المكاتبات الرسمية بين صاحب العظمة السلطان والوكالة البريطانية

صاحب العظمة السلطان بملابسه العادية

في ١٨ ديسمبر عام ١٩١٤ جرى في مصر حادث تاريخي هام، هو سقوط الخديوية وتجديد عهد السلطنة، ذلك العهد المجيد الذي كان لها على عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، وبذلك سقطت السيادة التركية عن مصر وأصبحت تحت حماية بريطانيا العظمى، تلك الدولة التي اشتهرت من أقدم الأزمان بنشر العلوم والمعارف في مستعمراتها والبلاد التابعة لها والعمل على ترقية أهلها ماديًّا وأدبيًّا، وتدريجهم وتمرينهم على حكم أنفسهم بأنفسهم، الأمر الذي جلب لها الفخر وسجل لها حسن الذكر، وجعل رعاياها والمستظلين بحمايتها يتعلقون بحبها ويقدمون نفوسهم وأموالهم فدية لها وفي سبيل نصرتها، وليس أسطع دليل على ذلك من قيام أهالي المستعمرات والبلاد التابعة لإنكلترا على نصرتها في هذه الحرب الطاحنة التي دخلتها إنكلترا دفاعًا عن الحق وانتصارًا للضعفاء، وخير دليل أستشهد به على صحة ما ذكرت قول صاحب العظمة مولانا السلطان الأعظم في أمره الكريم الصادر لعطوفة حسين رشدي باشا رئيس الوزارة المصرية، فقد جاء فيه ما يأتي:

ونحن على ثقة بأننا في سبيل تحقيق هذا المنهاج سنجد لدى حكومة صاحب الجلالة البريطانية خير انعطاف في تأييدنا، وإننا لموقنون أن تحديد مركز الحكومة البريطانية في مصر تحديدًا واضحًا بما يترتب عليه من إزالة كل سبب لسوء التفاهم يكون من شأنه تسهيل تعاون جميع العناصر السياسية بالقطر لتوجيه مساعيها معًا إلى غاية واحدة.

كانت مصر في عهد السيادة التركية الصورية لا تعرف لها طريقًا قويمًا يوصلها إلى ما تبتغيه من التدرج في سبيل الرقي؛ لأنه كان أمامها ثلاثة أبواب مفتوحة: باب المعية الخديوية وباب الوكالة البريطانية وباب الحكومة المصرية، فكانت تحوم حول هذه الأبواب وتطرقها حسب الظروف الداعية إليها، والحق يقال فإنها كانت تائهة ضالة بين جميع هذه الأبواب، فلما بسطت إنكلترا حمايتها على مصر قفلت تلك الأبواب وأصبح أمام الأمة باب واحد تطرقه فيفتح لها لتدخل إلى معهد العلم والرقي والتقدم فلا تضل سواء السبيل، ولا يبقى للوساوس والأوهام محلًّا، وطالما جرت الأوهام على الأمم الضلال في الأعمال والاضطراب في الشؤون الإدارية والسياسية، فمصر اليوم دخلت في عصر جديد كله خير وبركة وأصبح أهلها أحرارًا خالصين من كل قيد ضار.

وإذا تدبرنا أقوال مولانا صاحب العظمة السلطان الكامل حسين الأول الذي جلس على عرش سلطنة مصر ووقفنا على تاريخ حياته المملوء بجلائل الأعمال ووعينا جميع مآثره المأثورة وأفعاله المشكورة ومساعيه المبرورة، وثقنا بأن عظمته سيبذل جهده لتوفير أسباب سعادة أهالي مصر والسير بهم في مدارج الفلاح ومعارج النجاح.

لسلطاننا المولى الحسين فضائلُ
أتانا بما لم تستطعه الأوائلُ
فمن وجهه نور العدالة ساطع
ومن كفه خير الرعية سائلُ

وإنني أنشر هنا المكاتبات والبلاغات الرسمية التي نشرت في البلاد، ودارت بين عظمة سلطان مصر والوكالة البريطانية وهي:

إعلان الحماية

يعلن ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر إلى حالة الحرب التي سببها عمل تركيا، قد وضعت بلاد مصر تحت حماية جلالته وأصبحت من الآن فصاعدًا من البلاد المشمولة بالحماية البريطانية. وبذلك قد زالت سيادة تركيا على مصر وستتخذ حكومة جلالته كل التدابير اللازمة للدفاع عن مصر وحماية أهلها ومصالحها.

القاهرة في ١٨ ديسمبر سنة ١٩١٤
وفي اليوم التالي لصدور هذا البلاغ أصدرت نظارة حكومة بريطانيا الخارجية بلاغًا آخر بشأن تنصيب سمو الأمير حسين كامل باشا سلطانًا على مصر وهذا نصه:

يعلن ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر لإقدام سمو عباس حلمي باشا خديو مصر السابق على الانضمام لأعداء الملك، قد رأت حكومة جلالته خلعه عن منصب الخديوية، وقد عرض هذا المنصب السامي مع لقب سلطان مصر على سمو الأمير حسين كامل باشا أكبر الأمراء الموجودين من سلالة محمد علي فقبله.

القاهرة في ١٩ ديسمبر سنة ١٩١٤

التبليغ الوارد إلى الحضرة السلطانية من قبل الحكومة البريطانية

يا صاحب السمو:

كلفني جناب ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أن أخبر سموكم بالظروف التي سببت نشوب الحرب بين جلالته وبين سلطان تركيا، وبما نتج عن هذه الحرب من التغيير في مركز مصر.

كان في الوزارة العثمانية حزبان أحدهما معتدل لم يبرح عن باله ما كانت بريطانيا العظمى تبذله من العطف والمساعدة لكل مجهود نحو الإصلاح في تركيا، ومقتنع بأن الحرب التي دخل فيها جلالته لا تمس مصالح تركيا في شيء، ومرتاح لما صرح به جلالته وحلفاؤه من أن هذه الحرب لن تكون وسيلة للإضرار بتلك المصالح لا في مصر ولا في سواها. وأما الحزب الآخر فشرذمة جنديين أفاقين لا ضمير لهم، أرادوا إثارة حرب عدوانية بالاتفاق مع أعداء جلالته معللين أنفسهم أنهم بذلك يتلافون ما جروه على بلادهم من المصائب المالية والاقتصادية. أما جلالته وحلفاؤه فمع انتهاك حرمة حقوقهم قد ظلوا إلى آخر لحظة وهم يأملون أن تتغلب النصائح الرشيدة على هذا الحزب، لذلك امتنعوا عن مقابلة العدوان بمثله حتى أرغموا على ذلك بسبب اجتياز عصابات مسلحة للحدود المصرية ومهاجمة الأسطول التركي بقيادة ضباط المانيين ثغورًا روسية غير محصنة.

ولدى حكومة جلالة الملك أدلة وافرة على أن سمو عباس حلمي باشا خديو مصر السابق قد انضم انضمامًا قطعيًّا إلى أعداء جلالته منذ أول نشوب الحرب مع ألمانيا، وبذلك تكون الحقوق التي كانت لسلطان تركيا وللخديوي السابق على بلاد مصر قد سقطت عنهما وآلت إلى جلالته.

ولما كان قد سبق لحكومة جلالته أنها أعلنت بلسان قائد جيوش جلالته في بلاد مصر أنها أخذت على عاتقها وحدها مسئولية الدفاع عن القطر المصري في الحرب الحاضرة، فقد أصبح من الضروري الآن وضع شكل للحكومة التي ستحكم البلاد بعد تحريرها، كما ذكر من حقوق السيادة وجميع الحقوق الأخرى التي كانت تدعيها الحكومة العثمانية.

فحكومة جلالة الملك تعتبر وديعة تحت يدها لسكان القطر المصري جميع الحقوق التي آلت إليها بالصفة المذكورة، وكذلك جميع الحقوق التي استعملتها في البلاد مدة سني الإصلاح الثلاثين الماضية. ولذا رأت حكومة جلالته أن أفضل وسيلة لقيام بريطانيا العظمى بالمسؤولية التي عليها نحو مصر أن تعلن الحماية البريطانية إعلانًا صريحًا، وأن تكون حكومة البلاد تحت هذه الحماية بيد أمير من أمراء العائلة الخديوية طبقًا لنظام وراثي يقرر فيما بعد.

بناء عليه قد كلفتني حكومة جلالة الملك أن أبلغ سموكم أنه بالنظر لسن سموكم وخبرتكم قد رؤي في سموكم أكبر الأمراء من سلالة محمد علي أهلية لتقليد منصب الخديوية مع لقب «سلطان مصر»، وإنني مكلف بأن أؤكد لسموكم صراحة عند عرضي على سموكم قبول عبء هذا المنصب أن بريطانيا العظمى أخذت على عاتقها وحدها كل المسؤولية في دفع أي تعد على الأراضي التي تحت حكم سموكم مهما كان مصدره، وقد فوضت إلى حكومة جلالته أن أصرح بأنه بعد إعلان الحماية البريطانية يكون لجميع الرعايا المصريين أينما كانوا الحق في أن يكونوا مشمولين بحماية حكومة جلالة الملك.

وبزوال السيادة العثمانية تزول أيضًا القيود التي كانت موضوعة بمقتضى الفرمانات العثمانية لعدد جيش سموكم، وللحق الذي لسموكم في الإنعام بالرتب والنياشين.

أما فيما يختص بالعلاقات الخارجية، فترى حكومة جلالته أن المسئولية الحديثة التي أخذتها بريطانيا العظمى على نفسها تستدعي أن تكون المخابرات منذ الآن بين حكومة سموكم وبين وكلاء الدول الأجنبية بواسطة وكيل جلالته في مصر.

وقد سبق لحكومة جلالته أنها صرحت مرارًا بأن المعاهدات الدولية المعروفة بالامتيازات الأجنبية المقيدة بها حكومة سموكم لم تعد ملائمة لتقدم البلاد، ولكن من رأي حكومة جلالته أن يؤجل النظر في تعديل هذه المعاهدات إلى ما بعد انتهاء الحرب.

وفيما يختص بإدارة البلاد الداخلية علي أن أذكر سموكم أن حكومة جلالته طبقًا لتقاليد السياسة البريطانية قد دأبت على الجد بالاتحاد مع حكومة البلاد وبواسطتها في ضمان الحرية الشخصية، وترقية التعليم ونشره، وإنماء مصادر ثروة البلاد الطبيعية، والتدرج في إشراك المحكومين في الحكم بمقدار ما تسمح به حالة الأمة من الرقي السياسي. وفي عزم حكومة جلالته المحافظة على هذه التقاليد، بل أنها موقنة بأن تحديد مركز بريطانيا العظمى في هذه البلاد تحديدًا صريحًا يؤدي إلى سرعة التقدم في سبيل الحكم الذاتي.

وستحترم عقائد المصريين الدينية احترامًا تامًّا كما تحترم الآن عقائد نفس رعايا جلالته على اختلاف مذاهبهم. ولا أرى لزومًا لأن أؤكد لسموكم أن تحرير حكومة جلالته لمصر من ربقة أولئك الذين اغتصبوا السلطة السياسية في الأستانة لم يكن ناتجًا عن أي عداء للخلافة، فإن تاريخ مصر السابق يدل في الواقع على أن إخلاص المسلمين المصريين للخلافة لا علاقة له البتة بالروابط السياسية التي بين مصر والأستانة، وأن تأييد الهيئات النظامية الإسلامية في مصر والسير بها في سبيل التقدم هو بالطبع من الأمور التي تهتم بها حكومة جلالة الملك مزيد الاهتمام، وستلقى من جانب سموكم عناية خاصة، ولسموكم أن تعتمدوا في إجراء ما يلزم لذلك من الإصلاحات على كل انعطاف، وتأييد من جانب الحكومة البريطانية. وعليّ أن أزيد على ما تقدم أن حكومة جلالة الملك تعول بكل اطمئنان على إخلاص المصريين ورويتهم واعتدالهم في تسهيل المهمة الموكولة إلى قائد جيوش جلالته المكلف بحفظ الأمن في داخل البلاد، ويمنع كل عون للعدو، وإني أنتهز هذه الفرصة فأقدم لسموكم أجل تعظيماتي.

تحريرًا في ١٩ ديسمبر سنة ١٩١٤.

ملن شيتهام

الأمر الكريم السلطاني

الصادر لصاحب العطوفة حسين رشدي باشا بتاريخ ٢ صفر سنة ١٣٣٣ / ١٩ ديسمبر سنة ١٩١٤.

عزيزي رشدي باشا:

إن الحوادث السياسية التي وقعت في هذه الأيام أدت إلى بسط بريطانيا العظمى حمايتها على مصر وإلى خلو الأريكة الخديوية.

وبهذه المناسبة أرسلت الحكومة البريطانية إلينا رسالة نبعث بصورتها إليكم لنشرها على الأمة المصرية موجهة فيها نداءها إلى ما انطوى عليه فؤادنا من عواطف الإخلاص نحو بلادنا لكي نرتقي عرش الخديوية المصرية بلقب (السلطان)، وستكون السلطنة وراثية في بيت محمد علي طبقًا لنظام يقرر فيما بعد.

وقد كان لنا بعد أن وقفنا حياتنا كلها إلى اليوم على خدمة بلادنا أن يكون الإخلاد إلى الراحة من عناء الأعمال مطمح أنظارنا، إلا أننا بالنظر إلى المركز الدقيق الذي صارت إليه البلاد بسبب الحوادث الحالية قد رأينا مع ذلك أنه يتحتم علينا القيام بهذا العبء الجسيم، وأن نستمر على خطتنا الماضية فنجعل كل ما فينا من حول وقوة وقفًا على خدمة الوطن العزيز.

هذا هو الواجب المفروض علينا لمصر ولجدنا المجيد محمد علي الكبير الذي نعمل على تخليد الملك في سلالته.

وبما فطرنا عليه من الاهتمام بمصالح القطر سنوجه عنايتنا على الدوام إلى تأييد السعادة الحسية والمعنوية لجميع أهاليه، مواصلين خطة الإصلاحات التي بدئ العمل فيها، لذلك ستكون همة حكومتنا منصرفة إلى تعميم التعليم وإتقانه بجميع درجاته، وإلى نشر العدل وتنظيم القضاء بما يلائم أحوال القطر في هذا العصر، وسيكون من أكبر ما نعني به توطيد أركان الراحة والأمن العام بين جميع السكان وترقية الشؤون الاقتصادية في البلاد.

أما الهيئات النيابية في القطر فسيكون من أقصى أمانينا أن نزيد اشتراك المحكومين في حكومة البلاد زيادة متوالية.

ونحن على ثقة بأننا في سبيل تحقيق هذا المنهاج سنجد لدى حكومة صاحب الجلالة البريطانية خير انعطاف في تأييدنا، وإننا لموقنون بأن تحديد مركز الحكومة البريطانية في مصر تحديدًا واضحًا بما يترتب عليه من إزالة كل سبب لسوء التفاهم يكون من شأنه تسهيل تعاون جميع العناصر السياسية بالقطر لتوجيه مساعيها معًا إلى غاية واحدة.

وإننا لنعتمد على إخلاص جميع رعايانا لتعضيدنا في العمل الذي أمامنا.

ولوثوقنا بكمال خبرتكم وبما تحليتم به من الصفات العالية، واعتمادًا على وطنيتكم، نطلب منكم مؤازرتنا في المهمة التي أخذناها على عاتقنا، وندعوكم بناء على ذلك إلى تولي رئاسة مجلس وزارتنا، وإلى تأليف وزارة تختارون أعضاءها لمعاونتكم، وتعرضون أسماءهم على تصديقنا العالي.

ونسأل الحق جلت قدرته أن يبارك لنا جميعًا فيما نبتغيه من نفع الوطن وبنيه.

حسين كامل

جواب صاحب العطوفة حسين رشدي باشا

مولاي!

أقدم لسدة عظمتكم السلطانية مزيد الشكر على ما أوليتموني من الشرف السامي إذ تفضلتم علي بأمركم الكريم الذي فوضتم به إليّ تأليف هيئة الوزارة.

نعم، إنني كنت وكيلًا عن ولي الأمر السابق، ولكنني مصري قبل كل شيء وبصفتي مصريًّا قد رأيت من المفروض علي أن أجتهد تحت رعايتكم السلطانية في أن أكون نافعًا لبلادي، فتغلبت مصلحة الوطن السامية التي كانت رائدي في كل أعمالي على جميع ما عداها من الاعتبارات الشخصية.

لهذا فإني أقبل المهمة التي تفضلت عظمتكم السلطانية بتفويضها إلي، ولما كان زملائي بالأمس الموجودون الآن بمصر متشربين بنفس هذه العواطف وهم لذلك مستعدون للاستمرار على معاونتهم لي، فإنني أتشرف بأن أعرض على تصديق عظمتكم السلطانية رفق هذا مشروع المرسوم السلطاني بتشكيل هيئة الوزارة الجديدة.

وإني بكل احترام وإجلال لعظمتكم السلطانية.

تحريرًا في ٢ صفر سنة ١٣٣٢ / ١٩ ديسمبر سنة ١٩١٤.

العبد الخاضع المطيع المخلص
حسين رشدي

الوزارة الجديدة

وبعد هذا الانقلاب حدث تعديل في الوزارة المصرية فأصبحت كما يأتي حسب المرسوم السلطاني الصادر في ٢ صفر سنة ١٣٣٣ﻫ/١٩ ديسمبر سنة ١٩١٤:
  • حسين رشدي باشا: وزيرًا للداخلية مع رئاسة مجلس الوزراء.

  • إسماعيل سري باشا: وزيرًا للأشغال العمومية والحربية والبحرية.

  • أحمد حلمي باشا: وزيرًا للزراعة.

  • يوسف وهبه باشا: وزيرًا للمالية.

  • عدلي باشا يكن: وزيرًا للمعارف.

  • عبد الخالق ثروت باشا: وزيرًا للحقانية.

  • إسماعيل صدقي باشا: وزيرًا للأوقاف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤