فلما كانت الليلة ٦٩٧

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن إبراهيم بن إسحاق لما دخل عليه الفتى، ووضع بين يديه الدنانير وقال له: أسألك أن تقبلها وتصنع لي لحنًا في بيتين قلتهما. فقال له: أنشدنيهما. فأنشد يقول:

بِاللهِ يَا طَرْفِيَ الْجَانِي عَلَى كَبِدِي
لِتُطْفِئَنَّ بِدَمْعِي لَوْعَةَ الْحَزَنِ
الدَّهْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْعُذَّالِ فِي سَكَنِي
فَلَا أَرَاهُ وَلَوْ أُدْرِجْتُ فِي كَفَنِي

قال: فصنعتُ له لحنًا يشبه النوح، ثم غنَّيْتُه فأُغمِي عليه حتى ظننتُ أنه مات، ثم أفاق وقال: أَعِدْ. فناشدْتُه الله وقلت: أخشى أن تموت. قال: ليت ذلك لو كان. وما زال يخضع ويتضرَّع حتى رحمته وأعدته. فصعق صعقة أشد من الأولى فلم أشك في موته، وما زلت أنضح عليه من ماء الورد حتى أفاق وجلس، فحمدت الله على سلامته ووضعت دنانيره بين يديه وقلت له: خذ مالك وانصرف عني. فقال: لا حاجةَ لي به، ولك مثلها إنْ أعدتَ اللحن. فانشرح صدري إلى المال، فقلت له: أُعِيد ولكن بثلاثة شروط؛ أولها أن تقيم عندي وتأكل طعامي حتى تقوي نفسك، والثاني أن تشرب من الشراب ما يمسك قلبك، والثالث أن تحدِّثني بحديثك. ففعل ذلك ثم قال: إني رجل من أهل المدينة، خرجت متنزهًا وقد سلكت طريق العقيق مع إخوتي، فرأيت جارية مع فتيات كأنهن غصن جلَّلَه الندى، تنظر بعينين ما ارتدَّ طرفهما إلا بنفس ملاحظتهما، فأظللن حتى فرغ النهار ثم انصرفن، وقد وجدتُ بقلبي جراحًا بطيئة الاندمال؛ فعدتُ أتنسَّم أخبارها فلم أجد أحدًا، فصرتُ أتتبعها في الأسواق، فلم أقع لها على خبر، ومرضتُ أسًى وحكيتُ قصتي لذي قرابة لي، فقال: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع ما انقضت وستمطر السماء فتخرج حينئذٍ وأخرج أنا معك فأفعل مرادك. فاطمأنت نفسي بذلك إلى أن سال العقيق وخرج، فخرجت مع إخوتي وقرابتي فجلسنا في مجلسنا بعينه، فما لبثنا إلا والنسوة أقبلن كفرسي رهان، فقلت لجارية من أقاربي: قولي لهذه الجارية، يقول لك هذا الرجل: لقد أحسن مَن قال هذا البيت:

رَمَتْنِي بِسَهْمٍ أَفْصَدَ الْقَلْبَ وَانْثَنَتْ
وَقَدْ عَاوَدَتْ جُرْحًا بِهِ وَنُدُوبَا

فمضتْ إليها وقالت لها ذلك، فقالت: قولي له: لقد أحسن مَن أجاب بهذا البيت:

بِنَا مِثْلَ مَا تَشْكُو فَصَبْرًا لَعَلَّنَا
نَرَى فَرَجًا يَشْفِي الْقُلُوبَ قَرِيبَا

وأمسكت عن الكلام خوفَ الفضيحة وقمتُ منصرفًا، فقامت لقيامي وتبعتُها، فرأتني حتى عرفت منزلها، وصارت تسير إليَّ وأسير إليها حتى اجتمعنا، وكثر ذلك حتى شاع وظهر وعلم أبوها؛ فلم أزل مجتهدًا في لقائها وشكوتُ ذلك إلى أبي، فجمع أهلنا ومضى إلى أبيها راغبًا في خطبتها، فقال: لو بَدَا لي ذلك قبل أن يفضحها لفعلتُ، ولكن اشتهر ذلك فما كنتُ لأحقق قول الناس.

قال إبراهيم: فأعدتُ عليه الصوت، فعرفني منزله ثم انصرف، وكان بيننا عشرة. ثم جلس جعفر بن يحيى وحضرت على عادتي، فغنَّيْتُه شعرَ الفتى، فطرب وشرب أقداحًا وقال: ويلك! لمَن هذا الصوت؟ فحدَّثْتُه حديثَ الفتى، فأمرني بالركوب إليه وأن أجعله على ثقةٍ من بلوغ إربه؛ فمضيت إليه فأحضرته، فاستعاده الحديث فحدَّثه، فقال: أنت في ذمتي حتى أزوِّجك إياها. فطابت نفسه وأقام معنا، فلما أصبح الصباح ركب جعفر إلى الرشيد وحدَّثَه بذلك، فاستظرفه وأمر أن نحضر جميعًا، فاستعاد الصوت وشرب عليه، ثم أمر بكتب كتاب إلى عامل الحجاز بإحضار أبي المرأة وأهلها مبجلًا إلى حضرته، والإنفاق عليهم نفقة واسعة؛ فلم يمضِ إلا يسير حتى حضروا، فأشار الرشيد بإحضار الرجل بين يدَيْه فحضر، وأمره بتزويج ابنته من الفتى وأعطاه مائة ألف دينار وانقلب إلى أهله. ولم يزل الشاب من ندماء جعفر حتى حدث ما حدث، فعاد الفتى بأهله إلى المدينة، فرحم الله تعالى أرواحهم أجمعين.

حكاية الملك الناصر ووزيره

وحُكِي أيضًا أيها الملك السعيد، أن الوزير أبا عامر بن مروان كان قد أُهدِي إليه غلامٌ من النصارى، لا تقع العيون على أحسن منه؛ فلمحه الملك الناصر فقال لسيده: من أين هذا؟ قال: هو من عند الله. فقال له: أتخوفنا بالنجوم وتأسرنا بالأقمار؟ فاعتذر إليه ثم احتفل في هدية بعثها إليه مع الغلام وقال له: كُنْ داخلًا في جملة الهدية، ولولا الضرورة ما سمحت بك نفسي. وكتب معه هذين البيتين:

أَمَوْلَايَ هَذَا الْبَدْرُ سَارَ لِأُفْقِكُمْ
أَرَى الْأُفْقَ أَوْلَى بِالْبُدُورِ مِنَ الْأَرْضِ
فَأُرْضِيكُمُ بِالنَّفْسِ وَهْيَ نَفِيسَةٌ
وَلَمْ أَرَ قَبْلِي مَنْ بِمُهْجَتِهِ يُرْضِي

فحَسُن ذلك عند الناصر وأتحفه بمال جزيل وتمكَّن عنده. ثم بعد ذلك أُهدِيت للوزير جارية من أجلاء نساء الدنيا، فخاف أن يَنمي ذلك إلى الناصر فيطلبها فتكون كقصة الغلام؛ فاحتفل في هدية أعظم من الأولى وأرسلها مع الجارية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤