الفصل الثاني

بلاكي يَتَأَكَّدُ

صَارَ أَكِيدًا بِلَا شَكٍّ
بَيْضَةٌ طَازَجَةٌ هِيَ مَا رَأَيْتُ.

سَأَلَ طَائِرُ السِّنْدِيَانِ سامي، الَّذِي أَتَى فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لِيَسْمَعَ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي كَانَ الْغُرَابُ بلاكي يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ: «عَمَّ تَتَحَدَّثُ؟»

فَرَدَّ بلاكي قَائِلًا: «لَا شَيْءَ، يَا ابْنَ الْعَمِّ، لَا شَيْءَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. كُنْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي حَدِيثًا أَحْمَقَ.»

نَظَرَ إِلَيْهِ سامي بِحِدَّةٍ وَتَسَاءَلَ قَائِلًا: «لَسْتَ مَرِيضًا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ يَا ابْنَ الْعَمِّ بلاكي؟ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِكَ خَطْبٌ مَا عِنْدَمَا تَبْدَأُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ بَيْضٍ مَوْضُوعٍ حَدِيثًا، بَيْنَمَا كُلُّ شَيْءٍ مُغَطًّى بِالثَّلْجِ وَالْجَلِيدِ. الْحَمَاقَةُ لَيْسَتِ الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ لِذَلِكَ. مَنْ سَمِعَ مِنْ قَبْلُ بِبَيْضَةٍ مَوْضُوعَةٍ حَدِيثًا فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ مِنَ الْعَامِ؟!»

أَجَابَ بلاكي: «أَعْتَقِدُ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَسْمَعْ بِذَلِكَ. أَخْبَرْتُكَ أَنَّهَا حَمَاقَةٌ. فَأَنَا جَائِعٌ لِدَرَجَةِ أَنْ أُفَكِّرَ فِيمَا يُمْكِنُنِي تَنَاوُلُهُ إِذَا كُنْتُ أَسْتَطِيعُ الْحُصُولَ عَلَى مَا أُرِيدُ. وَذَلِكَ جَعَلَنِي أُفَكِّرُ فِي الْبَيْضِ، وَحَاوَلْتُ أَنْ أُفَكِّرَ فِي شُعُورِي إِذَا رَأَيْتُ بَيْضَةً كَبِيرَةً لَذِيذَةً أَمَامِي فَجْأَةً. أَظُنُّنِي قُلْتُ شَيْئًا بِهَذَا الشَّأْنِ.»

فَقَالَ سامي: «لَا بُدَّ أَنَّ هَذَا مَا حَدَثَ. فَهَذَا لَيْسَ وَقْتَ وَضْعِ الْبَيْضِ، وَلَنْ يُوضَعَ الْبَيْضُ عَمَّا قَرِيبٍ. اسْتَمِعْ لِنَصِيحَتِي وَانْسَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمُسْتَحِيلَةَ. سَوْفَ أَذْهَبُ إِلَى صَوْمَعَةِ الذُّرَةِ فِي مَزْرَعَةِ الْمُزَارِعِ براون. رُبَّمَا لَا تَكُونُ الذُّرَةُ لَذِيذَةً مِثْلَ الْبَيْضِ، وَلَكِنَّهَا جَيِّدَةٌ جِدًّا وَمُشْبِعَةٌ. حَرِيٌّ بِكَ أَنْ تَأْتِيَ مَعِي.»

فَرَدَّ بلاكي: «لَيْسَ الْيَوْمَ، رُبَّمَا فِي وَقَتٍ لَاحِقٍ. شُكْرًا لَكَ.»

وَقَفَ بلاكي يُرَاقِبُ سامي وَهُوَ يَتَوَارَى بَيْنَ الْأَشْجَارِ، ثُمَّ حَلَّقَ إِلَى قِمَّةِ أَطْوَلِ شَجَرَةِ صَنَوْبَرٍ لِيَتَأَكَّدَ مِنْ عَدَمِ وُجُودِ أَحَدٍ فِي الْجِوَارِ. وَعِنْدَمَا تَأَكَّدَ تَمَامًا مِنْ أَنَّهُ لَا أَحَدَ يَرَاهُ، بَسَطَ جَنَاحَيْهِ وَتَوَجَّهَ إِلَى الرُّكْنِ الْمَهْجُورِ مِنَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ.

تَمْتَمَ قَائِلًا: «إِنَّنِي أَحْمَقُ. أَعْلَمُ أَنَّنِي أَحْمَقُ، وَلَكِنْ عَلَيَّ أَنْ أُلْقِيَ نَظْرَةً أُخْرَى عَلَى ذَاكَ الْعُشِّ الْقَدِيمِ لِلصَّقْرِ أحمر الذيل. لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَخَلَّصَ مِنْ فِكْرَةِ أَنَّ مَا رَأَيْتُهُ هُنُاكَ أَمْسِ كَانَ بَيْضَةً، بَيْضَةً رَائِعَةً كَبِيرَةً بَيْضَاءَ. وَعَلَى أَيَّةِ حَالٍ، لَا ضَرَرَ فِي إِلْقَاءِ نَظْرَةٍ أُخْرَى.»

طَارَ بلاكي مُبَاشَرَةً نَحْوَ الشَّجَرَةِ الَّتِي تَحْمِلُ الْعُشَّ الْمُتَهَالِكَ الْكَبِيرَ لِلصَّقْرِ أحمر الذيل، وَعِنْدَمَا اقْتَرَبَ مِنْهَا حَلَّقَ عَالِيًا؛ فَبلاكي عَنْدَهَ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ. إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَظُنُّ الْمَكَانَ خَطِرًا؛ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَعْرِفَ مَا هُوَ خَفِيٌّ، وَمِنَ الْحِكْمَةِ دَائِمًا أَنْ تَلْزَمَ الْحَذَرَ. وَإِذْ مَرَّ مِنْ فَوْقِ قِمَّةِ الشَّجَرَةِ، نَظَرَ إِلَى أَسْفَلَ بِلَهْفَةٍ. تَخَيَّلْ شُعُورَهُ عِنْدَمَا رَأَى «شَيْئَيْنِ» أَبْيَضَيْنِ فِي الْعُشِّ الْقَدِيمِ؛ شَيْئَيْنِ أَبْيَضَيْنِ يَبْدُوَانِ بَيْضَتَيْنِ بِلَا شَكٍّ! فِي الْيَوْمِ السَّابِقِ كَانَ ثَمَّةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ؛ وَصَارَ يُوجَدُ «شَيْئَانِ». فَتَرَسَّخَتِ الْفِكْرَةُ فِي عَقْلِ بلاكي؛ إِنَّهُمَا بَيْضَتَانِ! لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَا شَيْئًا آخَرَ.

وَاصَلَ بلاكي الطَّيَرَانَ. فَلِسَبَبٍ مَا، لَمْ يَجْرُؤْ عَلَى التَّوَقُّفِ حِينَهَا. كَانَ مُنْفَعِلًا لِلْغَايَةِ بِمَا اكْتَشَفَهُ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعِ التَّفْكِيرَ جَيِّدًا. كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْرِقَ وَقْتًا لِيَجْمَعَ شَتَاتَ نَفْسِهِ. فَأَيًّا كَانَتْ مَنْ وَضَعَتْ هَاتَيْنِ الْبَيْضَتَيْنِ فَإِنَّهَا كَبِيرَةٌ وَقَوِيَّةٌ. كَانَ مُتَأَكِّدًا مِنْ ذَلِكَ. لَا بُدَّ أَنَّهُ طَائِرٌ أَكْبَرُ مِنْهُ كَثِيرًا، وَلَمْ يَكُنْ يَرْغَبُ فِي الْوُقُوعِ فِي الْمَتَاعِبِ، حَتَّى وَلَوْ فِي سَبِيلِ عَشَاءٍ مِنَ الْبَيْضِ الطَّازَجِ. يَجِبُ عَلَيْهِ أَوَّلًا أَنْ يَكْتَشِفَ مَنْ صَاحِبُ الْبَيْضَتَيْنِ، وَحِينَهَا سَيَعْرِفُ مَا عَلَيْهِ فِعْلُهُ. كَانَ مُتَأَكِّدًا أَنَّهُ لَا أَحَدَ يَعْرِفُ بِوُجُودِ هَاتَيْنِ الْبَيْضَتَيْنِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَنْ تَهْرُبَا إِلَى أَيِّ مَكَانٍ؛ لِذَا وَاصَلَ الطَّيَرَانَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى شَجَرَةِ صَنَوْبَرٍ عَالِيَةٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا وَيُفَكِّرَ دُونَ أَنْ يُزْعِجَهُ أَحَدٌ.

تَمْتَمَ قَائِلًا: «بَيْضَتَانِ! بَيْضَتَانِ حَقِيقِيَّتَانِ! مَنْ ذَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ انْتَقَلَ إِلَى مَنْزِلِ أحمر الذيل الْقَدِيمِ؟ وَمَا مَعْنَى وَضْعِ بَيْضَتَيْنِ قَبْلَ وُجُودِ أَيِّ بَادِرَةٍ عَلَى قُدُومِ السَّيِّدِ ربيع؟ هَذَا يَفُوقُ الِاحْتِمَالَ. إِنَّهُ بِالتَّأْكِيدِ يَفُوقُ الِاحْتِمَالَ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤