شوقي

خاتمة شعراء التقليد

كنت أقول في الحديث الماضي إن شوقي رحمه الله كان في حياته الفنية طائفة من المتناقضات … كانت طبيعته تريد الحرية، وكانت ظروفه التي أحاطت به منذ شبابه الأول تفرض عليه طائفة من القيود، وكان مضطربًا بين هذا الميل الطبيعي إلى الحرية وبين هذه القيود التي لم يكن يكرهها ولم يكن يحب أن يخلص منها.

ولم تقف هذه المتناقضات في حياة شوقي الفنية عند هذا، ولكنه حتى في إظهار شعره كان لا يخلو من بعض التناقض.

فقد كان شعره أفصح الشعر الذي كان يُنشر في مصر في تلك الأوقات، ولكن صوته ولسانه لم يكونا يساعدانه في الاستمتاع بفصاحته هذه، فكان يكتب شعره، ولم أسمعه قطُّ يُنشِد الشعر، وكان إذا فُرض أن تُنشد له قصيدة طلب إلى بعض الصديق أن يُنشد هذه القصيدة نيابة عنه لأن صوته لم يكن يسمح له بالإنشاد …

فهو كذلك كما كان حرًّا كان مقيدًا، وكان في حياته الفنية كلها مضطربًا بين هذه الحرية وبين هذه القيود، وهو على ذلك كان أشبه الشعراء بأبي الطيب المتنبي من ناحية أنه كان إذا قصدَ إلى مديح أو إلى فن من هذه الفنون التي لا تحبها نفوس الشعراء، وإنما تستجيب فيها للظروف أكثر مما تستجيب فيها للفن، كان إذا قصد إلى لون من هذا الشعر أنشأ قصيدته وقسَّمها قسمين؛ يختص بالقسم الأول نفسه، ويعطي القسم الآخر لهذا الغرض الذي يقول فيه الشعر.

وهو كذلك في هذا لا ينفك متناقضًا، فالشطر الأول الذي يختص به نفسه — وهو الذي يتغزل فيه ويذهب فيه مذهب الحكمة — كان من الشعر الجيد الذي لا شك في جودته وإتقانه … ولكن القسم الثاني الذي يتخفف فيه من الثقلة التي تفرضها عليه الظروف ويتخفف فيه من المديح إن كان مديحًا، ومن حديث السياسة والاجتماع إن كان متحدثًا في الاجتماع أو السياسة، كان هذا القسم من قصيدته أضعف القسمين؛ لأن الشاعر لم يكن يملك فيه حريته كاملة، وإنما كانت حريته مقيدة بهذه الظروف التي تحيط به، فهو إذا مدح أرسل نفسه على غير سجيتها لأنه منذ شبابه الأول كان يكره المديح — وإن الأحاديث في السياسة تتقيد بظروف السياسة، وإن الأحاديث في الاجتماع تتقيد بظروف الاجتماع — وكان شديد الحرص على ألَّا يُغضب الأمير، أو على ألَّا يُغضب الذين لا ينبغي أن يُغضبهم من أُوْلِي الأمر على اختلافهم.

كذلك أنفق شوقي الشطر الأول من حياته، ثم كانت الحرب الأولى، واضطر إلى ترك الأمير، واضطر الأمير إلى تركه أيضًا، ثم اضطر إلى أن يترك مصر ويعيش عيشة النفي في إسبانيا، وهناك رُدَّت إلى الشعر حريته الفنية وحُرم هذه القيود التي كان يحبها وكان فنه يضيق بها، فأرسل نفسه على سجيتها وإن كان إرسال نفسه على سجيتها قد جاء متأخرًا بعض الشيء.

وقد لاحظت منذ زمن طويل أن حياة شوقي لا تخلو من شيء يوشك أن يكون معجزة … فهو في حياته الأولى إلى أن كانت الحرب؛ بل إلى أن انقضت الحرب العالمية، قد كان كغيره من الشعراء الذين يجيدون ويحسنون قول الشعر على ما يكون في شعرهم من نقص هنا وعيب هناك، ولكنه كان الشاعر التقليدي كهؤلاء الشعراء الكثيرين الذين عرفناهم في تاريخ أدبنا العربي الطويل.

على أنه بعد أن عاد إلى مصر من النفي تحوَّل تحولًا خطرًا حقًّا لا نكاد نعرف له نظيرًا عند غيره من الشعراء الذين سبقوه في أدبنا العربي، وتحوَّل من ناحيتين خطيرتين: فأما إحداهما فهي أن شعره هذا التقليدي الذي صدر عن مدح الأمير قد تحرر من التقيد بظروف السياسة فانطلق … ولأول مرة أصبح شعر شوقي، عندما كان يقول في الظروف العامة سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم تاريخية، كان شعره يصبح صورة لأهواء الشعب من حوله وميول هذا الشعب بكل قوة وبكل حرية، كأن الشعب إنما كان ينطق بلسانه … فشعره في أعقاب الحرب الوطنية وشعره في كل ما كان يجري من الأحداث في هذه المدة إنما كان شعرًا شعبيًّا لا يفرق فيه بينه وبين أحاسيس الناس وشعورهم؛ لأنه كان يؤدِّي عنهم هذا كأحسن ما تؤدَّى المعاني عن أصحابها … يؤدي عنهم هذا على النحو الذي لم يكونوا هم يستطيعون أن يؤدوه عليه.

وكذلك أصبح شعر شوقي في هذا الشطر الأخير من حياته مرآة صافية للحياة المصرية ولشعور المصريين ولِمَا كانوا يجدونه عندما تصدمهم الأحداث الجسام على اختلافها.

والناحية الثانية هو أنه فجأة استكشف نفسه فإذا هو شاعر قد خُلق ليكون مجدِّدًا، وكان من حقه أن يذهب إلى هذا التجديد منذ أخذ يقول الشعر، ولكن تلك القيود حالت بينه وبين ما كان يريد، فأقبل على هذا التجديد في وقت متأخر، ولو كان قد أقبل على هذا التجديد من أول حياته لكان شوقي من أشعر شعراء العرب من غير شك وفي غير جدال، ولكنه أقبل على هذا التجديد في السنين الأخيرة من حياته، فأدخل في اللغة العربية وفي الشعر العربي خاصة فنًّا جديدًا لم يسبقه أحدٌ إليه، وهو فن التمثيل الشعري، وجعل ينشئ قصصه الشعرية الرائعة هذه التي فُتن الناس بها فتنة لا حدَّ لها، فأنشأ قصة مجنون ليلى، وقصة مصرع كليوبترا وغيرهما من هذه القصص التمثيلية الجميلة؛ ولكنه — كما قلت — قد ذهب هذا المذهب الجديد في شعره — مذهب التمثيل — في وقت متأخر بعد أن انجلت قوة الشباب وبعد أن حِيلَ بينه وبين هذه البراعة التي كان يمتاز بها أثناء شبابه، فكان تمثيله استمرارًا لغنائه؛ فهو قد صنع القصص التمثيلية ولكنه لم يستطع أن يبتكر فيها شيئًا ولم يستطع أن يكون ممثلًا بالمعنى الدقيق لكلمة الممثل، ولا يمكننا أن نقيس فنه التمثيلي إلى فن الشعراء الممثلين القدماء أو المحدثين، وحسبُه مع ذلك أنه حاول هذه المحاولة ونجح فيها، ولكننا مضطرون إلى أن نلاحظ أن هذه الجماعات الضخمة التي كانت تذهب لتسمع رواياته التمثيلية إنما كانت تفتن بما في هذا الشعر من الفن الغنائي، ومن الجودة التي أَلِفَها الناس من شوقي، بأكثر مما كانت هذه الجماعات تذهب لترى قصة تمثيلية ولتتأثر بما فيها من الأحداث، ولتتأثر بما يكون فيها من الفواجع كما هي العادة عندما يذهب الناس لشهود تمثيلية من التمثيليات.

مهما يكن من شيء فحسْبُ شوقي أنه قد ردَّ للشعر العربي قوته ورصانته ومكانته، وحسبُه أنه بعد البارودي يعتبر الشاعر الذي ردَّ الشعر العربي إلى حياته الأولى، ثم حسبُه بعد ذلك أنه أدخل فن التمثيل في الشعر العربي، وأن الذين جاءوا بعده وتأثروه وحاولوا أن يذهبوا مذهبه لم يستطيعوا إلى الآن أن يبلغوا منزلته فضلًا عن أن يسبقوه … وعسى أن يكون هذا إنما نشأ من أن التمثيل ليس فنًّا متوطنًا في الأدب العربي، وهو لم يتوطن إلَّا بعد جهد لم يُتَح لشعرائنا وكُتابنا أن يبذلوه إلى الآن.

وخصلة أخرى يمكننا أن نلاحظها في شعر شوقي وهي أنه في شبابه — كما قلت — وكان حرًّا — كان يحاول أن يجدد ولكن ظروفه كانت تَحُول بينه وبين ذلك، فلما رُدَّت إليه حريته كان جديرًا أن يُرْجع الشعر إلى طبيعته الأولى، ولكنه لم يستطع … أدركته هذه الحرية بعد أن فات أوانها؛ فإذا هو في شعره لا يستطيع أن يتخلص من التقاليد القديمة، وإذا هو في شعره الأخير — الشعر الغنائي بنوع خاص — مقلد للشعراء القدماء تقليدًا أشد وأظهر من تقليده في طور الشباب، بحيث لا نكاد نسمع قصيدة من قصائده الكبرى التي قيلت في أعقاب الحرب إلا تصورنا النموذج الذي كان أمامه من شعر القدماء، فهو كان يسير سيرتهم، ما في ذلك شك.

مهما يكن من شيء فشوقي هو الذي ختم الطائفة الرائعة من شعرائنا التقليديين منذ العصر الجاهلي إلى الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤