امتازت بها المنسوجات المغولية ترجع إلى تأثير الأساليب الفنية الصينية.

ومهما يكن من الأمر فإننا نرى في المنسوجات المغولية بدء الرشاقة والدقة والعظمة والترَف في الزخرفة وفي الصناعة؛ مما مهَّد لما بلغته المنسوجات في العصر الصفوي. أما الروعة والشدة والحرية في الزخرفة، وما إلى ذلك مما نعرفه في المنسوجات الساسانية والمنسوجات الإيرانية في صدر الإسلام، فلم يبقَ منها شيء كثير.

(٤) في عصر التيموريين

كانت الأقاليم الشرقية في إيران أكثر أجزاء الدولة ازدهارًا في عصر بني تيمور، وزاد ما كان لخُراسان من شأن عظيم في صناعة النسج، وأصبحت سمرقند وهراة في عصر تيمور وخلفائه مركزًا عظيمًا لنسج الأقمشة النفيسة، التي كان الأمراء وكبار رجال الدولة يلبسونها ويتخذون منها أفخر الستائر والفرش والوسادات. وقد استقدم تيمور من الصين ومن الشام نساجين كان لهم نصيب وافر في الذي بلغته صناعة النسج على يد التيموريين من ازدهار وإتقان، وفيما يظهر فيها من أساليب زخرفية صينية وسورية.

والواقع أن المنسوجات الإيرانية في عصر التيموريين تمتاز بزيادة استخدام الزخارف النباتية المتصلة على النحو الذي نعرفه في الأقمشة المصرية والعراقية في ذلك العصر، كما تمتاز أيضًا بوجود ضروب جديدة منها: هي الدِّيباج والنسيج المقصَّب بالذهب والفِضة والمزين برسوم طيور صينية الطراز، فضلًا عن المخمل «القطيفة» التي شاهدها عندَهم في ذلك العصر أحدُ الرحالة الإيطاليين.٢٣

وقد ازدهرت صناعة النسج في العصر التيموري بمدينة يزد وأصفهان وقاشان وتبريز، وكانت الأقمشة تُصَدَّر من هذه المدن إلى شتى أنحاء العالم الإسلامي.

ومع أننا لا نكاد نجد الآن شيئًا من منسوجات هذا العصر، فإننا نعرف عنها كثيرًا، ولا سيما من رسومها في صور المخطوطات، وطبيعي أن التأثر بالأساليب الصينية ظاهر فيها تمام الظهور؛ فالعلاقات الوثيقة بين إيران والشرق الأقصى لم تُصِبْ في عصر بني تيمور إلا زيادة ونموًا، وتُبودلت البعثات بين البلدين. وكان الإيرانيون يجلبون من الصين شتى التحف والهدايا ولا سيما المنسوجات والخزف. وقد مر بنا خبر البعثة الإيرانية التي سافرت إلى الصين بين عامي ٨٢٣ و٨٢٦ﻫ/١٤٢٠ و١٤٢٣م، وكان من أعضائها المصوِّر غياث الدين الذي وصف مشاهداته في تقرير ضَمَّنه بيانات وافرة عن العمارة والملابس.٢٤

وزاد وجود زهرة اللوتس في زخارف المنسوجات أثناء القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)، كما زادت الدقة في رسم الموضوعات الزخرفية عمومًا، ولا سيما البط الذي اسْتُخْدِمَ كثيرًا في زخارف ذلك العصر.

وصفوة القول أن الأقمشة في عصر بني تيمور خطت خطوة عظيمة في سبيل الوصول إلى إتقان الرسوم الزخرفية والوصول بها إلى دقة ورشاقة، وقرب إلى الطبيعة وما إلى ذلك؛ مما أبعدها عن الشدَّة والجفاء والروعة التي عرفناها في المنسوجات الساسانية والمنسوجات المنسوبة إلى فجر الإسلام.

(٥) في العصر الصفوي

إذا صح ما ذكره الرحالة الذين زاروا إيران في العصر الصفوي، فقد كان هذا العصر أعظم العصور الذهبية في صناعة النسج الإيرانية؛ إذ كان الملك والأمراء ورجال البلاط وعلية القوم كلهم يَرْفُلون في الملابس المصنوعة من الدِّيباج وغيره من الأقمشة الثمينة المحلَّاة بخيوط الذهب والفضة، ويركبون الخيل ذات السُّروج الغالية النفيسة، ويستعملون في قصورهم ورحلاتهم فرشًا وستائر وأدوات مصنوعة من أجمل ضروب النسيج على الإطلاق. والحق أنهم كانوا يُسرفون في استخدام الأقمشة البديعة إسرافًا لا حَدَّ له، وكانوا يصنعون منها كَمِّيَّات وافرة جدًّا يحمل التجار بعضَها إلى أسواق الروسيا وأوروبا؛ حيث كانت تَلْقَى إقبالًا عظيمًا.

وأتقن النساجون الإيرانيون في العصر الصفوي شتى ضروب النسج من دِيباج وكتان وأطلس وقطيفة وكتان. كما توصل الفنانون في الصباغة إلى إخراج أدق الألوان وأكثرها تنوعًا، وفي الثروة الزخرفية إلى درجة لم يعرفوها من قبل؛ فاتخذوا الزهور والفروع النباتية والمراوح النخيلية ومناظر الحدائق الغَنَّاء والطيور والغزلان ورسوم السحب الصينية، وطُبِعَت الرسوم الزخرفية في ذلك العصر بطابع رشيق جذاب ينم عن الأناقة والنضوج الفني.

وظهر في المنسوجات الإيرانية منذ نهاية القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) ميل إلى المسحة التصويرية، ظل يزداد حتى أصبح من أَبْيَنِ صفات الأقمشة الإيرانية في العصر الصفوي، وظهرت العلاقة الوثيقة بين زخارف تلك الأقمشة ورسوم المخطوطات وصورها،٢٥ فضلًا عن دقة الرسوم وتقليد الطبيعة تقليدًا صادقًا بفضل التأثر بالصينيين في هذا الميدان.

وعلى كل حال فإن نسج الحرير بلغ عصره الذهبي في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) برعاية ملوك الأسرة الصَّفَوِيَّة، وأنتجت المصانع الإيرانية في ذلك العصر أجمل أنواع الديباج والمخمل المنسوجة بخيوط حريرية مختلفة الألوان ومحلاة في بعض الأحيان بخيوط فِضية.

أما زخارفها فمن قصص الشاهنامه أو منظومات الشعراء الإيرانيين المعروفين، أو مناظر تمثل الأمراء والنبلاء في الصيد، فضلًا عن مناظر الحفلات في الحدائق والهواء الطلق. ومن الزهور التي استُخدمت كثيرًا في زخرفة المنسوجات الإيرانية في القرنين العاشر والحادي عشر بعد الهجرة (السادس عشر والسابع عشر بعد الميلاد) السوسن والزنبق والخزام والورد. أما الحيوانات والطيور فقد استخدم النساجون منها رسوم الوحوش الضارية والأرنب والغزال والببغاء، كما استخدموا رسم شجر مخروطي الشكل. وكانت كل هذه الموضوعات المختلفة ورسوم المناظر الطبيعية مضافة إلى رسم شتى المناظر من قصة خسرو وشيرين أو ليلى والمجنون. كان كل ذلك يُرَتَّب في صفوف أفقية، ويُكسب المنسوجات الصَّفَوِيَّة بهجة ونضارة تَزِيدان من قيمتها الفنية.

وطبيعي أن ملابس القوم في هذه الرسوم ولا سيما لباس الرأس تساعد على معرفة التاريخ الذي ترجع إليه، وتجعلها شديدة الشبه بالصور المنسوبة إلى المصوِّر المشهور سلطان محمد.

وكانت أعظم مراكز النسج في هذا العصر تبريز وهراة ويزد وأصفهان وقاشان ورشت ومشهد وقم وساوه وسلطانية وأردستان وشروان، وامتازت منتجاتها بنعومة السطح وبدقة النسج وباتزان الألوان وجمالها.

أما رشت فقد صُنعت فيها أقدم قطعة نعرفها من الحرير الصفوي، عليها تاريخ صناعتها. وهي غطاء قبر في الضريح بمدينة مشهد، وعليها أنها من عمل مير نظام في رشت سنة ٩٥٢ﻫ/١٥٤٥م، وزخارفها من أشرطة فيها رسوم فروع نباتية ووريدات وكتابات.

بينما اشْتَهَرَتْ تبريز ويزد بنسج الأقمشة ذات الزخارف الآدمية التي كان يقوم برسمها أعلام المصورين في العصر الصفوي ومن ينسج على منوالهم من الفنانين، وفي المتاحف والمجموعات الأثرية الخاصة قطع نسيج صفوية، بعضها شديد الشبه بأسلوب المصور سلطان محمد. وأبدع المعروف من هذا النوع قطعة في متحف فكتوريا وألبرت، عليها رسم فارس فوق أرضية من زهور وأوراق شجر،٢٦ وتشبه بعض قطع أخرى أسلوب المصور مير نقاش الذي يُظَن أنه خَلَفَ سلطان محمد في رئاسة مجمع الفنون الملكي. ومنها جانِبَا خمار من الديباج محفوظ في متحف الفنون الزخرفية بباريس، وقوام زخرفتهما رسم ساق بين فروع نباتية دقيقة،٢٧ وثمة قطع تذكرنا بأسلوب المصور محمدي، وقد جئنا برسم إحداها في لوحات هذا الكتاب (انظر شكل ١١٣)، وهي محفوظة في متحف تاولوف Thaulow في مدينة كيل Kiel، وقوام زخرفتها رسم جندي ذي خوذة يقود أسيرًا ويتحدث إلى شخص جالس، بينما يقف أمام الأسير شخص آخر، ويقوم المنظر كله فوق أرضية من نبات وأشجار ذات جذوع رفيعة ويعلو كل منها رسم طاووس، أما تحتَها فرسم بِرْكة فيها سمكات.

وقد لوحظ أن هذه الرسوم الآدمية والنباتية الأنيقة لا توجد على منسوجات فاخرة من الحرير ذي الخيوط الفضية فحَسْب، بل نرى رسومًا من فصيلتها على أقمشة تَقِلُّ في جودة النوع والصناعة؛ ويفسرون ذلك بأن مدينة تبريز أصبحت هدفًا لغارات الترك منذ سنة ٩٩٣ﻫ/١٥٨٥م؛ فَنَقَلَ الشاه مقر حكمه إلى قزوين، ولكن هذه المدينة الأخيرة لم يُقَدَّرْ لها أن تصبحَ مركزًا فنيًّا زاهرًا كما كانت تبريز من قبلها.

ولا ريب في أن تعاون المصورين والنساجين في يزد وقاشان أسفر عن صنع قطع تُعَدُّ آيةً في فن النسج والزخرفة. والظاهر أن مصانع النسج في يزد كانت تحت رعاية الحكومة وإشرافها.

وفي دار الآثار العربية بالقاهرة نماذج طيبة من هذه المنسوجات ذات الصور الآدمية.

وقد وصلت إلينا أسماء بعض النساجين الإيرانيين في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) وهم غياث وعبد الله وحسين ويحيى ومعز الدين بن غياث وإيان محمد؛ وذلك على بعض القطع المنسوبة إليهم، والمحفوظة الآن في المتاحف والمجموعات الأثرية بأوروبا وأمريكا.

أما غياث الدين علي فقد كان من أهل يزد،٢٨ نشأ في أسرة لها بالفن صلة وثيقة؛ فقد كان جده كمال الدين خطاطًا مشهورًا، وكان لغياث مَالٌ وافر ساعده على أن يصبحَ من بطانة الشاه عباس، ثم ذاع صِيته في صناعة المنسوجات المصوَّرة، وكان الشاه يرسل من منتجاته الهدايا إلى الملوك والأمراء. على أننا لا نعرف اليوم إلا ثماني قطع من صناعة هذا الفنان بينها تحفتان من الحرير وتحفتان من «القطيفة». وثمة قطع أخرى ليس عليها اسمه؛ ولكن الأرجح أنها من صناعته.٢٩ وعلى كل حال فإن رسوم غياث يظهر فيها الأسلوب الفني الذي يُنسب إلى رضا عباسي، كما نرى فيها إتقان بعض الموضوعات الزخرفية النباتية كالوريدات والأرابسك وزهرة اللوتس وأوراق العنب والمراوح النخيلية.

ولكن عبد الله لم تكن له مهارة غياث الدين أو شهرته، والقطع الأربع التي عليها اسمه لا تشهد بأنه كان فنانًا من الطراز الأول، فضلًا عن أنه لم يكن مبدِعًا، وإنما سار على الأساليب الفنية التي اتبعها النساجون في تبريز من قبله.

بينما لا نعرف عن حسين إلا ما نراه على قطعة صغيرة من الحرير في المتحف المتروبوليتان بمدينة نيويورك موجود فيها: «عمل حسين سنة ١٠٠٨».٣٠
وطبيعي أن أسلوب رضا عباسي في تصوير الأشخاص في مواقف يبدو منها الكسل والتخاذل والتخنث، كان له أثر كبير في رسوم الأقمشة الثمينة في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي).٣١

ويجدر بنا ألا ننسى ما كانت عليه زخارف المنسوجات التي نحن بصددها من اختلاف وتنوع في حجم الزخارف وفي المظهر العام وفي الألوان المستخدمة. وقد كان الإنشاء الزخرفي فيها بديعًا ومحكمًا بحيث تتدرج رسومها المختلفة، ويستطيع المشاهد أن يرى بدائع أقسامها المختلفة بحسب قرب التحفة أو بعدها عنه، فإنه يعجب بالزخارف الدقيقة إذا كانت التحفة قريبة منه، ويعجب بالمناطق التي تضم هذه الزخارف إذا بعد عن التحفة قليلًا، ويؤخذ بجمال المظهر العام إذا زاد بعده عن التحفة فغابت عنه التفاصيل. وخير مثال على هذا قطعة دِيباج مشهورة كُشِفَتْ سنة ١٩٢٩، وتمتاز بألوانها البديعة ورسمها الدقيق وسطحها المقسم إلى عدد من المناطق، بعضها مكونة من نجوم مثمَّنة وذات فصوص، وبعضها مثمنة لا فصوص لها، وفي النجمة المتوسطة أمير على عرش، بينما تحتوي النجوم الأخرى على رسوم ملائكة تعزف على آلات موسيقية أو تحمل التحف والهدايا. أما المناطق الصغيرة ففيها رسوم حيوانات عديدة حقيقية وخرافية. وثمة مناطق أصغر حجمًا وفيها رسوم زُهاء تسعين نوعًا من الطيور المختلفة المرسومة بأسلوب طبيعي دقيق وفي أوضاع متنوعة.

ولم تكن المنسوجات الإيرانية في العصر الصفوي ذات زخارف آدمية فحسب، بل كان بعضها مزينًا برسوم نباتية بحتة، كما يظهر من رسوم الملابس في كثير من صور المخطوطات التي ترجع إلى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي).

على أن أبدع ما أنتجه النساجون الإيرانيون هو المخمل (القطيفة) ذو الرسوم القوية والألوان البديعة الفنية. وقد اشْتَهَرَتْ بإنتاجه مدينة قاشان في نهاية القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر بعد الهجرة (نهاية السادس عشر وبداية السابع عشر الميلادي)، وامتاز بإبداع ألوانه، وبرسومه التي تشبه إلى حد كبير رسوم الصور في المخطوطات.

ولما تولى الشاه عباس الأكبر (٩٨٥–١٠٣٨ﻫ؛ أي ١٥٨٧–١٦٢٨م)، وكان كما نعرف من أكبر رعاة الفن والفنانين في إيران، شمل برعايته إنتاج الديباج والمخمل الثمين، وأنشأ المصانع لنسجهما في شتى البلاد ولا سيما في أصفهان. وامتازت المنتجات المنسوجة في عصر الشاه عباس باستخدام الألوان الهادئة ورسم الأشخاص رسمًا أقرب إلى الطبيعة.

وزادت ثروة إيران في عصر الشاه عباس وعظم الإقبال على المنسوجات الفاخرة؛ فزادت المنتجات زيادة أثَّرت بعض الشيء على جودة النوع وجمال الرسم، اللهم إلا فيما كان يُصنع للبلاط ورجالات الدولة. وكان أهم أنواع الزخارف في نهاية القرن العاشر الهجري (السادس العشر الميلادي) وبداية القرن الحادي عشر رسوم أشخاص ذوي قدود هيفاء وأوضاع فيها كثير من التكلف، وفتيات أو فتيان يكاد المرء يحسبهن نساء، وما إلى ذلك من الصور التي عرفناها في أسلوب المُصَوِّر رضا عباسي. والواقع أن تأثير هذا المصوِّر وذيوع صور فتيانه وفتياته لم يكن في الصور المستقلة والمخطوطات والمنسوجات فحسب، بل كان في صور الجدران وفي لوحات القاشاني.

على أن أقمشة هذا العصر لا تبلغ في جودتها أقمشة العصور السابقة، فضلًا عن أن الفنانين لم يَأْتُوا بجديد في زخارفها وإنما نسجوا على منوال ما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، ولكنهم عادوا إلى الولَع برسوم الزهور والنبات؛ فاتخذوها لزخرفة عدد كبير من منسوجات القرنين الحادي عشر والثاني عشر بعد الهجرة (السابع عشر والثامن عشر بعد الميلاد) وأصابوا فيها توفيقًا كبيرًا. وشجعهم في هذا السبيل تجار البضائع الصينية الذين كانوا ينزلون مدينة أردبيل، والخزفيون الصينيون الذين كانوا ينزلون شتى المدن الإيرانية.

وقد وصلتنا أسماء بعض النساجين في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي)، وهم محمد خان وعلي وإسماعيل قاشاني ومعين، وكلهم من مدينة قاشان،٣٢ ثم مغيث وآقا محمود، وهم من أهل أصفهان،٣٣ كما نبغ في هذه المدينة المصوِّر شفيع عباسي الذي اشْتَهَرَ بإتقانه رسوم الزهور والطيور، والذي كان مصوِّر البلاط في عصر الشاه عباس الثاني.
ومما أنتجته مصانع النسج الإيرانية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر بعد الهجرة (السابع عشر والثامن عشر بعد الميلاد) أحزمة حريرية طويلة، قوام زخارفها أشرطة أفقية، وتنتهي في طَرَفَيْها بمنطقة أوسع مساحة وفيها جامات وزخارف نباتية (انظر شكل ١١٩). ويمتاز هذا النوع من الأحزمة بأن النساجين في جنوب شرقي بولندة٣٤ أقبلوا على تقليده في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي)، بعد أن استورد بعض التجار الأرمن كَمِّيَّات كبيرة من الأحزمة الحريرية الإيرانية، وأينعت تجارتها حتى اضْطُرُّوا إلى نسج مثلها في بولندة نفسها، واستخدموا زخارفها المكونة من الأشرطة والرسوم الهندسية ورسوم الزهور، ولم تلبث منتجات الصناعة المحلية أن طغت على الأحزمة الشرقية الواردة من إيران أو إستانبول.

ومما اشْتَهَرَتْ بإنتاجه مدينة يزد نوع من المخمل القرمزي الغامق، كان يُتَّخَذ في البيوت محاريب أو سجاجيد للصلاة، وكان قوام زخارفه عددًا قليلًا من الزهور الكبيرة ذات السيقان الطويلة وذات اللون الأصفر الذهبي، ومعها بعض وريقات خضراء.

وفي متحف فكتوريا وألبرت بلندن قطعة نسيج من صناعة يزد، قوام زخرفتها مراوح نخيلية وفروع نباتية مزهرة، وبينها رسم صلب السيد المسيح، وعلى جانِبَيِ الصليبِ العذراءُ والقديس يوحنا. ويقال إنها إحدى قطعتين أحضرهما سفير الشاه عباس إلى دوج البندقية سنة ١٦٠٠ (انظر شكل ١١٧).

أما أصفهان عاصمة الدولة في عصر الشاه عباس فقد كان فيها ألوف النساجين، لا ينقطعون عن العمل لإنتاج الكميات الهائلة من الخِلَع الثمينة التي كانت لازمة للبلاط، أو للهدايا التي يقدمها الشاه. كما أفادت باعتبارها عاصمة البلاد من وجود أعلام المصوِّرين والرسامين الذين كانوا خير عَوْن ومثال للفنانين في صناعة النسج. ولا رَيْب في أن أصفهان أنتجت شتى أنواع المنسوجات النفيسة، ولكن الظاهر أن النساجين فيها أتقنوا بنوع خاص صناعة الأقمشة ذات الزخارف النباتية الجميلة.

وكذلك مدينة قاشان لم يَعُدْ إنتاجها الفني موجهًا إلى الخزف فحَسْبُ، بل أصبحت مركزًا عظيمًا للنسج منذ القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، ولكن المخمل الذي كان يُنسج في أنوالها إبَّان القرن الحادي عشر الهجري بلغ كَمِّيَّة هائلة أثرتْ في جودة الصناعة إلى حد ما.

أما مدينة مشهد فقد ظهر أنها أيضًا من المراكز التي كانت تُنسج فيها الأقمشة الفاخرة، وثمة قطعة عليها كتابة تفيد أنها صُنعت في تلك المدينة على يد فنان اسمه محمد بن عمر سنة ١٠٦٥ﻫ/١٦٥٤م،٣٥ كما ذُكِرَتْ منسوجات مشهد في سجلات الجمارك الروسية القديمة.

والواقع أن صناعة النسج ازدهرت في عصر الأسرة الصَّفَوِيَّة ازدهارًا عجيبًا، واستطاع النساجون أن يُنتجوا من الحرير ضروبًا شتى تختلف في نوعها وفي وزنها وفي سُمكها، وقد تدخل في نسجها الخيوط الذهبية فتُكسبها بريقًا وأُبَّهَة عجيبَيْنِ.

(٦) في القرن الثاني عشر الهجري

كان الإنتاج عظيمًا في بداية القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي)، ولكن الأزمة الاقتصادية طغت على البلاد بعد الفتح الأفغاني وقَنِعَ القوم بالرخيص من الأقمشة، ولا سيما المنسوجات المطبوعة المعروفة باسم «قلم كار»، وكانت تصنع بمدينة قاشان في القرن الحادي عشر الهجري، وازدهرت صناعتها بعد ذلك في الهند وفي مدينة أصفهان، وأصبحت في القرن الماضي من أهم صادرات الشرق إلى أوروبا ولا سيما من أصفهان وهمذان ويزد.

ومهما يكن من الأمر فقد انحط نوع النسيج، كما قلت جودة المواد والصبغات المستخدمة فيه. والراجح أن أكبر مراكز النسج في هذا العصر كانت في يزد وقاشان وأصفهان وإبيانه وشرقي إيران.

وكانت يزد تنتج الحرير الأخضر ذا الزخارف المكوَّنة من الزهور والأشجار، وأصاب النساجون في قاشان بعض التوفيق في صناعة الأقمشة ذات الزخارف الآدمية، وظل زملاؤهم في أصفهان يقبلون على رسوم الزهور في منسوجاتهم.

•••

ولا يفوتنا أن التطريز معروف في إيران منذ العصور القديمة، وقد أشار الرحالة الإيراني ناصر خسرو إلى شارع في أصفهان اسمه شارع الطَّرَّازين نسبة إلى التجار الذين كانوا يسكنونه، كما أن الرحالة البندقي ماركو بولو ذكر مهارة السيدات بمدينة كرمان في تطريز المنسوجات الحريرية برسوم الطيور والحيوان والأشجار والزهور. وقد شهد بعض الرحالة الأوروبيين بين القرنين التاسع والحادي عشر بعد الهجرة (الخامس عشر والسابع عشر بعد الميلاد) ما يؤيد قول ناصر خسرو وماركو بولو عن إبداع المنسوجات الإيرانية المطرزة، وفضلًا عن ذلك فإن بعض نماذج الأقمشة المطرزة لا تزال باقية حتى اليوم، وأكثرها يرجع إلى القرنين الماضيين، وأهم أنواعها سراويل النساء، وكانت تُصْنَع من القطن وتُطَرَّز فيها بالحرير رسوم الزهور، وما إلى ذلك من الزخارف النباتية.

والواقع أن المصادر الأدبية والتاريخية تتحدث عن الأقمشة الإيرانية المطرزة منذ العصر السلجوقي، ولكننا لا نعرف منسوجات إيرانية مطرزة تطريزًا زخرفيًّا صحيحًا قبل عصر الدولة الصَّفَوِيَّة. والمعروف أن الأعلام والخيام في العصر التيموري كان يُعْنَى بتطريزها عناية خاصة؛ ومما يدل على ازدهار التطريز في العصر الصفوي قطعة محفوظة في متحف الفنون التطبيقية بمدينة بودابست، وترجع إلى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، وفيها رسم وليمة في الهواء الطلق جمعت زُهاء أربعين شخصًا يتوسطهم الأمير (انظر شكل ١١١)، ويحيط بهذا الرسم إطار فيه رسوم ملائكة مجنَّحين.
١  انظر Migeon: Les Arts du Tissu. ص١٧–٢٣.
٢  جاء في كتاب الأغاني أن كلابة جارية العبلي استنكرت تشبيب الشاعر العَرْجي (عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان) بالنساء، وبلغه ذلك؛ فشبب بها وقال:
«أَمشي كما حرَّكت ريح يمانية
غصنًا من البان رطبًا طله الديم
في حلة من طراز السوس مشربة
تعفو بهذابها ما أثرت قدم»
وفي البيت الثاني إشارة إلى الأقمشة الثمينة المصنوعة في مدينة السوس، والمشربة التي يختلط فيها لون بلون آخر. راجع الجزء الأول من الأغاني (طبع دار الكتب المصرية ص٣٨٨-٣٨٩).
٣  كانت خزائن الفرش والأمتعة بقصور الفاطميين تضم بين كنوزها ستارة ثمينة من الحرير الأزرق المنسوج في مدينة تستر بخيوط من الذهب والحرير، وكان الخليفة المعز لدين الله قد أمر بعملها سنة ٣٥٣ﻫ (٩٦٤م) وفيها صورة أقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها ومسالكها (انظر خُطط المقريزي ج١ ص٤١٧ و«الفاطميون في مصر» للدكتور حسن إبراهيم حسن ص٢٥٧).
٤  انظر A Survey of Persian Art ج٣ ص١٩٩٦ وما بعدها، وWiet: L’Exposition persane de 1931 ص٦ و٩٣–١٢٩.
٥  الواقع أن ما نعرفه في هذا الميدان لا يمكن نسبته — على وجه اليقين — إلى إيران، حتى ما عُثر عليه بجوار مدينة الري سنة ١٩٢٥ لا يمكن القطع بصحة نسبته؛ لأن الحفائر التي أسفرت عن وجوده لم تكن علمية بحتة، فضلًا عن أن تجار العاديات نسبوا إلى تلك الحفائر بعض المنسوجات التي يُرَجَّح أنها مصرية الأصل.
٦  انظر Répertoire chronologique d’épigraphie arabe ج٤ رقم ١٥٠٧ ص١٥٤.
٧  انظر تاريخ ابن الأثير ج٨ ص٣٩٦، W. Barthold: Turkestan down to the Mongol invasion ص٢٥٠، A Survey of Persian Art ج٣ ص٢٠٠٢.
٨  انظر A Survey of Persian Art ج٣ شكل ٦٤٥.
٩  انظر G. Wiet: La valeur décorative de L’Alplmbet Arabe في مجلة Arts et Métiers Graphiques عدد ٤٩ (سنة ١٩٣٥).
١٠  راجع A Survey of Persian Art ج٣ ص٢٠١٢.
١١  انظر Wiet: Un tissue musulman du nord de la Perse في مجلة Révne des Arts Asiatiques ج١٠ (سنة ١٩٣٦) ص١٧٣–١٧٩.
١٢  لم تكن زهرة اللوتس موضوعًا زخرفيًّا صيني الأصل، بل استُعملت في العصور القديمة في مصر وسورية، ثم استُعملت في الهند وانتقلت منها مع الديانة البوذية إلى الصين، على أنها لم تُتَّخذ في الصين لزخرفة المنسوجات إلا منذ أسرة طنج (٦١٨–٩٠٦م).
١٣  انظر W. Barthold: Turkestan down to the Mongol invasion ص٤٤٨.
١٤  راجع Heyd: Histoire du Commerce du Levant ج٢ ص٦٩٧.
١٥  انظر A Survey of Persian Art ٢١٦٦، وH. Howorth: History of the Mongols ج٣ ص٣١٥.
١٦  انظر A Survey of Persian Art ج٣ ص٢٠٤٢–٢٠٤٤ وشكل ٦٦٠.
١٧  راجع المصدر السابق ص٢٠٤٧ شكل ٦٦٣.
١٨  انظر اللوحة رقم ١١٠ شكل ١٢٣.
١٩  انظر A Survey of Persian Art ج٦ اللوحة رقم ١٠٠٣.
٢٠  المصدر نفسه اللوحة رقم ١٠٠٠.
٢١  راجع مادة «طراز» في دائرة المعارف الإسلامية، ج٤ ص٨٢٨ من النسخة الفرنسية.
٢٢  انظر A Survey of Persian Art ج٣ ص٢٠٥٤ وج٦ اللوحة رقم ١٠٠١.
٢٣  انظر Vineenzio d’Alessandria في C. Grey (Trans.) A Narrative of Italian Travels in Persia ص٢٢٥.
٢٤  انظر N. Quatremére: Matla-Assaadein ou-madjmaa albahrein, Notices et extraits des manuscrits de la Bibliothéque du Roi. XIX.I سنة ١٨٤٣ ص٣٨٧–٤٢٦.
٢٥  في مجموعة المسز مور Mrs. W. H. Moore قطعة من الحرير عليها رسم رجل يقود أسيرًا بحبل من رقبته، ويشبه طراز الرسم ما نعرفه من صور المصور محمدي. وليس غريبًا أن يشتغل هذا الفنان بإعداد الرسوم للمنسوجات؛ فقد اشتغل أبوه سلطان محمد بهذا العمل في بلاط الشاه طهماسب. انظر A Survey of Persian Art ج٦ اللوحة رقم ١٠١٢.
٢٦  انظر Brief Guide to the Persian Woven Fabries (Victoria and Albert Museum) ص١٦ ولوحة ٣ شكل ٢.
٢٧  انظر R. Koechlin & G. Migeon: Islamische Kunstwerke لوحة ٧٢، وتراث الإسلام ج٢ شكل ٣٥.
٢٨  انظر Ph. Ackerman: A biography of Ghiyath the weaver في العدد السابع (سنة ١٩٣٤) من مجلة المعهد الأمريكي للفن والآثار الإيرانية Bulletin of the American Institute for Pessian Art and Archeology.
٢٩  راجع A Survey of Persian Art ج٣ ص٢٠٩٤–٢١٠١.
٣٠  انظر Dimand: Mohammedan Decorative Arts ص٢١٧ شكل ١٣١.
٣١  انظر اللوحة رقم ١١٤ شكل ١٢٧.
٣٢  انظر A Survey of Persian Art ج٣ ص٢١٢١–٢١٢٥.
٣٣  المصدر نفسه ص٢١٢٩–٢١٣١.
٣٤  راجع مقالنا عن «أثر الفن الإسلامي في بولندة» بالعدد ٤١ من مجلة «الثقافة» في ١٠ أكتوبر سنة ١٩٣٩.
٣٥  انظر A Survey of Persian Art ج٣ ص٢١٣٩ وج٦ لوحة ١٠٧٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤