الضُّحى

تستوي قامةُ الشمس ضحًى؛ لتحتضن العالمَ بفرح طفولي غامر.

***

١

كان زُربة هو وعمال آخرون يقومون ببناء منزل في الضاحية الغربية من صنعاء مع المقاول عبد المجيد العريقي، في تلك الساعة المشئومة من يوم الأربعاء الثاني من يونيو (١٩٧٦م) سمع زُربة بمقتل ناصر أخي المقاول، على يد أبيه بجنبيته (خنجر) في القرية. تفاجأ بالخبر وبقي برهةً شارد الذهن ودموعه تنهمر دون أن يتوقَّف عن العمل. أخرج قطعة الشَّمَّة المحشوة تحت شفته السفلى، وأخذ يُحدِّث نفسه والحزن يدمي قلبه: «الآن عمل وفي المساء نداوي الحزن بالكأس.» وأخذ يردد بصوت مسموع: الله يرحمك يا ناصر …

في الساعة الخامسة مساءً أخذ يتحسَّس جيوبه تتقمصه سحابة من الحزن يحدِّث نفسه «ستكفي لشراء قارورة جان ويكر؛ أُطفئ بها حزني على صديقي، فالقات لن يكفيَ لذلك.» ذهب واشترى قارورتَه المفضَّلة من بقالة تبيع الخمر خفية … ثم تناول وجبة العشاء: خمس «كُدم»، مَدرة١ فول، كوب شاهي، فلفل أحمر. ثم ذهب هو ورفيقا السهرة سعيد النجار ومحمد مُدهش إلى سكن ثابت ناجي، وهو دُكان إيجار في شارع ترابي قريبٍ من عمله، فغالبًا عمَّال البناء يسكنون في أطراف المُدن. كان الدكان دون حمام، ضيِّقًا ومنخفضًا قليلًا عن مستوى الشارع، بابه الخشبي حَفر الزمانُ فيه آياته، فيه ثقب يمكن للمرء أن يتلصص من خلاله. أربعتهم من قرى متجاورة من جبال الحُجرية، وقد سمعوا بمقتل ناصر على يد أبيه، تلك الجرائم التي لا تحدث إلا نادرًا في قراهم المُسالمة.

سدُّوا ثقب الباب بقطعة قماش، وفاجأهم ثابت بقارورة أخرى. وقتذاك كان الجوُّ ممطرًا وما زالت الشمس عند المغيب. بدءوا يشربون مشروبهم الروحي. أخذ كُلٌّ يتناول كأسه واحدًا تلو الآخر وهم يذكرون ناصر بالرحمة؛ فقد كان خامسهم: الله يرحمك يا ناصر … كُنت طيبًا يا ناصر …

كان زُربة أكثرهم حزنًا عليه، لم يتوقف عن ذرف الدموع. كانت عيناه المترعتان بالحزن تشاهدان الدموع تتدفق من مُقل أصدقائه وتتسرب من تحت الباب إلى الشارع. تقدَّم نحو الباب ببطءٍ مُحدقًا من خلال الثقب إلى الشارع، فشاهد السماء تساقط لؤلؤها بكثافة، حدَّق أكثر وهو يشرب من كأسه، رأى مجنون الحي يجمع اللؤلؤ في كيس بلاستيكي. تناول كأسًا آخر ليرى بوضوح أكثر، فشاهد الأطفال وبعض الرجال يجمعون اللؤلؤ أيضًا في أوانٍ صغيرة.

حاول فتحَ الباب فلم يستطع، أخذ اللؤلؤُ يطفو فوق الماء ويزداد لمعانًا ويتجمع في كُتلة صغيرة. حاول فتح الباب مرة أخرى فلم يستطع سحبَ المزلاج.

اقترب ندماء الفرح والحزن مندهشين، ينظرون ماذا يشاهد زُربة، شاهدوا السماء تُمطر بَرَدًا والشارع يطفح بالماء يتسلل إلى أرضية الدكان. بقي زُربة صامتًا يضحك في نفسه مما رأى وهو ينظر إلى القارورة، لم يتبقَّ منها إلا القليل.

أكملوا نصف زجاجتهم الثانية، وهم يذرفون الدموع على صديقهم ونديم كأسهم، ثم بدءوا يشتمون أبا ناصر؛ لماذا قتل ابنه وهو أصغرهم وأحب أولاده الثلاثة إليه. وساروا يعدِّدون مميزاتِ ناصر كان وكان وكان … لطم زُربة جبينه فقد تذكَّر حدثًا مهمًّا، مِمَّا فاجأ أصدقاءه وقال: عرفتُ ليش٢ قُتل ناصر، لمَّا سافر رأيته يُخبِّي٣ ثلاثَ قوارير جان ويكر في شنطة سفره. يمكن أبوه حَصَّله٤ سكران وطعنه بالجنبية.
قال محمد مُدهش: لا، لا، الأب مُش ممكن٥ يقتل ابنه بسبب شُرب الخمر، الكثير يسكرون هذه الأيام.
– يا أخي، أبوه ذقنه إلى صدره يشوف٦ نفسه شيخ القرية، راءه يشرب وعاقبه، وناصر لمَّا يسكر يكون عصبي، يمكن صاح فوق والده أو شتمه …

بعد جدالهم حول الخمر، هل هي مُحرَّمة كالزنى ولحم الخنزير، وعن سبب مقتل ناصر، قرروا الانتظار حينما يحضر داءُود الطَّبَل (مراسل القرية) ليعرفوا منه الحقيقة.

٢

أكملوا زجاجتهم الثانية وهم يلعنون: الدنيا، أبا ناصر، الخمر وصاحب الزريبة التي يجلسون فيها؛ لأنه بنى بيته تحت مستوى الشارع فأغرق الماء فراشهم. قبل منتصف الليل فتح زُربة باب الدكان بصعوبة فاصطدم رأسه في الباب، وهو يهمُّ بالخروج يرقب الشارع الخالي من العابرين وأخذ ينظر يَمنة ويَسرة، بعد ليلة ماطرة باردة. خرج الثلاثة من دكان ثابت ناجي، يسند بعضهم بعضًا ويضحك كُلٌّ على الآخر بأنه هو الذي يترنَّح. وهم يسيرون في الشارع يترنحون قليلًا، صادفهم حارس الحي، فجلسوا في عرض الشارع يتبولون. طالت فترة تبولهم، وشك الحارس في أمرهم؛ ظنًّا منه أنهم مخربون من أفراد الجبهة الوطنية. اقترب منهم، فرأى البول يسيل في الشارع. حاولوا الوقوف بثبات أمامه، لكن الخمر كانت تدير رءوسهم وكُلٌّ يميل في اتجاه الآخر. عرف العسكري أنهم سكارى، فقال لهم: لِلمه٧ تترنحون، أنتم سكارى؟
رد عليه زُربة ضاحكًا وهو يحاول الوقوف بثبات ورائحة الخمر تفوح من فمه: لا، ما نِحناش٨ سكارى. أنت رأسك يَدور ههههههه.

فكر الحارس أن ينادي زملاءه؛ ليقودوهم إلى قسم شرطة الحي، ولأنه يعرف أن شرطة القسم سيطلقون سراحهم بعد تفتيش جيوبهم جيدًا، أخذ فقط يخوِّفهم بقسم الشرطة. تحسَّس ثلاثتهم ما في جيوبهم، وأعطوه خمسة ريالات كانت معهم. مشوا قليلًا ثم اتجه كُلٌّ إلى سكنه، بعد ليلة باردة.

حين بلغ العشرين سنة كانت امرأته قد ولدت له ثلاثة أطفال: نجيب، نصرة، جميلة. هو رجل متوسط القامة مفتول العضلات، كفَّاه مُتخشبتان، له وجه طفولي ضحوك وقلب طفل، يشذِّب شاربه دائمًا، نهمًا على الأكل، قوته الجسدية جعلتْه يُضاهي ثلاثة بنَّائين في إنتاجهم للعمل؛ لهذا كان المقاولون يُفضِّلونه على غيره، أمَّا شُرب الخمر فكان ذلك في فترة حياته الأولى لتوفُّره بكثرة في تلك الحقبة الزمنية. اعتاد على لبس مئزرٍ وقميصٍ عليه معطف، وعِمامة على رأسه. توقَّف عن التعليم في مدرسة القرية، وهو في المرحلة الإعدادية وبدأ يعمل مع أبيه في البناء، إلى أن تعلَّم البناء في عمر مُبكر من حياته، وأصبح بنَّاءً ماهرًا. كان أصدقاؤه يفضِّلون العيش معه؛ لِما لديه من روح طيبة مرحة؛ حتى إن مجنون الحي كان يحبُّهُ، ذاك الرجل الغامض لا يعلم أحد عنه شيئًا، هل هو مُخبر أو مجنون حقًّا؟ كان كثيرًا ما يتلصَّص عليهم من شقوق الباب هو وزملاؤه، حين يجتمعون ليلًا.

كان زُربة يرى أن حياة الإنسان قصيرةٌ في هذه الدنيا، ويمكن أن تقصر أكثر بالقتل، سواء كان قتلًا فرديًّا أو جماعيًّا في المعارك الدائمة، التي تدور رحاها بين فترة وأخرى في البلاد، شمالًا وجنوبًا، وما زالت أحداث أغسطس (١٩٦٨م) عالقةً في الأذهان، حين راح الإخوة شركاء الثورة يتقاتلون فيما بينهم على الانفراد بالسلطة في صنعاء. لم يكن يريد هذا النوع من الحياة لنفسه، تلك التي تذهب مقابل لقمة عيش تسد رمق أسرته، فكان شعاره أن يتمتع المرء في كل لحظة من حياته، وراح يُسعد نفسه بملذات الحياة والتعامل مع الناس بالحب، وجعل الحياة جنة من حوله ولو جهنم تطفو على سطحها.

٣

نام زُربة في دكانه الصغير المستأجَر من يحيى المطري، يحتوي على فرش زهيد ضمن دكاكين ضيقة دون حمامات يؤجرها للعمال، وحين يريد التبول يستعمل قوارير فارغة. في تلك المرحلة الزمنية كانت دكاكين أطراف المدينة دون حمامات؛ فالشوارع الترابية تتكفل بذلك. هي عادة نُقلت من بعض القرى فالكثير من بيوتها بدون حمامات؛ لذا يقضون حاجاتهم بجوار منازلهم، يكتفون بجدار حقل يسترهم، ويخصِّصون مكانًا بسيطًا للاستحمام في منازلهم.

في ليلة باردة تبول زُربة في قارورة جان ويكر فارغة، وكان لهذه القارورة حكاية ظريفة فبعد أن أحكمَ غطاءها جيدًا، تركها في دكانه تحت ثيابه ونسيَ أمرها. زاره أحدُ أصدقائه وأخذها خِلسة، ثم ذهب يدعو أصحابه ليسكروا معًا. اجتمعوا حولها وهم يضحكون على زُربة؛ بأنهم سرقوا زجاجته التي يخفيها عنهم. نام في تلك الليلة المحزنة والباردة حتى أيقظه أحد أصحابه فجرًا بطرقات قوية على الباب؛ لتناول وجبة الإفطار والذَّهاب إلى العمل. وصل إلى المطعم وهو مزدحم بالعمال ولم يضحك كعادته، تناول وجبته ومضى نحو عمله؛ ليعوِّض مائة وخمسة وسبعين ريالًا ثمن قارورة الخمر التي احتساها ليلة البارحة، يعادل ثمنها أجرة خمسة أيام عمل في البناء. وقف فوق أحد جدران المنزل الذي يقوم ببنائه، وضع الشمَّة السوداء تحت شفته، شعر بنشاط وباشَرَ عمله مع العمال. كان المقاول عبد المجيد يُخصِّص له عاملَيْنِ يزوِّدانِه بالأحجار عكس البنائين الآخرين، الذين يستكفون بعامل واحد معهم، فسرعته في البناء تتطلب ذلك، لكن حُزنه على صديقه ناصر في هذا اليوم منعه من العمل بنشاط كما تعوَّد، فاستكفى بعامل واحد. لم يضحك مع العمال ويتندر كعاداته أثناء عمله. كان هذا الصباح يتمنى لو بقي نائمًا في سكنه حتى الظهيرة، لكن حاجته للمال دفعتْه إلى ذلك. أكمل دوامَه حتى صلاة الظهر بفتور، وذهب يُداوي حزنه بتناول نصف كيلو لحمًا، وقطعة حلوى كبيرة بعد أن اشترى ثلاث حُزم قات صوطي، وهي كمية تكفي لثلاثة أشخاص. هكذا كان سلوكه حين يكون حزينًا، يُكثر من تناول الطعام والقات والحلاوة، وحينما يزداد حزنه يداويه بالكأس. صادف مجنون الحي بلباسه الرثِّ في طريقه، خاطبه بصوت مرتفع: يا زُربة، كيف كانت سَكرة أمس، ها، كيف كانت؟

أعطاه زُربة سريعًا رُبع ريال؛ ليصمت. أخذها المجنون وقال: والله، أنتم السكارى طيبون هههههه.

٤

جلس زُربة في سكنه بعد الظهر، ورفض أن يشاركه أحد في جلسته، على الرغم من أن عادته الترحيب بكل من يأتيه، فأصدقاؤه يفضِّلون الجلوس معه؛ لظُرفه ومعرفته بالحكايات الشعبية والألغاز والمقالب، التي حفظها عن جدته «نعم». قال لهم: أشتي٩ أجلس وحدي، ما شَشْتغلش١٠ بعد الظُّهر.
بقي وحيدًا يتذكَّر الأيام التي قضاها مع صديقه ناصر وكم مرة سكرا سويًّا. حدَّث نفسه: «لم أتخيَّل أن يأتيك الموت يا صاحبي من حيث تأمن. تُرى لماذا قتلكَ أبوك وهو يحبُّك كثيرًا؟» انهمرت دموعه على خدِّه المنتفخ بالقات الصوطي ككرة صغيرة. هذا النوع من القات عادةً ما يجلب الأحزان لمتعاطيه. في تلك اللحظة تمنى بوري مداعة١١ من يد زوجته صفية، ليكتملَ التعبير عن حزنه. وهو يمضغ القات ويحلِّق على بساط سحره والدمع يترقرق في عينيه، شاهد صديقه ناصر يخرج من قبره إلى منتصفه مادًّا يديه، والدم ينزف منه، حتى تكوَّنَتْ بركة حول القبر، وشاهد والد ناصر بدون خنجره الذي تعوَّد على التحزُّم به يمشي مسرعًا إلى البركة، يحاول متلهفًا أن ينتشله من قبره، لكنه غرق في دم ناصر وكاد أن يهلك. فجأةً جفَّت البركة وعاد مخضبًا بالدم، منكسًا رأسه يجر أقدامه إلى داره. أخذ زُربة يقول في نفسه: «تستحق يا قاتل …»

حضر أصدقاؤه وأخذوه لتناول العشاء المعتاد لكن حزنه ما زال يهصره، ولن ينسى مقتل صديقه إلا بقارورة شراب أخرى من أجود أنواعه. ذهب هو وصديقه محمد مُدهش إلى أحد الفنادق واشتريا قارورة ويسكي وعادا إلى سكن زُربة. جلسا يشربان شرابهما ويتحدثان عن قرار الرئيس إبراهيم الحمدي بتعيين الشيخ ابن الأحمر سفيرًا لليمن في الصين. كان محمد مُدهش ملمًّا بما يدور في الساحة السياسية اليمنية، فقد أخبر زُربة أنه ضابط يساري سابق في معسكر الصاعقة، متخفٍّ، أما الآن فيعمل في البناء بعد أن شُرِّد هو والكثيرون من زملائه، بعد مقتل النقيب عبد الرقيب عبد الوهاب. ضحك محمد مُدهش وقال: كيف صدَّق الرئيس الحمدي أنه تخلَّص من الشيخ؟

وراح في كركرة طويلة، والكأس يهتز في يده، وهو يمدُّه ليلتقيَ بكأس زُربة. قال زُربة: مَوْ١٢ يشتِّي الشيخ من اليمن الغبراء، الصين بلاد خضراء جنة الله على الأرض، والنسوان مثل الموز المقشَّر ههههه.

– يا سلام عليك يا زُربة، تقول موز مقشر ههههه، أمانة وصفك جميل.

ثم سأل بلسان متثاقل: قُل لي يا زُربة من أَسْمَاكَ زُربة؟

– اسمي أحمد صالح عمر، لكن نسيته ههههه بعد ما نهَّلَني١٣ عمي قاسم بزُربة بسبب حُبي القات. كان عمي لمَّا يُنهِّل أحدًا يُسبط١٤ لقبه مثل جلده، نهَّل نصف سكان القرية. وأنت قُل لي لِمو١٥ هربت من مُعسكر الصاعقة وأنت كُنت ضابطًا؟

جرع مُدهش كأسًا آخر من الشراب، ومسح فمه بظهر كفِّه وقال بحسرة: فشلت الثورة يا زُربة. أرى أن الحمدي يحلم بمستقبل زاهر لليمن. لو كنا بقينا إلى جواره سيرى كيف ستكون اليمن، لكنه في أحداث أغسطس (١٩٦٨م) وقف مع قادته والقبائل ضدنا. عرف الطريق الصحيح بعد فوات الأوان، وهو يقف الآن وحيدًا يصارع الأطماع الداخلية والخارجية.

بقي الاثنان يذرفان الدمع على ناصر، ويحتسيان آخر قطرة خمر، ثم ناما في الدكان بعد أن أفرغا كُلَّ ما في جوفيهما إلى الشارع.

٥

لم يستطع زُربة البقاء في صنعاء بعد موت ناصر فقرَّر السفر إلى القرية، كان عذره أن وقت الحصاد قد اقترب موعده، ولا بد عليه أن يسافر خاصة أن زوجته حامل في شهرها الأخير، ولن تقدرَ أن تقوم بالحصاد وجمع المحصول بمفردها. تناول زُربة جرابه الصغير الذي يحوي عُدة البناء: مطرقة، متر، ملعقة للإسمنت، وميزان البناء وخيط قياس. حمله على كتفه ومر أمام أصدقائه صامتًا. اتجه نحو الفرزة (محطة سيارات) ثم استقل سيارة بيجوت إلى مدينة تعز، ومن ثم إلى مدينة الراهدة، وهناك اشترى اثني عشر كيلو حلاوة، وكيس قمح بلدي — خمسين كيلو — وست حُزم قات كبيرة من نوع «جدَّة»، والتبغ الجيد المجلوب من عدن. افترش التراب واتكأ على حَجرة صغيرة قُرب فرزة المسافرين إلى مديرية حيفان، وبقي يمضغ القات بصمت، يتخيَّل دم ناصر يسيح أمامه. بعد ساعة استقل سيارة لندروفر عليها اثنا عشر راكبًا. انطلقت السيارة تصعد الجبال الشاهقة، والمسافرون واقفون يتزاحمون على موضع قدم لأرجلهم. وصلوا آخر نقطة لطريق المركبات في حيفان الساعة الرابعة عصرًا. حمل زُربة هديته على ظهره، حوالي سبعين كيلو، وانطلق يعبر المنحدرات والمرتفعات الوعرة، إلى أن وصل قريته «القرن» الساعة الثامنة مساءً. استقبلتْه زوجته ببطن منفوخ بحياة جديدة. ضحك زُربة وقال لها: الحمد لله روَّحت١٦ في الوقت المناسب.

ضحكت زوجته صفية فهي تعرف قصده … هي امرأته قصيرة القامة، بجمال مقبول، نحيفة، ولود ودود، كفها خشن. لم يعرفها زُربة إلا في ليلة العرس حين جلست بجواره أمام الأهل، بعد أن دفع لها والدُه المال لتكشف الحجاب عن وجهها. فرحت الأسرة بالقمح؛ فهم لا يتناولونه إلا في الأعياد. أحاط به أولاده فرحين بالهدية. أخذت صفية مكيالًا من القمح وذهبت بقنديلها الزيتي إلى حَجر الرَّحى المقابل لزِرب البقرة (دَوجَع) وقامت بطحنه، ثم صعدت إلى المطبخ في سطح الدار، دخلته منحنية على الرغم من قِصر قامتها وقد اشتكت مرارًا انخفاض باب المطبخ، وزُربة يَعِدُها برفع سطح الباب، لكنه لم يفعل. سال لعاب الأولاد وهم يشمُّون رائحة خبز القمح البلدي، فشعروا بالجوع على الرغم من أنهم قد تناولوا العشاء قبل قليل.

قدَّمت صفية وجبة العشاء، فتَّة١٧ القمح باللبن والسمن. أخرج زُربة نثارة القات من فمه، وبدأ يلتهم الفتة وترك قليلًا منها للأطفال. في نفس الوقت ذهبَت زوجته تعد العُدة لسهرة الليلة، بعد أن حلبت بقرتها وأطعمتها مسبقًا. قدَّمت له المداعة١٨ عليها بوري كبير، فيه كمية لا بأس بها من التبغ يعلوه جمر متراص بعناية. وبدأ صوت المداعة يعلو … سمع والد زُربة صوت المداعة وهو في داره من الجهة المقابلة القريبة، فعرف أن ابنه وصل من المدينة. أخذ معه «أتريك» يعمل بالكورسين وذهب إليه، فأضأَ بيت زُربة بنور ساطع.

والده هو الابن الأكبر لإخوته الخمسة، طويل القامة، عريض المنكبين، يعمل بناءً، ضحوكًا، يحب فعل الخير، مُسرف بالمال. عرف أهل القرية أن زُربة عاد من السفر، وتوقَّعوا أنه أحضر قاتًا معه كعادته حين يعود من المدينة. حضر تباعًا حُفاةَ الأقدام على ضوء النجوم كُلٌّ من: سالم الحطَّاب، عبده غالب، عبد القوي قارئ الموالد، ناجي أحمد المُقشش وراجح الوطواط، ما عدا عثمان سالم كان ينتعل حذاءً مطاطيًّا، اشتراه ابنه من مدينة عدن.

٦

ذهبت صفية إلى حَجر الرحى مرة أخرى، وقامت بطحن مكيالين من القمح، بينما زُربة يتحدَّث مع ضيوفه وهم يمضغون القات، ويناولون المداعة فيما بينهم من فم إلى فم. زودتْهم صفية ببوري آخر؛ ليحلو سمرُهم وأخذ كُلٌّ يسرد ما عنده من خبر. تحدَّثوا عن محصول السنة الماضية، وكم باعوا من الذُّرة والدُّخن والأحطاب إلى قرية نجاد المجاورة لهم، فأهلها لا يمتلكون الكثير من الحقول، يعملون في التجارة والجزارة وبيع القات، تعلموا التجارة منذ نعومة أظافرهم، لديهم دكاكين صغيرة في بيوتهم، ومنهم من يعمل في شراء الفضة والمرجان والعقيق من النساء اللاتي أخذْنَ يتخلَّيْنَ عنها كزينة، بعد ظهور بريق الذهب في حياتهن الآتي من الخارج، ويبيعون تلك التُّحف في المدينة للسيَّاح الأجانب. أثناء تجاذبهم أطراف الحديث، كان ناجي المُقشش يُحدِّث نفسه بصوت مسموع، يمسح عينيه أكثر من اللازم. اقترب من النافذة وخُيِّل إليه بزوغ الشمس، وصياح الديكة وسقسقة العصافير؛ حتى إنه رأى مجموعة من نساء القرية تجلب الماء فوق رءوسهن من السقايات والراعية حسناء تقود أغنامها إلى المرعى. قال لمن حوله: هيا، قوموا صَلُّوا صلاة الفجر.

كان زُربة والحاضرون يضحكون وهم يلاحظون المُقشش مُصرًّا على رأيه أن الوقت فجرًا ولم يستطع أحد ثنيه عن رأيه. تأكَّد زُربة من ساعة الصليب التي حول يده اليسرى، وجدها الساعة العاشرة ليلًا. هذه عادة ناجي حين يمضغ هذا النوع من القات (جدَّة)، يجنح بعيدًا في هلوسته كبعض الآخرين حين يمضغونه. ومن المألوف أن متعاطيَّ القات أثناء تناولهم يدخلون في نوع من النشوة والنشاط واليوفوريا، وخيالات أحلام اليقظة، لكنهم يُدركون أن ذلك خيالٌ، يُخرجهم من واقعهم المعاش والهروب منه، لكن ناجي كان يرى ذلك الخيال حقيقة. خرج ناجي المُقشش قبل الآخرين مستنكرًا أنهم لم يؤدُّوا الصلاة. وصل إلى بيته وذهب إلى الحمام يتوضأ، ثم اتجه عكس القِبلة تمامًا وأدى صلاة الفجر. بعد تأدية الصلاة نادى زوجته لتعطيَه نقودًا للذهاب إلى سوق الثلاثاء، وراح يستعجلها لكي يعود قبل شمس الظهيرة، على الرغم من أن الليلة كانت ليلة الأحد. عرفت زوجته جليلة أنه مضغ قات جدَّة فذهبت تُقدِّم له اللبن الرائب، وأخبرته بأن ينتظر قليلًا إلى أن شعر بالنعاس ونام.

٧

خرج الضيوف من دار زُربة وهم يضحكون على ناجي، ودخل هو على زوجته يزيل ما تبقى من حزنه على صديقه ناصر؛ فالمتعة لديه تزيل الأحزان. نام حتى الساعة الثامنة صباحًا، ولم يسمع صوت ديك صفية الذي ربته منذ سنتين حتى صار أكبر ديك في القرية، يذهب عصرًا إلى القرية ولا يعود إلا قبل مغيب الشمس، بعد أن يقوم بواجبه نحو الدجاج.

تناول زُربة وجبة فطوره على سطح داره، فتة القمح مع الحليب والسمن، وهو يشاهد الزرع المصفر وقد أينعت سنابله وحان قِطافها. أكمل وجبته وأخذ قليلًا من الشمة التي لا تفارق جيبه، ضغط عليها بين السبابة والإبهام وحشاها تحت شفته السفلى، وأخذ يُفكر كيف يجلب القات لجلسة بعد الظُّهر، أما اللحم فهو يعرف أن الجزار مُقبل الدسم من قرية نجاد سيتكفل بها. في الساعة التاسعة والنصف صباحًا، أقبل ابن الجزار مقبل يحمل ثلاثة كيلو لحمًا، فالجزارون في تلك القرية أناس طيبون، حين يعود أحد من المدينة يتسابقون بإيصال اللحمة إلى بيته، دون أن يكلفوهم عناء المجيء إلى سوق قريتهم ثم بعد ذلك يلحُّون بطلب الدَّين. استلمت صفية اللحم وبعد نصف ساعة أقبل ابن الجزار شاهر ومعه اثنان كيلو لحمًا، فقالت له: سبقك ابن مُقبل، يكفي ما معانا اليوم.

حاول معها ابن الجزار أن تقبل منه اللحم لكنها رفضت، وكان زُربة يستمع إليهما، فخرج واستلم اللحم وهو يقول: يا صفية في واحد يُرجِّع طعام الجَنة من باب داره هههههه.

صاحت صفية: ضيَّعت فلوسك على القات واللحمة، شَيرسلوا لنا كل يوم، أنت تعرفهم. شَتأكل خمسة كيلو يا طاهش؟١٩

٨

قبل الظهيرة ذهب زُربة إلى سوق قرية نجاد لشراء القات، وأخذ معه مائتَي ريال ليدفع ما عليه من دَيْن للجزار مقبل الدسم، أمَّا بائع القات عبد الفتاح المُلوق يعرف أن زُربة يتأخَّر في سداد الدين، فلا يبيعه إلا نقدًا، لكن قاته شراري نوع جيد. لُقِّب بالمُلوق؛ لأنه ادَّعى أن شيطانًا لطمه في منتصف الليل وهو على قمة جبل عُصران المخيف. كان على حماره ذاهبًا لشراء القات إلى منطقة شرار في عُزلة بني يوسف، ولم يعُد فمه إلى وضعه الطبيعي، إلا بعد أن صفعه السيد عبد التواب بحذاء على خده الأيمن. وصل زُربة قرية نجاد بعد ربع ساعة. بيوتها متقاربة كقلعة حصينة، تتوسط القُرى المجاورة، تقع عَرض جبل وتنساب إلى تل صغير في آخره بيوت متباعدة تتوسَّطها مقبرة وعلى جزئها الغربي شجرة كبيرة ظليلة. سلَّم زُربة على الفقيه عبد الجبار وهو تحت الشجرة، يُعلِّم الفتيان حفظ القرآن على الألواح الخشبية.

حين وصل السوق استقبله الجزار مقبل الدسم وصاحب الدكان عصام الحَنش بالحفاوة وغيرهم … لكن الترحيب الأكثر كان من قِبل مُقبل الدسم، فقد بنى له داره مقابل القات واللحم والحلاوة. التقى زُربة في السوق بالكثير من أصحابه، يأتون من القُرى المجاورة في هذا الوقت من اليوم، ينتظرون وصول القات.

حين لاح عبد الفتاح المُلوق بحماره من بعيد، صاح زُربة: ورَد، ورَد٢٠ … وحينما وصل السوق تزاحم الناس حوله، ولم يكن بائع القات الآخر ابن مقبل الدسم قد وصل بعد.

فتح عبد الفتاح حُزمة من القات أمام الحاضرين ثم راح يتغنى بغُنيته المعهودة:

سلامي لك يا قات يا شراري
خليتني٢١ جَنب الحبيب سالي
يا ليتني طول الزمان داري
إنك مليح طعمك غُصين حالي
شاسهر معك ليلي مع نهاري
واعزف بعودك فوق بُرج عالي
لمَّا تكون جنبي والحبيب جواري
أشوف بك خلِّي٢٢ قمر هِلالي
يا سيِّد القات أنت يا شراري
شسعى لوصلك٢٣ لو تكون غالي
خليتني٢٤ أمير وسطَ داري
فارد جناحي ع البلاد والي

ثم قال للمُتزاحمين حوله: القات اليوم غالي. الزربة بِخمسة ريال.

كان يتحدث مع المشترين بنوع من الغرور، كأنه سيدهم. أعطاه المشترون ما فرضه من سعر، وراحوا يتفحصون أوراق القات ببهجة ومسرة. انتظر زُربة وصول حَسن ابن مقبل الدسم بقاته الجدَّة وحين وصل على حماره وهما يتصببان عرقًا، ساعده زُربة في إنزال حمولته من القات. قال وهو يحل رباط الحمولة: قاتك جاهز يا زُربة. ما فيش٢٥ أحد يجيب٢٦ قات مثلي.
سأله زربة عن السعر فقال: كم ما شِيقول رأسك يا راجل٢٧ والفلوس لَحين ميسرة.

في ذلك اليوم كان سعر القات غاليًا ولم يشترِ صاحب الدكان ناصر المسحور، المعروف لدى أسرته أنه إذا لم يتعاطَ القات يكون عصبي المزاج وحاد الطباع، ولا بد على أسرته حينها أن تكون حذرةً منه، لا تُغضبه، ولا تناقشه حتى يمرَّ وقت تناول القات بسلام. ذات يوم لم يتناول القات فيه، أخذ يشتم زوجته ويرمي بالصحون إلى خارج المطبخ لأسباب عادية، كبعض الذين لا يجدون قيمة القات، لكنهم في آخر النهار يعودون إلى حالتهم الطبيعية.

شاهد زُربةُ المجنونةَ زعفران المحبوسة في غرفتها منذ عشرين عامًا، وهي تُخرج رأسها من نافذة صغيرة تشتم وتلعن، لم ينفع معها تمائمُ الشيخ عبد الله، أو ميسمُ السيد عبد التواب لطرد الجن. أهلها عادةً ينزلون غذاءها من فتحة صغيرة في سقف غرفتها. أما المجنون الشاب راشد المُقيَّد في كوخ صغير أمام دار أبيه، فزاره زُربة فطلب منه سيجارة. وجد حالته تزداد سواءً يعجن برازه ويسد به ثقوب الكوخ. أصيب بالجنون نتيجة رجال الأمن حين هاجموه فجأة وهو يُمارس عمله الحزبي.

جلس زُربة أمام باب دكان ناصر المسحور في بيته المجاور للمقبرة، وسأله عن حاله، رد غاضبًا: مرتي٢٨ تسرقني يا زُربة، تعطي أصحابها، طلقتها عشر مرات وهي ما رضيت تخرج من البيت، اللعين بنت اللعين. لُقِّب بالمسحور لفقدانه التركيز للحظات يسبب ذلك له خسارة أحيانًا، ولولا مراقبة ابنه محمود البالغ العاشرة من العمر وهو يبيع، لتعرض لخسارة فادحة. وصادف منصور النحَّال ووجهه متورم؛ بسبب لسعات الدبابير عندما كان يخرب خليتهم في جُرف قريب من القرية، وقد قضى خمسة أيام غير قادر على الرؤية؛ بسبب الورم حول عينيه.

٩

بينما كان زُربة في السوق يضحك على ما جرى للنحَّال، سمع عويلًا وصياحًا مفاجئًا في القرية، واتضح أن ثور الجزار مُقبل الدسم قد نطح زوجته الثانية زعفران وهرب كالمجنون من الزِّرب. أسرع الحاضرون يهرولون خلفه في الحقول المزروعة. كان مقبل يصيح: يا خَلق الله، الثور قتل زعفران، يا غارتاه، خدعني صاحب قرية «المعزاج»، الثور حقُّه مجنون.

استخدموا الحجار لإرجاع الثور وهو يدهس الزرع. كان هائجًا والزبد يخرج من فمه. حاصروا الثور في نهاية أحد الحقول، لكنه عاد يجري في اتجاههم فهربوا من أمامه، ووثب بعضهم إلى الحقل الأسفل، ومنهم من تسلَّق كالقرد جدار الحقل، وبقي بعضهم يجرى أمام الثور في رُعب. توقَّف زُربة عن كركرته واستعد لمواجهة الثور معهم. أخذ حبلًا وهو في الحقل الأعلى وعقد فيه دائرة، كما شاهد رُعاة البقر يفعلون في الأفلام الأمريكية، وبعد عدة محاولات من رميه للحبل التف حول رقبة الثور، فجذب الحبل إلى الأعلى، وساعده الجميع حتى كاد الثور أن يختنق، ثم قفز زُربة مسرعًا وقبض على فكِّه الأسفل، وأخذ يلوي رقبته بقوة إلى أن طرحه أرضًا، وحلَّق الناس معه يُكبِّلون الثور بالحبل. صاح مقبل الجزار: شَنكلوه، شَنكلوه٢٩ هذا المجنون، المَكلف٣٠ ما تقدرش تتنفس.

كان ذلك اليوم حافلًا بالضحك، كُلٌّ يتحدَّث عن نفسه عمَّا جرى له من الثور، ويضحك على سلوك الآخرين وهم يفرُّون مذعورين منه.

١٠

عاد زُربة إلى داره يحمل حُزمتين كبيرتين من القات مجانًا من الجزار، الذي وعده بخمسة كيلو من لحم الثور مجانًا يوم الجمعة. أثناء دخول زُربة المطبخ اصطدم رأسه بأعلى الباب فسقطت عمامته، وكرر عبارته التي يقولها كلما اصطدم رأسه بالباب: سأرفع سقف المطبخ. وجد اللحمَ على النار، سكب ملء جفنة قدر كيلو ليطعمه. وبعد نصف ساعة قدمت صفية ما تبقى من اللحمة مع الفتَّة وتبقَّى قليلًا للعشاء، ثم تناول كمية كبيرة من الحلاوة. ذهب يتفحص القات ثم رتَّب مجلسه المعتاد، أمام المداعة التي توضع في كوة داخل الجدار طولها متر ونصف، ومد قصبتها طولها حوالي أربعة أمتار لتصل إلى أطراف الغرفة. حضر والده ووالدته والحطاب وزوجته مريم وجلسوا معًا، أتت صفية تشاركهم وقد أحاطت حول خديها بمشقُرين٣١ من زهور النرجس. جلست كل زوجة بجوار زوجها، وأخذوا يمضغون القات ويناولون المداعة من شخص إلى آخر. كان زُربة يشعر بالنشوة حين يعلو صوت المداعة، يمجُّ دخان التبغ وينفثه سحابة كبيرة من فمه وأنفه كتنين. لا يستطيع أحد في القرية أن يخرج كمية ذلك الدخان من أنفه مثله. كان يراهنهم ويكسب الرهان، فلم يعد أحد يراهنه على شيء، ففي أحد المرات أكل ثلاثة كيلو حلاوة. ومرة التهم عشرة عُلب من الخوخ، ومرة شرب عشرين بيضة دجاج. في أحد المرات قال لمنصور النحَّال: أيش٣٢ رأيك تراهنني على شُرب رطلين عسل من عسلك؟ شَدفع ضعف القيمة لو ما قدرتُش.٣٣

رفض منصور فهو يعرف مقدرة زُربة. قامت صفية من جوار زُربة بعد أذان العصر مثقلة بحملها، فلحقت بها بقية النساء، ولم يشعر زُربة بانصرافهن؛ فقد كان يُحلِّق في سموات القات، يضع حَجر الأساس لقصر على أرض واسعة، ويزرع حوله الفواكه والقات الهرري الذي طال حتى أخذ يقطف منه وهو مُطلٌّ على النافذة. ذلك القات الذي تذوَّقه ذات يوم، ولم ينسَ طعمَه، فتمنَّى أن يأخذَه بساط الريح إلى الحبشة. سعل بقوة بعد أن مجَّ كمية كبيرة من دخان النارجيلة، فأخرجَه من التحليق في عالمه. خرج والده والحطاب عند غروب الشمس، وذهب هو يتناول عشاءه، ثم صعد إلى سطح الدار مرتديًا ثيابًا خفيفة ليتأمل النجوم. نزل بعد ساعة وقد جهزت له صفية النارجيلة مرة أخرى وبدأ سهرته الليلية.

حضر سعد الوطواط ليسمُر معه، هذا الرجل لا توجد مشكلة في القرية إلا وله يد فيها. يجد سلوتَه في زرع الفتن بين الأهالي. وحضر أيضًا سعيد فارع، الرجل الطيب الملقب بالإبرة، لحيائه الذي يمنعه من المطالبة بما يتبقَّى له من أجرة عمله عند أرباب العمل، وهو بنَّاء ممتاز، وعبد القوي قارئ الموالد، وناجي أحمد المقشش، وثابت المداح أتى بدفه؛ ليطرب زُربة بعد غيابه الطويل عن القرية بمديحه للرسول، والتغني بسيرة الزير سالم وعنترة بن شداد، وغيرهم من أبطال العرب القدماء، وكذلك حضر عبده راجع ومنصور النحَّال، وعلي الدحَّان. تحدثوا بأشياء كثيرة ثم دار الحديث عن اللص «عُبادة»، وسرقاته خلال الشهرين الماضيين، وعن المتعاونين معه من أبناء القرية، كخالد ابن المرحوم عبده ناصر الذي يُقدِّم له الطعام والماء، حين يمرُّ على القرية ليلًا، لكنه ينكر تعاونه معه.

عُبادة رجل أسود شجاع، قوي وعدَّاء سريع، له قصص كثيرة في السرقة أشبه بالبطولات، لا يسرق البيوت الفقيرة. يفتخر بعنترة بن شداد ويراه قدوته. يعيش في قرية «زِهمق» للمهمشين قرب وادي خوالة الأخضر بفواكهه ونخيله، قبل أن يتحول الوادي إلى مزارع للقات كغيره من الوديان. هذه القرية لها عاداتها الخاصة كغيرها من قُرى المهمشين، لهم شريعتهم الخاصة فهم لا يذهبون إلى محاكم الغير ومقابرهم خاصة بهم. يُعرفون بقذارتهم، ليس لديهم ملكية يتوارثونها، بدلًا من ذلك يتقاسمون القُرى بينهم ويوثقونها بصكوك شرعية يتوارثونها فيما بينهم، فلا يمر هذه القرى في الأعياد والأعراس لضرب الطبول إلا صاحب الصك؛ لينال قدرًا من المال. في أحد المرات حاول سرقة الراديو حق صالح عاقل قرية القرن من نافذة الدور الثالث لداره، لكنَّه سقط وحلف أنه لن يسرق القرية؛ لادعاء أهلها بأنها محمية بالأولياء الصالحين؛ لصلتهم بآل البيت. بعد أن انتهى حديثُهم عن مغامرات عُبادة، تحدثوا عن الحصاد واتفقوا على البدء بعد ثلاثة أيام، وأخيرًا سخَّن ثابت المداح دفَّه فوق بوري النارجيلة، إلى أن اقتنع برنته، وبدأ يطربهم بمدحه المعتاد.

خرج الجميع من بيت زُربة الساعة العاشرة ليلًا كُلٌّ إلى داره، ودخل هو على زوجته وهي نائمة، والقات ما زال محشوًّا في خده. استيقظت بفتور وهو يتنسم شذى عطرها. استمر اللقاء الحميمي والقات ما زال في خده، وامتزجت النشوتان ثم عاد يكمل سهرته حتى منتصف الليل يسامر نارجيلته وحيدًا.

١١

في الصباح الباكر، ذهب سعد الوطواط إلى دار صالح محمد عاقل القرية وحكيمها. هذا الرجل له منطق جيد والناس تسمع له فخبرته في الحياة جيدة. طاف عدة مدن في العالم على باخرة فرنسية وهو في العشرين من العمر، بعد أن هجر قريته إلى عدن. كان يوقد الفحم لمحرك الباخرة، وبعد سنتين ترك الباخرة في ميناء مرسيليا وقد تعلَّم القليل من اللغة الفرنسية، وعاش هناك بعد أن حصل على حق اللجوء الإنساني. عمل مساعد طباخ في مطعم لبناني، تعلم كل فنون الطبخ الشامي. كان كريمًا مع زوَّاره العرب في سكنه. عاش مغتربًا عشرين عامًا، تزوَّج بسعدية امرأة مغربية تحمل الجنسية الفرنسية. كانت تكبره بثمان سنوات، لكن صالح لم يشعر بهذا الفرق خصوصًا عندما يقارنها بنساء قريته. لم تُنجب له أطفالًا كما لم تُنجب لزوجها الأول الذي تُوفِّي في الحرب العالمية الثانية. عاش صالح عشرين عامًا هناك وحصل على الجنسية، لكنه اشتاق إلى قريته، فعاد بثروة لا بأس بها. بنى أكبر دار في القرية وكان مضيافًا. وهو يتحدث عن دول العالم الثالث توقع انحراف مسار ثورة السادس والعشرين من سبتمبر. كان يقول: «القبيلة قد تبني دولة هشة لكن لا تبني أوطانًا.»

أخبره الوطواط باتفاق زُربة والآخرين عن ميعاد وقت الحصاد دون الرجوع إليه، وكان يريد بذلك زرع الفتنة بينه وبين زُربة، حتى إن زوجته تُفاحة ابنة خاله تزوجها بفتنة جعلتها تطلب الطلاق من زوجها الأول، فقد كانت تُفاحة فتاة جميلة، متزوجة من رجل آخر ومقتنعة بنصيبها. يقع دار زوجها الأول بجوار الطريق المؤدي إلى سوق الثلاثاء. حين كان الوطواط يمر بجوار دارها وهو ذاهب إلى السوق، ينفرد بها بصفته قريبها ويسألها عن حالها، فتشكو له جور عمَّتها والدة زوجها في معاملتها. أقنعها الوطواط أن تتطلق منه، وسيكون وكيلًا لها دون مقابل. لم تمر سنة حتى حصلت تُفاحة على الطلاق عن طريق المحكمة وتزوجها.

كان الوطواط ثاني إخوته، في الثلاثين من عمره. ساعدهم في الصغر، بعد موت أخيهم الأكبر بالطاعون، وغياب أبيهم خارج الوطن. منهم من قال: إنه هاجر إلى الحبشة. ومنهم: إلى فرنسا ومن قال: رآه جنديًّا مع الإيطاليين. هكذا كان الكثير من أهالي القُرى حين يعملون في ميناء عدن، يرون البواخر بساط الريح، فيبقون عليها يعملون أعمالًا متواضعة متنقلين حول العالم، أغلبهم يفضل البقاء في أي مكانٍ ترسو فيه السفينة؛ فهم يَرَوْنَ أنهم خرجوا من الكهوف إلى العالم الحقيقي. ينسون بلدانهم، أطفالهم، زوجاتِهم ولا يعودونَ إلا عند الشيخوخة؛ ليقبروا في مسقط رءوسهم. هكذا عاد عبده راجح والد الوطواط. يوم أن انفجر الوضع العسكري في صنعاء، في أحداث أغسطس (١٩٦٨م) بين قيادات الثورة الذين تقاتلوا فيما بينهم بمختلف أنواع الأسلحة. كان راجح الوطواط يسكن في مستودع سيناء أمام مدرسة عبد الناصر في منطقة التحرير. كانت هناك دبابةٌ تقذف حممها نحو منطقة العُرضي، تبوَّل الوطواط على سرواله؛ فهو لم يسمع في حياته مثلَ ذلك الرعد الذي يَصِمُ الآذان. كان يُسافر إلى القرية كلما قامت القوات المسلحة بعرضٍ عسكريٍّ مسلحٍ في العيد الوطني للبلاد، يُخيَّل إليه أن عرض الدبابات والمدافع سيتحوَّل إلى معركة دامية.

١٢

في صباح اليوم الثالث من عودته كان زُربة على سطح داره يُنادي منصور النحَّال في القرية المقابلة من الجبل المنحني، يسأله عن سعر الرطل العسل. أجابه منصور بصوت مرتفع يشكو له هروبَ النحل من إحدى الخلايا. ضحك زُربة وقال له: والله، يا منصور، حقك النحل شَيهرَبن كُلهن؛ لو ما تعطينيش رطل عسل أطعمه ههههه.

وقتذاك مر صالح عاقل القرية في الطريق المقابل لدار زُربة. ناداه معاتبًا: مو شَتعمل٣٤ نفسك عاقل يا زُربة؟ تُحدد وقت النصيد٣٥ هذا شُغلنا نحن عُقَّال القُرى، نجلس ونشوف٣٦ الوقت المُناسب.

شعر زُربة أن كلام العاقل صالح على حق، وقرر أن يذهب ليمضغ القات عنده في الدار كنوع من الاعتذار. ذهب في اليوم الثاني إلى سوق الثلاثاء؛ حيث يلتقي الناس من القرى المجاورة للشراء والبيع، وكذلك يلتقون بشيخ السوق ليحلَّ النزاعات فيما بينهم. وصل زربة الساعة التاسعة صباحًا والسوق يكتظُّ بالناس والدواب، منها الجِمال التي تحمل الزيت من منطقة الصبيحة … التقى بالكثير من أبناء قرية نجاد وهم يفترشون بضاعتهم في السوق، منهم مقبل الدسم الذي اشترى منه اثنين كيلو لحمًا، واشترى القات الشراري من عبد الفتاح الملوق واشترى البصل والجزر الصلوي … وهو يغادر السوق تَنَاهَى إلى مسامعه صوتُ خادم جهوري، وهو يعتلي مبنى صغيرًا يعلن عن جَمع لولي الله «الوجيه»، وهو تجمُّع سنوي للأهالي يقيمه أتباعه، لمدة ثلاثة أيام حول الضريح.

وصل زُربةُ القرية قبل الظهيرة فأسرعت صفية لطبخ اللحم. لم ينتظر حتى ينضج جيدًا، فأخذ يتناوله من داخل القدر ولم يبقَ منه إلا المرق وقليلًا منه لأولاده، ثم ذهب يلتهم قطعة كبيرة من الحلاوة وتوجَّه إلى دار العاقل صالح. استقبله ببسمةٍ ماكرة، وأخذ زُربة مكانه على متكأٍ بجانبه، فتح شاله وأخرج قاته وأعطى العاقل حُزمة كبيرةً من القات، فزُربة كغيره يعتبر القات أفضل وسيلة للاعتذار؛ فالقات يُصلح ما أفسدَتْه اليد واللسان، حتى ولو كان بعد أشد القتال. به يعقدون الصداقات والأعمال والخُطط؛ حتى إن أهم القرارات المصيرية للشعب تتمُّ غالبًا أثناء تناول القات. ابتسم العاقل وقال: مُش٣٧ ضروري يا زُربة تزورني بقاتك، مكاني مُتَّسع للجميع وهذي عادتي حتى لمَّا كنت في فرنسا. وأنتم هِنا في القرية أهلي أرعى مصالحكم، وأنت تعرف سذاجة أهل القرية يمكن أن ينخدعوا بسهولة.

أقبل الكثير من الأهالي بقاتهم بينهم سعد الوطواط إلى بيت العاقل. تحدثوا عن الأرض والأحطاب، والحدود والفواصل بين الأراضي، وقرروا ميعاد الحصاد. بدأ الصمت يسود المكان، وكل يعيش في حلمه الوردي، وهناك من تقوده أحلام اليقظة إلى البهجة ومنهم إلى الحزن، ويعود ذلك إلى نوع القات وكميته والحالة النفسية التي يكون عليها مُتعاطي القات.

١٣

بعد الغروب أنصت المجتمعون إلى صوت هرج ومرج في القرية. كان أحدهم يستغيث: عبده غالب الهندي قِبصُه٣٨ حنش، اسرعوا، …

أسرع الرجال لنجدة الهندي، وجدوه في الطريق يصيح من الألم، ويتصبب عرقًا، تتسارع أنفاسه، وأهله يبكون حوله، وأمه تنوح بصوت حزين. حملوه إلى بيته يظنونه لا محالة هالكًا. عندما وصلوا أسرعت النساء ومعهن زُبدة بقرة، قُمْنَ بِطَلْيِ أثر اللدغة على إصبع رجله الكبرى، وأحضرن قطةً تلعق أثر اللدغة، لاعتقادهن أن القطط تمتص سم الثعبان وتداوي نفسها بلعق مكان اللدغة. كان الهندي يصيح وهو يقول لمن حوله: سامحوني، أنا شَموت، شَموت …

اعترف أنه ضم لأرض والده مسافةً بطول متر من حقل عثمان سالم المجاورِ لأرض والده، وحدد المكان، ونصف متر من أرض ناجي، وكذلك استولى على شجرة صغيرة تخصُّ قاسم سعيد، تقع بين حدودهما. أغمض عينيه والعرَقُ يتصبَّب من جبينه، ظنُّوا أنه فارق الحياة فزاد نحيب النساء. اقترب عثمان مُجبِّر الكسور من صدر الهندي فسمع دقات قلبه، وصاح: إنه حي، إنه حي. هيا أحضروا دجاجة كبيرة.

أحضروا دجاجة كبيرة وأدخلوا إصبعَه الملدوغةَ في مؤخرتها؛ لاعتقادهم أنها ستمتصُّ سم الثعبان. مضت نصف ساعة وهم يتساءلون: هل ماتت الدجاجة؟

– لا، لم تمت.

– إذا شَيموت الهندي.

بقيت إصبعُه في مؤخرة الدجاجة حتى الصباح وهي تملأ الغرفة نقنقةً. قال صالح والد زُربة: دعوني أسِم مكان اللدغة وسترون كيف سيشفى، فقد اعتاد معالجةَ جميع الأمراض بالميسم، حتى الحُمى والإسهال. حين اصفرَّتْ عَيْنا أخيه قاسم وسمه على رأسه، وحين أصيب منير الابن الخامس لزُربة بإسهال وعمره سنتان ونصف، وسمه حول السرة وشفي بعد ثلاثة أيام. وحين أصيبت الطفلة سليمة بنت قاسم بالمُسَلمة (سرطان جلدي) في الرجل اليُمنى، قام بكي مكان الإصابة وحولها بمسامير ساخنة وماتت بعد ذلك، وهكذا كان يسعى لعلاج أغلب الأمراض بالكي.

عاد الأهالي من بيت الهندي إلى بيوتهم وهم يترحَّمون عليه، ويسامحونه على أفعاله. بعد يومين قام الهندي يمشي كأن شيئًا لم يكن، ولم يعرف أحدٌ أن الثعبان غير سام، وبقي الفضل في اعتقاد الناس للقطة والدجاجة. أنكر الهندي اعترافاته السابقة مدعيًا بأنه كان يهذي بسبب الحمى.

عاش عبده غالب الهندي طفولتَه مع أبيه في مدينة عدن وتأثَّر بجيرانه الهنود. لقَّبه قاسم بالهندي؛ لأنه كان يتحدث ببعض مفردات اللغة الهندية عندما يبقى في القرية، وشعره كان أيضًا يُشبه شعر الهنود. كان يضع قُبعة صغيرة على رأسه، يميلها قليلًا نحو الجهة اليمنى فتغطِّي ثلثي رأسه. حين كان يمشي في القرية ببدلته الأنيقة وحذائِه اللامع يحمل حقيبته الدبلوماسية كالسفير، ولا ينظر لمن يجده أمامه في الطريق. عندما انتقل إلى مدينة الحديدة استمر على حاله. تزوج هناك من ابنة رجل غني فتح له دكانًا في حي المِطراق، فزاده ذلك فخرًا. اعتادَ عند عودته إلى القرية أن يحضر معه مفرقعاتٍ لإشعالها على سطح داره إعلانًا عن وصوله. عاش حياته في رغد من العيش، وما إن أفلس حتى عادت ضحكته الطفولية مع أهالي القرية.

١٤

يسود الود والتعاون بين أهالي قرية القَرن بالذات بين النساء كبقية القرى. غالبًا ما يحدث الخِصام بسبب الحدود بين الحقول، أما إذا كان هناك خلافٌ حول شجرة، فيحل هذا الخلاف سالم الحطَّاب لمعرفته بالحدود جيدًا، وإذا لم يقتنعوا يذهبون بعد ذلك إلى المحكمة. سالم رجل مسالم، يقول الحق ولو على نفسه، يُمكن أن يخدعه طفل بكذبة بسيطة. حين يشاهد أحدًا يعتدي على حدود حقوله يمنعه بقوله: بحَجْرِ الإمام٣٩ قفْ عند حدِّك، لا تعتدِ على أرضي.

على الرغم من مرور تسع عشرة سنة من قيام الثورة على آخر الأئمة في اليمن. حين نصحه والد زُربة أن يضع رمادًا على عينيه المصابتين بالرمد صدَّقه، ثم أجريت له عملية بعد ذلك، حتى إنه عرف ساعته الأخيرة فقال لابنه: سأموت الآن، لا تدعْ أختك الصغرى تشاهد موتي، وتوقَّع لزوجته أن تموت بعده بستة أشهر، وفعلًا ماتت بمرض السرطان بعد سبعة أشهر في أول جمعة من شهر رمضان (١٤٣٨) هجرية.

حان وقت الحصاد فخرج الرجال والنساء والأطفال يجمعون الذرة والدخن والدُّجر الشبيه بالفاصولياء. حصد زُربة أرضَه وأرضَ أبيه خلال يومين. كان يحمل كيسين كبيرين معًا مليئَيْنِ بالسنابل، يصعد جبل طرماح دون أن يشعر بالتعب، ويتضاعف نشاطه بعد تناول القات. كان رجال القرية يحسدونه على قوَّته، أما نساؤها فيحسدنَ صفية. عادةً تخرج النساء خلف الرجال للحقول وقد دهَنَّ وجوههن بالهُرد٤٠ لحمايته من أشعة الشمس، يجمعْنَ الأعلاف في حزم صغيرة، ثم يتعاونَّ في نقلها مثلما يتعاونَّ في نقل الأحطاب، والدَّمل من زِرب البهائم إلى الحقول. يقُمْنَ في الريف بأعمالٍ أكثرَ من الرجال، مشهدهنَّ وهنَّ يسرْنَ معًا يُشبه سرب نمل يتحرك إلى قريته، وتجد القرية في موسم الزراعة والحصاد تُشبه خلية نحل. يقوم الرجال برصِّ أعلاف الأبقار فوق الأشجار أو بجوار ديارهم، لكن والد زُربةَ لم يَعُدْ يرصُّ الأعلافَ إلَّا فوق الأشجار؛ خوفًا من الثعابين التي تختبئ تحتها. في أحد المواسم قام برص الأعلاف بجوار بيته فالتهمتْها النيران، وكادت أن تحرق داره. حدث ذلك عندما شاهد ثعبانًا بقرنين صغيرين يدخل بين الأعلاف، فجلبت زوجته جمرًا في الموقد، ووضعت عليه فلفلًا أحمر؛ لتطرد الثعبان. وضعت الموقد بجوار الأعلاف، فهبت الريح واشتعلت النيران وأحرقت الأعلاف. أما الثعبانُ فخرج مُسرعًا واختفى عن الأنظار، وظل والد زُربة ووالدته فترةً زمنيةً خائفين من الثعبان الهارب. لم يستطع الأهالي الاقتراب من النار المتأججة، لكنهم ساعدوه بالأعلاف لسنة كاملة. هكذا أهل القرى يتعاونون فيما بينهم، حتى في بناء البيوت في عملية تُسمَّى مُضاهاة. وفي هذا الوقت من السنة أيضًا يقوم منصور النحَّال بجمع العسل من الخلايا.

أثناء فصل الحبوب عن السنابل في البيادر، كان صالح والد زُربة يعمل في البيدر مع صفية، حينها كانت تقوم بتنظيف الحبوب من القش، وهو يذرو الحبوب من مكان مرتفع على البيدر حين يهبُّ الريح. جاءها المخاض فجأةً فحضر زُربةُ مُسرعًا وحملها إلى داره وتبعته جدته نُعم وقامت بتوليدها، فهي قابلة القرية وتقوم أيضًا بالمساعدة في ولادة الأبقار المتعسرة. هي امرأة طيبة يحبُّها الأطفال كثيرًا، تلاعبهم في فناء القرية مستخدمةً بعرات الأغنام في لعبة مشهورة في القرى تسمى «كُسيبة». استمرَّت زيارة النساء لمدة أسبوعين بالسمن والبيض والدجاج إلى دار صفية ومساعدتها بجانب والدتها التي كانت تقوم بخدمتها.

١٥

كان في قرية القرن: القابلة، البيطري، مُجبِّر العظام، المُنجِّم، وكانت الجدة «نعيم» متخصصة بنزع اللوزتين بظفر سبابتها المعقوف، تركته لهذا الغرض. لها حكاية غريبة مع الجن؛ حيث تعتقد أن ابنها عبد الرحمن اختطفه الجن، ولم يمت كما يعتقد أهل القرية، ولم يدفنوه لكنهم دفنوا جذع شجرة بدلًا عن جثته، تقول إن ابنها حضر بعد موته بشهرين وطلب منها شربة ماء، فأعطته وبعد ذَهابه تبعته وهي تنادي: وا عبد الرحمن ارجع، وا ولدي ارجع … هكذا ظلت نعيم طول حياتها تنتظر عودته، مثل زُهرة التي ظلَّت تنتظر عودة ابنتها الجميلة سماح بعد موتها. كانت تعتقد أن الجن خطفوها كما أخبرتها حليمة إحدى المشعوذات.

المداح كان أيضًا عرافًا يقرأ المستقبل بواسطة كتاب سحري يخبرهم بمجرد معرفة اسم الشخص ووالدته ونجمه. وفي القرية المجاورة يعيش سعد أحمد الذي كان يداوي جميع الأمراض بخمسة أنواع من الأعشاب، ويصرف الجن عنهم، بورقة يحرقونها ويتنسم المريض عرفها. لديه الكتاب الثلاثي الذي يُقال إنه وضعه في التنور لكنه لم يحترق. وهناك السيد عبد الرحيم الذي يقرأ القرآن على الذين أصابهم المسُّ من الجن، ويستعمل الحذاء لعلاج اعوجاج الفم. أما من يصاب بالريح الأحمر (الشلل) فالعمة تفاحة تقوم بتدليكه بزيت الولي سعيد طه، فالزيت يساعد في طرد الجن من المشلول.

في اليوم السابع من مولد عبده وهو ميعاد ختانه، دعا زُربة أهل القرية؛ لقراءة مولد للولي ابن علوان. اقترض المال من عمه قاسم. هو رجل نحيف، متوسط القامة، أسمر اللون، أهل القرية وأصدقاؤه يحبونه لظُرفه وطيبته. امتهن البناء في بداية شبابه ثم غيَّر مهنته وعمل في التجارة، ثم عاد يعمل في البناء مرة أخرى، إلى أن سافر إلى الخليج العربي للبحث عن فرصة أفضل للعيش. كان لا يخجل من عمل شيء يجلب السلوى إلى مَنْ حولَه، يردِّد الأهازيج الشعبية المناسبة للموقفِ في أي مكان يكون فيه.

ذهب أبوه مساءً إلى أحد مزارع القات في منطقة شرار في عزلة بني يوسف، تبعد عشرَ ساعاتٍ مشيًا على الأقدام من قرية القرن، أول منطقة تزرع القاتَ ناحية الحُجرية. قيل إن شجرة القات أُحضرتْ أولَ مرةٍ من الحبشةِ وزرعت هناك ثم تكاثرت. اشترى والده قاتًا وقِر حمار. عاد اليوم الثاني قبل ظهيرة؛ فالمولد لن يقام إلا بالقات واللحم والفتة بالمرق والسمن. حضر رجال القرية وأطفالهم الذكور عند غروب الشمس، وكذلك حشد غفير من القُرى المجاورة. جلسوا يتحدثون ويضحكون وهم يحدِّقون في كومة القات الكبيرة التي تنتظرهم.

قُدِّمت للحاضرين عشرة جفان كبيرة من الفتة واللحم فتهافتوا عليها، وبعد تناولهم وجبة العشاء، غسلوا أيديَهم ومسحوها في مآزرهم. جلسوا بلهفة ينتظرون توزيع القات، وبعد أن استلم كُلُّ واحد حصتَه من القات أخذ يزنه بكفه، ومن لم يقتنع بالكمية يظل صوته خافتًا أثناء قراءة المولد.

بدأ عبد القوي يقرأ المولد بصوته الشجي، وكان المدَّاحُ حاضرًا بدفه، وعثمان سالم يقوم بالدعاء في آخر كل قصيدة مدحٍ للرسول. أثناء قراءة المولد تتخلَّل فترة زمنية قصيرة لمضغ القات وشرب النارجيلة، وتستمر قراءة المولد حتى منتصف الليل.

١٦

خاتمة المولد في الليلة الثالثة يقرءونها وهم وقوفٌ يُسمَّى الترحيب، عندها يشتدُّ ضربُ الدف، فانتاب البعض حالة التجلِّي والجَذبة، قفز عبد الرحمن أخو الهندي إلى وسط الحاضرين واختطف خنجر الوطواط من غمده، واستنجد بالولي ابن علوان بصوت جهوري «ألا يا ابن علواااااان» وبدأ يضرب فخذ رجله اليمنى بشفرة الجنبية الحاد؛ حتى تعب ثم عاد لقراءة المولد معهم كأنه لم يحصل شيء. أما ناجي المقشش كان يثب إلى الأعلى كالزنبرك، والشاب عبد القادر من قرية عصران راح يردع الجدار يصيح: يا حيْ، يا حيْ… حتى أوقفه الآخرون بالقوة. وعلى من يقف بجانب هؤلاء أن يكون حذرًا منهم؛ لهذا قام زُربة في هذا اليوم بأخذ كل ما هو قابل للكسر في الديوان؛ حتى لا يحدث معه كما حدث في مولد علي سعيد في قرية عصران.

لكل من عبد القوي قارئ الموالد وعثمان سالم قصته العجيبة؛ فعبد القوي لم يكن يعرف القراءة لكن أمه «حمامة» كانت الوحيدة في القرية التي تجيد القراءة من بين النساء، زوجها الأول الفقيه عبد العظيم علَّمها القراءة تعبيرًا عن حُبِّه لها فقد كانَتْ تصغره بأربعين عامًا. كانت دروسه تبدأ قبل الذهاب إلى النوم، يظل يعلِّمها وهو يمسح على رأسها بحنان إلى أن تشعر بالنعاس، وقيل إنها حين تزوجت والد عبد القوي بعد أن توفي زوجها الفقيه كانت بكرًا، وأنجبت له ولدًا منه أسمَتْهُ عبد القوي، ومن حُبِّها الشديد لابنها كانت تدعو له دعوة: الله يرزقك يا عبد القوي من الصفا (الجبل) الصحيح. وفعلًا تحقَّقت دعوتها التي يقال إنها كانت أثناء نزول ليلة القدر. وأصبح عبد القوي أقوى نقَّافًا يقتطع الحجارة من الجبال للبناء. أمَّا عثمان سالم هو رجل متصوف. اختلى في زاوية للمتصوِّفين لمدة واحد وعشرين يومًا، في منطقة الأحكوم، تبعد عن قرية القَرن مسيرة نصف يوم. في آخر يومٍ من خلوته أخرجوه وهو مغشيٌّ عليه، فقلة التغذية أحد شروط الخلوة، وكذلك عدم البوح بما يراه المتصوف في خلوته. حين صحا كان الجوع يعبث بأحشائه، ولم يقل لأحد بما رآه. كان بجانب عمله كمُجبِّرٍ للكسور، مؤذن القرية ومُنجِّمها، عندما يولد مولود ينظر في النجوم ليبحث عن نجمه وعن ساعات عقد الزواج المباركة، ومتى تدخل العروس دار العريس. كان رجلًا جبريًّا في معتقده الديني يرى أن الإنسان مُجبرٌ لا مخيَّر، حتى إنه قال عن دولة إسرائيل إنه قدر من الله والله هو المتكفل به. حين هاجمه الثور في طرف الحقل وهو يحرث عليه وسط القرية، أتى الأهالي لنجدته فرفض مساعدتهم. قال وهو مستسلم لعبث الثور به: دعوه، دعوه … هو مأمور من الله، دعوه …

بقي الناس يتفرجون إلى أن تركه الثور. كان يمكن للثور أن يقتله لكنه لم يُصب بأذى كبير، سوى كسرٍ في يده اليسرى وضلعِه الأيمن. كان يتألَّم ويقول: لا لومَ عليك يا ثوري، نفَّذْتَ أمر الله.

قام والد زربة بسحب يد عثمان اليسرى من معصمها، بتعليمات منه ووضع حول الكسر لحا شجر السدر الجاف المخصَّصة لتجبيرِ الكسور، وربطها جيدًا ثم ساعده في الوصول إلى بيته. أمَّا زربةُ فقد نصح عثمانَ ببيع ثوره للجزار مُقبل الدسم؛ لاحتمال تكرار فعلته ووالد زُربة نصحه بكي رأس الثور بالنار؛ لإخراج الجني الذي تلبسه فرفض عثمان قائلًا: الثور مأمور وطاعة الله واجِبة.

لكنه قَبِل بالميسم على رأسه هو؛ لمعالجته من أثر الخوف.

١  قدر صغير من الفخار.
٢  لماذا؟
٣  يخفي.
٤  وجده.
٥  ليس ممكنًا.
٦  يرى.
٧  لماذا؟
٨  ليس نحن.
٩  أريد.
١٠  لن أعمل.
١١  نارجيلة.
١٢  ماذا؟
١٣  لقبني.
١٤  يلتصق.
١٥  لماذا؟
١٦  أتيت.
١٧  ثريد.
١٨  النارجيلة.
١٩  أسد.
٢٠  أقبل.
٢١  جعلتني.
٢٢  حبيبي.
٢٣  للوصول إليك.
٢٤  جعلتني.
٢٥  ليس هناك.
٢٦  يحضر.
٢٧  يا رجل.
٢٨  زوجتي.
٢٩  قيدوه.
٣٠  الزوجة.
٣١  باقتين ورد.
٣٢  ما هو؟
٣٣  إذا لم أستطع.
٣٤  هل ستعمل؟
٣٥  الحصاد.
٣٦  نرى.
٣٧  ليس.
٣٨  لدغه.
٣٩  حاكم اليمن.
٤٠  بودرة صفراء للعناية بالبشرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤