الفصل الثاني

رضا باشا شيخ في الخامسة والسبعين من العمر، رديني القامة مستويها، طلق المحيا، مهاب الطلعة، كبير الهمة، عصبي المزاج، حاد الذهن، سريع الحركة والكلام، وفي وجهه الأشعث المستطيل نضارة تنفي حجة السن عليه، وعيناه العسليتان الحادتان ترسلان بشاشة تحت حاجبين عريضين هما أبدًا على وشك الانزواء غضبًا وغيظًا، أما شعره المفروق في منتصف الرأس، ولحيته التي كان لا ينفك يعدل نموها لَمِمَّا تنطق عن روح فيه كيسة، ونفس لم تزل خضراء، فهو من أولئك الشرقيين السمر البشرة، الأقوياء الأجسام، الشديدي البأس، الشبيهة رجوليتهم بمزية بالآلهة، خصت بالخلود فلا السنون تقوى عليها، ولا التنعم في دار الحريم يؤثر فيها.

ولو كان للأتراك أن يدركوا نسبهم ويسلسلوا الأسر فيهم لربما توصل رضا باشا في أصله إلى أولئك التتر الأشاوس الذين تسوروا جدران بزنطية، ورفعوا علم النبي على قبب «أجيا صوفيا».

على أنه من رجال الدور القديم، فقد كان يقدر الأشياء الحديثة أو الأوروبية حق قدرها، ولا نريد بهذا أنه كان مجردًا من التعصب، كلا، فالحقيقة أنه كان يرغب بالروح العصرية وهي في بيت غيره لا في بيته، تركي عصري تارة، وتارة قديم، صلب العود، متشبث الرأي، غير متساهل في إدارة أموره الخاصة والعامة، وقد كان حرًّا للجهة شديدها، يخدع أحيانًا بصراحة قوله أكثر من التركي المعروف بتمويهه ودهائه.

ومن هذا القبيل لم يكن ليسر كرهه الألمان، وطالما قد عضد سياسة إنكلترا وفرنسا بصورة رسمية في الباب العالي، وحاز النصر مرارًا في ساحات السياسة، وساحات الوغى، فقد كان في مقدمة سياسي ومشيري الدولة في الدور الماضي، ولكنه أخلص النصح لعبد الحميد، فلم يطق طويلًا حول العرش، ومع أن شدة لهجته وحرية قوله نظرًا لمزاجه وإخلاصه كانا يروقان ذلك الطاغية، فرجال يلديز، وأرباب الباب العالي كانوا يسرون له العداء، ويجهرون به في الأحايين، وطالما قد دسوا له الدسائس، وتألبوا عليه حتى إنه أفضى أخيرًا وهو في شيخوخته إلى بلاد اليمن، وظل في منفاه حتى الدور الجديد إذ تأسس ثانية الدستور، وخلع عبد الحميد، فأعيد رضا باشا إلى العاصمة باحتفاء وإجلال، مكرمًا تكريم الأبطال، وأسند إليه منصبه القديم رأسًا على الجيش، ولكنه ما كاد يتقلد هذا المنصب حتى اختلف مع رجال تركيا الفتاة الذين قبلوا استقالته راضين عن بقائه في الأستانة إكرامًا لشيخوخته، وتقديرًا لخدماته السابقة.

إلا أن سيف رضا باشا لم يصدأ في قرابه، فإن مجيد بك أصغر أنجاله، وشقيق جهان استله في شبه جزيرة غليبولي، فأكسبه شرفًا جديدًا ومجدًا، وكان رضا باشا وهو جندي لا غبار على عثمانيته قد فادى بأرواح أبنائه الثلاثة الآخرين حبًّا بالوطن، فالابن الأول دُفن في اليمن، والثاني في طرابلس الغرب، وسقط الثالث صريعًا عند أبواب أدرنه.

أجل، إنما رضا باشا شيخ كثير الأحزان والأشجان، ولكنه اقتبل مصائبه كلها وأحزانه كأب حبيب، وخيبة آماله كرجل عمومي صادق، بصبر وثبات جأش هما شعار المسلم الشديد إيمانه بالله، ومع أنه لم يخدم حكومة العهد الجديد بذاته فقد كان يغار على مصالح الدولة، ويود من صميم فؤاده حفظ كيانها، ولو كان له عشرة أبناء لقدمهم ضحية على مذبح الأمة راضيًا بأن تَسْلم له ابنته جهان، وأن يصونها الله من الروح الأوروبية الخبيثة، ومن روح فلاسفة أوروبا العصرية، وأخصهم نيتشى الذي كان يخاف منه على نفس ابنته وعقلها.

ولدت جهان وأخوها مجيد بك في باريس حيث كان رضا باشا وهو في الأربعين من عمره ملحقًا عسكريًّا في السفارة العثمانية، وكلاهما ولدا له من سليمة أحب نسائه إليه، وكانت سليمة هذه حسناء ذكية الفؤاد، كبيرة النفس والخلق، لطيفة المعشر والذوق، مهذبة بارعة تحسن الإفرنسية كما تحسن لغتها التركية، وكان يسمح لها بعلها أن تستقبل الزائرين من الرجال في بيته حاسرة القناع؛ لأنه وإن كان شديد التمسك بتقاليد دينه في بلاده فقد كان متساهلًا خارج البلاد التركية، وقد توفيت سليمة وهي مع بعلها في المنفى.

أما جهان فهي آخر أولاده وأولهم في قلبه، شاخ ولم يشخ حبه، بل كان يزداد كلما ازدادت سنوه، وتعاظمت أحزانه، وحقًّا إنها كانت بنت دلال كما يقال، وولد أبيها المدلع، نشأت في صباها كالزهرة البرية لا في حقل الحرية كما يتبادر للذهن، بل ضمن جدران الحريم، ولكنها كانت أبدًا فوق سيادة أمها وخالاتها تنبذ من أجلها التقاليد والعادات، ويُحسب كل يوم لا تسمع فيه ضحكتها يوم شؤم.

ولم يدخر رضا باشا عناء، ولا ضن بمال في تهذيبها وتربيتها على الأسلوب الأوروبي العصري، فقد كان كأترابه الأتراك قصير النظر، ضعيف الرأي من هذا القبيل، وإلا لاستدرك نتائج هذا التهذيب، خذ لك مثلًا من نقيض أمياله وأذواقه، فقد كان يروقه منظر البيانو في منزله، ولكنه كان يستسمج صوته، وكان ينظر إلى مكتبة ابنته كما ينظر إلى مجموعة سلاحه كلتاهما للفرجة لا للاستعمال، وما كاد يفاخر بنبوغها الفطري حتى استعاذ بالله عندما رأى اسمها في الجرائد؛ إذ استغرب ذلك أيما استغراب، ونفر منه أيما نفور كأنه شاهدها في السوق كاشفة الحجاب.

ولكن هذه ثمار تهذيب استقته جهان من معلمة إفرنسية، ومربية ألمانية، على أنها وإن كانت أوروبية العقل فكان أبوها يتعزى باعتقاده أنها لم تزل مسلمة الروح والعقيدة. والحق يقال: إنها ولئن كانت إفرنسية المشرب والذوق فقد كانت تركية الطبع والخلق، وقد برهنت على وطنيتها وإخلاصها لأمتها بتهليلها للألمان ما أموا الأستانة كأحلاف تركيا الوحيدين، ودافعت عن الإسلام بغيرة شيخ من مشايخه، وبفصاحة عالم من علمائه، حتى إنها كانت تقاوم أباها في دعوة الجهاد، فإن رضا باشا لم يغتر بتغرير الألمان؛ ولهذا لم يكن من المستصوبين أمر الجهاد، وقد جاهر برأيه على عادته، وكاد أن يقع في قبضة أعدائه، ولكن الجنرال فون والنستين الذي كان له الحول والطول في وزارة الداخلية، بل في الباب العالي حتى وفي نفس يلديز لم يسمح — لأسبابٍ خصوصية — بمحاكمة والد جهان، وطالما صد عنه الأعداء من الاتحاديين محدثًا نفسه بما يأتي: ألم تقم ابنته بأشرف الأعمال نحو الجنود؟ أَوَلا يحارب ابنه الآن ببسالة الأبطال في غاليبولي؟

هذان اثنان من بيت رضا باشا يعملان بإخلاص ونشاط في سبيل الوطن، وقد يكون ذلك في سبيل الجنرال فون والنستين نفسه.

لماذا لا يرخص للأب إذن أن يقضي بقية حياته المتداعية في أمن وسلام؟

اجتمع الجنرال الألماني بجهان للمرة الأولى في مستشفى الجنود، فجاء بعد ثلاثة أيام يزور أباها زيارة رسمية، ولكن جهان لم تحضر لاستقباله، ثم أعاد الزيارة، ولكل زورة يختلق حجة سياسية، ويسأل أثناء الحديث عن الفتاة، فوافت البهو في زورة الجنرال الثالثة وهي بالزي التركي، ولكنها حاسرة القناع كما كانت تفعل أمها في باريس؛ فسر الجنرال سرورًا متناهيًا، وظن هذا الإكرام من لطف الأب وتساهله، أما جهان فحلت من نفسه المحل الأول.

جهان: إن امرأة الجنرال التي توفيت قبل إعلان الحرب بأسبوع، والتي كانت أشهر أترابها جمالًا وأدبًا ليتأكل الحسد قلبها لوضعها اجتماع، وهذه المرأة التركية الذكية الفؤاد والكاملة الصفات.

قال هذا الجنرال في سره — وفي سره كان يردد اسمها، ويمثل جمالها: جهان! ساحرة تركية، ذات قد أهيف، ومحيا فائق في الحسن، ولحظات تخترق الجماد، ولفتات تشف عن غنج بعيد المقاصد غريبها، في ناظريها نور العطف، ونور المعرفة، وفي أنفها الإباء والشمم، وفي ثنايا فمها اللطيفة إيناس كثير الأسرار، آدابها إفرنسية، ولكن جمالها الذهبي المهيب شبيه بالجمال الألماني، وفي كلا الأمرين فتنة جردت الجنرال لأول نظرة من كل قواه؛ قوى الهجوم، وقوى الدفاع، فحدث نفسه قائلًا: ولم لا أرغب بامرأة مسلمة وهي أوروبية التربية والذوق والجمال؟

ولكن هنا شكري بك يبسم له المستقبل، وتذلل أمامه بواسطة جهان المناصب العالية، على أنه أبى يومًا ملاحظة أبداها له الجنرال فون والنستين، فخرج من حضرته سامد الرأس شامخًا دون أن يلقي ما يتوجب على ضابط في الجيش من السلام، فغضب الجنرال وبدل أن يقدمه لوظيفة كاتم أسرار في وزارة الحربية وفاء بوعده لجهان عزم على إرساله إلى ساحة الحرب، فلو كان مزاحم الجنرال من أكْفَائه لما طاقه عثرة في سبيله، فكيف به هو ضابط توجب عليه طوع أوامره؟

صدر الأمر إلى شكري بك أن يلازم فرقته في غاليبولي، صدر بعد الظهر فلم تعلم به جهان حتى المساء، الذي حدث فيه نزاع بينها وبين والدها بخصوص الجنرال فون والنستين، ولهذا الغرض عينه كانت قد بعثت برسالتها السرية مع حوذيها تسأل فيها ابن عمها ألا يغادر الأستانة قبل أن تراه والجنرال فون والنستين في اليوم التالي، وكان الحوذي قد أشار بقرعه السوط ثلاث مرات أن قد بلغ الرسالة، وأما أبوها وقد علم بالرسالة هذه من أحد الخدم، وظن أنها مرسلة إلى الجنرال الألماني، فأقسم بالله وبالنبي أن هذا الموعد لا يكون، فأوصد الباب على جهان بين هي كانت في الرواق تترقب أوبة الرسول، ثم خرج باكرًا في الصباح مُتَرَوِّضًا على عادته، مصطحبًا عبده الأمين.

ولكن جهان لم تدرِ بذلك، فارتدت ثيابها بسرعة ورشاقة، وأمرت جاريتها أن تستدعي أباها، وهي تعلم أن ليس من عادته أن يخرج باكرًا، فاستولت الحيرة عليها إذ علمت عكس ذلك، وكادت تصدق ما داخلها من الريب والظنون، على أنها لما أمرت الجارية أن تجيئها بمفتاحٍ آخر فتفتح به الباب أدركت الحقيقة المؤلمة، فإن الخدم لم يتجاسروا على أن يخالفوا أمر سيد البيت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤