نهاية الطريق «١»

لم يكن قد بقي من أعوام السِّتينيَّات إلا عامان، حين اجتمع الرأسان في يوم واحد: رأس السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية، وكان اجتماعهما مصدر نشوة متفائلة عند صاحبنا دون أن يقع على سبب واحد يُبرر نشوته وتفاؤله، لكن ما أكثر ما يستعصي على الفهم من حالات النفس المتراوحة بين انقباض وانبساط خوف وطمأنينة يأس وأمل وأنه ليسعد الإنسان أن يجد أن أحداث الحياة كما يصادفها قد جاءت لتبين صدق النبوءة التي كانت قدمتها حالة نفسية سابقة، وكأنها جاءته إشارة من الغيب تلوح له بما هو ملاقيه بعد حين: وسر تلك السعادة — فيما يبدو — كان في رغبة الإنسان الشديدة في أن يكون له من شفافية الروح ما يستبق به الواقع قبل وقوعه، حتى ولو تم له ذلك بصورة مبهمة، وليكن ذلك الإنسان من عملية النظر ما يرتفع به إلى الذرى، فهو برغم ذلك يظل ذا فطرة تتطلع أن تكون موهوبة بقبس من نورانية الروح، وأيًّا ما كان الأمر تفاءل صاحبنا يوم أن التقى رأس السنة الهجرية برأس السنة الميلادية في يوم واحد، لم يكن صاحبنا مطمئن النفس خلال تلك الفترة الزمنية، فلقد اعتاد طوال ما يقرب من أربعين عامًا سبقت على أن يبذل من الجهد قدرًا يستنفد كل طاقته، فلا يبقى لنفسه من تلك الطاقة مدخرًا مرصودًا لما قد تفاجئه به الأيام من أعباء، وهو مع ذلك الجهد المبذول يبلغ من نكران الذات حدودًا لا يألفها معظم النَّاس، فمعظم النَّاس يعطي ليأخذ ولا لوم على أحد في ذلك، بل ربما كان مما يفقد الإنسان شيئًا من كرامته عند النَّاس إذ رأوه يبذل العطاء ولا يتوقع مقابله شيئًا يساويه، لكن هكذا خُلق، وهكذا جرت عادته أن ينعم بالعمل الذي يجب عمله مستغنيًا بذلك النعيم عن أي جزاء آخر، وفي تلك الفترة الزمنية التي نتحدث عنها كان مثقلًا بالواجبات: فهو يعد محاضراته الجامعيَّة ويلقيها، وهو يشرف نيابة عن وزارة الثَّقَافة على مجلة الفكر المعاصر مع المشاركة في تحريرها بمقال شهري طويل، يتناول فيه ما يتناوله من الأفكار التي كانت تتناثر في أجوائها خلال الستينيات، فيحللها ليبين لقرائه مدى امتلائها بالمضمون أو خلوها منه، وكان عضوًا في لجنتين من لجان المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعيَّة، كما كان يُسمى يومئذ (اسمه الآن المجلس الأعلى للثقافة) هما لجنتا الفلسفة والشعر، ولم تكن تلك اللجان في ذلك الحين تجتمع لتسمر، بل كانت تفرض على نفسها أعمالًا لا تنتهي، وكان عضوًا في لجنة تفرغ الفنانين والأدباء، وعملها هو أن تنتقي من رجال الفن والأدب ما تتوسم فيه ثراء العطاء لو أُزيح عن كاهله عبء الوظيفة أو عبء الحاجة، فتوصي بمنحه راتبًا مع تفرغه لإبداعه الفني أو الأدبي، وكان عضوًا في لجنة المقتنيات الفنية، وعملها زيارة كل ما يُقام من معارض الفن لتختار من المعروضات ما توصي الحكومة بشرائه لقيمته الفنية، ولتقوم الدولة بواجبها في مساندة المبدعين، وكان عضوًا في لجنة المتاحف، وغير ذلك مما ملأ حياته بالعمل، وهو عمل يُراد به المشاركة في خدمة الحياة الثَّقافيَّة، وبينما هو مغمور بواجباته تلك لا يكاد يفكر لحظة في نفع يأتيه مقابل الاضطلاع بكل جهده بما ينفع العلم والفن والأدب، أثار غضبه أن تتلاحق عليه أحداث «رأى خلالها» كم تخف كفته كلما أُقيم للأقدار ميزان.

وعند تلك الغضبة وما صاحبها من صدر يضيق وقلب أثقلته الهموم تلاقى رأس السنة الهجرية مع رأس السنة الميلادية في يوم فاستبشر صاحبنا خيرًا، وإذا بذلك اليوم نفسه يحمل إليه برقية من جامعة الكويت تطلب استعارته لفترة، وهداه الله سبحانه إلى المسارعة بالقبول، وهناك في جامعة الكويت وحد الفرصة سانحة لأداء ما كان شديد الرغبة في أدائه، وهو أن يتعقب طريق «العقل» في تراث العرب الأوائل؛ وذلك لأنه كان على يقين من رجحان العقل في كثير جدًّا مما شُغل به السلف من مشكلات تتصل بالحياة الثَّقافيَّة، وإذا كان ذلك كذلك فلا يبقى علينا إلا أن ندعو المعاصرين من أبناء الأمة العَربيَّة إلى مواصلة السير في طريق الآباء، ولا يتحقق ذلك بأن يعيد ابن اليوم ما قاله رجل الأمس، بل يتحقق بأن يأخذ الخلف «وقفة» السلف إزاء ما أُشكل عليهم ليقفها الخلف إزاء ما استحدثه له الزمن من مشكلات، ولكن ماذا كانت مشكلات السلف وكيف تناولوها؟ وماذا أصبحت عليه أيامنا نحن من مسائل تتصل بزماننا؟ تتطلب منا النظر والحل؟

إنه مع اعترافنا بأن محاولات التبسيط، لما هو بطبيعته غني بتفصيلاته، لا بد لها من التضحية ببعض جوانب الموقف على حقيقته؛ لكي تظفر بتوصيل وصف تقريبي لذلك الموقف أقصى ما يطمع فيه هو أن تجيء المنفعة المرجوة أكثر من الضرر الناتج عن تقديم الحقيقة منقوصة العناصر! نقول: إنه مع اعترافنا بذلك منذ البداية فلا سبيل أمامنا في تصوير الحركة الثَّقافيَّة خلال فترة زمنيَّة محددة وفي أمة واحدة من استخلاص الصورة العامة بعد طرح الجانب الأكثر من تفصيلاتها.

وعلى هذا الأساس أقدم صاحبنا على تحقيق رغبته في متابعة التيارات الثَّقافيَّة خلال الخمسة القرون الأولى من التَّاريخ العربي بعد الإسلام، وكانت خطته التي رسمها لنفسه في تحقيق ذلك هي أن يسير على مراحل، كل مرحلة منها تمتد قرنًا من الزمن بادئًا من القرن الثامن «الثاني الهجري»، على اعتبار أن الفترة الإسلاميَّة السابقة على ذلك التَّاريخ كانت هي الفترة التي نزلت فيها الرسالة، وتحققت خلالها امتدادات الرقعة الإسلاميَّة فانتشرت العقيدة إيمانًا بها، لكنها لم تكن قد وضعت بعد في مجالات البحوث العلمية التي تُقام على أساسها، وإذا قلنا البحوث «العلمية» فقد قلنا بالتالي إنها بحوث تعتمد في مناهجها على منطق العقل في التحليل والتعليل والاستدلال.

وبنظرة الطائر عبر تلك القرون الأولى يمكن أن يُقال عن القرن الثامن «الثاني الهجري» إن اهم ما شُغل به علماؤه علوم أُريد بها أساسًا أن يزداد المؤمن فهمًا للكتاب الكريم، فبدهي — إذن — أن تكون علوم اللغة العَربيَّة بين ما يجتذب أقدر العقول على البحث العلمي في دقة منهجه؛ إذ هي علوم تنشأ لأول مرة: فمفردات اللغة تُجمع، وشواهد معانيها تُستقصى، وقواعد نحو اللغة وطرق الاشتقاق من مفرداتها تُستنبط وتُستقرأ من واقع استعمالها … وهكذا.

ومع علوم اللغة في ذلك القرن قامت علوم أخرى خاصة بالعقيدة الدينيَّة وشريعتها، فقام من يُطلق عليهم اسم علماء «الكلام» و«الكلام هو كلام الله سبحانه وتعالى»، فوجهوا قدراتهم العقلية على التحليل نحو أفكار وردت في الكتاب الكريم يحتاج فهمها فهمًا يتسم بالدقة إلى تحليلها: كفكرة التوحيد، وفكرة العدل الإلهي، وفكرة الحريَّة أو الجبرية في كل «فعل» يفعله الإنسان ويكون مسئولًا عنه يوم الحساب، وفكرة القضاء والقدر وهكذا، ولم يكن هؤلاء العلماء على رأي واحد فيما ينتهون إليه من نتائج؛ ولذلك فهم يتفرقون فرقًا متباينة: ففرقة تعلي من شأن العقل وما يكشف عنه من حقائق المعاني وتلك هي جماعة المعتزلة، وفرقة أخرى أرادت أن تحد من المدى الذي يُطلق للعقل فيه أن يكون صاحب الكلمة، فالأمر أولًا وآخرًا هو أمر عقيدة دينية يؤمن بها من يؤمن، وهكذا إلى جانب هاتين المجموعتين من العلماء — وأعني علماء اللغة وعلماء الكلام — ظهر فقهاء الشريعة، وظهر معهم علماء الحديث، وفي كلتا الحالتين رأينا ضروبًا من المنهج العلمي: في التحقق من صدق القول وفي استخراج الأحكام، وإذا كان هذا النشاط العلمي المتعدد الفروع قد شهده القرن الثاني الهجري إذن فنحن على حق إذا زعمنا أن قد كان للعقل في تلك الفترة مكان الريادة.

وجاء القرن التَّاسع (الثالث الهجري) فكان أبرز ما تميز به من سابقه هو تلك الحركة الواسعة في نقل الثقافات الأخرى وأهمها ما نُقل عن اليونان من فلسفة وعلم، ولا يفوتنا هنا أن نذكر بأن هؤلاء اليونان يومئذ كانوا هم «الغرب» من الناحية الثَّقافيَّة، إذا جاز لنا أن نستخدم في هذا السياق مصطلحًا مألوفًا بيننا نحن عرب اليوم، وكذلك نقلوا عن فارس وعن الهند، وكان أهم ما نقلوه من تلك الجهة الشرقية «التصوف»، وكانت مصر مصدرًا ثالثًا إذ أخذوا عن الإسكندرية فلسفة وعلمًا، ولقد كان الأثر الذي أخذته حركة النقل عن الثقافات الأخرى أثرًا واسع المدى عميق الغور في تلوين الثَّقَافة العَربيَّة بعد ذلك بطابع جديد.

ظهر ذلك الطابع الجديد في ثقافة القرن الرابع الهجري وما بعده العاشر الميلادي وما بعده ظهورًا واضحًا، فهنالك ظهر الفلاسفة الأفذاذ كالفارابي وابن سينا! ولنلحظ هنا أنه لولا ما نُقل من فلسفة اليونان لما ظهر هؤلاء؛ لأن محور الفلسفة عند الفلاسفة المسلمين كان بمثابة الحوار مع فلسفة اليونان حوارًا يُراد به معرفة الصلة اتفاقًا أو اختلافًا بين ما نزلت به رسالة الإسلام وما قد ورد في حكمة اليونان، وكان المتجه العام في هذا الصدد، وهو نفسه المتجه العام في أوروبا المسيحية إبان العصور الوسطى، هو أن ما آمن به المؤمن وحيًا هو في جوهره ما سلمت به الفلسفة اليونانية برهانًا عقليًّا، ويجيء في مقدمة ذلك وجود الله الخالق عز وجل؛ فهو عند اليونانية كشف عقلي يقوم عليه البرهان، وهو عند المؤمن تسليم بالقلب تسليمًا لا حاجة به لبراهين العقل تؤيده، وفي القرن الرابع الهجري أيضًا ظهر نقد أدبي منهجي يقوم على تحليل النص المنقود — وهو شعر على الأغلب — تحليلًا أدق ما يكون التحليل، وجدير بنا أن نذكر للقارئ في هذه المناسبة أن مثل هذا التحليل للمركبات اللفظية لاستخراج ما يبرر قيمته الأدبيَّة هو نفسه أساس ما يسمى عند النقاد في الغرب المعاصر بالنقد الجديد، وما دام الأمر في النقد الأدبي أمر تحليل المركب إلى عناصره لكي يُتاح الحكم، إذن فهو نقد أداته منطق العقل، ولا ينفي ذلك أن يكون الناقد ذواقة للشعر وغير الشعر من الإبداع الأدبي، لكنه جانب مضاف، ليس هو أساس الحكم النقدي في آخر المطاف، وكذلك شهد ذلك القرن الرابع نفسه فروعًا من العلم تزدهر، وفي العلوم الرياضية بصفة خاصة، مما يؤكد لنا المتجه العقلي إبان تلك الفترة، ويجيء القرن الحادي عشر (الخامس الهجري) ليكون امتدادًا لسيادة النزعة العقلية، ولنأخذ مثلنا هذه المرة من الأندلس، فهناك أصدر ابن طفيل مؤلفه الفريد «حي بن يقظان» ليروي به قصة من خياله عن رضيع يُترك وحده في جزيرة ليس فيها بشر، وكل ما فيها حيوان ونبات وظواهر الطَّبيعة! وتتبنى الرضيع غزالة ترضعه حتى يستقيم على قدميه ويكبر الطفل ويشاهد الدنيا من حوله، ويفكر ويستدل، فإذا هو آخر الأمر — عن طريق عقله المحض — يدرك وجود الله سبحانه وتعالى، كما يدرك كذلك بحكم الضرورة العقلية مبادئ أساسية تتفق مع مبادئ الإسلام، ومغزى ذلك هو أن ما هو إسلام بالوحي يتضمن صفات تجعله مقبولًا من منطق العقل، وهكذا نرى غلبة النزعة العقلية واضحة، على أن صاحبنا كانت له — بينه وبين نفسه — وقفة أمام «حي بن يقظان» وما انتهى إليه بقوة العقل وحدها، فقد تأمل الموقف وتدبره فأخذه كثير من الشك في أن تكون العملية العقلية كما تخيلها ابن طفيل ممكنة من حيث الأساس؛ لأن طفله الذي نشأ في الجزيرة وحده، إلا من صحبة الحيوان والنبات وظواهر الطَّبيعة، لم تكن له «لغة» وبغير اللغة تستحيل عملية التفكير، ولنذكر هنا أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم لينسل البشر علمه الأسماء كلها، أي زوده بجهاز اللغة ليكون له ولأبنائه من بعده القدرة على التفكير.

كان ذلك هو الإطار العام الذي انتهى إليه صاحبنا من قراءته لكثير من أصول الثَّقَافة العَربيَّة خلال القرون الأولى بعد الإسلام، وهو إطار جعل «العقل» العلمي دعامة من دعامتين أُقيم عليهما البناء الثقافي كله، وأما الدعامة الأخرى فهي المضمون الوجداني الذي بثه الدين الجديد في قلوب المؤمنين، ولم يكن في تلك القلوب من مضمون وجداني فيه قابلية الدوام التَّاريخي إلا الشعر وما يقرب من الشعر! فماذا ينتج لنا عن هذه الحقيقة، إلا أن تنتج صورة للعربي في مقوماته الإدراكية الأصيلة وجوهرها هو: أن العربي قد جمع في كيانه عقلًا ووجدانًا يتكاملان معًا في كل عملية إدراكية، ويتناسقان معًا برغم اختصاص كل منهما بطريق ينفرد به دون زميله.

وهنا قد يساورنا تساؤل: أليس ذلك هو الكيان البشري في العربي وغير العربي على السواء؟ والإجابة هي نعم ولا: أما نعم فلأن الإنسان هو الإنسان من حيث الفطرة الأولى، لا شك في ذلك وأما «لا» فلأن تلك الفطرة الأولى تتعرض لبيئات مختلفة فتختلف النسبة بين ذينك الجانبين، فمحال أن يتكيف ساكن الصحراء لمحيطه بنفس الخصائص التي يتكيف بها ساكن الجبال في البلاد المثلوجة ببردها، وليس هنا موضع القول المفصل فيما تؤثر به البيئة المعينة في ساكنيها، وحسبنا في هذا الصدد أن نستمد شاهدًا حاسمًا من التَّاريخ يشهد للعربي بالقدرتين معًا متكاملتين متناسقتين على نحو لم يشهد به التَّاريخ لأمة أخرى، وأعني بذلك الشاهد التَّاريخي ما أسلفنا لك ذكره، من أن العربي قد نقل عن اليونان فلسفة وعلمًا (وهذا نتاج عقلي صرف) كما نقل في الوقت نفسه عن فارس والهند تصوفًا (وهذا وجدان صرف) فكانت له المعدة التي تهضم الطرفين بقدرة متساوية في الحالتين، ثم كانت له الحياة الثَّقافيَّة بعد ذلك التي أمكن أن تجري في شرايينها معقولات ووجدانيات يُجدلان معًا في الموقف الواحد حينًا (كما نرى رجلًا كأبي العلاء المعري) أو يطغى أحدهما على الآخر طغيانًا يمحوه، حينًا آخر (كما ترى في متصوف كالحلاج).

هذه القدرة المزدوجة التي نراها متمثلة في تاريخ الفكر العربي — والتي مكنت العربي من أن يكون مع العلماء عالمًا إذا أراد ومع المتصوفة متصوفًا إذا أراد — هي التي تجعلنا نؤمن بأن ما ينقص الأمة العَربيَّة لكي تشارك في حضارة عصرنا العلميَّة التَّقنية الصِّناعيَّة، هو أن تتحرك إرادة العربي نحو هذا الهدف، ولكنه لأمر ما وقف من ذلك الهدف موقف الرَّافض، مكتفيًا من العلم الجديد وما يرتبط به من تقنيات وآلات، بل ومن نظم سياسية واجتماعية أحيانًا، بما يأخذه عن الغرب مصنوعًا ومجهزًا، والذي نريد إثباته هنا في هذا الصدد هو أن العلم ولواحقه، ومنطق العقل وما يقتضيه، ليس هو ما يجعل الغربي غربيًّا، وامتناعه يجعل العربي عربيًّا، وكل ما يُطلب لكي يعبر العربي الحدود الفاصلة بين تخلف عن موكب العصر، وتقدم مع هذا الموكب في تقدمه، هو توعية وتنوير في حياتنا الثَّقافيَّة نوضح بهما للناس سواد الأسود وبياض الأبيض، ثم نترك لهم الخيار بين ضعف وقوة، بين جهل وعلم بين تبعية وسيادة.

لكن الذي تتميز به الأمة العَربيَّة حقًّا، ولا احتفاظ بهويتها الأصيلة بغيره، صفات أخرى تستحق منا أيضًا أن ندعو إلى ترسيخها وتقويتها بتوعية وتنوير، ومن تلك الصفات رؤية العربي النابعة من عمق كيانه للقيم على اختلافها أخلاقية وجمالية معًا، على أنه لا بد لنا من الإسراع إلى تنبيه القارئ، قبل أن تأخذ منه أوهامه مأخذها، بأن الفرق بيننا وبين سوانا في ذلك ليس هو الفرق بين من يملك ومن لا يملك؛ إذ ما أكثر ما نسمع بأننا أمة تلتزم قيم الأخلاق بخلاف آخرين — والمقصود دائمًا هم أبناء الغرب — لا يأبهون أجاءت أعمالهم مقيدة بضوابط الأخلاق، أم انسابت كما شاء لها الهوى، وليس هذا صحيحًا، فكل إنسان بلا استثناء مرتبط أمام ضميره بالتزام خلقي قد يتهاون فيه هذا أو ذاك من أفراد النَّاس، لكن ذلك المتهاون نفسه، شأنه شأن سائر النَّاس من حوله، يدرك أنه قد أخطأ سواء السبيل، لا ليس الفرق بيننا وبين هؤلاء الآخرين أننا أمة أخلاقية عن مبدأ وعقيدة، وهم لا أخلاقيون عن مبدأ وعقيدة كذلك، بل الفرق هو في تصورنا وتصورهم لمصدر الأوامر والنواهي في الحياة الأخلاقية ما هو، ومن اختلافنا عنهم في التصور تتفرع نتائج تتبدى آثارها في حياتنا وحياتهم، فبينما نحن على مبدأ وعلى عقيدة بأن تلك الأوامر والنواهي — في معظمها — قد نزلت إلينا وحيًا إلهيًّا مع الوحي، وبذلك فقد أصبحت عندنا دينًا من الدين، نجد الآخرين — أو قل أكثر هؤلاء الآخرين — يرون أوامر الأخلاق ونواهيها قد نبتت من أرض الخبرة على مر القرون، فقد دلت تلك الخبرة بشئون الحياة الدُّنيويَّة على أن كذا وكذا، حتى وإن تولد عنه نفع مباشر، فمصيره آخر الأمر أن يضر بالإنسان فردًا وجماعة، وأن كيت وكيت من الأفعال تبين بعد خبرة بالحياة الواقعة أنها تنتهي آخر الأمر إلى نفع الإنسان فردًا وجماعة، حتى وإن لحقها فور فعلها ضر وأذى، إذن فهي خبرة الإنسان بواقع الحياة، وليس وحيًا من السماء ما قد علم الإنسان ماذا يُعد فضيلة وماذا يُعد رذيلة، ومع ذلك الفرق بيننا وبينهم في تصور المصدر، فالأرجح ألا ينعكس هذا الفرق على القيم الأخلاقية في ذاتها، فما هو فضيلة عندنا يُعد فضيلة عندهم كذلك، وما هو رذيلة هنا رذيلة هناك، اللهم إلا ما يختص ببعض صور الحياة العملية نراها مقبولة عندنا مرفوضة عندهم أو العكس.

إذن أين يكمن الفرق فيما تتأثر به حياتنا وحياتهم؟ الفرق هو أن تصورنا نحن ليس نسبيًّا يختلف باختلاف الظروف، بل هو مطلق لا يتغير مهما تغيرت الظروف، فمن الناحية النظرية يستطيع أبناء الغرب أن يغيروا من السلوك المقبول إذا ثبت لهم أن السلوك الذي كان قائمًا وسائدًا لم يعد يؤدي بصاحبه إلى نجاح في تحقيق أغراضه، في حين أننا نحن من الوجهة النظرية كذلك لا نغير من الصورة السلوكية المأمور بها، حتى لو لم يثبت نجاحها في ظروف استحدثت؛ لأننا في هذه الحالة نمد أبصارنا إلى الجزاء الحق فيما هو وراء هذا الواقع، حيث حياة الخلد وثوابها أو عقابها، وبهذا يصبح مرد الاختلاف بيننا وبينهم في هذا المجال هو علاقة المخلوق بخالقه، فبينما العربي لا يتردد لحظة في أن يجعلها علاقة آمر بمؤتمر ولا مجال للخلط بينهما؛ فالسماء سماء والأرض أرض، نرى هذه العلاقة عندهم مبهمة المعالم بعض الشيء، فكما كان الآلهة عند اليونان القدماء يعتلون قمم الأولمب، والناس تسعى هناك أسفل الجبل على السهول وفي الوديان، إلا أن ساكن القمة وساكن السهول والوديان قد يتلاقيان في حالات من الود أو من الغضب والعصيان، فإن ظلًّا خفيفًا من هذا اللقاء بين الطرفين ما زال قائمًا في تصور المحدثين، مما يساعد على بعض التساهل في العلاقة بين الآمر والمطيع.

ذلك فيما يخص الموقف الأخلاقي عند العربي وما يتميز به، فالحق حق مطلق ولا نسبية فيه، والباطل باطل مطلق ولا خلاف عليه، وأما فيما يخص القيم الجمالية — أو قل معايير الجودة في الفن والأدب — فالموقف العربي هنا أيضًا له ما يميزه مما له علاقة بالمطلق والنسبي أيضًا، فبينما معيار الغرب هو الفردي الجزئي الذي من طبيعته أن يظهر ليختفي بعد ظهوره اختفاءً بغير عودة، وتكون مهمة الفن هي الإمساك بذلك الإنسان، وذلك التثبيت لما هو زائل وعابر إنما يتحقق بتخليده في صورة من صور الفن والأدب، أقول: إنه بينما الموقف عند الغربي في إبداعه الفني والأدبي هو عشقه للفردي الجزئي في حيويته وحركته عشقًا يدعوه إلى تخليده، نرى الأمر في موقف الفنان أو الأديب العربي ذا شأن آخر، ونحن هنا نتحدث عن تقاليد الفن والأدب كما دامت عبر العصور غير متجاهلين ما طرأ عليها من تغيرات في عصرنا، فالعربي ينشد الثبات والدوام والخلود، ويرى أن نقطة البدء في إبداع الفن والأدب ليست هي الفردي الجزئي في سرعة زواله وعبوره، بل هي «الفكرة» المجردة، ولذلك يجعل هدفه تصوير هذه «الفكرة» فنًّا وأدبًا، ففي الرسم هو أميل إلى تصوير التخطيط الهندسي لما يرسمه، أي إنه يستخلص من الأشياء عناصر دوامها، وقد يُقال — بل قيل بالفعل — إن الفن العربي تنقصه الحيوية والحركة، والرد على ذلك هو أن التخلص من الحيوية والحركة هدف في ذاته وصولًا إلى ما وراءهما من ثبات المطلق الخالد، وهذه النزعة نفسها قد نلمسها في الإبداع الأدبي كذلك، فلم يكن تصوير الأفراد في تفصيلات حياتهم الاجتماعيَّة غاية الأديب العربي، بل الأجدر بالعناية عنده هو أن يلتمس وراء تلك التفصيلات «مبدأ» يضعه في صورة «حكمة» نصائح في بيت من الشعر.

وفي مستطاعنا أن نرى العلاقة الوثيقة بين معايير العربي في فنه وفي أدبه من جهة وعقيدته الدينيَّة من جهة أخرى، فهذه العقيدة التي جعلت رسالتها «التوحيد» وركنًا أساسيًّا من بنيانها «اليوم الآخر»، من شأنها أن تميل بالمؤمن بها نحو إيثار الوحدة التي تجمع الأجزاء في كيان متصل، على التجزؤ الذي يفتت الواحد في كثرة، كما تميل به نحو إيثار الدوام على الزوال والثبات على التَّغير، وهي نظرة نراها تقع في صميم الهوية العَربيَّة، مما يستدعي ضرورة الحفاظ عليها وتنميتها بالتربية والتوعية والتعليم والتثقيف، مع الحرص الشديد على أن تُوضع الرغبة في توحيد المتفرقات، والرغبة الأخرى في إيثار الثبات على التَّغير، في الموضع الصحيح؛ لأن إساءة الفهم هنا قد تؤدي إلى جمود أولًا فتخلف عن الركب الحضاري ثانيًا، وليتذكر أن حديثنا هذا متعلق بالقيم الأخلاقية والجمالية كما تتجسد في صور حياتنا العملية وفي صور مبدعاتنا في الفن والأدب، ففي هذا المجال لا بد من التفرقة بين «الإطار» من جهة وتفصيلات «محتواه» من جهة أخرى، فإذا أردنا استمرارية تاريخيَّة بين عربي اليوم وعربي الأمس فإنما يكون ذلك في المبدأ وليس في تفصيلات التطبيق، فالقيم الأخلاقية يجب أن تبقى اليوم على حالها بالأمس، وهي أن تكون مطلقة لا نسبية، إلا أن ذلك الإطلاق يتعلق بالصورة لا بحشوها، فالشجاعة اليوم قد لا تكون شجاعة المبارزة بالسيف بقدر ما تكون شجاعة في اقتحام الصعاب في سبيل الحق، والكرم قد لا يكون اليوم ذبحًا للناقة من أجل ضيف عابر بقدر ما يكون في التكافل الاجتماعي المنظم، وكذلك قل في تعلق العربي في إبداعه الفني بالفكرة أكثر من تعلقه بمفرد واحد يجسدها، فمثل هذا الموقف يمكن الحفاظ عليه، دون أن يتحول الفن به إلى زخارف.

شيء كهذا هو ما رآه صاحبنا في حقيقة العربي الأصيل وقد تساءل: ماذا تكون الصفات المميزة لأبناء هذا العصر؟ وهل فيها ما يمنع أن يُوضع فيها العربي موضعًا يتناغم فيه مع سائر خلق الله دون أن يتنازل عن شيء من مقومات تاريخه وعناصر هويته ووجوده؟ لقد طرح صاحبنا هذا السؤال على نفسه وحاول أن يجيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤