نظرة عامة في الأدب والكتابة المصرية

(١) تطور الأدب

اتصل الأوروبيون بالمصريين في عهود ضعفهم بعد أن ضرستهم الحروب، وبعد أن خرجوا يلهثون من حياة كفاح طويلة مع أجانب غاصبين، وقد ضرب المصريون الأقدمون نطاقًا حول عاداتهم وموروث معتقداتهم لا يجتازونه ولا يسمحون لأحد أن يزحزحه، وكأنهم ظنوا بذلك أنهم سيحتفظون دائمًا بمكانتهم التي كانت لهم عند العالم. وليس معنى ذلك أنهم كانوا جامدين، يسير العالم ولا يسيرون، بل إنهم مع تحفُّظهم كانوا سبَّاقين متيقظين في وقت ظَلَّ كثير من الأمم فيه يغطُّ في نوم عميق، وكانت روح المغامرة تحفزهم، والإقدام يملأ رءوسهم، وتلك سياحاتهم وحروبهم وآثارهم الفنية الخالدة تشهد بتوثُّبهم، بل إن أعمال التصوير والنحت عندهم تنطق بأن الحياة لديهم كانت دائمة فرحة ناطقة جريئة، كما كانت عند الإغريق الذين أتوا بعدهم بآلاف السنين.

ولم يعجب اليونانيين ما كان عليه المصريون من تحفُّظ موروث، فنظروا إلى عاداتهم نظرةَ رهبةٍ واحتقارٍ؛ لأنها لا تتفق مع دنيا الحضارة عندهم، ووضعوهم كما وضعهم الأوروبيون جميعًا مع الصينيين الأقدمين في كفة واحدة، والواقع يخالِف ما ذهبوا إليه كما قدَّمنا؛ لأنهم نظروا إلى الحياة نظرة واسعة جريئة دعاهم إليها ذكاؤهم وتوقُّد عزيمتهم، فوجدنا عندهم حياةً عقلية محترمة، وفلسفةً دينية عميقة، وافتنانًا في الأغاني والقصص، وعنايةً بالكتابة والأدب.

وحُكْمنا على الأدب المصري لا يصل طبعًا إلى حد الجزم؛ لأن مظانَّه أوراق البردي، وبقاؤها سليمة كاملة ثلاثة آلاف من السنين أو أربعة نادرٌ أو مستحيل، فكل ما وصلنا منها جذاذات من مجاميع عظيمة، ولقد أمكننا بشيء من الدرس والموازنة أن نصل إلى حكم نعتقد أنه صحيح في جملته؛ لأننا وجدنا الخواص التي يمتاز بها كل عصر أدبي وصلنا إليه تتفق وما نعرفه عن العصر التاريخي الذي سايره وظهر فيه.

والذي نستطيع أن نقطع به أن المصريين كانوا مهتمين بتنمية لغتهم وصقلها؛ لأنها غنية بالاستعارات والتشبيهات، فهي من هذه الناحية لغة مترفة مثقَّفة.

(٢) عصور الأدب المصري القديم

يمكننا أن نقسم تاريخ الأدب عند المصريين القدماء إلى عصرين كبيرين: قديم، وحديث.

العصر القديم

إن الظاهرة التي امتاز بها هذا العصر الأدبي شيوع المحسِّنات اللفظية؛ فقد عني الكتَّاب بزخرفة الألفاظ وتنميقها على نحو يقرب مما ساد اللغة العربية في العصر العباسي الثاني، حينما انتشرت طريقة «ابن العميد» و«القاضي الفاضل»، غير أن كتَّاب الفراعنة كانوا يعنون بناحية المعنى عنايتهم بترصيع الألفاظ، فكتبوا بهذه الأساليب المزخرفة بحوثًا قيمة عميقة.

وليس من شك في أن كثيرًا من أدب هذا العصر قد ضاع، فلم نعثر فيه إلا على كتب للأمثال أو للتعاليم المدرسية أو التأملات، وأما غير ذلك من ألوان الأدب فلم نعثر على شيء منه أو عثرنا على قدر قليل تافه،١ ولا يمكننا أن نتصور خلوَّ الأدب المصري القديم من قصائد غزلية مثلًا، أو من أناشيد ملكية، أو أن عناية المصريين القدامى بالأمثال والتعاليم المدرسية تفوق عنايتهم بالغزل والنشيد، وإنْ كنَّا قد وجدنا منها شيئًا لا بأس به، وكل ما هنالك أنهم اعتادوا أن يدفنوا مع تلاميذ المدارس كتبهم عند موتهم؛ فحفظتها القبور لنا بجانب جثثها حتى وصل إليها الكاشفون المنقبون فعرفناها، أما كتب الأدب الأخرى التي كانت تُحفَظ مع الأحياء فقد أدركها العفاء فجهلنا أمرها.

ويبدو غريبًا لنا أن نرى المصريين — وقد عنوا كثيرًا بدينهم وآخرتهم — يجعلون للدين المرتبة الثانية من أدبهم، وقد يخفِّف من حدة هذه الغرابة أن العقيدة أمر موروث يأخذه الأبناء عن الآباء من غير بحث ولا اقتناع، حتى إذا خلا المرء إلى نفسه وراضَ فكرَه سما به إلى تلك القوة الهائلة المجهولة التي لا يدرك كنهها ولا يعرف لها حدًّا — الله — فيقف فكره عند ذلك موقف الذي أعياه الجهد وأدركه البهر، فانقطعت أنفاسه فلا يستطيع تصوير ما جاشت به نفسه تصويرًا أدبيًّا ممتازًا.

ويظهر أنه في عهد الأسرة الخامسة (سنة ٢٧٠٠ق.م) من العصر القديم، قد أنشئ كتاب واحد على الأقل من كتب الأمثال، وقد بلغ الأدب غايته في هذه المرحلة على ما نعتقد في العصر المظلم الذي يفصل بين الدولة القديمة والوسطى، وفي عهد الأسرة الثانية عشرة المشهورة (١٩٩٥–١٧٩٠ق.م).

وقد ظلت كتابات هذا العصر تُقرَأ في المدارس المصرية القديمة خمسمائة سنة، وهي على حالها من الزخرفة والعناية بالمحسِّنات اللفظية التي أُغرِم بها المصريون وقتها إغرامًا شديدًا، والتي بذل الأدباء في سبيلها كل جهد ليصلوا بها إلى العذوبة والجمال.

العصر الحديث

غيَّرَ الأدب وجهته في هذا العصر، فسار في طريق أخرى غير الطريق التي اعتادها قديمًا؛ فقد كانت مادة الأدب إلى هذا الوقت اللغة الفنية العالية في كل ألوانه، وقد تقترب من لغة المحادثة إذا تناولت وثائق حيوية أو صوَّرت قصصًا شعبية.

أما في العصر الحديث فقد احتجبت اللغة الفنية، ولم يَعُدْ أحد من الشعب يفهمها أو يستسيغها، حتى إنه في عهد الثورة الدينية العظيمة التي حدثت أيام «أمنحوتب الرابع» من ملوك الأسرة الثامنة عشرة، بدأ القوم يكتبون الشعر بلغة العامة، وقد أُلِّفَتْ بهذه اللغة «أنشودة الشمس الجميلة»، وهي تضم في طياتها منهاجًا للإصلاح الديني. ولقد استقر نظام الكتابة بلغة العامة، وكُتِب له البقاء، وفي عهد الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين، ظهر أدب قوي مكتوب بتلك اللغة الجديدة التي أسميناها «المصرية الجديدة»، كما كُتِب بها جزء كبير مما جمعناه في هذا الكتاب.

وقد بقي للمدارس خطرها أيضًا في عهد «المصرية الجديدة»، ولكن أساليبها دبَّتْ فيها الحياةُ بقدر ما ذاق المصريون من حلاوة الحياة في هذا العصر؛ إذ رأوا الدنيا بعين الرضا، فتعشقوها وشغفوا بها.

والأدب الحديث خلو من الأفكار العميقة والبحوث الفلسفية، وقد يسوق الله إلينا كشفًا جديدًا يغيِّر هذا الرأي، فإن حال مصر في ذلك الوقت تدعو إلى نقيضه.

ولم تَدُمْ سيطرة «المصرية الجديدة» على الأدب طويلًا، فإن الأدباء حنوا إلى العهود الأولى، فأخذوا يرصعون عباراتهم وينتقون لها أصفى الألفاظ والأساليب، وقد يزيِّنونها بالألفاظ الأجنبية على سبيل التظرُّف، أو إظهارًا لتمكُّنهم من مادتهم، واستمر الأدباء في طريقتهم يهذبون اللغة ويفتنون فيها نحو خمسة قرون، أخذ هذا النوع من الأدب بعدها في الانحطاط حتى كاد أن يتلاشى. وكان على تلاميذ المدارس أن يتعلموه كأنه مادة غريبة عنهم، حتى آل نجم الأدب إلى الغروب، كما آل نجم مصر إلى السقوط.

استمرت الحال كذلك عدة قرون — وقد نستثني منها عصر الإغريق — إلى أن ظهر أدب جديد هو الأدب الديموطيقي، ولا دخلَ له في موضوع كتابنا.

ويلاحظ أن اللغة الأجنبية التي كان الأدباء يزيِّنون كلامهم بها في العصر الأخير من الدولة الحديثة، كانت مستعارة من لغة فلسطين غالبًا؛ لما كان بين البلدين من علاقة متينة قوية، وهذا يدعونا إلى القول بأن «كنعان» قد تأثَّرت بمصر من ناحية الأدب، كما تأثَّرَتْ بها من ناحية الفن.

ولو وصل إلينا شيء من الأدب الفينيقي لرأينا الطابع المصري فيه واضحًا أيضًا من غير شك، وإننا لنرى الأدب العبراني — وإن كان زمنه متأخرًا عن الزمن الذي نتحدث فيه — يذكِّرنا بنوع من الكتابات المصرية، نرى ذلك واضحًا في المزامير وأناشيد الإنشاد في الأدب الحكيم عند العبرانيين، وقد نرى تأثيرًا كذلك غير مباشر للغة المصرية، إذا دققنا البحث في أساليب العبرانيين وطرائق تعبيرهم غير ما ذُكِر.

وما دمنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة، فليس ببعيد إذن أن يكون الأوروبيون أنفسهم قد تأثَّروا بالعقلية المصرية والتفكير المصري، فاستفادوا وأفادوا.

(٣) الكتَّاب المتعلمون

كانت الطبقات المثقفة عماد الأدبين القديم والحديث، وكان للكاتب فضل السبق على غيره من أصحاب المهن الأخرى، بل إنك لتجد فجوة كبيرة تفصل بين المصري المتعلم وغير المتعلم، ومَن يبرعْ في الكتابة يَنَلْ أسمى المراكز، وإن لم تَسْمُ مواهبُه الأخرى، بل لم يكن للحاكم نفسه قيمة إلا بكتابه، ومن هنا تدرك السر في رغبة كبار الموظفين القدماء أن يصوِّروا أنفسهم في هيئة الكتَّاب؛ لأن الكتابة في نظرهم سلم يرقى فيه المرء إلى أقوى المراكز وأعلاها، والرجل الذي يستطيع الإبانة عما في ضميره بأسلوب جميل مهذَّب يجد الطريق أمامه مفتوحة لأكبر المناصب وأعلى الدرجات. ومن هنا شملت الكتَّابَ موجةٌ من الغطرسة والكبرياء، وراحوا يدلون على غيرهم بمركزهم الاجتماعي، ويظهر هذا واضحًا جدًّا في أدبهم القديم الذي كوَّنوه بحيث كان ذلك التعالي ميزة له.

والكبر وإن كان في ذاته مكروهًا، إلا أن المثل العليا التي وضعتها طائفة الكتَّاب للموظف الذي يعتد بنفسه ويرتفع بكرامته جعلتنا نتجاوز عن ناحية الصلف، ونعترف لهم بأنهم جعلوا من واجب الموظف أن يكون عادلًا ينتصر للمظلوم، ويأخذ من الظالم، حاذقًا يعرف كيف يتغلَّب على الصعاب، ويفتح الطريق بين أعظم الصخور وأمنع العقاب.

وكانت آراء الكاتب تُحترَم في مجلس الشورى، وكل قول له يجب أن يُقدَّر ويُميَّز عن العامة.

يهذه الروح كان الموظفون يعملون كما نشَّئوا الشباب من طائفتهم على هذه المبادئ نفسها.

وفي عهد الدولة الحديثة بقي الميل إلى البيروقراطية ومدارسها كما كان من قبلُ، وبالرغم من كل ما بدا من خلاف فإن رسائل المعلمين لم تعظ بشيء غير ما وعظت به كتب الحكمة القديمة.

وليس هناك فرق إلا أن تعاليمهم كانت مرتدية ثوبًا أكثر لباقة وحذقًا، وأن خلق الكبرياء الذي يشع من مراميهم كان أكثر تجسُّمًا وأبين وضوحًا.

وسنوضح كل ذلك في باب الرسائل.

(٤) المغنون والقصصيون

لا نرتاب في أن الذين حملوا مشاعل الأدب المصري كانوا من المتعلمين الذين يحترفون الكتابة، وليس معنى ذلك أنهم خلقوه خلقًا، أو أنهم الذين ابتدعوه في أرض الفراعنة ابتداعًا، وإنما ارتقوا به من حالته الساذجة التي كان عليها إلى حالة أكثر افتنانًا؛ فإن الطبيعة التي أوحت إلى الحمام بالهديل، وإلى العصفور بالشقشقة، وإلى الهزار بالتغريد، لا بد دافعة بالإنسان إلى محاكاة هذه المخلوقات، بل إن أساس المحادثة نفسها قائم على هذه المحاكاة، لذلك لا نشك مطلقًا في وجود الغناء — وهو فرع من الأدب — قبل أن ينهض بالأدب الكتَّابُ في مصر القديمة، غير أنه كان بسيطًا لا تكلُّفَ فيه ولا تعقيد ولا ازدواج، واعتبر ذلك بما تراه من الفلاح المصري الآن وقد رفع داليته أو أدار ساقيته، ومن البحَّار وقد أطلق في النيل جاريته أو تسنم ساريته، تجد أن الطبيعة قد أوحت لهما بما يقولان؛ فانطلقَا يرجِّعان على تلك الصورة الصغيرة المحبَّبة التي تنير العاطفة، وتجلو صورة من صور الحياة. ولا شك أن في الغناء راحة ولذة أخذها الأبناء عن الآباء بطريق الوراثة، وهي خير معوان على مداومة العمل الشاق، وتذليل ما صعب منه، ولأمرٍ ما تميل الإبل وتنشط في رحلاتها الطويلة إلى الحداء، فتحث في السير وتسرع في طي المفاوز، والفلاح والصانع في مصر القديمة كانا يستعينان على عملهما الشاق بغنائهما المتواضع، حتى لقد كان الغناء جزءًا من العمل الذي يقوم به العامل، يدلنا على ذلك أن المثَّال كان يضيف إلى تمثاله الذي صوَّره الأغنيةَ التي تناسبه، وقد أوردنا أمثلة من هذه الأغاني في العصور المختلفة في مواضعها المناسبة، وكنا نظن٢ إلى عهد قريب جدًّا أن تلك الأغاني التي كان يردِّدها فاتنات الوصيفات في حضرة سادتهن لم تكن موجودة، ولكنا عثرنا عليها في كشف جديد ممثلة معهن، رأينا منظر غانيات شاديات، وأخريات راقصات، تلمح فيه تناسق الحركات مع إيقاع النغمات، ولا يبعد أن تكون تلك الأغاني ساذجة بريئة كأختها التي كان يرددها العمال.

ولا نشك في أن الغناء قد تأصَّلت جذوره في أرض الفراعنة، ونبتت سيقانه، حتى صار حِرفة معترفًا بها يزاولها الرجال والنساء؛ فقد رأينا رجالًا حُرِموا حاسة البصر، ونساء فاتنات قد اتخذوا من الغناء حرفة مربحة، كما تحدثنا قصة «سياحة ونأمون» في نهاية الدولة الحديثة عن مغنية مصرية عملت على نشر الحضارة المصرية في سوريا من ناحية الغناء.

وإذا كنَّا قد رأينا المغنين والمغنيات ممثلين في آثار الفراعنة، فإننا لم نجد للقصصيين أثرًا؛ وذلك لأن الغناء من مظاهر الترف التي تلازم قصور الأغنياء، والقصص من السلع التي تعرض في الطرقات، ويتلهف على سماعها العامة وصغار القوم كما نرى في أيامنا هذه، وحياة الطرقات وما إليها لم يمثِّلها المصريون في مقابرهم، وإنما سجلوا ما كان من ألوان الحياة المحبَّبة لدى السادة والأمراء.

وعندنا قصص للعامة والخاصة من كل عصور التاريخ المصري إلا الدولة القديمة، فلم يصلنا حتى الآن شيء منها، وتدل مادتها ونغماتها على أنها من أصل قديم، وإذا كانت قصص الروائيين الحديثة تتناول شخصيات تاريخية عظيمة مثل «عنترة العبسي» و«صلاح الدين»، فإن القصص القديمة كذلك لم تهمل أبطال التاريخ، فلدينا قصة من العصر المسيحي في مصر تدور حول «قمبيز»، وأخرى من العصر الإغريقي تتناول «نقطانب»، وثالثة ممتعة حفظها لنا «هيرودوت» عن «رمبزنيتس»، وفي الأوراق البردية الديموطيقية نقرأ قصة الملك «بيتوبستس»، وحكاية رئيس الكهنة «خاموس»، وفي نهاية الدولة الحديثة نجد قصة الملك «تحتمس الثالث»، وقصة ملك الهكسوس «أبوفيس»، ومن أواخر عهد الهكسوس نطالع قصة «الملك خوفو والسحرة».

ولا شك في أن هذه القصص قد وضعها وأذاعها قوم عرفوا ميول العامة وأذواقهم فاستهووهم بها، وإذا كانت هذه القصص قد جاءت في بعض الأحيان على شكل أساطير دينية، كأسطورة «إيزيس» و«أوزير»، وخرافة «هلاك الإنسانية» — والآلهة التي لم تستطع العودة ثانيةً إلى مصر — فإن ذلك لا يمنع من كونها عامية، خلقت للعامة تغذية لميولهم، وإشباعًا لعواطفهم وأهوائهم. هذا وقد طالعتنا الكشوف الحديثة بلون جديد من القصص كان يظن أنه من اختراع اليونان، وأعني بذلك القصص الخرافي الذي تدور حوادث أبطاله حول الآلهة دون البشر؛ إذ عثرنا أخيرًا على قصة للمخاصمة بين «حور» و«ست»، كان كل أبطالها من الآلهة، وتعتبر هذه القصة تجديدًا في الأدب المصري القديم، وسنوردها بعدُ.

(٥) أوزان الشعر المصري

من المعلوم أن الشعر يمتاز بما فيه من الصور الخيالية الجميلة، وبما يقيده من الأوزان الخاصة به، وإذا نظرنا إلى الشعر المصري من هاتين الناحيتين وجدنا أن الصور الخيالية كثيرة فيه، ولكن أي وزن يقيِّده؟ وهل له وزن واحد أو أوزان مختلفة كالشعر العربي؟ وهل له قيود أخرى غير الأوزان كالقافية في الشعر العربي مثلًا؟ الواقع أننا تائهون في بحار الشعر المصري، فكل ما كُتِب بلغة عالية في أسطر قصيرة، متقاربة الطول، يرجح أنه شعر يخضع لوزن من الأوزان، فإذا تكررت المقطعات، واتحدت في عدد سطورها، وتناسبت معانيها؛ كان ذلك شعرًا مؤكدًا لا نثرًا، وتكون القطعة عادة من ثلاثة أسطر أو أربعة، كالأمثلة الآتية:

أنت تنزل في سفينة من خشب الصنوبر
تحرك من المقدم إلى المؤخر
وتصل إلى قصرك الجميل
الذي بنيته لنفسك

•••

فمك مفعم بالنبيذ والجعة
والخبز واللحم والفطير
وتذبح الثيران وتفتح أباريق النبيذ
وأمامك الشدو الجميل

•••

ورئيس معطريك يضمخك بعطر «كمي»
وساقيك يحمل تيجان الأزهار
ورئيس فلاحيك يقدم الدجاج
وصيادك يقدم السمك.

وليس تكرار المقطعات واتحاد عدد سطورها هو كل ما يقيِّد الشعر المصري، بل يلتزم أن تبتدئ المقطعات كلها بكلمات مشتركة تُكرَّر في جميعها، فمثلًا في «جدال بين إنسان سئم الحياة وبين روحه»، نجد أن المقطعات الثانية التي تتكوَّن منها الأغنية الأولى تبتدئ كل واحدة منها بهذه العبارة: «انظر إن اسمي ممقوت»، كما أن مقطعات الأغنية الثانية تبتدئ كل مقطعة بهذه الجملة: «لمَن أتكلم اليوم؟»

وقد نجد القيد مزدوجًا كما في قصيدة تحتمس الثالث؛ إذ نجد أن الأسطر الأولى قد اتحدت في استهلالها، كما نجد الأسطر الثالثة قد اتحدت أيضًا في صدورها.

فالأبيات الأولى من هذه القصيدة تبتدئ بما يأتي:

إني قد أتيت حتى أجعلك تدوس …

وصدر الأسطر الثالثة منها هذه العبارة:

إني أريهم جلالتك …

أما السطران الثاني والرابع فليسا مقيَّدين في بدايتهما.

وقد نجد مقطعات شعرية مختلفة في الطول ومختلفة في عدد السطور، متشابهة أو غير متشابهة في بدايتها، فنسميها شعرًا مطلقًا من القيود، ولا نخفي على القارئ حيرتنا وتردُّدنا بين اعتبار مثل هذا الكلام نثرًا أو شعرًا؛ لجهلنا بالوزن الذي كان يلتزمه المصري القديم عند تأليفه القصيد. والظاهر أن الشاعر المصري ما كان يتقيَّد بوزن خاص، بدليل أن مصريي العصر المسيحي «الأقباط» كانوا ينظمون شعرهم حرًّا خاليًا من القيود الوزنية كما ترى:

رجل آخَر يذهب إلى الخارج
يمكث سنة ثم يعود إلى بيته
ولكن أرشليت، قد ذهب إلى المدرسة
وكم يومًا حتى أرى وجهه.

ولا بد أن المقطوعات الشعرية المصرية المركَّبَة من أسطر كانت تشبه في توقيعها الرباعيات القبطية.

ولا شك أن تحلُّل الشاعر المصري من قيود الوزن يجعله أكثر حرية في تفكيره وفي صياغته، فبدلًا من أن يبدأ مقطوعته بقوله: «أوزير يستيقظ بسلام»، يستطيع أن يبدأها بقوله: «الباقي المخلد، رب المأكولات، الذي يهب الحياة مَن يحب، يستيقظ بسلام.»

ومن مميزات الشعر المصري التي انفرد بها، أن يسوق إليك المعنى الواحد في صورتين مختلفتين متلاحقتين، مثال ذلك: «القاضي يستيقظ»، «تحوت يجلس»، ومثل: «ثم تكلم أصدقاء الملك هؤلاء»، «وأجابوا أمام إلههم»، ومثل: «وهم الذين يدخلون في هذا القبر»، «وهم الذين يشاهدون ما فيه».

ففي المثالين الأولين نحد أن الجملة الثانية مرادفة للأولى، ولا فائدة منها، وفي المثال الأخير نجد أن الجملة الثانية تفيد معنى جديدًا، ولكنه من لوازم معنى الجملة الأولى.

ويرجع إغرام المصريين بهذه الطريقة إلى عنايتهم بالزخارف اللفظية في العهد القديم — كما سبق بيانه — وإلى إظهار الكتَّاب قدرتَهم على اللعب بالأساليب، والافتنان فيها، واعتيادهم ذلك، حتى صار أمرًا مقرَّرًا في كل أسلوب فني عالٍ، ويظهر أن كتَّاب العهد القديم أخذوا هذا النوع الغريب من الأداء عن العبرانيين والبابليين الذين ألفوه وساد بينهم.

وتستطيع أن تدرك مبلغ غرابة هذه الطريقة إذا حوَّلت قطعة ما من الشعر إلى الأسلوب المصري، وخُذْ مثلًا هذه القطعة وهي بداية الكتاب الخامس من «الأوديسا»:

الآن طلع الفجر من مخدعه من جانب «تيتونس»؛ ليحمل النور إلى الخالدين والناس، وكانت الآلهة تجتمع لجلسة ومن بينهم «زيوس» الذي يرعد من أعلى، والذي تعلو قوته كل القوى.

فهذه القطعة تُقرَأ بالأسلوب المصري كما يأتي:

إن الفجر رفع نفسه من سرير «تيتونس»
وشفق الصبح طلع من مكان راحته
حتى يستطيع أن يضيء للخالدين
ويحضر النور لبني الإنسان
والآن كانت الآلهة ذاهبة إلى المجلس
وجلس الخالدون ليتشاوروا
وجلس في وسطهم «زيوس» الراعد
وجلس على عرشه ملك الآلهة رئيسًا لهم
ذلك الذي قد عظمت قوته
وفاقت قوته كل شيء.

ولا شك أن هذا الترادف أو المزاوجة في التعبير مما يذهب بإمتاع القطعة، ويكد الذهن، ويمنعه متابعة المعاني وتسلسلها ببساطة وسهولة، ولكن لم يكن ذلك قالبًا يجب صب الشعر فيه، أو مقياسًا يجب عرضه عليه، بل كان مجرد حلية لفظية يلزم الشاعر باتباعها ما دام قد اختار لمعانيه الأساليب العالية.

ولقد جَرَّهم غرامُهم بالترادف والازدواج إلى الترصد للممدوح قبل ذكر اسمه، بسرد عبارات مختلفة تشير إليه، وتدل عليه، كما جاء في أنشودة الصباح المترجمة بعدُ، ويتنوع البيت الواحد بهذه الطريقة إلى ما لا نهاية له من الصور والأوضاع، ويبدو هذا مملًّا وثقيلًا على آذاننا، ومَن يدري، لو أنا وُهِبْنَا آذانَ الفراعنة الأقدمين، وعرفنا كما عرفوا أسرار مسمياتهم التي اختاروها، لَكان هذا الشعر خفيفًا على أسماعنا، محبَّبًا إلى قلوبنا! وقد فشا هذا الأسلوب في قصائد المديح خاصة، وهي التي يمتاز بها الأدب المصري، فيسبق اسمَ الممدوح جملٌ للتعظيم مثل «المديح لك» أو «التعبُّد لك»، تتبعها نعوت، وأسماء، وأسماء أفعال، وجمل موصولة للتعريف بالممدوح، وللتذكرة بجميل أفعاله، وتُحشَد هذه النعوت حشدًا كثيرًا بلا ترتيب مما لا يجعل تفاضلًا بينهما، ومما لا يجعل لهذا الشعر معنى. ومن الظواهر الملموسة في الشعر المصري تداعي المعاني وتساوق الأفكار، وإذا قرأت «تحذيرات نبي» وجدت هذه الظاهرة واضحة، فهذا الشاعر الذي تفجَّرَ قلبه حزنًا وأسى على بلاده، أخذ يرسل الزفرات الواحدة بعد الأخرى، شاكيًا مما يشجيه ويحزنه، ولكن لا اتصال بين ما يشكو منه على كثرته، لظاهرة الاستطراد وتداعي المعاني التي تواضَعَ عليها هؤلاء الشعراء، فكل فكرة يعبِّر عنها تسوقه إلى فكرة جديدة فيتناولها أيضًا، فتسلمه هذه بدورها إلى غيرها وهكذا، وإليك مثلًا مما قال: «إن كل شيء مملوء بالحياة حتى الأطفال الصغار.» وعند ذِكْر الأطفال يثب إلى ذهنه أنهم يُقتَلون، ويُلقَى بهم على تلال الصحراء؛ فيتناول هذا الموضوع، ثم تذكره تلال الصحراء بالموميات التي تنزع هناك من قبورها، ويلقى بها عليها؛ فيعالج ذلك أيضًا بدون أن يكون لكل ما ذكر علاقة أصلية بالموضوع الذي أنشأ فيه القصيدة أولًا.

ومن الزخارف اللفظية التي أولعوا بها الجناس، وكان أسلوبًا محبَّبًا إليهم، وقد وُجِدت في «متون الأهرام» صيغ دينية قديمة جدًّا لتقديم القرابين، التزم فيها الجناس في كل اسم من أسماء مواد الطعام، واستعمل الجناس كذلك بنظام في قصيدتين من أدب الدولة الحديثة؛ قد دُوِّنَتَا فيما بعدُ، ولا نستطيع أن نبرز هذا الجناس باللغة العربية طبعًا لاختلاف ظروف اللغتين.

ومن الحلى التي كان لها شأن كذلك في تزيين اللفظ وقتها: بداية الكلمات بحروف واحدة، ولكن لا يلتزم هذا الاتحاد الحرفي دائمًا، ومثالُه بيتان من الشعر يشيران إلى «أمنحوتب الثالث»: «حاربَتْ عصاه بلادَ النهرين، وأخضعَ قوسُه السود.»

ولقد عثرنا على شعر مصري في العصر اليوناني تشابهت فيه الحروف الأولى لكلماته؛ مما يجعلنا نعتقد أن تلك العادة وُجِدت قبل ذلك التاريخ عند أدباء المصريين، وكانوا يميلون إلى اتباعها في نقوش معابدهم، بل إن رجال الدين كانوا يجدون لذةً في ذكر كلمات تتحد حروفها الأولى في الجملة الواحدة، وهناك رأي ينسب مثل هذا الأسلوب إلى الدولة الحديثة أيضًا.

(٦) الكتابة والكتب

إن ذلك المخترَع الذي اهتدى إليه المصريون، فضمن للحياة العقلية النمو — ونعني به الكتابة — جدير بأن نجعل له نصيبًا من عنايتنا، وأن نتحدث — ولو بشيء من الإجمال — عن بدئه وتطوره.

بدأت الكتابة المصرية على نظام الصور الذي اتبعه غير المصريين، ينقشها الإنسان ليذكر بها شيئًا في ذهنه، ولكنه من الصعب على غيره أن يهتدي إلى ما يريد؛ لذلك كانت هذه الطريقة ناقصة، وغير مضبوطة، ولا تؤدي إلى الغرض من اختراع الكتابة، وإليك مثلًا: اتفق شخصان على أن يبيع أحدُهما الآخَرَ ثورًا في مدى ثلاثة أشهر مقابل خمس جرات من العسل، فإنه يكفي لتسجيل هذه الصفقة أن يرسم «القمر، والثور، والنحلة، والجرة، وبعض شرط أفقية تدل على العدد»، وبدهي أن الأجنبي عن هذين المتعاقدين لا يستطيع أن يفهم صيغة ما تعاقَدَا عليه على وجه الدقة إذا عُرِضت عليه هذه العلامات؛ لذلك مست الحاجة إلى تلافي هذا العيب، فبدأ كل قوم من ناحيتهم يفكِّرون في إكمال ما لمسوه من النقص حتى وصلوا إلى أنواع من الكتابات والكلمات والمقاطع، وقد لازَمَ المصريين وحدَهم التوفيقُ فوصلوا إلى أعلى شكل للكتابة، وهو الحروف الأبجدية.

والفكرة الأولى التي وصلت بهم إلى غايتهم في ذاتها سهلة، فإن هناك من الكلمات ما يصعب رسمه وتصويره، كأسماء المعاني مثلًا، فيجب أن ينقش بدلها كلمات أخرى يمكن رسمها، وتتفق معها في النطق، وإن كانت تختلف عنها في المدلول، وعلى القارئ أن يفهم المعنى المقصود من سياق الكلام، فمثلًا أردنا أن نعبر عن معنى عظيم «ور»، وهذا يصعب علينا رسمه لأنه معنوى، فلا علينا إذن إذا استعملنا بدله لفظ عصفور الجنة «ور»؛ لأنه يماثله في النطق، وإذا أردنا أن نعبِّر مثلًا عن كلمة يصير «خبر» وتصويرها أيضًا متعذر، فلا بأس من أن نستبدل بها مثلًا كلمة جعل «خبر» التي تماثلها في النطق، والمرجع في فهم المعنى المقصود منها إلى حذق القارئ.

والكلمة التي نستعيرها يجب أن تحتوي على حروف الكلمة التي نستعيرها لها، بصرف النظر عن الحركات التي تحدِّد موقعها من الإعراب.

وكثير من العلامات التي تستعمل في معنى واحد اتسعت معانيها على مر الأيام، وأصبحت لا تختص بمدلول واحد، بل إنها صارت على مر الأيام أجزاءً من كلمات أخرى، فمثلًا عصفور الجنة لم يَعُدْ يُستعمَل — كما في المثال الأول — ليدل على «ور» (عظيم) فحسب، بل ليدل أيضًا على الحرفين الساكنين «و، ر»، إذا دخلا في تركيب الكلمات الأخرى مثل «حور»، «سور»، «ورس»، «ورريت» … إلخ. ومن هنا اكتسبت الكتابة إشارات من حرفين ساكنين. وتقدَّمَ المصريون خطوة أخرى؛ فاستعملوا كلمات قصيرة، فيها حرف ساكن واحد، تدل بجملتها على هذا الحرف الساكن، فمثلًا = ر = (فم)، كانت تُستعمَل للدلالة على حرف الراء، و = زت = (أفعى)، كانت تُستعمَل للدلالة على حرف الزاي — والتاء فيها علامة التأنيث — و = شي = (بحيرة)، للدلالة على حرف الشين، وهكذا. وكانت نتيجة هذه الخطوة أن تكوَّنت حروف أبجدية من أربعة وعشرين حرفًا ساكنًا، وهي التي انتهت فيما بعدُ إلى أرض كنعان، وأُخِذت منها الحروف الأبجدية الأوروبية.
وبهذه الحروف الأبجدية كتبت كلمات قصيرة مفردة، مثال ذلك = ر = إلى، و = م = في. = أو = يكون، كما كُتِبت نهاية بعض الكلم مثل = خبر. ف = هو يصير، كما أنها سهَّلت قراءة الإشارات التي تدل على كلمات، فمثلًا في بمعنى الضامة أو بمعنى فأس، لو تُرِكت هذه الإشارات كما هي مرسومة لاحتمل تفسيرها بكلمات أخرى لا تدل على الضامة، ولا على الفأس، ولكن بإضافة «ن» للأولى، و«ر» للثانية، وكتابتهما هكذا «من، مر» يتحدَّد معناهما ويدلان على الضامة والفأس لا غير، كما أن كثيرًا من الكلمات كُتِب بالحروف الأبجدية الخالصة على حسب هجائها.

والخلاصة أن الحرف الواحد كان يدل على كلمة أو يحلق بأخرى، أو يضاف إلى إشارة؛ ليحدد معناها أو يلتزم وظيفةً أصليةً فيكون جزءًا من الكلمة.

وقد بقي نظم الكتابة خليطًا بضم كلمات يراد بها معناها الأصلي، أو معناها الاستعاري، أو علامات أبجدية تدل على كلمات، أو تحدد معاني كلمات.

وقد خطت الكتابة خطوة أخرى نحو النمو، وأُدخِل عليها عنصر جديد ينحو بالكلمة إلى الهدف المراد منها، وهو ما يُسمَّى بالمخصص، فمثلًا: «نهت» أي جميز أُضِيف إليها شجرة فأصبحت تُكتَب هكذا «ونفر» أي جميل أُضِيف إليها إضمامة بردية لتدل على الشيء المعنوي، فأصبحت تُكتَب هكذا وكذلك غير ما تقدَّم من الكلمات.

والكتابة بعد هذه الخطوة أصبحت سهلة على القارئ المصري القديم؛ يكتبها ويقرؤها ويفهمها بيسر وسهولة، بدليل أنه وقف عندها، ولم يحاول أن يطوح بالمخصص، ويقتصر على الحروف الأبجدية وحدها بوضع نظام يوصل إلى هذه الغاية.

ولقد اعتدنا أن نقتفي أثر الإغريق في تسمية الكتابة المصرية، فنسمي بعضها «الإشارات المقدسة» (هيروغليفية)، ونسمي بعضًا آخَر خاصًّا «الهيراطيقي»، وهو الذي نقلنا عنه معظم ما في هذا الكتاب، وفي هذه التسمية بعض التجوز أو التساهل؛ لأن الهيراطيقي ليس نوعًا خاصًّا منفصلًا عن قسيمه، بل هو بمثابة خط الرقعة في اللغة العربية، إنْ جعلنا الهيروغليفي بمنزلة خط النسخ، والفرق بين الاثنين كالفرق بين حروف المطبعة وخط اليد.

ومما ساعَدَ على تقدُّم الأدب المصري بوجه عام الأدوات التي كان يستعملها الكتَّاب في كتابتهم، فلم يتأثروا البابليين في طَبْع إشاراتهم على اللوحات الطينية التي أنتجت الخط المسماري القبيح الشكل، بل إنهم كانوا يكتبون كما نكتب، وبعبارة أصح: أصبحنا نكتب كما كانوا يكتبون، فكان عندهم المداد الأسود الثابت اللون، وكانوا يطحنون مادته على ألواح من الخشب، وكانوا يأخذون أقلامهم من القصب؛ يبرون أطرافها، ويدببونها وفق رغبتهم، وكان عندهم فوق ذلك ورق ناعم جميل صنعوه من لب سيقان البردي، فتهيَّأ لهم بذلك ما لم يتهيَّأ لغيرهم من الأمم؛ فنمت كتابتهم، وتوطدت أركانها. ويمكننا إذا رأينا الآن النُّسَخ الخطية التي تركوها أن نلمح بين سطورها مهارة الكاتب وقدرته، وأن ندرك من رسمها أن ناقشها كان متمكنَ اليد، منشرحَ الصدر.

وكان من السهل عمل صحائف طويلة يصل طولها إلى بضع عشرات من الأمتار، بضم صحائف صغيرة منفصلة بعضها إلى بعض وإلصاقها، وهناك صحائف خطية جميلة من هذه النوع يبلغ طول الواحدة منها نحو أربعين مترًا.

وكانت الكتابة عادةً على وجه واحد من البردي، وهو الوجه الذي تكون الألياف فيه أفقية، حتى يأخذ القلم سبيله بلا مقاومة، وهذه الطريقة تستدعي الإسراف في الورق، ولم يكن في مقدور كل كاتب مصري أن يلجأ إليها، ولدينا أمثلة كثيرة للكتابة على وجهي الصفحات اقتصادًا في الورق.

والشخص الذي ندين له بأمتع مثال لدينا من هذا النوع هو صاحب «ورقة هريس» رقم ٥٠٠؛ إذ حصل على أوراق مكتوبة من البردي، وغسل ما عليها من المداد، وكتب على أحد وجهيها ثلاث مجاميع من أغاني الحب وأنشودة الشراب القديمة، وجاء بعده كاتب آخَر، وكتب على الوجه الثاني من الورقة قصتين.

وقد استعمل كاتب ورقتي «لينينجراد» طريقةً مغايرة للسابقة؛ إذ كان يشتغل كاتب حسابات، فأخذ وثائق من مصلحته، وألصق بعضها ببعض، ونسخ على الوجه الأبيض هاتين الورقتين، محتفظًا بملكية ما كتب له، ولأخ عزيز موثوق به، وقد حفظَتْ لنا هاتان الورقتان تعاليمَ للملك «ميركارع» ونبوءة «نفررهو».

والكاتب الذي يعجزه الحصول على ورق البردي كان يجد ضالته في قِطَع الخزف؛ فتحلُّ مع رخص ثمنها محل البردي، وقد نطلق اسم الخزف على كسر من آنية الفخار، أو على قطع من الحجر الجيري الناعم، وكثيرًا ما نشاهد هذه الآثار المكتوبة ملقاة على الأرض في أي مكان في مصر، وكثير منها مما كان يستعمله تلاميذ المدارس المصرية القديمة لكتابة تمارينهم، وقد نقلنا عنها كثيرًا مما في هذا الكتاب.

(٧) فهمنا للمتون المصرية

إذا قرأنا ترجمتين إحداهما قديمة والأخرى حديثة، لمتن صعب من المتون المصرية، هالنا ما نجده بين الترجمتين من فرق كبير، ولا يرجع كل السبب في ذلك إلى تقدُّم علم الآثار في الزمن الحديث، بل هناك عامل أساسي سبق أن تحدَّثنا عنه، وهو نقص نظام الكتابة عند المصريين القدماء، فالألفاظ المصرية لم تُضبَط بحركات تجعل القارئين والمترجمين في مأمن من الخطأ، فأصبحت الكلمة المصرية يمكن نطقها بأشكال مختلفة تعطيها معاني متباينة، مثال ذلك: «سزم» فإنها تحتمل معنى من المعاني الآتية: سماع، يسمع، سمع، سامع، مسموع … إلى غير ذلك، وليس لدينا طريقة لتحقيق المعنى المقصود بالضبط إلا سياق الكلام، وقد يضطر المترجم الأمين من علماء الآثار إلى ترك بعض الجمل من غير ترجمة، أو يترجمها ويعترف بأن هناك من التراجم ما يمكن أن يخالفها ويصح اتباعه، وذلك إذا كان المتن يضم غير المألوف من الأساليب، وغير العادي من الأفكار، أما إذا كان المتن بسيطًا فإننا نجد من السياق، ومن الاستعمالات الكثيرة التي مرت بنا وعُرِفت لدينا؛ خيرَ معوانٍ يصل بنا إلى ما يهدف إليه المتن من الأفكار.

وليس قصور نظام الكتابة هو كل ما يعترضنا من صِعاب عند ترجمتها، بل إن استخفاف الكاتب المصري وجهله بعمله عقبة كَأْداء، وأغلاط الكتَّاب المصريين كثيرة وشائعة، وإن لم تصل إلى درجة الخطورة، ويكفي الكاتب أن يترك أو يضيف «مخصصًا» خطأ إلى كلمة؛ فينقلب معناها، ويبعد عما يريد الكاتب الإبانة عنه، على أن المصريين القدماء كانوا أقل احتفالًا منا بأمثال هذه الأغلاط، وكانوا يصحِّحون أخطاءها أثناء القراءة على ما نعتقد، فليس من المعقول أن يصطفي إنسان كتابًا وينقله لإغرامه به، ثم يغض النظر عن أخطائه الكثيرة، إلا إذا كان معتمدًا على تداركها عند القراءة.

ويظهر أن تلاميذ المدارس المصرية في عهد الدولة الحديثة كانوا أحيانًا يؤدون واجباتهم بَرِمين بها، فهم ينقلون ما يُكلَّفون نقله من المتون في سرعة وعدم اكتراث على أوراق البردي وقطع الخزف؛ ولذلك فشا الخطأ في هذا العهد حتى لم تخلُ أسلس المتون وأسهلها عبارة منه، ولا نشك في أن جزءًا كبيرًا من متن موقعة قادش كان مصيره الغموض لو لم يَسُقِ الله إلينا كثيرًا من النقوش التي ساعدتنا على فهمه وتصحيح أخطائه، وما كانت نسخة «بنتاور» لتغنينا عن ذلك فتيلًا.

على أن بعض التلاميذ كانوا لا يتورعون إذا صُدِموا بنقل كتاب يصعب عليهم فهمه، لالتواء أساليبه اللغوية القديمة، عن أن يغيِّروا فيه ما شاءوا، ولو أدَّى ذلك إلى ضياع المعنى. ومما يُؤسَف له أن يقع كتاب قيِّم مثل تعاليم «دواوف»٣ فريسةً في أيدي تلاميذ مدارس الأسرة التاسعة عشرة، فيحرِّفوا الكَلِم عن موضعه، وأن يجيء إخوانهم تلاميذ مدارس الأسرة الثانية والعشرين بعد بضعة قرون فيسيئوا من ناحيتهم نقل كتابات الأدب المصري الحديث، ولكنَّا نغفر لهم بعض ما أساءوا؛ لأنهم حفظوا لنا هذا التراث من الضياع.
١  وجد بعضه في العصور الوسطى وما بعدها.
٢  عثر الأستاذ أحمد فخري كبير مفتشي الوجه القبلي على مقبرة «خيروف» من عهد الأسرة الثامنة عشرة، ومن مناظرها الفريدة ذلك المنظر الذي أشرنا إليه. انظر: Annales Du Service des Antiquites De L’Egypte. T. XLII. P. 449 ff.
٣  عُرِفت هذه التعاليم بهذا الاسم إلى عهد قريب، غير أن الأستاذ «جاردنر» أثبت أن كاتبها اسمه «خيتي»، كما سنرى ذلك في موضعه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤