رامبو … بين القاهرة والإسكندرية

بينما راحت العربة تقطع الطريق على الحدود بين بلجيكا وفرنسا، في طريقها إلى بلدة الشاعر الجوَّال، كانت أبيات قصيدته، التي يعتبرها النُّقاد الآن أشهر قصيدة مفردة في اللغة الفرنسية، تتردَّد في ذهني في إيقاعٍ منغوم:

«بينما رحتُ أهبط عبر أنهار جامدة؛
لم أعد أشعر بالملَّاحين يقودون خطاي،
فقد صوَّب إليهم الهنود الحمر الصارخون سهامهم،
وشدُّوهم عرايا إلى الصواري الملوَّنة.»

ولقد كنت دائمًا أتساءل عند قراءتي المبكِّرة لحياة ذلك الشاعر الفريدة، كيف كان يتنقَّل في صباه هكذا بين دولتين — بلجيكا وفرنسا — مشيًا على قدميه، كلما ضاق ببلدته وأسرته والقيود التي يفرضانها عليه؟! وعندما وصلت بنا العربة، في ذلك الصيف من عام ١٩٩٧م، إلى الخط الفاصل بين الدولتين، وضَحَت في ذهني الإجابة على الفور؛ لم يكن هناك خطٌّ ولا حدودٌ ولا فواصل، لم يكن هناك إلا لافتةٌ تحمل اسم «فرنسا» تُنبِّه المرء إلى أنه ترك دولة ودخل دولة أخرى، ولكن الطبيعة واحدةٌ والجبال واحدةٌ والأنهار واحدة، ولم يكن على الطريق السريع أي فرد يراقب الداخل والخارج، لا شيءَ بالمرة! وتنبَّهتُ إلى أننا في عام ١٩٩٧م، وأن الاتحاد الأوروبي قد رفع الحدود ما بين ثماني دول، وأن تأشيرة دخول واحدة تكفي للتنقُّل بين كل تلك الدول.

ولمَّا وصلنا إلى بلدة «شارلفيل» بعد وقت قصير، أدركت أنني في بيئة الشاعر ومسارح صباه وحياته، وأن من أهمِّ الأمور المساعِدة لدراسة فنان أو أديب مفكِّر التعرُّف على المناطق التي عاش فيها أو زارها وتركت أثرًا في تكوينه وفي إنتاجه.

وصلنا شارلفيل ونحن ننتوي المكوث فيها يومين، إلا إنهما طالا حتى بلغا سبعًا، من أجل السير على طريق أحد الشعراء الصعاليك الفرنسيين: آرثر رامبو.

وكانت تجرِبة لا تُنسى أن يسير المرء على ضفاف نهر «الميز» التي طالما سار عليها الشاعر وهو يرقب المياه، ويتنقَّل بين ربوع البلدة التي تنقَّل فيها، ويرى المنزل الذي وُلد فيه والمدرسة التي تعلَّم فيها، والتي تحوَّلت الآن إلى مكتبة البلدية، وتُعطي الطبيعة الساحرة التي تحيط بالبلدة، والتي تصلها بالأراضي البلجيكية، فكرة طيبة عن كيفية انتقال رامبو مرارًا بين البلدين سيرًا على الأقدام؛ طلبًا للحرية، وهربًا من ضغوط أسرته ومدرسته.

وقد وُلد آرثر رامبو في ٢٤ أكتوبر ١٨٥٤م، وكان أبوه ضابطًا مغامرًا لا يستقرُّ له قرار، وما لبِث أن هجر الأسرة حين كان رامبو في السادسة من عمره، ولم يَروه بعد ذلك أبدًا، ولا شك أن رامبو قد ورِث عن ذلك الأب حب الترحال وعدم الاستقرار وجموح الطباع والثورة على كل شيء؛ وورِث عن أمه ما اشتهر به بعد هجره الشعر وعمله بالتجارة من حسن التدبير في كسب المال.

وقد التحق رامبو بمعهد «روسا»، ثم بالمدرسة الثانوية بالمدينة، وتلقَّى هناك التعليم الفرنسي التقليدي أيامها، الذي كان يُركِّز على اللغتين اليونانية واللاتينية، والتاريخ واللغة والرياضيات. وكانت فترة صباه التعليمية فترة عاصفة؛ فهو لم يكن يُطيق النظام والقيود التي كان يفرضها عليه البيت والمدرسة، فكان يتمرَّد عليهما دائمًا. ورغم ذلك، مكَّنه ذكاؤه الحادُّ من التفوُّق في دروسه دون جهد، فكان يحصد الجوائز المدرسية على الدوام، وقد أتقن اللاتينية إلى حدِّ أنه كان يَنظِم الشِّعر بها، وحازت بعض قصائده جوائز عامة، كما كانت تُنشر في الصحف الأدبية المحلية، وكان يقضي وقته هائمًا في الريف وعلى ضفاف «الميز»، ويقرأ كل ما تقع عليه يداه، وقد شجَّعه على طموحاته الأدبية والتحرُّرية أستاذه «إيزمبار»، الذي أقرضه الكتب الجديدة التي كانت مُحرَّمة في بيئة إقليمية منغلقة مثل شارلفيل، وطالع رامبو كتب هوجو وبودلير وسان سيمون وميشليه، وسرعان ما بدأ يُدبِّج القصائد بالفرنسية، ويضع تصوُّره الخاص لِما يجب أن يكون عليه الشعر والشعراء.

ولمَّا بلغ رامبو السابعة عشرة من عمره، كان قد حاول بالفعل هجر منزله وبلدته أربع مرات على الأقل، منها المرة التي توجه فيها إلى باريس للاشتراك في ثورة الكوميون، تلك الثورة التي أعقبت هزيمة فرنسا عام ١٨٧٠م أمام القوات الألمانية البروسية، والتي أدَّت إلى سقوط الإمبراطور نابليون الثالث.

وبعد أن عاد رامبو إلى شارلفيل بعد تلك التجربة التي ملأته، عكَفَ على تعويض إحساساته بالانكباب على الكتابة، وكان نتيجة ذلك مقالته عن الفن والشعر التي ذكر فيها أن الفن الحقيقي يجب أن ينبع من «الذات الأخرى» الخفية لدى الفنان، وأن سبيله إلى الكشف عن تلك الذات هو الحب والألم والجنون، وعلى الفنان أن يخلط في نفسه بين كل أنواع الحواس بما يُمكِّنه في النهاية أن يصبح «بصيرًا»، وتكون جميع حواسِّه في اتصال وتآلُف، كما لو أنه عاد إلى ينبوع واحد لها جميعًا؛ فالعين ترى رفيف الأجنحة، والأذن تسمع عبور الرؤَى، وكل جارحة من جوارح الإنسان تزدهر وتنتعش أمام تألُّق الأشياء بالألوان والأضواء والأشذاء وتفيض بالشعر. (صدقي إسماعيل).

وواكب تلك المقالة تدبيجه قصيدتين طويلتين من أبرز أشعاره؛ الأولى بعنوان «ما يقال للشاعر عن الأزهار»، أما الثانية فهي القصيدة الشهيرة «السفينة النشوى»:

«لقد خبرتُ السماوات المُنصدِعة في بروق.
خبرتُ المساء، والفجر الطالع كأنه رهطٌ من الحمام.
ورأيت أحيانًا كل ما ظنَّ الإنسان أنه رآه.»

ووصل رامبو في دراسته إلى السنة النهائية التي تُؤهِّله للحصول على البكالوريا، ولكنه كان قد قرَّر بَدء حياته كشاعر، فعمد إلى إرسال مجموعة من قصائده إلى أحد أقطاب المدرسة الحديثة في الشعر الفرنسي وقتذاك وهو «بول فيرلين»؛ الذي قرأ أشعار رامبو وأدرك على الفور أنه أمام ظاهرة جديدة في الشعر الفرنسي، فأرسل يستدعيه إلى باريس، وبدأ يُبشِّر بعمله في الأوساط الأدبية هناك، وقد دُهِش فيرلين أن يرى تلك العبقرية الناضجة تتمثَّل في ذلك الصبي النافر المتوحِّش الذي رآه ينتظره في بيته. وقدَّمه فيرلين إلى كبار الشعراء في أيامه، ومنهم؛ «هيريديا» و«فيكتور هيجو» الذي أُطلق عليه لقب «شكسبير الصغير».

ويرتبط رامبو وفيرلين ارتباطًا وثيقًا جعلهما لا يُطيقان الافتراق، وتبدأ بذلك تلك المأساة القائمة في حياة الشاعرين، التي ألقت بهما في سلسلة لا تنتهي من التشرُّد والضياع والصَّعلكة في العديد من البلاد الأوروبية؛ فحين ضاق رامبو ذَرعًا بباريس، دفع فيرلين إلى السفر معه إلى بلجيكا والتنقُّل بين مدنها، ثم توجَّهَا إلى لندن وتعيَّشا من تدريس اللغة الفرنسية، وكلما كان رامبو يقرِّر العودة إلى شارلفيل، يعود فيرلين إلى زوجته البائسة، كيما يهجرها ثانية عند أول إشارة من رامبو، ويلحق به في المكان الذي يتشرَّد فيه من جديد.

وكان الشاعران يقضيان وقتهما في الشِّجار على كل شيء، إلى أن بلغ الأمر بفيرلين أن أطلق الرصاص على رامبو في فندقهما ببروكسل، ولمَّا هدَّده بالقتل مرة أخرى اضطرَّ رامبو إلى استدعاء الشرطة، وانتهى الأمر بالحكم على فيرلين بالحبس سنتين في سجون بلجيكا. وتوجد الآن لوحةٌ في أحد مباني العاصمة البلجيكية تُشير إلى أن هذا المبنى كان قديمًا الفندق الذي شهِد واقعة إطلاق النار بين الشاعرين الشهيرين.

ويعود رامبو إلى أحضان عائلته في شارلفيل، مختَتِمًا بذلك علاقته مع فيرلين، التي سجَّلها حديثًا تسجيلًا أمينًا فيلم «الخسوف الكلي»، الذي قام فيه المُمثِّل ليوناردو دي كابريو (الذي اشتهر بعد ذلك عند تمثيله دوره المعروف في فيلم تيتانيك) بدور رامبو، فأحسن تصويره بكل تمرُّده وجنونه وشذوذه، ويقوم رامبو في شارلفيل بكتابة آخر ما خطَّته يداه من إبداعٍ أدبي، وهو كتابه من النثر الشعري المسمَّى «فصل في الجحيم»، الذي طبعه على نفقته في بلجيكا، ولكنه لم يُكتشف إلا بعد وفاته، حيث احتجز الناشر نُسَخَه لديه بعدما عجز الشاعر أن يدفع له حقوقه.

ومع آخر حرفٍ من ذلك الكتاب، يُطلِّق رامبو الشعر والأدب، ولا يسمح لأحد أن يحدِّثه فيهما، ويبدأ حياة من الأسفار والمغامرات، متنقِّلًا ما بين شارلفيل ومدن أوروبية كثيرة، ثم أصقاعٍ نائية في الشرق الأقصى على ظهر سُفن تجارية وحربية، وفي إحدى تلك الرحلات، تمرُّ به السفينة على ميناء عدَن، التي تترك في نفسه انطباعًا ساحرًا، فيُقرِّر بعد ذلك السفر إلى هناك، حيث يبدأ آخر طور من حياته، طور التاجر الثري.

ويقضي رامبو سنواته المتبقية في قبرص أولًا، ثم ما بين عدن وهرر بالحبشة، ومدن أخرى في المنطقة مثل: زيلع وتاجورا وجيبوتي والأوجادين، ونحن نعلم تفاصيل حياته وأعماله في تلك السنوات من مجموعة رسائله التي جمعتها دار نشر جاليمار في طبعتها عن الأعمال الكاملة لرامبو، ويستبين من تلك الرسائل أنه كان يقوم بالعمل في مجالات توريد العمالة، والتجارة في البُن، ثم في الأسلحة في الحروب القبَلية التي كانت تدور في الحبشة، وقد زار القاهرة والإسكندرية أكثر من مرة خلال تلك الترحالات، حتى إنه كان على وشك العمل مُفتِّشًا في جمارك الإسكندرية لولا أنه لم يُطق الانتظار لإتمام الأوراق. كذلك نعلم أنه قد أودع ما يحمل من أموال ذهبية في مصرف الكريدي ليونيه في حي الغورية بالقاهرة، كوديعة لستة أشهرٍ بفائدة ٤٪! ولكن أغرب ما تحويه تلك المراسلات هي خطابه — عام ١٨٨٣م حين كان في هرر — إلى مكتبة هاشيت بباريس يطلب منها أن توافيه بأفضل ترجمة متوفِّرة لديها للقرآن الكريم إلى الفرنسية، على أن تكون الترجمة مصحوبة بالنص العربي الأصلي إن أمكن ذلك. ويُعلِّق مُحرِّر الكتاب على ذلك بأن: «ذلك الطلب جديرٌ بالاهتمام؛ فقد تغلغل رامبو في رُوح السكان المحليين، إلى الحدِّ الذي يقال معه إنه قد اعتنق الإسلام، وكان يقرأ القرآن بينما يتحلَّق مِن حوله جماعات صغيرة يقوم بشرح الكتاب القدسيِّ لهم.» كما تذكر أخته في رسالة لها أنه تُوفي في مستشفى مرسيليا وهو يُردِّد عبارة «الله كريم».

ولقد كانت هذه العبارة ترِنُّ في وعيي وأنا أتجوَّل في متحف رامبو بشارلفيل.

ويضمُّ المتحف العديد من مخطوطاته الأصلية، وكثيرًا من مُعدَّات سفره ومنها حقيبته الأفريقية، بالإضافة إلى العديد من صوره الأصلية، ونص قصيدة «المركب النشوان»، وإنما بخط بول فيرلين، كذلك يعرض المتحف الطبعات الأولى لكتبه والعديد من الكتب التي صدرت عنه والترجمات المختلفة التي نُشرت لأعماله. كل ذلك وسطور القصيدة الخالدة تُهيمِن على كل شيء …

«ولكن، حقًّا، لقد بكيت بما فيه الكفاية.
لَكَم يصدع الفجرُ الفؤاد،
كل الأقمار مريعة،
وكل الشموس مريرة،
لقد أفعمتني آلام الحب بأخدارٍ مُسكِرة،
آه فليتحطم قاعي!
آه فلأغرق في الأعماق!»

ولم يكن رامبو يدري وهو في غمرة تجارته الأفريقية أنه قد غدا شاعرًا مشهورًا في فرنسا؛ فبعد أن أصدر فيرلين كتابه المسمَّى «الشعراء الملعونون»، وأفرد جانبًا منه لرامبو وشعره الجديد، هلَّل له النُّقاد واعتبروه من مؤسِّسي الشعر الرمزي الجديد. وبعد أن تُوفي رامبو عام ١٨٩١م بداء سرطان العظام الذي أدَّى إلى بتر ساقه، طلبت أخته إيزابيل من فيرلين أن يعرض على الأسرة أشعار رامبو الكاملة التي كان يعتزِم نشرها، كيما يحذفوا منها ما لا يروق لهم، ولكن فيرلين يتجاهل طلبها، الكامل لرامبو قبل أشهر قليلة من وفاته هو نفسه، والآن «لا يوجد محبٌّ للشعر الإنساني دارسٌ له في أي مكانٍ من العالم إلا ويعرف اسم رامبو، إنه شاعر مُهِم وموهوب، وأشعاره تزداد تألُّقًا مع الأيام، ويجتهد الباحثون في تقديم تفسير لها، كلما ظهرت مناهج جديدةٌ للبحث في الشعر ودراسته» (رجاء النقاش).

وهكذا بقيت تلك الأشعار منارًا يسير على هديه الشعراء من كل حدبٍ وصوب، ومنهم الشعراء العرب الذين احتفَوا برامبو وشعره، بل وقد قرأنا أن عددًا من كبار شعرائنا المصريين قد احتفلوا منذ سنواتٍ بالشاعر بأن زاروا الأماكن التي عاش فيها في أفريقيا، إحياءً لذكراه واحتفاءً بهذا الشاعر العظيم الذي أضاف الكثير إلى الضمير الشعري العالمي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤