ورغم هذا نحن معك ضد أمريكا

لا يستطيع كاتب عربي، مفكرًا كان أم صحفيًّا، كاتب قصة أو رواية، أو حتى مواطن عادي، لا يستطيع أن يمنع نفسه منعًا من التفكير في الحكايات الغريبة، التي ملأت الساحة فجأة، وتكتسح مجالات الإعلام، والإذاعات والتعليقات، حكايات الإرهاب وليبيا والولايات المتحدة مع إلحاق «أبي نضال» ومنظمة التحرير ومصر بتلك الحكايات؛ ذلك أن وضع ليبيا في الشرق الأوسط واتجاهاتها السياسية ليست بنتَ اليوم، فهكذا كانت سياسةُ ليبيا منذ عشر سنوات أو تَزيد، وربما هكذا ستظل، إنها تعلن صباحَ مساء عداءها اللَّدود لإسرائيل والولايات المتحدة والغرب عامة، وتعلن الحرب واضحة صريحة ضد كل الدول العربية التي تَعتقد أنها تقف مِن هذه القُوى موقفًا «معتدلًا» بل حتى موقفًا غير عدائي، فهي تُعادي مصرَ السادات ومصر مبارك منذ زيارة القدس وعقد معاهدة السلام وحتى بعد اغتيال السادات واغتيال المعاهدة، بل قبل هذا منذ إبرام اتفاقيات فضِّ الاشتباك الأولى والثانية، وإن كانت قد غضَّت النظر عن اتفاقيات فض الاشتباك، التي أُبرِمَت مع سوريا، وركزَت ثِقلَها الهجومي الإعلامي العدائي ضد مصر، بإبرامها نفس هذه الاتفاقيات، كذلك موقفها من المملكة العربية السعودية؛ فهي تتهِمها بأنها حليفةٌ لأمريكا أكثر من حرصها على المصالح العربية، وتتهم العراق بأنه خان القضية العربية بدفاعه عن أرضه ضد غزو الثورة الإيرانية الإسلامية الشبيهة تمامًا بالثورة الليبية، وكأنه كان على العراق أن يُسلِّم أموره «لثورة إيران» تحتل أرضه وإرادته، وتضمُّه إلى الجمهورية الإسلامية الكبرى هو ودول الخليج. وطبعًا موقفها في لبنان معروف، مع العلم أن العالم كله يَعرف أن العقيد القذافي إسلامي العقيدة، عربي الموقف والاتجاه؛ إذ إن تحالفاته في المنطقة وعداواته واضحة كلَّ الوضوح، فهو يُحالِف ويُزوِّد إيران بالأسلحة والمال، وربما الرجال، ضد العراق، ويؤيد بعث سوريا ضد بعث العراق، الذي كان زعيمه النظري الأستاذ ميشيل عفلق يتعاطف تمامًا مع الإسلام كمبدأ، لا شيعة فيه ولا سُنة، وإنما فيه رسالة محمدية كبرى، حتى إن مِن أعظم الكتب التي قرأتُها عن النبي محمد كان كاتبه هو ميشيل عفلق ذاته، وبإيمانه وقلَمِه.

وأيضًا ليبيا، وبعد تعاون طويل مع منظمة التحرير الفلسطينية، بكل أجنحتها؛ من أبي نضال، إلى الجبهة الشعبية، إلى فتح، بدأت تَفتُر علاقاتها بالمنظَّمة حيث أصبحَت تلك المنظَّمة تُبدي بعض الميل إلى الخط المعتدل في الكفاح العربي مثل ميلها إلى العراق والأردن، وأخيرًا مصر، حتى وصلَت عداوتها حينذاك تُجاه المنظمة إلى قمَّتها، وإلى حدِّ اتهامها بالخيانة، بل حتى تبنِّي العناصر العسكرية المتمردة على قيادة أبي عمار، واعتبار أبي عمار نفسِه قد خان القضية وباعها.

كذلك موقف ليبيا مع الأردنِّ الذي وصل إلى حد قطع العلاقات، والاغتيالات، ولا تزال العلاقات مقطوعة إلى حد هذه اللحظة.

وحين بدأ التقارب بين المنظمة ومبارك والأردن ثم العراق، بدأ العقيد القذافي يصل في غضبه إلى حد اتهام الجميع بالخيانة، وبتعاوُن غريب مع سوريا رفَض تمامًا كل الحلول التفاوُضية السلمية، وأصبح الحلُّ الأوحد عنده وحده — أبدًا ليس عند سوريا — هو الثورة الفلسطينية المسلحة إلى حد الانتحار لو اقتضى الأمر.

وليس هذا موقفَ العقيد القذافي عربيًّا فقط، إنما هو موقفه في العالم كله؛ فهو يؤيد بالمال والسلاح أيرلندا الشمالية ضد حكم البروتستانت البريطانيين، ويؤيد نيكاراغوا وثُوارَها ضد أمريكا وتدخلاتها، ويؤيد كلَّ الحكومات العسكرية الانقلابية في أفريقيا؛ شرط أن تَتبعه في خطِّه «الثوري» ولو أدى هذا إلى تفسخ منظمة الوَحدة الأفريقية نفسِها، وإلى قيام الحروب بين صومالها وحبشتها، وبين ناميبيا وجارتها العنصرية.

ومن هذا نرى «أن موقفه الثوري يمتدُّ من طرابلس إلى كل بقاع الوطن العربي، ومن الوطن العربي إلى أفريقيا، ومن أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية والعالم كلِّه، حتى إنه هدد أخيرًا بإرسال كوماندوز إلى شوارع نيويورك وواشنطن».

•••

ولقد ظل العقيد القذافيُّ يُشكِّل لي، وربما لكثيرين غيري، لغزًا كبيرًا؛ أهو بطل دونكشوت يحلم أن باستطاعته أن يُثير المنطقة العربية كلَّها من العالم ضد أمريكا، ويقود ثورة مسلَّحة تُسقِط الإمبراطورية الأمريكية وحِلْف الأطلنطي وتكتسح إسرائيل، وأنه يؤمن بهذا حقًّا ويَعمل على تنفيذه! أم أن للمسألة أبعادًا أخرى؟ وثَمَّة لغز آخر استعصى عليَّ حلُّه، إذا كان العقيد القذافي ذلك الثوري الجيفاري المثالي، الذي يُصِر على إسلامية جماهيرية، وعلى أن مصدر حُكمه هو الآيات القرآنية وحدها باعتبار أن كثيرًا من الأحاديث ورواة الأحاديث قد حرَّفوها، ولم يُبقِ مرجعًا إسلاميًّا صحيحًا مائة بالمائة إلا القرآن الكريم، وأن إذاعة ليبيا ووسائل إعلامها قائمة صباح مساء على التبشير بالإسلام الاشتراكي الصحيح الكريم، الذي يُشكِّل العمود الفقري لكتابه الأخضر في فلسفة الحكم، ونظريته المثلى لإصلاح حال الكون وتغيره تغييرًا جذريًّا، نظريته الثالثة.

إذا كان هذا هو ما يقوله ويفعله، فكيف تم التحالفُ بينه وبين دولة عظمى كالاتحاد السوفييتي، لا تؤمن بالطبع لا بالكتاب الأخضر ولا بالنظرية الإسلامية المحمدية، وإنما هي قائمة على أسس ماركسية لينينية مادِّية جدلية؟ تحالف تكتيكي واستراتيجي معًا، بحيث يقوم الاتحاد السوفييتي بمد الجماهيرية الليبية بالسلاح، دفاعيًّا وهجوميًّا، صغيرًا وكبيرًا، ومن أول مسدساته الشخصية للدفاع عن النفس إلى أحدث صواريخ سام «٦» وسام «٥» القادرة على ضرب أي طيران في سماء تونس أو مصر أو المغرب حتى وخليج سرت؟

إذا كان العقيد الليبي «دونكشوتيًّا» كما يصفونه ويُشنِّعون به عليه، فكيف بالاتحاد السوفييتي، ذلك البطيء في اتخاذ قراراته، ذلك الدب القطبي في حركته، ذلك الذي لا يتخذ قرارًا إلا بعد دراسات عِلمية عريضة في المكتب السياسي واللجنة المركزية، بل وأحيانًا داخل مؤتمر الحزب نفسه الذي يضم عشَرات الآلاف من المندوبين؟!

كيف بكل هؤلاء الناس العُقلاء الشديدي التعقُّل، الذين يَزِنون كل خطوة، يَزِنونها بميزان إلكتروني لا يُخطئ، يرتضون هذا التحالف غير المحدود مع العقيد، ويُناصِرونه إلى أقصى مدًى، ويقفون له كالصديق الحارس الأمين بصواريخهم على أرضه، وأساطيلهم بمياهه الإقليمية، على استعداد للاشتباك مع الولايات المتحدة نفسها لو حدثَتها نفسُها بالعدوان على ليبيا.

•••

إذا ظلت ليبيا، وظل العقيد القذافي بالنسبة لي، برغم كلِّ ما قرأتُه عن مجريات الأمور هناك، وعن شخصية العقيد، وعن كل ما قاله عنه أنور السادات وجهاز دعايته، أن يُفسِّر لي ولو هامشًا صغيرًا من هوامش الرجل ونظامه ووضعه على الخريطة العربية، ووضعه على الخريطة العالمية نفسِها، وظل حبُّ الاستطلاع يعمل عمله داخل نفسي، حتى إني ذات مرة كنتُ في زيارة لقبرص، وقابلتُ شخصية ليبية مسئولة، صرت أناقشها في كل هذا الذي ذكَرت، وأناقشها بالذات في الحملات التي يُشِنها راديو «صوت الأمة العربية» ضد النظام المصري مع أنه كان قد تغير تغيرًا كبيرًا منذ أن كان ساداتيًّا إلى أن أصبح مباركيًّا.

وإذا بهذا المسئول الليبي يُفاجِئني بسؤال: ولماذا لا تحاول أن تعرف كلَّ هذا بنفسك؟! قلتُ: كيف؟! قال: لماذا لا تقابل العقيد؟ إني معتقد أنه سيُرحب بتلك المقابلة وبما يدور فيها من نقاش غايةَ الترحيب؛ فهو مثقَّف يحب الحديث إلى المثقفين.

دون تفكير، ولكثرة الأسئلة التي كانت تدور في بالي، قلت: موافق.

وانتهت السهرة، وظننتُ أن الأمور كانت قد انتهَت عند هذا الحد. وإذا بالمسئول يتصل بي في اليوم التالي في هيلتون القدس حيث أَنزِل فيه، وهو نفس الفندق الذي اغتِيل فيه المرحوم يوسف السباعي أثناء انعقاد مؤتمر التضامن، والذي لم أكن أرتاح كثيرًا إلى رَدهاته الطويلة المعزولة، وقِلة القاطنين فيه، إذا به يتصل بي ويقول: وصلَتْني الآن برقية من طرابلس من مكتب العقيد، يدعوك إلى زيارة ليبيا ومقابلته، وإجراء ما شئتَ من حوارات وأحاديث معه.

أعتقد أن قراءً كثيرين يَعرفون القصة وقد تابَعوها بعد أن أصبحَت واحدةً من قصص الحقبة، أثناء تلك الفترة كنتُ أكتب سبعة مقالات للنشر في إحدى الصحف الكويتية اليومية، التي كانت هي الأخرى قد باعت حق نشرها إلى جريدة خليجية تَصدُر في دولة الإمارات. وكان العمود الرئيسي لمقالاتي مرتكزًا على مذكرات محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية الذي عينه السادات ليوقع معه معاهدة كامب ديفيد، فإذا به، وهو الذي جاء يوقِّع، يرفض التوقيع ويستقيل ولا يُوقِّعها، ثم بعد أن مات السادات يصدر تلك المذكرات التي هالني ما قرأتُ فيها، فقد كان واضحًا أن السادات يريد عقد الصفقة مع إسرائيل ومع كارتر، مهما كان الثمن الذي ستَدفعه مصر فيها، وإلى الدرجة التي كان كارتر يعترض، كارتر هو الذي يعترض، على بعض البنود التي يريد بيجين والوفد الإسرائيلي إدخالَها لمصلحة إسرائيل في المعاهدة.

وكان السادات يَقبلها، والذي يعترض — ويا للعجب — هو كارتر؛ خوفًا من رد أفعال مثل هذه الفقرات على بقية البلاد العربية الأخرى، فقد كان حُلم كارتر أن يُمرِّر كامب ديفيد ليُوافق عليها العرب جميعًا.

جُنَّ جنوني مع قراءتي لمذكرات محمد إبراهيم كامل، وقابلتُه وعرَفتُ منه حقائقَ أكثر إثارة مما كتبه، جعلَتْني أقرأ كتاب مذكرات كيسنجر، ثم مذكرات سعد الدين الشاذلي، ثم كل الصحف التي صدرَت أيامها، ووصلتُ إلى قرار أن السادات قد فعل بهذه المعاهدة عملًا غيرَ مسبوق في تاريخ الدول والحكومات؛ فقد «سلم» مصر إلى إسرائيل وأمريكا، بل سلَّم القضية كلها، ودون أي مقابل وبمنتهى التَّرحاب! حتى إني تساءلتُ كيف تسنى لهم أن يَجعلوه يفعل هذا، وهل استعملوا معه أنواعًا من المخدِّرات أو المؤثرات، أو نوَّموه تنويمًا مِغناطيسيًّا؟ إذ إنه عميل الفطرة، أو إنه عميل قديم لهم، صنَعوا حوله هالة من النصر المبدئي والبطولة لِيَستطيعوا أن يأخذوا منه مصر، فإذا الْتهَموها فإنَّ التهام الأمة العربية واحدةً بعد أخرى يُصبِح سهلًا جدًّا، إلى أبعد حدود السهولة، بالضبط كما حدَث بعد هذا حين — بعد أقلَّ من عام من توقيع معاهدة كامب ديفيد — بدءوا بالإعداد لغزو لبنان.

في نفس تلك الأيام التي كنتُ أكتب فيها هذا، كنت في إجازة في قبرص، وقابلتُ في الهيلتون ذلك المسئول الليبي، أول مسئولي ليبي أقابله في حياتي بعد القذافي، الذي كان هيكل قد جمعَنا وإياه مرةً بالأهرام ليدور بيننا، نحن مُفكري مصر ومثقفيها، وبينه نوع من «الحوار الفكري»، وأذكر أنه بعد أن انتهى من إلقاء كل ما عنده حول فكرته عن الثورة العربية، وعن الكتاب الأخضر، والنظرية الثالثة، أن سألتُه: لقد خطبتَ سيادتك ومنذ أربعة أيام (كان يزور أثناءها الخرطوم) وقلتَ في خطابك: لقد سقط اليمين، وسقط اليسار. فما هي في رأيك القوات الباقية، لكي تصنع الثورة العربية التي تُنادي بها؟!

وكان السؤال مفاجئًا، ولكن هيكل — ذلك الذكي الدائم — أسرعَ فشرح الموضوع بطريقة في غاية اللباقة وقال: إن ما قاله «فخامة» الرئيس لم يكن مبدأً سياسيًّا، ولكنه كان ردًّا على الشعارات التي رفعها الحزب الشيوعي السوداني، أثناء زيارة العقيد وأثناء عقد المؤتمر.

كانت تلك هي المرة الأولى التي أراه فيها في حياتي عام ١٩٧١م، وها أنا ذا لأول مرة أيضًا، وفي عام ١٩٨٢م، أقابل أول مسئول من مسئولي النظام، وتُتاح لي مناقشة رجل من رجال ما بعد الثورة.

•••

المهم لا أريد أن أجعل من الأمر قصة طويلة؛ فقد أوقعني وُرود برقية الدعوة في حيرة. لم أكن قد تبيَّنتُها قبلًا؛ فراديو صوت الأمة العربية يَصِم النظام المصري صباح مساء بأنه نظام خائن، ووسائل الإعلام في مصر ترد على الصاع بصاعَين، ومن وجهة نظري ككاتب مصري لم أكن أجد أو أتبين أي سبب جِدِّي يدعو لهذا التراشق المتبقي من عهد السادات، ومن وجهة نظري أيضًا أُحس أن لأي كاتب وطني مخلص دورَه السياسي الخارجي أيضًا، فباستطاعته باعتباره لا يُمثِّل شخصية رسمية أن يتعرَّف على المشاكل والمصاعب بصراحة أكثر، ويَنقلَها إلى الجانب الآخر، وبهذا يكون — كما يقولون — واسطةَ خير، إذا تحسنَت الظروف نتيجة لها باستطاعة الاتصالات الرسمية بعد هذا أن تأخذ مجراها، وتقوم بالدور المناط بها.

ومغامرةٌ كهذه إلى ليبيا دون إذن من حكومتي، ومغامرة أن يتصوَّر المسئولون الليبيون بما فيهم العقيد القذافي، أني رسولٌ موفَد، أحاول أن أنفيَ الصلة فتزدادَ الْتِصاقًا بي — فاصل من أكثر الفصول الكوميدية التي مرت بي في حياتي — فقد أساء الظنَّ بي كِلا الجانبَين، وظن كل جانب أني إنما أحمل رأي الجانب الآخر، وتمت الوقيعة بحمد الله! ولكني أذكر أني في النهاية الأخيرة استطعتُ أن أُقنع العقيد الليبي أني فعلًا جئتُ ككاتب يُريد أن يُجرِيَ معه حوارًا أنشره في المصور، أو الجمهورية، إن لم يكن في الأهرام نفسِها، وهكذا لأول مرة وبعد ساعة ونصف، استقام الحديث.

وفهمتُ أنَّ اعتراض القذافي على مصر أنها أبرمَت معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل، وهذا شيء أنا معه فيه تمامًا، فقد كنتُ أكتب أيامها ألعنُها، أما الذي اختلفتُ معه فيه فهو إصراره على أن تُلغِيَ مصرُ فورًا معاهدة كامب ديفيد هذه.

وحين ذكرتُ له أن مصر لا يمكن ولا تَستطيع أن تفعل هذا إلا إذا كانت قد بلَغَت من القوة عسكريًّا واقتصاديًّا حدًّا تستطيع أن تتصدى معه لأي عدوان إسرائيلي، تقوم به إسرائيل ردًّا على إلغاء المعاهدة، وأن مصر لا تزال لا تملك هذه القدرة أو القوة، وأننا لهذا — كعرَب — لا بد أن نَلتفَّ حول القاهرة، وندعمَها ونُقوِّيها عسكريًّا واقتصاديًّا — لتستطيع أن تَستغنيَ عن المعونة الأمريكية والتسليح الأمريكي المحدود — وأن هذه الطريقة وحدها هي السبيل الوحيد لخروج مصر من كامب ديفيد، أجابني أن هذا صحيح وأن على العرب أن يُقوُّوا مصر. فقلت: الحمد لله! وصلنا.

ولكنه قال إننا — يقصد هو جبهةَ الصمود والتصدي — يجب أن نكون واثِقين أن تَقْوية مصر ستكون لمساعدتها في هذا الاتجاه، سألته: إذن كيف تتأكد يا سيادة العقيد أن مصر ستكون ماضية في هذا الاتجاه؟ قال: مِن الرئيس مبارك شخصيًّا، قلتُ: كيف؟ قال: نتقابل. قلت: ما أجمل هذا الكلام! أتسمح لي بأن أنقل هذا عنك إلى القاهرة؟ قال: أرجوك.

وهكذا خرجتُ من عنده، وأنا بكل حُسن النية سعيدٌ بما توصلت إليه من نتيجة أريد في لمحة أن أعود إلى القاهرة، لأُبلغ السلطات هناك، وأبلغ الرئيس مبارك شخصيًّا بهذا الانتصار الذي حققتُه، في رأيي، برضاء الأطراف أن تجتمع معًا.

لكني اكتشفتُ أني كنت حسَن النية أكثرَ مما يجب؛ فما بين خروجي من مجلس قيادة الثورة حيث مكتبُ القذافي، ووصولي إلى القاهرة، كانت الأخبار قد وصلَت عن طريق أكثرَ من مخابرات، معظمها مُعاد، إلى القاهرة، ووصلَت معكوسة تُصوِّر لمبارك أني إنما جئتُ مقتنعًا بآراء القذافي ولستُ حاملًا لرسالةِ تَقارُب.

وهكذا تمت الوقيعة وأُحرِقَت المهمة، وقام الهجوم البشع عليَّ من قِبَل الصحافة الساداتية؛ ذلك الذي اتهمني بالخيانة والعمالة وطعن الجيش المصري. إذ إن الحملة ضدي كانت في الحقيقة ردًّا على ما جاء في كتابي «البحث عن السادات» وليس، أبدًا، بسبب المقابلة التي تمت بيني وبين القذافي.

وهكذا فسَدَت المهمة فسادًا لم يَشهد التاريخ له مثيلًا!

ولكنه فشل، عرَفتُ منه أشياء كثيرةً جدًّا، ليس هذا مَجالَ تحديد كيف عرَفتُها، إنما أستطيع أن أَقطع أنا وأُقسِم أن العلاقات بين مصر وليبيا، بل وبين مصر وبقية الدول العربية، بل بين كل دولة عربية وأخرى تَضبِطها وتُحدِّدها خطوطٌ حمراء وخضراء وبيضاء، مرسومةٌ بعناية وبدقة شديدة بين القُوى الكبرى، وبالذات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وأن جريمتي الكبرى أني — بكل سذاجة — عبَرتُ الخط الأحمر المكهرَب وكِدتُ أُصعَق، وكدتُ أُحدِث ذلك التقاربَ الذي يَعني الدمار لكل السياسة الكونية في الشرق الأوسط.

إذ هو مطلوب أبدًا من كِلا المعسكَرَين، ومن مصلحة كلٍّ منهما أن تظَل ليبيا عدوةً لمصر، وأن تظل سوريا عدوة لمصر، وأن تظل السعودية بعيدةً عن الجزائر، وأن تظل الجزائر عدوَّة للمغرب، وأن تظل ليبيا عدوة لتونس. مطلوبٌ أن يستمر هذا كله، حتى يتخذ كلُّ معسكر من هذا البلد أو تلك مرتكَزًا، ومن مصلحة أمريكا أن تُعارِض مصرُ ليبيا حتى إلى آخر المدى، حتى تَشغَلها عن الجبهة الشرقية الإسرائيلية من ناحية، وحتى تضمنَ خضوعها لأي شروط عسكرية أو اقتصادية تُمليها عليها من ناحية أخرى.

•••

تلك كانت اللعبةَ في بدايتها … ولكن اللعبة اتسعَت وأصبح من مصلحة أمريكا وحدها أن تجعل من ليبيا رأس الذئب الطائر بالنسبة للدول العربية المعتدِلة من ناحية، وبالنسبة لمصر بالذات من ناحية أخرى، فكلَّ يوم هناك تعميق وتركيز للخندق الذي حفرَتْه الولايات المتحدة، ولا تزال تَحفره حول ليبيا لعزلها تمامًا من ناحية، بل وجعلها شبْهَ عدوة للإجماع العربي، وسببًا للتشرذُم العربي من ناحية أخرى، ولتبرير العدوان الإسرائيلي من ناحية ثالثة، باعتبار أن تصور ليبيا وتجسُّدَها وكأنها هي وحدها مصدر الإرهاب في المنطقة، في حين أن الإرهاب الحقيقي، والوحيد هو الإرهاب الإسرائيلي، وبهذا يُغطِّي على الإرهاب الحقيقي بإرهاب عربي مصطنَع تُرتكَب باسمه أبشعُ الجرائم ضد الأمة العربية.

أعتقد أن هذه الحقائق كلَّها إذا استعرَضْنا الأحداث القليلة التي مضَت منذ أسابيع، تُعَد على أصابع اليد الواحدة، كفيلةٌ إذا تعمَّقناها، وإذا تبصرناها، وإذا رأيناها وأعَدْنا الشريط مرة أخرى لأمكَننا أن نرى أن ليبيا يُلعَب بها، وكأنها عروسة من عرائس مسرح العرائس، وأن العرب يُلعَب بهم وكأنهم أيضًا عرائسُ في المسرح، وأننا كلنا يُلعَب بنا لنتصادم ونتضارب ونتقاتل، ونُوصَم بالإرهاب، بل ونُصبِح من أوائل الدول المنادية في العالم بمقاومة الإرهاب الدولي، في حين أننا الموصومون بأننا الإرهابيُّون الدَّوليون، ويحدث هذا كله في الوقت الذي يتخفَّى فيه الإرهاب الدولي حقيقة، ويتجسد ويُدبَّر بدهاء وخبث شديدَين في تلك البقعة المنكَرة من بقع الشرق الأوسط المسمَّاة إسرائيل، والتي عاصمتها في واشنطن، وليس في القدس كما نعتقد.

رسالة أخيرة للعقيد القذافي

أعتقد يا سيادة العقيد، أنك لو قرأتَ كلامي هذا، ولو راجعتَ ما حدث لك، وما يحدث منك، وما يحدث باسمك إن لم تَقتنِع أنك في بعض الأحيان تُنفِّذ سياسةَ قُوًى أكبرَ منك ومنا بكثير، وأنك تُتخَذ أحيانًا ذريعة لفتكٍ يُراد لنا، ويُراد لك؛ فإنك في هذه الحالة، حقيقة، لا تَستحق ما علقَتْه عليك جماهيرُ عربية كبيرة من آمال، وتَستحق بأن تُوصَم بأنك عدو حقيقي لهذه الأمة، وأنا شخصيًّا ما زلت للآن أعتقد أنك لستَ ذلك العدوَّ، ولا يمكن أن تَكونه إلا إذا استمررت تلعب نفس الدور الذي يرسمونه لك.

ألا هل بلَّغتُ، اللهم فاشهد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤