فلما كانت الليلة ٦٤٤

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جوامرد لما أرسله الجلند بالعسكر إلى الكوفة، مروا على وادٍ ذي أشجار وأنهار، فأمر قومه بالنزول واستراحوا إلى نصف الليل، ثم أمرهم جوامرد أن يرحلوا، وركب جواده وسبقهم وسار إلى وقت السَّحَر، ثم انحدروا إلى وادٍ كبير الأشجار قد فاحت أزهاره، وترنَّمَتْ أطياره، وتمايلت أغصانه، فنفخ الشيطان في معاطفه، فأنشد هذه الأبيات:

أَخُوضُ بِجَيْشِي بَحْرَ كُلِّ عَجَاجَةٍ
أَقُودُ الْأَسَارَى بِاجْتِهَادِي وَقُوَّتِي
وَتَعْلَمُ فُرْسَانُ الْبِلَادِ بِأَنَّنِي
مُهَابٌ لَدَى الْفُرْسَانِ حَامِي عَشِيرَتِي
سَأَسْبِي غَرِيبًا فِي الْقُيُودِ مُكَبَّلًا
وَأَرْجَعُ مَسْرُورًا وَتَكْمُلُ فَرْحَتِي
وَأَلْبَسُ دِرْعِي ثُمَّ آخُذُ عُدَّتِي
وَأَمْضِي إِلَى الْهَيْجَاءِ فِي كُلِّ وُجْهَتِي

فما فرغ جوامرد من شعره حتى خرج عليه من بين الأشجار فارس أشم المعاطس، في الحديد غاطس، فصاح على جوامرد وقال له: قف يا شلح العرب واشلح ثيابك وعدتك، وانزل عن جوادك وانجُ بنفسك. فلما سمع جوامرد هذا الكلام، صار الضياء في وجهه ظلامًا، وسلَّ حسامه وهجم على الجمرقان وقال له: يا شلح العرب، أتقطع الطريقَ عليَّ وأنا مقدم جيش الجلند بن كركر، لأجيء بغريب وقومه مربوطين. فلما سمع الجمرقان هذا الكلام قال: ما أبرده على كبدي! ثم حمل جوامرد وهو ينشد هذه الأبيات:

أَنَا الْفَارِسُ الْمَعْرُوفُ فِي حَوْمَةِ الْوَغَى
تَخَافُ الْعِدَى مِنْ صَارِمِي وَسِنَانِي
أَنَا الْجَمْرَقَانُ الْمُرْتَجَى لِكَرِيهَةٍ
وَتَعْلَمُ فُرْسَانُ الْأَنَامِ طِعَانِي
غَرِيبٌ أَمِيرِي بَلْ إِمَامِي وَسَيِّدِي
هُمَامُ الْوَغَى يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
إِمَامٌ لَهُ دِينٌ وَزُهْدٌ وَسَطْوَةٌ
يَبِيدُ الْعِدَى فِي حَوْمَةِ الْمَيْدَانِ
وَيَدْعُو إِلَى دِينِ الْخَلِيلِ مُرَتِّلًا
عَلَى رَغْمِ أَوْثَانِ الْجُحُودِ مَثَانِي

ثم إن الجمرقان لما سار بقومه من مدينة الكوفة، استمر على السير عشرة أيام، ثم نزلوا في الحادي عشر وأقاموا إلى نصف الليل، ثم أمرهم الجمرقان بالرحيل فرحلوا، وسار قدامهم وانحدر في ذلك الوادي، فسمع جوامرد وهو ينشد ما تقدَّمَ ذِكْره، فحمل عليه حملةَ أسدٍ كاسرٍ وضربه بالسيف فشقَّه نصفين، وصبر حتى أقبل المقدمون وأعلمهم بما جرى وقال: تفرَّقُوا كل خمسة منكم تأخذ خمسة آلاف وتدور حول الوادي، وأنا ورجال بني عامر، فإذا وصلني أول الأعداء أحمل عليهم وأصيح: الله أكبر. فإذا سمعتم صياحي فاحملوا وكبِّروا واضربوا فيهم بالسيف. فقالوا: سمعًا وطاعةً. ثم داروا على أبطالهم وأعلموهم فتفرَّقوا في جهات الوادي عند انشقاق الفجر، وإذا بالقوم قد أقبلوا مثل قطيع الغنم وقد ملئوا السهل والجبل، فعند ذلك حمل الجمرقان وبنو عامر وصاحوا: الله أكبر. فسمع المؤمنون والكفار، وصاح المسلمون من سائر الجهات: الله أكبر، فتح ونصر، وخذل مَن كفر. فأوَّبت الجبال والتلال، وكل يابس وأخضر يقول: الله أكبر. فاندهش الكفار وضرب بعضهم بعضًا بالصارم البتار، وحمل المسلمون الأبرار كأنهم شعل النار، فما يُرَى إلا رأس طائر، ودم فاتر، وجبان حائر، ولم تظهر الوجوه إلا وقد فني ثلثا الكفار، وعجَّلَ الله بأرواحهم إلى النار وبئس القرار، وانهزم الباقون وتشتَّتوا في القفار، وتبعهم المسلمون يأسرون ويقتلون إلى نصف النهار، ثم رجعوا وقد أسروا سبعة آلاف، ولم يرجع من الكفار غير ستة وعشرين ألفًا وأكثرهم مجروحون، ورجع المسلمون مؤيدين منصورين، وجمعوا الخيل والعُدَد والأثقال والخيام، وأرسلوها مع ألف فارس إلى الكوفة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤