الفصل الخامس

(١) قصَّةُ السِّنْجابَيْن

فقالت «أُمُّ رَاشِدٍ»: «إِني مُحَدِّثَتُكم بقصة هذَين السِّنجابين، فإِنَّ فيها لَعِبْرَةً لِمَنْ يَعْتَبِرُ (مَوْعِظةً لمَن يتَّعِظُ). ثم أنشأتْ تقول:

(٢) نُزْهة القَرْقَذانِ

«كان — يا ما كانَ — في قديم الزمانِ، وسالفِ العَصر والأوانِ، سِنجابانِ شقيقان: اسمَ أَحَدهما: «القرقَذُونُ»، واسمُ أخيه الآخرُ: «القرقذانُ».

وكانا — حينئذٍ — طِفلين صغيرين، يَقْطُنانِ (يَسْكُنان) شجرةً عَجُوزًا، في غابةٍ مظلمةٍ، تكتنفها (تُحِيط بها) الأشجارُ الكثيفةُ (الكثيرةُ، المتراكبُ بعضُها على بعضٍ). وفي ذاتِ يومٍ عَنَّ (عرَضَ) لهما أن يَهْبِطا إلى الأرْضِ، ويَلعبا بين النباتاتِ والأعشابِ والشُّجيراتِ الصغيرةِ.

وكان «الْقَرْقذانُ» أشجعَ منْ أخيهِ «الْقَرْقَذُونِ»، فلم يتردَّدْ في تحقيقِ أُمْنِيَّتِه، وَخَرَجَ مُنفرِدًا إلى الغابةِ. وَظلَّ يَجُوسُ أثناءَها (يَمشي خِلالَها) طُولَ يَوْمِه، حتَّى جَنَّ اللَّيلُ (أَظْلَمَ)؛ فَعاد إلى عُشِّه لينامَ.

(٣) شَجَرةُ الجَوْزِ

وَلمَّا رَآهُ شقيقهُ «القَرْقذونُ» سأَلَه مُتَعجِّبًا: «أيْنَ قَضَيتَ يوْمَكَ، يا أخي «القَرْقَذانُ»؟»

فَحَدَّثَهُ «القَرْقَذانُ» بِكُلِّ ما رَآهُ في تَجْوالِهِ (في سيْرِهِ) مِنْ غرائِبَ وَمُدْهِشاتٍ، وَوَصفَ لهُ سُرُورَهُ وابتهاجَهُ بِتلكَ الرِّحلةِ القصِيرَةِ، الَّتي قضاها في النَّهارِ، وقالَ لهُ، فيما قال: «إنَّ في الغابةِ — يا أَخي — أشجارًا لا يُحْصيها العَدُّ، وَهِيَ أَكْبرُ مِن الشجرةِ التي نَقْطُنُها وأضخمُ. وَفيها من جَوْز الْبَلُّوطِ، وَثَمَرِهِ الْيَانِع (الَّذِي حانَ قِطافُهُ) ما لا يُحْصَى.

وقدْ رأَيْتُ جَمْهَرَةً (طائِفةً وجُملَةً) كبيرةً مِنْ شَجرِ الْجَوْزِ الشَّهِيِّ (اللذيذِ الطَّعمِ)، وَلَيْسَ في قُدْرَتِي أن أصِفَ لك مِقدارَ ما امْتَلأْتْ بهِ نفسي مِنَ الْغِبطةِ (الفرَح) والسُّرُورِ بهذِه النُّزهةِ الجميلةِ.

ألا تُحِبُّ أن تَصْحَبَنِي — في الغَدِ — لِنَجُولَ مَعًا في أرْجاءِ الْغابةِ (لِنَمْشِيَ في جوانبِها)؟»

فقال لهُ «الْقرْقذُونُ»، وَهوَ يَبْتَسِمُ: «لقَدْ أَعْجَبَتْنِي هذِهِ الْفِكرَةُ الْبدِيعةُ، ولا بُدَّ لي مِنْ مُصاحَبِتكَ غدًا، لِنَرْتادَ (لِنَكْشِفَ) تِلْكَ الأصقاعَ (الجِهاتِ والنَّواحِيَ) الْمَجْهُولَةَ، وَنَطْعَمَ تِلْكَ الثِّمارَ الشَّهِيَّةَ. وَلَيْسَ أحَبَّ إِلَى نَفْسي منْ تَحقيق هذِه الْأُمْنِيَّةِ، الَّتي طالَما تَرَدَّدْتُ في تحقيقها، مِنْ قبلُ. وإِنِّي لأَترقَّبُ (أنْتَظِرُ) الصَّباحَ الْباكرَ بفارِغ الصَّبرِ.»

(٤) أحْلامٌ سَعِيدةٌ

فصاحت أُمُّهُما قائلةً: «فِيمَ تَتَحَدَّثان أيُّها الْخَبِيثانِ؟ إِنِّي أَسْمَعُ ثَرْثَرةً (كلامًا كثيرًا مُرَدَّدًا مُعادًا مُخلَّطًا). فَما تَقُولانِ؟

ألا تَكُفَّانِ عَنْ هذا العَبَثِ (الْهَزْلِ)؟ ألا تنامانِ، أيُّها الثَّرْثارانِ؟»

فصدَعَ السِّنجابان بِما أُمِرَا، وناما إلى الصَّباحِ، واشْتدَّ شَوْقُهما إلى تَحْقيقِ هذِهِ الأُمنِيَّةِ، فَظَلَّا يَحْلُمانِ — طولَ لَيلِهما — أحلامًا سارَّةً مبهجةً سَعيدَةً.

(٥) عَلَى صِياحِ الْغِرْبان

ثمَّ استيقظا على صِياحِ الْغِرْبان الَّتي تَقْطُنُ أعالِيَ الأشجارِ في الْغابةِ، بجوارِهما. فَقَفَزا مَسرُورَيْنِ، وَقَدِ اسْتَعادا نَشاطَهُما، وَظَلَّا يُنَظِّفانِ فِراءَهُما وَوَجْهَيْهِما وَمَخالبَهُما. ثمَّ تَحَفَّزا (تَهَيَّئا ونَهَضَا) لِلخُرْوجِ.

فَصاحَتْ بِهِما أمُّهُما تُنادِيهِما: أنِ اصْبِرا قَليلًا، حتَّى تُفْطِرا مَعي.

فَقالا لَها: «كلَّا. لا حاجَةَ بِنا الآن إِلى جَوْزِ الزَّانِ، فَقَدْ مَلِلْناهُ (ضَجِرْنا بِهِ وَسَئِمْناهُ)، يا أُمَّاهُ. واعْتَزَمْنا أَن نَطْعَمَ (نَأْكُلَ) شيْئًا خَيْرًا مِنْهُ وَأَشْهَى.»

(٦) في مُنْتَصفِ النَّهار

ثمَّ خَرَجَ «الْقَرْقَذانُ» و«الْقَرْقَذُونُ» وَظَلَّا يَجُوسانِ خِلالَ الغابةِ، حتَّى انْتَصَفَ النَّهارُ. وَقَدْ أُعْجِبَ «الْقَرْقَذُونُ» بِتِلْكَ النُّزْهَةِ الْبَدِيعَةِ إِعْجابًا شَدِيدًا، وَشكَرَ لِأخِيهِ اقْتِراحهُ الطَّرِيفَ.

وَكانَ «الْقَرْقَذانُ «شُجاعَ الْقَلْبِ — كما قُلْنا — لا يَخْشَى شيْئًا، وَقَدْ كادَتْ شجاعَتُهُ تُهْلِكهُ فِي ذلكَ الْيَوْم، وَلكِنَّ الله سلَّمهُ وأَنْقَذَهُ (نَجَّاهُ وَخَلَّصَهُ)، بَعْدَ أَنْ تَعَرَّضَ لِلْهلاكِ الْمُحَقَّقِ.»

(٧) في جُحْرِ «الْقاقُمِ»

ثمَّ صَمَتَتْ (سَكَتَتْ) «أُمُّ رَاشِدٍ» قَلِيلًا، واسْتَأْنَفَتْ حَديثها قائِلَةً: «لَقَدْ رَأَى «الْقَرْقَذان» حَيَوانًا شِرِّيرًا، اسْمُهُ: «الْقاقُمُ»، وَهُوَ يَدْخُل جُحْرَهُ. وَلَمْ يَكنِ «الْقَرْقَذانُ» يَعْلَمُ أنَّ «الْقاقُمَ» عَدُوُّ خَطِرٌ مَرْهوبُ البَأْسِ (مَخُوفُ الشِّدَّةِ، مَخْشِيُّ الْعُنْفِ)؛ فَاسْتَخَفَّ (اسْتَهانَ) بِهِ «الْقَرْقَذانُ «وَنَهاهُ أَخُوهُ «الْقَرْقَذُونُ» عَنِ المُكابَرَة، وحَذَّرهُ عاقِبَةَ التَّغْرِيرِ والْمُجازَفَةِ (خَوَّفهُ نتيجةَ الْمُخاطَرَةِ)، فلم يَسْتَمِعْ إلى نُصْحِهِ.

(٨) السِّنْجابانِ و«الْقاقُمُ»

وذهَب «الْقَرْقذانُ» إلى جُحْرِ «الْقاقُمِ»، وضرَبهُ بذيْلهِ؛ فَخَرَج «الْقاقُمُ» من جُحْره، وأَنشبَ أَنْيابَهُ (أَدْخَلَ أَسْنَانَهُ الْحادَّةَ) في جِسمِ «الْقَرْقَذانِ». فلما رَأَى «الْقَرْقَذانُ» أنَّ خَصْمَهُ قَوِيُّ الْبأْس أَيْقَنَ بِالهلاكِ. ولكنَّه قوَّى من عَزْمِهِ، وضاعف من بَأْسِه (قُوَّتِه) وَأنشبَ أنيابَهُ في رَقَبَةِ عَدُوِّه.

فاشتدَّ غَيْظُ «الْقاقُمِ» منهُ، وحَمِيَ الْعِراكُ (اشتد النِّزاعُ) بينَهما وَرَأَى «الْقَرْقَذُونُ» أنَّ أخاهُ سَيُفارِقُ الْحَياةَ، بعد لَحَظاتٍ يَسِيرَةٍ، فأسرعَ إلى نَجْدَتِهِ، وَأَنشَبَ في جسم «الْقاقُمِ» مَخالِبَهُ.

(٩) خاتِمَةُ الْقِصَّةِ

نباحُ «ابنِ وازِعٍ»

وتحفَّزَ «الْقاقُمُ» (اسْتَوْفَزَ وَتَهَيَّأَ لِلْوُثُوبِ) واسْتَعَدَّ لِلفَتْكِ بِالسِّنجابَيْنِ، وَكادَ يَتِمُّ له ما أرادَ، لو لم تتداركْهُما عِنايَةُ الله ولُطْفُهُ؛ فقد سَمِعَ «الْقاقُمُ» نُباحَ كلبٍ، فارْتاعَ (خافَ)، وأسلم سُوقَهُ لِلْفِرارِ (أطلقَ أرجُلَهُ لِلْهَرَب). ونَجا السِّنجابانِ من الْخَطَرِ الدَّاهم (الْوقعِ)، وأسْرَعا — من فَورِهِما — عائِدَيْنِ إلى الشجرةِ. وَلَمْ يَنْسَيا ذلك الْيَوْمَ طولَ حَياتِهما. وقد نَدِما على مُخالَفةِ أمِّهما، واعْتَزَما أَلَّا يَعْصِيا لها أمْرًا بعد ذلك.»

وَلَمَّا انْتَهَتْ «أُمُّ رَاشِدٍ» مِنْ قِصَّةِ السِّنْجابَيْن، دَهِشَ السَّناجِيبُ، وَأُعْجِبَوا بِحُسْنِ حَدِيثِها إِعْجابًا شَديدًا.

ثمَّ قالَ «قُنْزُعَةُ»: «الْبَثِي (اقْعُدِي) مَعَنا — يا أُمَّ رَاشِدٍ — حَتَّى يَسِيلَ الجَليدُ الْجامدُ؛ فَتَذهَبي مَعَنا لِزِيارةِ أشْجارِ الشُّوحِ.

وَلْتَكونِي عَلَى ثِقَةٍ أنَّنا مُؤْتَنِسُونَ بِكِ، فاتَّخِذِي من عُشِّنا بيتًا لكِ، ولا تَضْجَرِي بِالإقامَةِ بَيْنَ ظَهْرانَيْنا يا «أخْتَ يَرْبُوع».

•••

فقالَ «ساطِعٌ»: «نَعَمْ يابْنَةَ عَمَّ، ونَحْنُ بكِ جِدُّ مَسْرُورِينَ، فالْبَثي (امكُثي) مَعَنا مشكورَةً، ولا تُفَارِقينا؛ فَلَيْسَ أحَبَّ مِنْ أحادِيثِكِ وأَسْمارِكِ الشَّائِقَةِ الْمُعجِبَةِ.»

•••

فقالتْ «أُمُّ رَاشِدٍ»: «شُكْرًا لَكُمْ جَمِيعًا، عَلَى حَفاوتِكُمْ بِي (تَلَطُّفِكُمْ بِي ومُبالَغَتِكُمْ في إِكْرامي) — يا أبْناءَ عمَّ — فَقَدْ أوْلَيْتُمُونِي (أعْطَيْتُمُوني) مِنَّةً (فَضْلًا وَمَكْرُمَةً) عَظِيمةً، وَغَمَرْتمْ نَفْسِي أُنْسًا وَحُبُوْرًا، وأَفَعَمْتُم (مَلَأْتُمْ قَلْبِي) فَرحًا وسُرُورًا، ولَنْ أَنْسَى لَكُمْ هذا الجَمِيِلَ ما حَيِيتُ!»

محفوظات

السِّنجاب

قال «أبو الفرج الْبَبْغاء»:

«قد بَلَوْنا الذَّكاءَ في كُلِّ بابِ
فَوَجَدْناهُ صَنْعَةَ السِّنْجابِ
حَرَكاتٌ تَأبَى السُّكونَ، وأَلحا
ظٌ حِدادٌ، كالنَّـارِ في الِالتهابِ
لابسًا جلْدَةً، إذا لاحَ، خِلْنا
هُ — بها — في مُزَرَّةٍ مِنْ سِخاب
لَوْ غَدا كلُّ ذي ذكاءٍ نَطُوقًا
رَدَّ — في ساعةِ الخِطَابِ — جَوابي»

الشـرح

  • (١)

    «أبو الفرج عَبْدُ الْواحِدِ المَخْزُوميُّ» شاعِرٌ مُجِيدٌ، وقَدْ أطلقوا عَلَيهِ لقبَ «البَبغاء» لِلَثْغَةٍ في لسانِه.

  • (٢)

    بَلَوْنا: اختَبَرْنا وتَعَرَّفنا — في كلِّ باب: في كلِّ نَوْعٍ مِن الأنواعِ. صَنْعةُ السِّنْجاب: يُريدُ صِفَتهُ ومَزِيَّتَهُ. والسِّنجابُ [بضم السين، وكسرها]: حَيَوانٌ قارضٌ متسلق، كالْجُرَذِ والفأر. وهو مضْرِبُ المثل في رشاقته وسرعته العجيبة التي امتاز بها في تسلق الغصون. يتخذ من الشَّجرِ دارًا يبتنيها، ويأوي إليها. وجسمهُ قريب الشبه من جسوم الأرانب، لا يختلف عنها إلا في قصر أذنيه وطول آذانها، وامتداد ذيله في الطول، وتقاصر أذيالها. وهو يتوسد ذيله الكثيف الشعر، إذا نام في فصل الشتاء. ويطعم الفواكه وما إليها من ثمرات الأشجار المختلفة الأخرى. ولكن أحبَّ المآكل إِليه: ثِمارُ أشجار البلوط، كما رأيت من سياق القصة.

    ومَعْنَى البَيْت: أَنَّنا قَدِ امْتَحَنَّا السِّنْجابَ في كلِّ بابٍ منْ أَبْوابِ الذَّكاءِ، فَرَأَينا الذَّكاءَ أَوَّلَ مَزَاياهُ، وأَخَصَّ خَصائصهِ.

  • (٣)

    تَأبَى السُّكونَ: لا تَرْضَى بأَنْ تَهْدَأَ وَتَسْتَقِرَّ، منْ فَيْضِ النشاطِ وحُبِّ الحركَةِ.

    أَلحاظٌ حِدادٌ: عُيُونٌ قَوِيةُ النَّظَرِ، حادَّةُ البَصَرِ، شَدِيدةُ التَّحديق.

    ومَعْنَى البيت: أنَّ السِّنْجابَ — لِفَرْطِ نَشاطِهِ — لا يَرْضَى أَن يكُفَّ عن الحَرَكَةِ قَطُّ، وأَنَّ عَينَيهِ الحَادَّتِي البَصرِ تَبْدُوان (تَظْهرَانِ) — لمَنْ يَراهُ — كأَنُهما جَمْرتان مُلْتَهبتان.

  • (٤)

    الْجِلْدة: القِطعةُ منَ الجِلد — إذا لاحَ: إذا ظهرَ.

    خِلناهُ: ظَنَنَّاهُ وحَسِبناهُ — مُزَرَّة: يُريدُ ثوبًا ذا أَزْرَارٍ.

    سِخاب: قِلادةٌ (عقد)، حَبَّاتُهُ ليستْ منَ اللؤْلؤِ ولا منَ الجواهرِ، بل هي مُؤلَّفة منْ أَنواعٍ منَ النباتِ كالقَرَنْفُلِ.

    ومَعْنَى البيت: أَنَّ الجِلْدة التي يَلبَسُها السِّنْجابُ تلوحُ لِعيْنِ مَنْ يراها؛ فيحْسَبُها ثوبًا ذا أَزرارٍ، تشْبِهُ حبَّاتِ العِقْدِ المُؤَلَّفِ منْ أَلوانِ النَّباتِ كالقَرَنفُل.

  • (٥)

    لوْ غَدا: لوْ أَصْبحَ.

    نطوقًا: فَصِيحَ اللِّسانِ، سَريعَ النُّطْق.

    ساعة الخِطَاب: حينَ أُخاطِبُه.

    ومَعْنَى البيت: لوْ أَنَّ كلَّ منْ وهَبَ الله لهُ نِعمةَ الذكاءِ، وهبَ لهُ معها نعمةَ الكلامِ — أَيضًا — لكان السِّنْجابُ منَ أفصحِ الفُصحاءِ، ولَما أَعْجَزهُ التعبيرُ عن غرضِه، والإجابةُ — في الحال — عما أُوَجِّه إليهِ منْ سُؤَالٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤