مقدمة

لقد ظل كثيرون ممَّن لم يدرسوا العلوم المصرية القديمة لا يعرفون عن مصر إلا أنها بلد الموميات، «وأبو الهول»، والأهرام، و«توت عنخ آمون»، فعندما ظهر كتاب الأستاذ «ماكس بيبر»١ عن الأدب المصري القديم دهشوا عندما قرءوا عنوانه، وسأله بعضهم بشيء من الدهشة: «أيوجد لمصر القديمة أدب قومي كذلك الأدب اليوناني واللاتيني والألماني؟!» وقد كان رده عليهم كتابه المختصر في الأدب المصري القديم.

ولا نستغرب من أجنبي عن مصر أن يسأل هذا السؤال، إذا علمنا أن السواد الأعظم من المصريين المتعلمين الذين تحدَّثْتُ إليهم في هذا الموضوع يجهلون أمره، ويعتقدون أن أقدم أدب في العالم هو الأدب الإغريقي، وعنه أخذت أمم العالم آدابها، وقبله كان تاريخ الأدب في الدنيا صفحة بيضاء، ولكننا نؤكِّد لهؤلاء المتعلمين وأشباههم أن لمصر أدبًا قوميًّا قديمًا، وأنه أقدم من الأدب الإغريقي. وإذا كانت كتابات «هومر» هي أول وأرقى ما عُرِف عن أدب الإغريق، ولا يُعلَم شيء عن الأدب الإغريقي قبل ذلك؛ فإن الأدب المصري معلوم تاريخه من يوم أن نشأ وحبا إلى أن درج ونما ووصل إلى نهايته، ويمكننا أن نعطي مثلًا منه في كل أطواره رغم ما نلاقيه من بعض الفجوات في صفحاته، وسنجد أنه أدب لا يقتصر على النقوش الدينية وتدوين الحقائق والمقالات العلمية، ولكنه يتعدَّى ذلك إلى مؤلفات لها قيمتها الأدبية تثبت أن المصري القديم كان يقدِّر الأدب ويتذوَّق حلاوته ويسحر ببيانه، في وقت كان الإغريق وغيرهم من الأمم القديمة يهيمون على وجوههم ويتخبطون في ظلام الجهل، من أجل ذلك فضلنا أن نأتي هنا بكلمة قصيرة عن منزلة الأدب المصري بين آداب الأمم التي عاصرته قبل أن يظهر الأدب الإغريقي في عالم الوجود؛ فنقول ملتمسين السداد من الله: «لا شك أن مصر أول بلد ربَّى في نفوس أبنائه روحًا أدبية خالصة للأدب، مجردة عن أي غرض آخَر؛ فقد وضع المصري المؤلَّفات الأدبية البحتة منذ ٢٠٠٠ سنة قبل الميلاد، لا يريد بها شهوة سياسية أو تأييدًا دينيًّا أو نفعًا تجاريًّا، وإنما يريد الأدب لذاته، يريد غذاء الروح وإشباع النفس الصافية بسمو التعبير وعلو المعنى.»

وكانت قدم مصر السابقة في هذا المضمار، فلم يظهر الأدب العبري إلا وليدًا بعد اثني عشر قرنًا من ذلك التاريخ، والأدب البابلي كان يترنح، فلم يكن إنتاجه مظهرًا خالصًا للأدب، ولا قُصِد به خدمة الأدب حبًّا في الأدب، كما كان الشأن في مصر، فإن الأدب أريد به فيها ذلك الذي يُحدِث في نفس قارئه وسامعه لذةً فنيةً كالتي يحسها إذا استمع إلى شدو الشادي، أو إذا رأى الصورة الجميلة، وتحسَّس التمثال البديع.

والكلام في الأدب المصري يقتضي التعرُّض أولًا لأنواعه، وثانيًا لأساليبه؛ فمن الناحية الأولى نرى أن الأدب المصري من النوع الغنائي أو العاطفي، وأن النوع القصصي كان بارزًا فيه، ويلي ذلك الأدب العلمي والحِكَم والأمثال «التأملات»، وليس من شك في أن الأدب الغنائي والقصصي قد نبَتَا في التربة المصرية؛ لأن كلًّا منهما يضرب بأعراقه إلى ما قبل ظهور الكتابة، وهو العهد الذي يشبه العصر الجاهلي في اللغة العربية، ولا غرابة في أن ينمو الغناء والقصص بين قوم تخطوا طور الهمجية، وأصبح لهم مشاعر ووجدانات تحتاج إلى تغذية، وهي إن لم تُواتِهم من طريق القراءة والنظر، لا تبعد عليهم من طريق السمع والرواية، وكلنا يدرك تأثيرَ القصة الآن في العامة، وكيف أنها تجذب منهم القلوب والمسامع.

ولم تقصر بابل في هذه النواحي الأدبية؛ فقد ظهر فيها الأدب الغنائي والقصصي في الوقت الذي نبَتَا فيه في وادي النيل، وإذا كانت إحدى الأمتين المصرية والبابلية أسبق من أختها، وأقدم إنتاجًا؛ فإن ذلك لا يعني أن إحداهما قد أخذت عن الأخرى، أو تأثَّرت بأدبها، بل إن كلًّا منهما كانت مستقلة في إنتاجها، وكان لأدبها مظهر خاص خاضع للمؤثرات المختلفة في الأدب، ومنها: البيئة، والاستعداد الفطري، والدين، والحضارة.

والظاهر الذي تُحدِّثنا به الآثارُ أن «بابل» كانت أكثر خصبًا في إنتاج القصص والشعر القصصي من مصر؛ لأن الدين قد أظله، فنمت القصة في كنفه، وصارت لها أوزان ترجع إلى آماد بعيدة، هذا إذا لم تكن قد عملت عوادي الزمن على محو بعض القصص المصرية من عوالم الآثار، أو أبقتها دفينة في بطن الأرض ولم تسمح لها بعدُ بالظهور. وأعتقد أن أحد هذين الفرضين صحيح؛ لأن ما بقي لنا من الشعر القصصي يدلنا على أنه مظهر لأدب راسخ القدم، متشعب النواحي، خصب الخيال، كثير الأبطال، يذهب إلى أبعد مدى في تصوير الآلهة ومقدرتهم وخوارق فِعَالهم في كل أطوار التاريخ المصري؛ ولا أدل على ذلك من قصة مخاصمة «حور» و«ست» التي عُثِر عليها حديثًا — وقد أوردناها في هذا الكتاب — وأبطالها جميعًا من الآلهة، وقد كان المظنون أن الإغريق وحدهم هم الذين انفردوا بإشراك الآلهة في تمثيلياتهم حتى ظهرت هذه القصة؛ فغيَّرَتْ هذا الرأي.

ومهما بلغ المدى الذي فاقت به «بابل» مصر في القصة عامةً، فإن من المقطوع به أن الأسبقية لمصر في اختراع الأقصوصة، وصياغتها صياغة فنية ممتعة، وتحليلها تحليلًا نفسيًّا مناسبًا، وتمهيد الطريق للتحليل النفسي الرائع الذي تراه في الأدب اليوناني، وفي الآداب الحديثة في عصرنا عند مختلف الأمم الراقية، على مثل ما ذهب إليه «مارسل بروست» أو «هنري جيمس» أو «ﻫ. ج. وِلز» مما مثَّلَ اتجاهًا جديدًا في الأدب، وأكسَبَ التأليف الروائي عمقًا في الفكرة، ونزعة فلسفية قوية لم تكن تخلو منها الروايات القديمة، ولكنها اشتدت جدًّا في الزمن الحديث.

هذا ما كان من أمر الأدب القصصي، أما الغنائي فقد كانت مصر و«بابل» فيه كغصنَيْ شجرة واحدة؛ فقد أخذت كلٌّ منهما من هذا الفن بنصيب كبير، وإن كان إنتاج «بابل» حتى الآن أكثر من إنتاج مصر — إن لم تكن الأرض تكتمنا ما في بطنها — على أن القوة والعذوبة كانت متمثلة ظاهرة في مصر على أختها في هذا اللون من الأدب.

ولقد كان الشعر الديني عند الأمتين حلوًا، ولا وجه للمفاضلة بين أحسن ما أنتجته «بابل» وبين ما عثرنا عليه في مصر في عهد الدولة الحديثة.

أما الأدب العبري فقد تخلَّفَ عن الأدب المصري في الظهور عشرة قرون، وقد وصل إلى درجة جعلته في مرتبة واحدة مع أحسن ما أخرجته مصر و«بابل»، ولم يستطع أن يتفوَّق عليهما، وقد استطاع الإغريق الذين أتوا بعد هذا العهد أن ينهضوا بالشعر الغنائي والعاطفي الذي وُضِعت أُسُسه في مصر، فَلَانَ لهم قيادُه، وابتكروا فيه مذاهبَ جديدةً — كما فعلوا في كل فروع الأدب الأخرى.

ننتقل بعد ذلك إلى الأدب التعليمي والتأملي، وتدل جميع الشواهد على أنه من وحي مصر، فالمصريون هم الذين ابتدعوه وهم الذين برَّزوا وقطعوا أشواطًا بعيدة فيه، وتخلَّف عن السباق معاصروهم، وكان هذا اللون من الأدب محبَّبًا إلى الذوق المصري، وقد بقي المصري عدة قرون مهتمًّا بالتأليف فيه، ساعيًا إلى تحسينه، باذلًا جهدًا يتفق ومهارة الكاتب واتساع أُفُقه الاجتماعي.

ويقيننا أن مؤلف «فتاح حتب» في الحكم والأمثال كان نواةً لظهور أمثال سليمان وحِكَمه؛ يؤيد ذلك ما اشتهر به المصريون وتحدَّث به العالم القديم عن براعتهم في الحكمة وضرب المثل، وقد فصلنا ذلك عندما وازَنَّا بين أمثال سليمان، وتعاليم «أمنموبي» في باب الحِكَم والأمثال، ووصلنا إلى أن الأولى قد أخذت عن الثانية قطعًا بأكملها.

والآن وقد انتهينا من الكلام على موضوع الأدب المصري، ننتقل إلى الناحية الأخرى منه، وهي أسلوبه، وقد كان الأسلوب الجميل موضع فخر الكاتب ومحل تقدير القارئ؛ جاء في بردية عن أمثال «فتاح حتب»: «إنها الأقوال التي صيغت في أسلوب جميل، والتي تحدَّثَ بها الوزير عندما كان يثقف بالمعرفة، ويعلِّم مبادئ الحديث الطريف.» وجاء في ورقة «نفررهو» — وسنتحدث عنها فيما بعدُ — على لسان الملك «سنفرو» يخاطب حاشيته: «ائتوا لي بإنسان يروِّح عن نفسي بكلمات جميلة وأقوال مختارة، تجد في سماعها جلالتي تسلية وراحة.» وإذا قرأنا «قصة الفلاح الفصيح» التي كُتِبت قبل عام ٢٠٠٠ق.م وجدناها سلسلة من الأفكار السامية عن العدالة وحقوق الإنسان، صيغت في أسلوب قوي بليغ، بدا منه أن كاتبها أراد أن يُظهِر قدرته الفنية على جمال الصياغة وروعة الأسلوب. وهذه الظاهرة التي تجعل عذوبة الأسلوب هدفًا يرمي إليه الكاتبُ كانت بارزة واضحة في مصر، مطمورة منعدمة في «بابل» جارتها ومعاصرتها، فلا جَرَم أن كانت مصر أول أمة شُغِفت بالثقافة الأدبية، وعنها أخَذَ العالم.

والأسلوب الذي يهدف إليه المصري هو الأسلوب العذب الذي لا تكلُّفَ فيه، والذي توجبه السليقة، فينساب إلى النفوس، وترتاح إليه الأسماع، ولا بد أن يكون مناسبًا للموضوع الذي يعالجه؛ فيقوى ويشتد في الجُلَّى وعظائم الأمور، ويلين ويرق في التعبير عن العواطف أو الترجمة عن مكنونات الفؤاد، ولكن هذا الأسلوب الجميل قد دخلت عليه الصنعة بمرور الأيام؛ فأفقدته روعته وعذوبته، وأصابه التكلُّف والزخرفة اللفظية، وأصبح الأديب يضحي بالمعنى السامي في سبيل تزويق الألفاظ، كما حدث للغة العربية في العصر العباسي الثاني.

ولقد بدأ هذا الفساد يدب في الأدب المصري منذ الدولة الوسطى، وتظهر بوادر ذلك في قصة «سنوهيت»، ولقد تعلَّق المصري بهذا الأسلوب، وأُشْرِبَ قلبُه حبَّه، حتى إن التلاميذ في الدولة الحديثة — وبخاصة عصر الأسرة التاسعة عشرة والعشرين — ملئوا كراساتهم نماذج منه؛ يستظهرونها ويأخذون أنفسهم بمحاكاتها، حتى يصلوا إلى مَلَكة تقدرهم على الإبانة عما في ضمائرهم بهذا النوع المزخرف المحبَّب إلى نفوسهم.

وفي ورقة «انستاسي الأولى» — وستجيء في باب الرسائل — نرى مثالًا لهذه الطريقة الأدبية التي سادت عهد الدولة الحديثة في صورة خطاب هجائي، يعيب فيه كاتبه زميلًا له جهله فن كتابة الرسائل، وضعفه في الحساب حتى لا يستطيع أن يقدِّر وزن مسَلَّة، وعدم درايته بمعرفة أحسن الطرق للسياحة في سوريا، ولعل السر في شيوع هذه الورقة أنها تحتوي على فكاهات أو نكت لا نستسيغها؛ لاختلاف الذوق بين عصرنا وعصرها، أو لأن فيها منهاجًا لما يجب أن يكون عليه الرجل المثقف في هذا العصر، وهي في جملتها تدل على نوع من الصلف في الكتابة. فالأسلوب المصري كالفن المصري قد وصل إلى قمته قبل حلول الدولة الحديثة، ولا يمنع هذا من أن تلمع فيه من وقت لآخَر قطعٌ فنية نذوق فيها حلاوة الأسلوب الفطري وقوته ولكنها قليلة، كما أن الشعر العاطفي لم يودع قوته وتأثيره في عهد الدولة الحديثة، بل بقي جميلًا رائعًا بل ربما غطى جماله فيها على ما سبقه، وربما كان السبب في ذلك موجة الرخاء والترف التي غمرت المصريين عقب حكم الأسرة الثامنة عشرة، وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة والعشرين، فأطلقت ألسنتهم بالأغاني العذبة والأناشيد المرحة السعيدة، مترجمين بها عمَّا يذوقونه من حلاوة الدنيا ولذة الحياة، هذا إذا لم تكن الأرض قد خبَّأت في ثناياها بعض الشعر العاطفي من إنتاج الدولة الوسطى، أو ما يجعلنا نعتقد بأن ما نُسِب إلى الدولة الحديثة ليس كله من صياغتها.

(١) الأدب المصري والآداب الحديثة

قال «أندري مروا» الكاتب الفرنسي العظيم في كتابه Aspects de la Biographie P. 177:

إن الأدب لا يُقاس بالنمو والتقدم، فلا يمكننا القول: إن تنسون الشاعر الإنجليزي أعظم من «هومر» الشاعر اليوناني القديم، أو إن «بروست» أعظم من «منتاني»؛ لأن الأدب ينساب في نغمة إيقاعية ولا يسير في خط متصل، فلكل من الأدباء وقته وظروفه.

وقيمة الأدب القديم في أنه يرينا اللبنة الأولى في بناء الأدب، والجهودَ التي بذلها الأدباء القدماء في خدمته حتى وصل إلى مظهره الحديث، فلا وجه إذن للمقارنة بين الآداب القديمة — بما فيها المصري والبابلي — وبين الآداب الحديثة؛ إذ إن الثانية نتيجة نمو الأولى وتطورها، وبين الأدبين في جملتهما فروق من جهات ثلاث:
  • الأولى: أن الأدب المصري لم ينتج لنا أدبًا نفسيًّا عميقًا كالأدب الحديث.
  • الثانية: أن الأدب المصري قدرته محدودة في تصوير الجو الذي يناسب القصة.
  • الثالثة: قوة التأثير والأسر.
فأما عن الناحية الأولى، فترى أن المصري لم يهمل التحليل النفسي جملة، بل أخذ منه بطرف كما نرى في قصة «سنوهيت» التي حلَّلت لنا ناحية من نفسيته حين نفي عن بلاده واشتاق إلى وطنه، ولكن ذلك يُعتبَر يسيرًا إذا قرَنَّاه بالتحليل العميق الذي يلجأ إليه فحول علم النفس الآن في قصصهم الرائعة، مثل قصة Daisy Miller التي كتبها «هنري جيمس»، أو قصة الاتصال السامي Die Wahlverwandlachaften التي كتبها «جيته» الألماني الفذ في أدبه، ومع ذلك فإن التحليل النفسي الذي نقرؤه في قصة «سنوهيت» المذكورة خير مما نجده في قصص الجن والعفاريت الشائعة في آداب العالم عامة. ولا يضير الأديب المصري أن تحليله خلا من العمق والروعة، فيكفيه فخرًا أنه وضع الأساس وجاء غيره فشيَّد على قواعده، ثم جاء التطور الحديث فأعلى البناء وزخرفه.
وأما الناحية الثانية، ناحية الجو الذي يخلقه الأديب لقصته أو لموضوعه فينتقل بالقارئ إلى العالم الذي يريده؛ فهذه أيضًا للمصري فيها نصيب المؤسِّس الأول، فإن أول مأساة — دراما — وُضِعت على صورة تمثيلية، كانت من فعل الأدباء المصريين، وترجع بتاريخها إلى عهد الأسرة الأولى، انظر Sethe, Dramatische Texte zu Altaegyptischen Mysterien spielen.
وهذه المأساة تشبه رواية تمثيل آلام المسيح وموته كما كانت تمثل في القرون الوسطى، ولم تصل المآسي التي ابتكرها المصريون في قوتها ما وصلته عند الإغريق وفي عصرنا الحاضر، ولا تقتصر الحاجة إلى الجو المناسب عند تأليف القصة أو الشعر القصصي، بل قد تحتاج إليه أيضًا في الشعر الغنائي كما نجده في كتابات «هومر» اليوناني — الإلياذة — وفي كتابات «فرجيل» — الإنياد — وقد وجدنا أثرًا لتصوير الجو الأدبي في الكتابات البابلية — جلجاش — ولكنه قليل، وليست المأساة المصرية السابقة هي كل ما وصلنا عن هذا النوع، فإننا نجد ذلك «الجو الأدبي» مصوَّرًا في قصة «سنوهيت»، وفي قصة «ونامون»؛ إذ إن قارئ هاتين القصتين لا يلبث أن ينتقل مع بطليهما إلى سوريا ويرى بعينهما ويحكم برأيهما، وقد تكون وسيلة المؤلف ساذجة، ولكنها على كل حال تُحدِث الأثر المطلوب، وتمتاز عن القصص الأخرى التي فقدت هذه الميزة والتي يقصها مؤلِّفها ببساطة مثل قصة «الأخوين»، وقصة الملك «خوفو والسحرة»، وغيرهما من القصص.٢ وإذا كانت هذه القصص الأخيرة بمثابة قطع من الحلوى يستحلبها الأطفال في أفواههم، فإن قصتي «سنوهيت» و«نامون» غذاء عظيم للرجال الرشداء، ولا جدال في أنهما أقدم قصتين قصيرتين جيدتين في العالم كانتا ذخيرة للأدب العالمي، وإن لم تصلا في موضوعهما إلى نظائرهما في العصر الحديث.

بقيت الناحية الثالثة، وهي قوة التأثير وشدة الأسر، وهذه ترجع إلى عاملين: الألفاظ، والصوت. فإن اجتمع اللفظ العذب الرشيق مع الصوت المناسب أخذ بمجامع القلوب، وجذب الأنظار والأفكار، أما الألفاظ الجميلة فاللغة المصرية غنية بها، ونراها في موضوع «شجار بين إنسان سئم الحياة وروحه»، وفي خطب «الفلاح الفصيح» التي استهوت الملك نفسه، وأما سحر اللفظ ووقعه في النفس فقد حرمناه؛ لأن اللغة المصرية تنقصها الحياة والحركة.

وجملة القول أن مصر كان لها أدب قومي منذ ٢٠٠٠ق.م وأن هذا الأدب هو وليد حيويتها، ولم تأخذه عن غيرها، أو تتأثر فيه بغيرها، وهو وإن لم يبلغ مرتبة الأدب الحديث إلا أن له فضلَ الخلق والسبق والتأصيل.

وإذا كان الأدب المصري قد أخذ يتدهور في العصور المتأخرة، فإنه ترك الزمام للأمة اليونانية حتى تخلق بتفكيرها في أجواء عالية منه على سنَّة التدرُّج طبعًا؛ فإنه ليس في مقدور الأدب الإغريقي ولا الفن الإغريقي أن يولدا كاملي النمو كما ولدت «فينوس» (الزهراء) ناضجةً كاملة النمو من أمواج البحر، فالأدب المصري غذَّى الأدب العبري والأدب الإغريقي، فشبَّا ولَعِبَا دوريهما في الحياة، ونشك بحق في مقدرة الأدب اليوناني والأدب العبري على بلوغ المرتبة التي وصل إليها كلٌّ منهما، إذا لم يتخذا من الأدب المصري عونًا على النمو والارتقاء بطريقة لا نزال نجهلها.

١  Max Pieper, Die Ägyptische Literatur.
٢  هذا الجو نجده كثيرًا مصوَّرًا في الشعر الجاهلي، حينما يصف الشاعرُ الديارَ ويبكي الأطلال والدمن (راجع المعلقات).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤