الفصل السادس والعشرون

لِمَاذَا لَمْ يَصْطَدِ الصَّيَّادُ أَيَّ بَطَّاتٍ؟

رَأَى الصَّيَّادُ الَّذِي جَاءَ عَنْ طَرِيقِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ فِي قَارِبٍ وَرَسَا بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ داسكي وَسِرْبُهُ يَجِدُونَ فِيهِ الذُّرَةَ الصَّفْرَاءَ اللَّذِيذَةَ مَنْثُورَةً بَيْنَ النَّبَاتَاتِ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ؛ الْغُرَابَ بلاكي يُغَادِرُ قِمَّةَ إِحْدَى الْأَشْجَارِ عِنْدَمَا اقْتَرَبَ مِنَ الْمَكَانِ.

قَالَ الصَّيَّادُ: «خَيْرٌ لَكَ أَنَّكَ لَمْ تَنْتَظِرِ اقْتِرَابِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. فَأَنْتَ ذَكِيٌّ بِمَا يَكْفِي لِأَنْ تَعْرِفَ أَنَّكَ لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَخْدَعَنِي الْخُدْعَةَ نَفْسَهَا مَرَّتَيْنِ. لَقَدْ أَخَفْتَ الْبَطَّ اللَّيْلَةَ الْبَارِحَةَ، وَلَكِنْ إِذَا حَاوَلْتَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَسَوْفَ أُطْلِقُ عَلَيْكَ النَّارَ دُونَ تَرَدُّدٍ.»

ثُمَّ ذَهَبَ الصَّيَّادُ إِلَى الْمَخْبَأِ الَّذِي بَنَاهُ مِنَ الشُّجَيْرَاتِ وَنَبَاتَاتِ السَّمَّارِ، وَرَبَضَ خَلْفَهُ حَامِلًا بُنْدُقِيَّتَهُ الرَّهِيبَةَ، مُنْتَظِرًا وَمُتَرَقِّبًا وُصُولَ داسكي وَسِرْبِهِ.

تَذْكُرُونَ أَنَّ ابْنَ الْمُزَارِعِ براون كَانَ مُخْتَبِئًا آنَذَاكَ عَلَى مَسَافَةٍ أَبْعَدَ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ، فِي الْمَخْبَأِ الَّذِي بَنَاهُ عَصْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَلَمْ يَرَهُ الصَّيَّادُ مُطْلَقًا. لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِ أَدْنَى فِكْرَةٍ عَنْ وُجُودِ شَخْصٍ آخَرَ فِي الْجِوَارِ. فَكَّرَ الصَّيَّادُ قَائِلًا: «أَمَا وَقَدْ تَخَلَّصْتُ مِنْ ذَلِكَ الْغُرَابِ، أَعْتَقِدُ أَنَّنِي سَأَصْطَادُ بَعْضَ الْبَطِّ اللَّيْلَةَ.» وَنَظَرَ إِلَى بُنْدُقِيَّتِهِ لِلتَّأَكُّدِ مِنْ أَنَّهَا جَاهِزَةٌ.

فِي الْغَرْبِ، كَانَ قُرْصُ الشَّمْسِ الْأَحْمَرُ الْمُسْتَدِيرُ الْمَرِحُ قَدِ اسْتَعَدَّ لِلذَّهَابِ إِلَى النَّوْمِ خَلْفَ التِّلَالِ الْأُرْجُوَانِيَّةِ، وَبَدَأَتِ الظِّلَالُ السَّوْدَاءُ تَزْحَفُ عَلَى الْأَنْحَاءِ. وَمِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ أَسْفَلَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ، رَأَى الصَّيَّادُ خَطًّا أَسْوَدَ يَتَحَرَّكُ بِسُرْعَةٍ فَوْقَ سَطْحِ الْمَاءِ مُبَاشَرَةً، فَتَمْتَمَ قَائِلًا: «هَا هُوَ قَادِمٌ!» بَيْنَمَا رَاحَ يُرَاقِبُ اقْتِرَابَ هَذَا الْخَطِّ الْأَسْوَدِ بِلَهْفَةٍ.

دَارَتِ الْبَطَّاتُ السَّوْدَاءُ مَرَّتَيْنِ فَوْقَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ فِي الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْمَكَانِ الَّذِي كَانَ يَرْبِضُ فِيهِ الصَّيَّادُ فِي مَخْبَئِهِ. كَانَ وَاضِحًا أَنَّ قَائِدَهَا داسكي تَذَكَّرَ تَحْذِيرَ بلاكي فِي اللَّيْلَةِ السَّابِقَةِ. وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ تَحْذِيرٌ هَذِهِ الْمَرَّةَ. وَبَدَا كُلُّ شَيْءٍ عَلَى مَا يُرَامُ. دَارَ السِّرْبُ مَرَّةً أُخْرَى ثُمَّ تَوَجَّهَ مُبَاشَرَةً نَحْوَ الْمَكَانِ الَّذِي يَأْمُلُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ الْمَزِيدَ مِنْ حُبُوبِ الذُّرَةِ. فَانْحَنَى الصَّيَّادُ لِأَسْفَلَ أَكْثَرَ. كَادَ السِّرْبُ يَكُونُ فِي مَرْمَى نِيرَانِ بُنْدُقِيَّتِهِ عِنْدَمَا دَوَّى صَوْتُ إِطْلَاقِ نِيرَانٍ عَلَى مَقْرُبَةٍ.

عَلَى الْفَوْرِ اسْتَدَارَ داسكي وَالسِّرْبُ وَرَفْرَفُوا بِأَجْنِحَتِهِمْ بِسُرْعَةٍ مُحَلِّقِينَ نَاحِيَةَ أَعْلَى النَّهْرِ. شَعَرَ الصَّيَّادُ بِإِحْبَاطٍ بَالِغٍ. وَتَمْتَمَ قَائِلًا: «ثَمَّةَ صَيَّادٌ آخَرُ، وَقَدْ أَضَاعَ عَلَيَّ فُرْصَتِي هَذِهِ الْمَرَّةَ. لَا بُدَّ أَنَّ لَدَيْهِ مَخْبَأً بِالْقُرْبِ مِنْ هُنَا. وَرُبَّمَا أَتَى إِلَيْهِ بَعْضُ الْبَطِّ وَلَمْ أَرَهُ. يَا تُرَى هَلِ اصْطَادَهُ؟ آمُلُ أَنْ يَأْتِيَ هَذَا السِّرْبُ إِلَى هُنَا أَوَّلًا فِي الْمَرَّةِ الْمُقْبِلَةِ.»

عَادَ الصَّيَّادُ إِلَى وَضْعِهِ السَّابِقِ مَرَّةً أُخْرَى، وَاسْتَقَرَّ فِي مَكَانِهِ اسْتِعْدَادًا لِفَتْرَةِ انْتِظَارٍ طَوِيلَةٍ. تَسَلَّلَتِ الظِّلَالُ السَّوْدَاءُ مِنَ الضِّفَّةِ الْبَعِيدَةِ لِلنَّهْرِ الْكَبِيرِ؛ فَقَدْ كَانَ قُرْصُ الشَّمْسِ الْأَحْمَرُ الْمُسْتَدِيرُ الْمَرِحُ قَدْ أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، وَسَطَعَتْ أَوَّلُ نَجْمَةٍ صَغِيرَةٍ عَالِيَةً فِي السَّمَاءِ. كَانَ الْمَكَانُ سَاكِنًا وَهَادِئًا. ثُمَّ جَاءَ صَوْتُ بَطَّةٍ خَفِيضٌ مِنْ وَسْطِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ؛ فَقَدْ كَانَ داسكي وَسِرْبُهُ آتِينَ سِبَاحَةً آنَذَاكَ. وَسُرْعَانَ مَا اسْتَطَاعَ الصَّيَّادُ رُؤْيَةَ خَطٍّ فِضِّيٍّ عَلَى الْمَاءِ، وَبَعْدَهَا مَيَّزَ تِسْعَ بُقَعٍ سَوْدَاءَ. وَفِي غُضُونِ دَقَائِقَ قَلِيلَةٍ، كَادَتْ تِلْكَ الْبَطَّاتُ تَصِيرُ فِي مَرْمَى نِيرَانِ بُنْدُقِيَّتِهِ.

دَوَّى صَوْتُ إِطْلَاقِ النَّارِ مَرَّةً أُخْرَى مِنَ الْبُنْدُقِيَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ، فَرَفْرَفَ داسكي وَسِرْبُهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ فِي صَخَبٍ وَطَارُوا بَعِيدًا. وَقَفَ الصَّيَّادُ وَقَالَ شَيْئًا؛ شَيْئًا غَيْرَ مُهَذَّبٍ. فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْبَطَّ لَنْ يَعُودَ مَرَّةً أُخْرَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَأَنَّهُ سَيَعُودُ إِلَى الْمَنْزِلِ مَرَّةً أُخْرَى خَالِيَ الْوِفَاضِ. وَلَكِنَّهُ قَرَّرَ أَنْ يَذْهَبَ أَوَّلًا لِمَعْرِفَةِ مَنْ هُوَ الصَّيَّادُ الْآخَرُ وَإِذَا كَانَ قَدْ حَالَفَهُ الْحَظُّ فِي صَيْدِهِ؛ لِذَا مَشَى عَلَى الشَّاطِئِ نَحْوَ الْمَكَانِ الَّذِي بَدَا صَوْتُ الْبُنْدُقِيَّةِ صَادِرًا مِنْهُ، وَوَجَدَ مَخْبَأَ ابْنِ الْمُزَارِعِ براون، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَحَدٌ؛ فَقَدِ انْسَلَّ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون مِنْ مَخْبَئِهِ وَغَادَرَ الْمَكَانَ بِمُجَرَّدِ أَنْ أَطْلَقَ النَّارَ مِنْ بُنْدُقِيَّتِهِ آخِرَ مَرَّةٍ. وَبَيْنَمَا كَانَ يَمْشِي عَبْرَ الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ فِي طَرِيقِ عَوْدَتِهِ إِلَى الْمَنْزِلِ حَامِلًا بُنْدُقِيَّتَهُ، كَانَ يَضْحَكُ قَائِلًا: «لَمْ يَصْطَدْ تِلْكَ الْبَطَّاتِ هَذِهِ الْمَرَّةَ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤