داعيةُ حرية المرأة وحرية الحب

والكاتبة التي نُقدِّمها هنا هي الروائية الفرنسية جورج صاند George Sand، التي طرحت تقاليد زمانها في فرنسا أوائل القرن التاسع عشر، وانتهجَت لنفسها حياة حرَّة تمامًا من قيود المجتمع والأعراف الاجتماعية. وقد نقمت على الرجل الامتيازات التي يتمتَّع بها والتي تسمح له بكل شيءٍ، فخلعت عنها ملابس النساء واستبدلت بها سترات الرجال — قبل أن يحدث هذا في النصف الثاني من القرن العشرين، ودخَّنت السيجار، بل واتخذت لنفسها هذا الاسم الرجالي بعد أن كانت تُدعى «أورور ديبان». وقد فعلت كل هذا كي تتمكَّن من الحياة كالرجال، وتغشى الأماكن التي يتردَّد عليها الفنانون والكتَّاب وتجلس معهم في المقاهي والصالونات العامة التي لم تكُن تغشاها النساء.

وقد حقَّقَت جورج صاند آمالها ككاتبة وخلَّفَت وراءها تراثًا أدبيًّا ضخمًا بلغ عند نشره كاملًا ١٢٢ مجلدًا، وجمعَت حولها كوكبة من أدباء العصر وفنانيه، وخلَّفَت أثرًا عميقًا في تيار الأدب النسائي الذي جاء بعدها، وقد تأثَّرت بها أديبتنا العربية «مي زيادة»، وتابعت خُطاها في صالونها الأدبي الذي جمع زُبدة الأدباء والصحفيين العرب، وفي مراسلاتها الضافية مع الكثير من الكتَّاب والفنانين في زمانها.

وقد زُرتُ ذات صيفٍ القصر الذي عاشَت فيه جورج صائد في وسط فرنسا، بين السهول الخضراء المنبسطة في كل مكان، وهي الضيعة المسمَّاة «نوهان». وحين دخلنا من بوَّابة القصر الكبيرة، التي وضعوا فيها شبَّاك التذاكر لدخول هذا المزار السياحي الهام، طالعت آذاننا أنغام البيانو يعزف ألحانًا شجِيَّة للموسيقار البولندي شوبان؛ فهتفت الأرواح والمشاعر تَجاوبًا مع هذا الجوِّ الفني الخالص، وتبينتُ أنه من الطبيعي على مَن يحيا وسط هذا الفردوس الطبيعي أن تجود قريحته بألوان الفنون العذبة، وتذكرتُ في الحال أمنية ناقدنا الراحل أنور المعداوي في إحدى رسائله متمنيًا أن يكون له «جوسق» في حديقة يكتب فيه بعيدًا عن ضوضاء الحياة ومشاغلها التي لا تترك للكاتب الوقت ولا تمنحه الإلهام الضروري للإنتاج الفني.

وبعد التجوال في هذه المغاني الساحرة حان وقت زيارة مجموعتنا، فقادتنا المرشدة إلى الطابق الأرضي من القصر، وبه غرفة الصالون الرئيسية التي تمتلئ بأثاثات العصر واللوحات المختلفة للكاتبة وأسرتها، ولوحةٌ لآخر مالكة للضَّيعة وهي «أورور صاند»، حفيدة الكاتبة، التي تُوفيت في ١٩٦١م، وبعدها تحوَّل القصر إلى متحف.

وقد توقفت المرشدة بنا طويلًا في هذا الصالون لتقُصَّ علينا لمحة سريعة عن حياة صاند وعصرها تُعيننا على تذوُّق ما سنراه في بيتها.

وُلدت صائد في باريس في ١ يوليو ١٨٠٤م، لأبٍ عسكري أرستقراطي كان من ضباط نابليون، وأمٍّ من أسرة متواضعة. وقد عرفَت الطفلة قصر نوهان منذ نشأتها الأولى، حيث كانت تقضي فترات الصيف هناك لدى جَدتها لأبيها، ثم أقامَت معها بصفة دائمة بعد وفاة الأب فجأة من جرَّاء سقطة حصان. وكانت الجَدة صاحبة الأثر الأكبر في تكوين حفيدتها؛ إذ جلبت لها المعلِّمين إلى القصر، ثم ألحقتها بدير الأوغسطينيين في باريس حيث تلقَّت تعليمها الأساسي بين عامي ١٨١٧ و١٨٢٠م. وحين تُوفيت الجدة، تركت لحفيدتها ضَيعة نوهان وثروة صغيرة، وسرعان ما تقدَّم البارون «كاسيمير ديدفان» للزواج منها، فقبِلت على الفور نظرًا لصغر سنها، حيث لم تكن قد تجاوزت الثامنة عشرة من عمرها؛ بَيد أنها عانت الكثير من إهمال زوجها لها وخياناته المتكررة، ولم يُعَزِّها عن ذلك إلا ابنها موريس وابنتها سولانج. وحدث أن قرات صاند مصادفة وصية كان زوجها قد أعدَّها، ففوجئت بالقدر الكبير من الكراهية والحقد اللذَين كان يُكِنُّهما زوجُها لها، فكانت هذه النقطة الفاصلة في حياة الزوجة، إذ قرَّرت هجر زوجها وبدء حياة جديدة من الحرية والاعتماد على الذات. وتوجَّهت للعيش في باريس بعد أن قررت أن تصبح كاتبة وتعول نفسها عن هذا الطريق، وأخذت تغشَى مجال الكتَّاب والأدباء والصحفيين التي كانت تُعقَد في المقاهي الباريسية آنذاك؛ ولهذا فقد عمدت إلى ارتداء ملابس الرجال وتقصير شعرها وارتداء القُبَّعة العالية وتدخين السيجار، حتى أن الكثيرين كانوا يعاملونها كرجل. وتعرَّفت على عددٍ من الأدباء، من بينهم «جول صاندو» الذي أصبح أول عُشَّاقها، والذي اشتركت معه في كتابة رواية «روز وبلانش»، التي أصدراها تحت الاسم المشترك «جول صاند». وبعد ذلك أخذت الكاتبة اسم جورج صاند لتصدر به أول روايتين لها وهما «إنديانا» و«فالنتين»، اللتين نجحتا نجاحًا كبيرًا جعل الناشرين وأصحاب الصحف يتهافتون على كتاباتها.

وفي عام ١٨٣٣م، تبدأ أولى علاقات جورج صاند مع أحد مشاهير عصرها، حين التقت بالشاعر الرومانسي «ألفرد دي موسيه» ووقعت في غرامه. وقد جال الكاتبان في عددٍ من الأسفار، توَّجاها برحلة إلى المدينة الرومانسية البندقية «فينيسيا». بَيد أن تلك الرحلة، التي ألهمت الكاتبة عددًا من رواياتها، انتهت نهاية سيئة بعد إصابة موسيه بالتيفود واضطراراه إلى العودة إلى باريس. وقد انتهت علاقة الكاتبين بعد ذلك؛ بَيد أنها قد أثَّرت بدورها في إنتاج الشاعر الكبير؛ إذ إن عددًا من لياليه المشهورة هي من وحي حبِّه لصاند، كما أن روايته «اعترافات في العصر» هي عن تلك الفترة من حياته أيضًا.

وبعد انفصال صاند عن موسيه، بدأت إجراءات انفصالها القانوني عن زوجها كاسيمير التي كُلِّلت بالنجاح بعد كثيرٍ من المشكلات في عام ١٨٣٦م، حيث اتفق الطرفان على تقسيم ثروتهما، وكانت ضَيعة نوهان من نصيب الزوجة. وقد شهد نفس العام اصطياف صاند في سويسرا مع الموسيقار العالمي فرانز ليست وصديقته مدام «داجول»، وبعدها استضافت الكاتبة الموسيقار وصاحبته في قصر نوهان. وكان «ليست» هو الذي قدَّم صاند لصديقه الحميم الموسيقار البولندي «فردريك شوبان» الذي كان قد بدأ يشتهر في فرنسا، ثم في أوروبا كلها، بعد هجرته من وطنه بولندا فرارًا من القمع الذي كانت تتعرَّض له على يد روسيا القيصرية. وكان شوبان أحد ألمع النجوم الذين أضافتهم جورج صاند إلى مجموعة عشاقها المرموقين، وقد استمرَّت علاقتهما من عام ١٨٣٩م حتى عام ١٨٤٧م، وظلَّا على صلة طيبة حتى وفاة شوبان المبكِّرة في عام ١٨٤٩م عن أربعين عامًا فحسب. وكان شوبان مُعتلَّ الصحة؛ يُهدِّده مرض السُّلِّ بصورة مستمرَّة، وقد سافر مع حبيبته صاند إلى جزيرة مايوركا الإسبانية لقضاء الشتاء هناك للاستشفاء. بَيد أن رحلة مايوركا ضارعت رحلتها السابقة إلى البندقية في سوء الحظ والأحوال، فقد كانت المعيشة في الجزيرة الإسبانية بدائية، ولم يجدا ما كانا يتوقعانه من راحة وطقسٍ ملائمٍ لصحة شوبان. ولكن الرحلة أثمرت كتاب صاند الشهير «شتاء في مايوركا»، كما ألهمت شوبان عددًا من مقطوعاته الموسيقية. وقد قضى شوبان صيف سنوات علاقته بجورج صاند في قصر نوهان، حيث خصَّصت له غرفة دائمة، علاوة على مكانٍ لعزف البيانو. وكانت هذه هي الفترة التي شهد فيها القصر أكبر تجمُّعٍ لفناني العصر وأدبائه، فإلى جانب صاحبة القصر وشوبان كان من الزوَّار أيضا فرانز ليست والروائي بلزاك والشاعر الألماني هنريس هايني، بالإضافة إلى الرسَّام الشهير يوجين ديلاكروا، الذي خصَّصت له صاند مبنًى منفصلًا كاستوديو يرسم فيه ويُعطي دروسًا في الفن لابنها موريس. وقد كتب ديلاكروا مرة عن إقامته في القصر: «أحيانا من خلال النافذة التي تُطِلُّ على الحديقة، كانت نصل إلينا نغماتٌ من موسيقى شوبان، حين يكون مستغرقًا في عمله، وتمتزج هذه النغمات بتغريد البلابل وعطر شُجيرات الورد الفوَّاح!»

ومع السنوات الأخيرة في علاقة جورج صاند وشوبان، حدث تغيُّرٌ أساسي في الاتجاه العام لرواياتها؛ فبعد أن كانت تعتمد الأسلوب الرومانسي وتُعالج أساسًا العلاقات بين الأفراد وتحليل عواطفهم، اتجهت ناحية ما يُسمَّى «الروايات الرعوية» التي تدور حول سكان الريف ومشاكلهم وعلاقاتهم بالأرض والطبيعة، وأهم تلك الروايات «كونصويلو» و«مستنقع الشيطان» و«فرانسوا شامبي» و«فاديت الصغيرة». ومع التطوُّرات السياسية التي شهدتها فرنسا في عام ١٨٤٨م، أغرقت صاند أحزانها الشخصية بالمشاركة في النِّضال للحصول على حقوق الشعب التي بشَّرت بها الثورة الفرنسية. ولقد شهدت كاتبتنا خلال حياتها التي استغرقت ثلاثة أرباع القرن التاسع عشر تقريبًا التحوُّلات الجذرية التي مرَّت بفرنسا في تلك الفترة؛ فهي قد عاصرت نابليون بونابرت ثم عودة الملكية مع لويس الثامن عشر وشارل العاشر، ثم ارتقاء لويس فيليب سُدَّة العرش استجابة لمطالب الشعب، مما جعله يُدخل العديد من الإصلاحات على النظام المَلَكي لصالح المواطنين. بَيد أن الشعب طالبَ بمزيدٍ من التغيير، وقام بما يُسمَّى ثورة ١٨٤٨م التي جاءت بالجمهورية الثانية وعلى رأسها لويس نابليون الذي شهدت السنوات الثلاث الأولى لحكمه نهضةُ في مجال الحقوق والتطلُّعات الشعبية في الحرية والديمقراطية، شاركت فيها جورج صاند بمقالاتها ورواياتها التي عكست تلك الأماني.

ولكن رئيس الجمهورية الجديد سرعان ما عصف بتلك الأماني عام ١٨٥١م، حين ألغى الجمهورية ونادى بنفسه إمبراطورًا تحت اسم نابليون الثالث، وحاول إحياء عهد سلفه بونابرت، ولكنه لم ينجح في ذلك؛ إذ انتهى حكمه بكارثة الهزيمة أمام بسمارك، وقيام الجمهورية الثالثة التي استمرَّت حتى غداة الحرب العالمية الثانية.

وقد أصابت دكتاتوريةُ نابوليون الثالث آمالَ الشعب في مقتل، وهو ما شعرت به جورج صاند أيضًا، فبقدر جهادها لنيل حريتها الشخصية كانت آمالها مع حرية الشعب وحقوقه، وقد استخدمت كل ما تملك من نفوذٍ وصِلاتٍ لحماية أصدقائها من الجمهوريين والثوريين الذين تعرَّضوا لنقمة الإمبراطور الجديد، مع أنها هي نفسها كانت في خطر كبير نظرًا لتعاطُفها مع الشعب ومع مشاكل العمال والفلاحين.

ولم يبقَ أمامها بعد ذلك إلا الاستقرار في نوهان، تكتب روايتين كل عام، وتُمضي أوقاتها مع أهل القرية وأطفالهم حتى اكتسبت منهم لقب «سيدة نوهان الجليلة»، وقد أصدرت في ذلك الوقت سيرتها الذاتية الضخمة بعنوان «قصة حياتي».

وترجع إلى الفترة الأخيرة من حياتها علاقتها الأدبية بفلوبير صاحب «مدام بوفاري»، وألكسندر دوماس الابن صاحب «غادة الكاميليا»، وكانا من المدعوِّين الدائمين على مائدة صاند في نوهان حتى وفاتها في ١٨٧٦م.

•••

وبعد أن تسلَّحت جماعة الزائرين بهذه النبذة السريعة عن حياة صاحبة المنزل الذي نزوره، دلفنا إلى غرفة الطعام؛ فإذا بالمائدة منصوبة والأطباق عليها، وأمام كل مقعدٍ اسم صاحبه، وقرأنا بينها أسماء فلوبير وديماس الابن وتورجنيف وغيرهم من مشاهير العصر الذين ارتبطت بهم صاند في سنواتها الأخيرة، بَيد أننا تخيَّلنا أيضًا الشخصيات الأخرى التي كانت أليفة بهذه المائدة ذاتها: شوبان، وفرانز ليست، وديلاكروا، وسانت بيف. ودخلنا بعد ذلك إلى قاعة المسرح، التي كانت أولًا عدة حجراتٍ صغيرة تُقام فيها عروضٌ تمثيليةٌ بمصاحبة بيانو شوبان، ثم هُدمت الفواصل بينها لتصبح مسرحًا صغيرًا يتسع لحوالي خمسين شخصًا. وقد أُقيمت في هذه القاعة تدريباتٌ على تمثيليَّاتٍ مأخوذة من روايات جورج صاند، كما أنها شهدت عروض مسرح العرائس الذي ابتدعه موريس صاند ونحتَ له عشرات العرائس الخشبية التي كانت أمه تقوم بتفصيل الملابس لها، وما زالت تلك العرائس معروضة في خزائن خشبية تُبهِر الأنظار بدقتها وألوانها.

ثم صعدنا السُّلَّم الخشبي الذي هو في حدِّ ذاته تحفة نحتية رائعة، لنصل إلى الطابق الأول الذي يضمُّ غرفة نوم الكاتبة بورق حائطها الأزرق الخفيف الذي اختارته صاند بنفسها مع الأغطية والستائر المتماثلة اللون، وفيها السرير الذي كانت تنام عليه حتى وفاتها. وبعد زيارة عدة حجراتٍ كانت مُعدَّة للضيوف ولأحفادها، رأينا الغرفة التي كانت تكتب فيها، وبها المكتب من طراز لويس الرابع عشر، وأمامه رفوف الكتب التي تُشكِّل مكتبتها في ذلك الحين.

وبعد إتمام هذه الزيارة الدسمة، يصبح من المناسب الميل إلى غرفة المشتريات المُلحقة بالمتحف الشراء ما يَبغيه الزائر من كتب جورج صاند والصور المختلفة المتعلِّقة بها وبضَيعتها، ثم التوجُّه إلى الكافيتيريا الأنيقة التي أقيمت في طرَفٍ من الحديقة — واسمها على اسم بطلة صاند المشهورة «فاديت الصغيرة» — للراحة وتناول المشروبات والتفكُّر في حياة صاحبة القصر، الروائية التي سبقت عصرها بأكثر من قرنٍ كامل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤