الساعات الطويلة

لم أرضَ برؤية التلاميذ في أول يوم دراسي يقفزون من فوق أسوار المدرسة. عليهم أن يرفعوا هذه الأسوار بعد ذلك إلى القمر. قرأت المكتوب على خلفية ميكروباص «إحنا متنا، وجايين هنا نتحاسب»، ضحكت بسرعة، ثم بعد ثانيتين أعدمت المرارة ضحكتي. حادثني صديقي عن طلبات حماة المستقبل، كي تتم زيجته المتعثرة. إنها تريد تكييفًا! وما لها المروحة؟! لو فقط يتوقفون عن هذه الترهات. أوضح لي العمق الحقيقي للحفرة حينما حكى عن مسألة تفاخرها بأبناء عائلتها، ومناصبهم، ومعايرته أنه — وعائلته — لن يصمدوا أمامهم في مقارنات كهذه، مما استفزه، ودفعه لارتداء كلابظات الملاكمة، والدخول في حلبة المنافسة، متذكرًا «من كان يشتغل ماذا» من أفراد عائلته، خاصةً في سلك القضاء، ووزارة الداخلية، حتى تنخرس الشمطاء. أف. هذه هي الطرق المثالية للفشل في العلاقات الإنسانية. تضحك حبيبتي، بكل صفاء. تغمض عينيها عند الضحك، فأعيش حلمًا فردوسيًّا. أريد أن أشم أنفاسها، فإن فيها الحياة. أريد أن أكون الهواء الذي تتنفسه، لأصبح أنا وهي كِيانًا واحدًا، أتلذذ بالسباحة في دمها، وأرتاح آخر المطاف في قلبها. لا والله، لست حافظًا للأغاني، أو مستمعًا لها. ولكن حبي حوَّلني رغم أنفي لشاعر. ربما هذا هو الحب؛ الإعلاء والتسامي، تنشيط الجينات الخاملة. العظيم الذي يكشف العظيم بداخلك. لكن هل يدوم الحب؟ سُقْتُ نفسي بعيدًا عن هذه التساؤلات السخيفة، السقيمة. أطالع لوحات كاريكاتير ابن عمي. كان معرِضًا موفقًا. لكن يصيبني الحزن أنه لن يحقق مكسب بواب عمارتي الذي يعمل سمسارًا، والذي عرفت مؤخرًا (هي بالأحرى: فوجئت مؤخرًا) أنه يحصد مبالغ شاهقةً في أتفه بيعة يخوضها. أعزي صديقةً على موت خالها. رحل بعد مرض قصير. أتذكر كلمة قريبي، شيخ الجامع المؤمن، أن المرض قبل الموت دليل على محبة الله، فإنه يخفِّف به من ذنوب العبد قبل حسابه في العالم الآخر. أسأل نفسي: هل سأعيش قبل أن أموت؟ وهل — إن عشت — سيرزقني الله بالمرض دليل محبته لي؟ لم أجد أي إجابات، وهُرِعت لمقال ناقد شهير، ألوذ به من أسئلتي الشائكة؛ كان مقالًا سيئًا، كله تحطيم وتهشيم، أين الإيجابي إذن؟! ثم إنه من أبجديات مقال النقد السينمائي أن تنتقد الفيلم، وليس سلوك بطله، أو حكاياته خارج العمل. أسافر إلى منتجعي المفضل. الجو هادئ، والأمواج رقيقة، لكن صورتي لا تشبهني. أستشعر سخونة زفيري أكثر من برودة شهيقي، فأقفز في بيتي مجددًا، إلى أن أقرِّر السفر خارج هذا البلد. الغيوم الرمادية هنا صارت على أطباقنا، نأكلها بلا بديل. والسيول تغرق الطرق منذ يوم ولدت. ٣٨ سنةً وجميع الشوارع والحواري مبيعة للشتاء بعقد مزور لا أمل في كشف زيفه أو إلغائه. زهقت من الفساد الذي يطوف في الهواء، ويضربنا جميعًا في كل مكان. صارت الحياة محاولةً حذرةً، أو غير حذرة، لعدم التعرض للرطم من تلك القطع الصلبة الطافية على نحو أعمى؛ ليصاب قلبك بإنفلوانزا حامية، لا ينتهي لها سعال أو بلغم، ولا تهبط حرارتها إلا إذا نسيتها بمسرحية كوميدية أو نكتة بذيئة. دار كل هذا في ذهني وأنا أتطلع لابتسامة طفل عمره شهور، يداعبني من وراء الكرسي الذي يواجهني في الطائرة. في عينيه فرح أبله تعوَّدت زمان أن أراه رسالةً مقدسةً للأمل. رأسه الأبيض الصغير مثل نقطة في علامة تعجب، أو وجه ضاحك من انفعالات الفيسبوك الآلية. وهَبْتُ صاحبة هذا البوست وجهًا مماثلًا، وأغلقت الفيسبوك بعد مُضِيِّ ساعات طويلة، أو ربع ساعة … لا أذكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤