الفصل التاسع

كثيرًا ما ألفت وزير الداخلية ومحافظ الأستانة نظر الجنرال فون والنستين إلى أن رضا باشا عدو المحالفة العثمانية الألمانية، وأنه يفاوض سرًّا أصدقاءه الرجعيين في باريس، حتى إن جواسيس الجنرال قد استدلوا على شيء مما وجه إليه نظره، وجاءوه بحججٍ دامغة على مقاومة رضا باشا المحالفة المذكورة، ومما قال أحد أخصام الباشا اللدودين وهو أحد أعضاء جمعية الاتحاد والترقي: إن رضا باشا خائن، وزاد عليه آخر فقال: ويجب أن يقبض عليه، ويقصى في منفى.

أما محافظ العاصمة، فلم يرضَ له بغير المشنقة، إلا أن الجنرال فون والنستين كان يتردد كما ألمحنا سابقًا في اتخاذ مثل هذه الوسائط، ولم يسلك قط مسلك الشدة في هذا الأمر، بل جل ما حدث بينه وبين الباشا هو قطع العلائق التي كانت حتى صباح زيارته وثيقة العرى، وهذا ما قد يحمله على تغيير خطته، فإن ذلك الحادث الأليم في غاليبولي لم يكن عذرًا وافيًا لسلوك الباشا مسلكه بالأمس، وما أظهره فيه من قباحة الكلام وسوء العتاب، مخالفًا بذلك ما تعوده الترك من لطف التمويه والمداجاة، ناهيك به من جندي معروف يدرك قوانين الحرب، وكان حريًّا به اعتبارها وعدم الاعتراض عليها، حتى ولو غير رأيه فيه، فقد برئت ساحة الضابط الألماني؛ لأن ابن رضا باشا نال نصيبه بالإعدام استحقاقًا، ونال أيضًا الصليب الحديدي مكافأة، فإن اسمه قد ذكر بين الذين أظهروا بسالة وإقدامًا في ساحة الحرب منذ أسابيع قليلة قبل ذلك الحادث؛ ولهذا أسرع الجنرال فون والنستين في استحصال مدالية ملوكية مكافأة له، إلا أن ذلك البطل كان قد تمرد ولم يصدع بالأوامر العسكرية، فعوقب للحال بموجب القانون الحربي، كذلك جالت أفكار الجنرال في الحادثة، فمجيد بك قد عومل بالطريقة الرومانية القديمة القاسية، أكرم لبسالته، وأعدم لعصيانه، وقد خطر ببال الجنرال أن يقول في نفسه: من العجب أن الباشا لم يتجلَّ له هذا النور! ولقد كان يود أن يوضح هذا التوضيح للباشا لو لم يرَ في ذلك غضاضة، فلم يشأ أن يتنازل لإيضاح الأمر أثناء زيارته كما تجلى له؛ لأنه لم يرَ من سلوك الباشا معه ما يؤهله إلى مثل هذا التعطف والتنازل.

وللقارئ أن يصدق الجنرال أو يكذبه، وله الحق أن يظن بأن الجنرال نفسه لم يتجلَّ له الأمر في ذلك الصباح على هذه الصورة التي رسمت في دماغه، فلو أنه قابل جهان، وآنس منها ما يسره لأنكر بلا مراء عمل الضابط وقبحه.

ونرى من وجهة ثانية أن أعاظم الأتراك ممن هم أعلى مقامًا من أبيها حتى والسلطان نفسه كانوا يقابلون الجنرال فون والنستين بتمام الاعتبار والإجلال اللذين يليقان بمقامه؛ ولهذا كان على رضا باشا أن يحتشم في حضرته الرفيعة؛ لأنه كان ضيفه، فبدلًا من أن يقوم بهذا أمامه قابله بعتو وقحة، حتى إنه تمادى في غيظه، فأهان جلالة الإمبراطور، رافضًا إنعامه الملوكي، وبهذا العمل جرم كافٍ يستحق أشد العقاب، إلا أن الجنرال فون والنستين لا يقيم لنفسه قاضيًا في هذه القضية، لا ولن يرضى أن يرافع غريمه، فهو لا يتنازل لمثل المرافعة، ولكنه يعمد إلى الإيقاع والأمر بسيط، لماذا يقدم على عمل يشوه سمعته واسمه لدى الشعب العثماني حين أنه يستطيع تنفيذ إرادته بإغراء الكثيرين على الباشا، ولهذا ارتأى أن يعي بأذنٍ مصغية كل ما يبلغه من أعداء الباشا، وأن يطلق لكلابه العنان، فيضعه تحت رحمتهم، ويجرب فيه قدرته، ثم يعفو عنه عفو الكرام.

وما عسى أن يكون تأثير هذه الأمور على جهان يا ترى؟ أولا يمكن أن تصده وتجافيه؟ بل ألا يجعلها من أخصامه؟

تأمل الجنرال مليًّا بهذا الأمر، والحق أنه لم ينوِ شرًّا للباشا، ولكن الغيظ زين له هذه الطريقة، فهو لا يطلب حياة غريمه، ولكنه يحب إذلاله، وكسر شوكته، ثم يحفظه تحت أمره رهنًا لجهان، فيجعله لها هدية الخطبة، بل هدية العرس.

اعتمد الجنرال فون والنستين على خطته المنكرة الذميمة كما يعتمد التركي على معونة الله، بل معونة الشيطان، فقال في نفسه رغم إرادته: «سأتظاهر بالدفاع عن أبيها، وأنقذه من مخالب أعدائه، ومن مكائد أبناء وطنه.» ومع أن رضا باشا وابنته وحدهما علما بالفضيحة التي نالها الجنرال في منزلهما، فهما على الأقل سيجلان عمله، ويقدران شرف النفس الألمانية قدرها.

«أجل هذه سانحة سأظهر فيها بما عندي من المزايا الشريفة.»

قال هذا مساء ذلك اليوم العصيب متمددًا على الديوان، مشعلًا سيكاره الكبير، ثم قال: «نعم، إن الفرص لتأتي طوع إرادة الألماني، فيظهر فيها لعالم أعمى أصم مروءته الشماء، وما يكنه صدره من إباءة النفس وعزتها، وإنما هذه فرصتي، خادمة قصدي، سأنقذ رضا باشا من الموت، فيصبح وابنته في ذمتي، وتحت جميلي، إن هؤلاء الأتراك …»

قال هذا وانقطع عن الكلام فجأة، والقارئ اللبيب يدرك ما لم يَفُهْ به من الكلام إذا تصور حالة الجنرال النفسية التي كان فيها، فإن الاضطراب الداخلي الذي كان سائدًا في تلك الساعة لمما يدفعه إلى شر الإساءة «بهؤلاء الأتراك» لو لم يقاطعه الياور إذ ظهر واقفًا في الباب: شكري بك يا صاحب السعادة.

– وما شأنه في مثل هذه الساعة؟

– قال إنه قادم لأمر خطير.

تململ الجنرال وتردد قليلًا، ثم قال: حسن، دعه يدخل.

أدى شكري بك واجب السلام في الباب بشيء من اللجاجة، ثم تقدم وعلى وجهه آثار الاضطراب إلى مقام الجنرال الذي ظل جالسًا على الديوان.

– ماذا جرى يا حضرة القولغاسي؟

فدفع شكري بك إلى يد الجنرال ورقة إحضار تلقاها من المجلس العسكري.

– وما هذا؟ ألعلك نسيت أني لا أقرأ التركية؟

فاستعادها شكري بك، وشرح له مضمونها.

– ولماذا أتيت إلي بها؟

– لأن لي رجاء عظيمًا بكرم أخلاقك.

– لعلك مبالغ بما ترجو.

– ألجأ إلى شرفك وعدلك.

– أنت مذنب، وذنبك أنك عصيت الأوامر العسكرية، وشأنك الآن وأولي الأمر.

– أنت أحدهم أيها الجنرال.

– لا أتداخل في صغائر الأمور.

– ليست مسألتي من صغائر الأمور أيها الجنرال، بل هي مما يهمك.

– يلوح لي أنك عالم بشئوني أكثر مني.

قال هذا الجنرال ونهض ماشيًا نحو الطاولة في منتصف القاعة، أما شكري بك فأجابه: نعم بعض شئونك لا كلها.

– وما هذه الجسارة؟

– سامحني إذا كنت جسورًا، ولا تكلف نفسك عناء برن الجرس أنا ذاهب عنك إذا شئت، ولكني أخالك تؤثر استماع حديثي، فلدي شواهد على مكيدة مدبرة لاغتيالك.

وإذ سمع هذا الجنرال أشار إلى اليارو الواقف في الباب إشارة سرية مصطلح عليها إذا أراد من كاتم أسراره أن يعترض الحديث في مثل هذه المواقف، ثم استأنف الجنرال الجلوس على الديوان مشيرًا لشكري بك إلى كرسي بعيد منه قليلًا.

– إن خبر الفاجعة الأليمة التي حدثت في ميدان غاليبولي لم يمكن كتمها، فقد تسربت من دائرة الحربية، ومن المستشفيات، وهي آخذة بالانتشار في المدينة، والشائع أن فرقة من جنودنا قد طيرتها قنابل مدافعنا، وإن ضابطًا من أبسل ضباطنا خر صريعًا إتمامًا لأمر صدر من المرجع الأعلى، لا من وزارة الحربية، ولا من القيادة العليا، بل منك أيها الجنرال، هذا هو الشائع على ألسنة الناس، وهذا ما سينشره أحد محرري الجرائد، وقد أطلعني على مقالة قبيل قدومي إليك.

قال هذا متوقفًا عن الكلام منصتًا ظانًّا أن الجنرال — وقد أعار حديثه إصغاءً تامًّا — سيسأله أن يبوح باسم ذلك المحرر، إلا أن الجنرال بدلًا من هذا طلب إليه أن يكمل حديثه فقال: وهنا يجيء دور الصليب الحديدي، فالشائع أن الجنرال أنعم به على ضابط عثماني لعصيانه أمر ضابطه الأعلى الألماني، وهذا ما أشكل على أرباب الصحافة حله، وقد رفض رضا باشا مقابلة اثنين من مخبري الجرائد، ولهذا توصل الجمهور إلى استنتاج ما يأتي: أن الجنرال أنعم بالصليب الحديدي على الأخ بالرغم من عصيانه الأمر العسكري؛ لأنه يهوى الأخت، وقد لمح المحرر بهذا الأمر في المقالة التي ذكرتها.

وأنصت شكري بك ثانية، أما الجنرال فسأله ثانية أن يتابع حديثه.

إلا أن كاتم الأسرار دخل في تلك اللحظة حاملًا بيده أوراقًا وقد اعتذر لاعتراضه بينهما، فنظر الجنرال في الأوراق نظرة سريعة، وكتب شيئًا على صفحة منها، وأرجعها إليه وهو يهز رأسه استحسانًا، ثم التفت إلى شكري بك بعد أن خرج كاتم الأسرار.

– كمل حديثك.

– وهنا يجيء دوري، تجيء مسألتي التي هي إحدى صغائر الأمور، فإنه ليقال فيها إن شكري بك لم يكن ذنبه أن عصى الأوامر العسكرية، بل ذنبه أنه يحب جهان، ولهذا صدر إليه الأمر أن يذهب إلى ساحة الحرب، فطلب أن يمهل قليلًا فأحيل أمره إلى السلطة العسكرية؛ لأنه كان عذول الجنرال العظيم الذي شاء أن يرسل إلى حتفه، أهذه هي القدوة الحسنة التي يود أحلافنا أن نقتدي بها! أهذا هو الأثر الشريف الذي يظهره لنا أسيادنا الألمان!

تمنى الجنرال في تلك اللحظة لو أسرع كاتم أسراره بتنفيذ الأمر السري الذي أصدره، فإن حديث هذا التركي الوقح الجسور أثار ثائر الغضب فيه، ناهيك به من ضابط كذاب أثيم يتجرأ على القدوم إليه منبئًا إياه بمكيدة هو نفسه يدبرها في رأسه، يا له من جبان، يا له من غدار، قرأ الجنرال ما بدا في وجه شكري بك من ملامح الغدر والخيانة، وعرف لساعته أنه هو الذي يهدد حياته، والأنكى أنه يأتي إليه ليصور له الأمر هائلًا، يا له من أحمق.

وظل الجنرال يتظاهر بالهدوء، والإصغاء إلى أن قال له بأنفة: ولكنك حدت عن موضوعك، هات شواهد المكيدة، فإني أنتظر منك أن تكمل ما بدأت به، عد إلى النقطة الجوهرية.

– إن المحرر الذي أخبرتك بقصته قد اشترك في المؤامرة عليك مع عضو من جمعية الاتحاد والترقي، وإن لهما ثالثًا — فدائيًّا — وهو آلة صماء يديرانه كيفما شاءا، وما المقالة التي ذكرتها أمامك إلا حيلة يموهان بها، وغايتهما منها تحويل الأنظار عن الذي سيرتكب الجرم.

– إنه لخبر مفيد، أكرم بك من منذر تنبئني بأسماء المتآمرين علي.

– لبيك أيها الجنرال، إن أسماءهم رهن أمرك، ولكن هنالك قضيتي؛ فأنا لا أسألك صدقة، لا أطلب منك إلا أن تعاملني بالقسط والعدل، غايتي إليك فرصة بضعة أيام قبل ذهابي إلى ساحة الحرب، وإذا كان عليَّ أن أحاكم عرفيًّا لطلب كهذا، أو إذا كنت سأعنف، أو أجرد من وظيفتي …

– قلت لك: إنك يا قولغاسي لا شأن لي بقضيتك على الإطلاق، فقد آليت على نفسي أن لا أتداخل بما هو من متعلقات العدالة التركية، ولماذا لا تذهب إلى رئيس أركان الحرب.

– إن رئيس أركان الحرب أرسلني إليك.

كان الجنرال في هذا الوقت يتمشى في الغرفة بصبرٍ كاد يفرغ وقد هز رأسه إشارة إلى اليارو الذي ظهر توًّا في الباب ثم قال: أوَتريد أن تفهمني أن تداخلي بشأنك هو ما تتقاضاه ثمن سرك هذا؟

فأبرق وجه شكري بك إبراق مستهزئ، وأجاب ناهضًا وفي صوته نبرات الحماسة: حقًّا ما ذكرت بالتمام.

وحدث بعد ذلك سكوت أعقبه قول الجنرال، وقد دخل رجال البوليس والجاندرمه: بناء عليه ستقبض من هؤلاء الثمن بالتمام.

أما شكري بك، فظل جامدًا في مكانه كالمسحور، ولم يتحقق وقوعه في أحبولة الجنرال حتى احتاط به رجال البوليس وساقوه، ولكنه إذ وصل الباب تملص منهم ملتفتًا فجأة كالبائس المجنون، وسحب مسدسه.

وما كاد رجال الجندرمه أن يقبضوا عليه ثانية حتى تمكن من إطلاق رصاصة لم تصب المرمى.

وقد ألقي القبض أيضًا بعد ساعتين، أي حول منتصف الليل، على رضا باشا في منزله، وضبطت أوراقه كلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤