الفصل الثاني

(يرتفع الستار عن الغرفة التي انكشف عنها في الفصل الأول، غير أنَّ المشهَد يظهر في ضوء النهار بدلًا من ظهوره على نور المصابيح.)

المشهد الأول

(فرجان وإرين، هو إلى خوان وأمامه كأس شاي يشربها، وهي إلى الجهة المقابلة، غارقة في مُطالَعة كتاب تحمله بيدها، يقِف فرجان بغتةً ويتقدَّم إلى إرين فيأخذ الكتاب من يدها ويُغْلِقه.)

فرجان : بالرغم ممَّا أوصلْتِني إليه من الرغبة عن محادثتك، لا أرى بُدًّا من إطْلاعِك على أمورٍ قرَّرتُها اضطرارًا. لقد مضى الشهر وأنت تَشْكِين الصُّداع واختلاج الأعصاب، ويُؤْلِمُني أن تستَسْلِمي لمثل هذه الأوصاب الوهمية، وما خَفِيَتْ عني أسبابُها، غير أنني سأنتَهِز فرصةَ انتهاءِ أجَلِ الإيجار لتَرْك هذا القصر، والخروج بك من باريس؛ إن هواءَها يضرُّ بك على ما أرى، فهل لكِ ما تقولينه في هذا الشأن؟
إرين : لا.
فرجان : لقد اخترتُ مسكنَيْن في الضاحية لكلٍّ منهما حديقتُه ومناظِرُه الرائعة، وأبقَيْتُ لك حقَّ الترجيح؛ لأنك ستُقِيمين في البيت أكثرَ مما أُقِيم به أنا؛ فإنَّ أشغالي تضطرُّني إلى الحضور لباريس كلَّ يوم؛ لذلك أرجو أن تقولي كلِمَتَك في أقرب آنٍ.
إرين (تقِف بحِدَّة) : قلت لك أنْ لا حقَّ لي في إبداء الرأي في أيِّ أمرٍ كان، فأنا أعتَبِر اتِّحادَنا مفصومًا، وليس لنا أن نُواجِه المستقبلَ بنظرةٍ واحدةٍ فيما بعدُ. أنت تُبْغِضني وأنا أُبْغِضك.
فرجان : وهل من مُسبِّب لهذا البغضِ المتبادَل سواك؟ لقد أحْرَجْتِني. غيِّري مَسْلَكَك أغيِّرْ طريقي.
إرين : وهل أمْلِك تغيير مَسْلَكي معك؟ إنَّ ما أشعُرُ به لا أقدر على مقاومته.
فرجان : إنَّكِ الآن على غير ما عهدتُ من قبلُ.
إرين : وهل كنتُ إلَّا ككلِّ فتاةٍ تتزوَّج مُكْرَهةً، أُحاوِل أن أخلق الحبَّ خَلْقًا في فؤادي، فما أجْدَتْ محاولتي شيئًا؟ لقد كنتُ أُلْقِي حبَّك فريضةً على قلبي كما يُلْقَى الإيمانُ كُرْهًا إلى الفِكْر دون اقتناعٍ به، فما استفدتُ غيرَ الشقاء والآلام. أقسم بالله أنني لن أقدر أنْ أعتادَ على حبِّك اعتيادًا، لقد تفحصتُ أعماقَ قلبي، فلماذا أخدعُك وأخدعُ نفسي؟!
فرجان (وهو يتميَّز غيظًا) : إنَّ كلَّ كلمةٍ خرجتْ من فمِك إنما هي حنثٌ بعُهودك وتحقيرٌ لواجباتك.
إرين : لتكن كلماتي ما تكون، فإنها صرخةٌ مدوِّيةٌ في أعماق رُوحي.
فرجان : لا أفهم ما تقصدين.
إرين : وأنا أيضًا لا أفهم ما تريد أنت.
فرجان : ماذا ترجين يا ترى؟
إرين : وأنت ما هي آمالك؟
فرجان : أراكِ مجنونةً، ولكلِّ داءٍ دواءٌ.
إرين : إذا رأَيْتَني مجنونة فكنْ أنت عاقِلًا على الأقل.

المشهد الثاني

(إرين – فرجان – بولين)
بولين (تدخل بغتة) : يا لله! ماذا جرى؟ أفلا يمكن أن تتَّفقا؟
فرجان لبولين : سوف أتركُك معها لتتحقَّقي أمرَها، وتعلمي إلى أين بلَغَ بها الجنون، دَعِيها تتكلَّم؛ فإنَّ ما تقوله لا جواب عليه.

المشهد الثالث

(إرين – وبولين)
بولين : أفلا تزال أعصابك في هياجها؟
إرين : إنها ستزداد هياجًا من يوم إلى يوم، ومن ساعة إلى ساعة، إنَّ مثل هذه العِلَل لا شفاء لها.
بولين : تذرَّعي بالصبر يا إرين.
إرين : وعلامَ أصبر؟ لقد سمعت أمسِ تهديدَه، وها هو ذا اليومَ يعمل على تنفيذ أحكامه؛ فقد أعْلَن لي أنَّه سيأخُذُني مِن هنا؛ فهو يُريد إلْقائي في سجن يكون هو السجَّان فيه.
بولين : مسكينة يا إرين!
إرين : لقد وصلنا إلى حيث لا منفَذَ لنا إلَّا بالطَّلاق أو …
بولين : أو ماذا؟
إرين : إلَّا الطَّلاق أو الموت.
بولين : بربك يا إرين، اصمتي.
إرين : لقد قُضِي الأمر، فكوني معي أو فكوني عليَّ.
بولين : وهل أكون معك في مثل موقِفِك إلَّا إذا كنتُ عليك؟ ماذا تَشْكِين من هذا الرجل الذي ينْحَنِي أمامَ إرادتك؟ أفلا يكفيك منه أنه وهو زوجك لا يتمتَّع بحقوق الزوج منك؟! أفلا تَرَيْنَه يَفضُل الكثيرين؟! فهو على الأقل لا يلجأ إلى إغضابك، ولو كان سواه في موقِفه لَمَا أحْجَم عن استعمال القوة لإرْغامك.
إرين : اصمتي يا بولين، على المرأة ألَّا تُضَحِّي بنفسِها لأحد.
بولين : ولكنَّ الواجب يقتضي هذه التضحية من كل امرأة فاضلة.
إرين : لا، إنني أُنكِر العظمةَ والفضيلة على ضحيَّة تنبت في تربة الكُرْه والاشْمِئْزاز.
بولين : إنَّ الدِّين يقضي عليك بهذه الطاعة.
إرين : لا، يا بولين، إنَّ الدِّين الراسي على التضحية بكلِّ مبادئه السامية، لا يَقْضِي بمثل هذه التضحية الرَّاسية على تدنيس القلب؛ إذا كان إنكار الذات فضيلة، فما تدنيس الذات إلَّا رذيلة لا تنحط عنها رذيلةٌ في الحياة، أفلا يعلِّمنا الدِّين أنَّ الطهارة هي أقْوى ما يتزلَّف به مخلوقٌ إلى الله؟ وهل مِن الطهارة أن تستَسْلِم المرأة بلا حبٍّ لشهواتِ حيوانٍ؟ أهذا هو الزواج؟ أيُمْكِن أن يَمسَخُ الإنسانُ باسم الشريعة أقدسَ ما في الإنسانية تكلُّفًا وكذبًا ورياءً؟ أيُمْكِن للمرأة أن تَرَى في رجلٍ هادمَ حياتها ونيرونَ قلْبِها ثم تَقْتَسِم معه ثمرةَ الحياة والموت؟! يا لله من هذا الدنس! ويا لله من هذا العار يُلْصِقه الناس برُوح الوُجود ولا يخجلون!
بولين : أنتِ عاشقةٌ يا إرين.
إرين : وما هو بُرْهانُك على ما تدَّعِين؟
بولين : إنَّ البُغْضَ سلبيٌّ، أمَّا المحبة فإيجابية، ولا يتفوَّه الإنسان بمثل ما تتفوَّهين به دون أن تحفزه قوةٌ إيجابيةٌ مستقرةٌ في أعماق رُوحه.
إرين : هَبِي افتراضَك صحيحًا، أفلا تَرَيْن في الحبِّ قوةً أشدَّ من قوة البغض تُهيب له إلى الخلاص؟!
بولين : ولكنْ مَن يضمن وأنتِ على مثلِ هذا التمرُّد أنَّكِ لن تُعامِلي زوجَكِ الثاني كما تُعامِلين زوجَك الأولَ الآن؟
إرين : لستُ أنا الآن تلك الفتاةَ التي تزوَّجتْ منذ عشر سنين، هي غيري، تلك العروس التي اقتُلِعتْ من مقْعَد دُرُوسها اقتلاعًا لتُطرَح على سرير رجلٍ مجهولٍ، لقد صرتُ «أنا» الآن، فأنا أعرف ما أُريد وما لا أُريد، وما لا طاقةَ لي باحتِماله. إنَّ في أعماقي قوةً تُهِيب بي للانْعِتاق أو للموت.
بولين : اسكتي بحقِّ الله يا إرين. وَيْلاه! كيف الخلاص؟ وما العمل؟
إرين : لقد آنَ أوانُ العمل، أنتِ زوَّجْتِني، فعليكِ إنقاذي الآن.
بولين : أنتِ إذن مُصِرَّة على عزمك.
إرين : وهل بإمكاني أن أُحوَّل عنه؟ اذْهَبي إلى زوجي وأَعِيدي عليه ما لا يُريد الإصغاءَ إليه.
بولين : ولكنَّ للطلاقِ شُروطًا يا إرين، ولا يُمْكِن الحكمُ به دونَ أسبابٍ مُبرَّرة ثابتة.
إرين : إذا توافَقْنا على الافتراق سهُلَتْ أمامَنا الوسائل. اذْهَبي إليه وقولي له كلَّ ما تَرَيْن مِن خطورةِ الحالة. إنَّ هذا الرجلَ يخشاكِ، ولا أراكِ إلَّا مُدْرِكةً ما يجب عليك القيامُ به تلافِيًا لأشد الأخطار.

المشهد الرابع

(إرين – بولين – خادم)
الخادم : إنَّ المسيو دافرنيه بالباب يستأذن في الدخول.
إرين : ليتفضَّل.

المشهد الخامس

(إرين – بولين)
بولين : أي حديث سيَدُور بينَكما يا تُرَى؟ أهو عالِمٌ بما يجري؟
إرين : لا، إنَّه لا يعرف شيئًا.
بولين : مسكينة أنت يا أختي.

(تُقبِّل إرين بولين وتخرج.)

المشهد السادس

(إرين – ميشال)
ميشال : أستَمِيحُك العفوَ لأنني أتيتُ.
إرين : لك عفوي يا ميشال، وقد كنت في غِنًى عن الحضور الآن.
ميشال : وعدتُك أن أبْتَعِد عنك، وأقسمتُ ألَّا أقترب منك، ولكنني تمثَّلْتُكِ مُعذَّبةً فأشفقتُ على نفسي وعليكِ.
إرين : أفما نتوقَّع أن يدور القضاءُ دَوْرتَه ونحن مفترقان؟
ميشال : لقد صرتُ أحذَرُ الآمالَ، وأخاف الأماني.
إرين : لئن غبتَ عنِّي فرسْمُك ماثِلٌ في فؤادي، وأينما اتجهْتُ بأنظاري أراكَ بجبِينِك الشاحب ينمُّ عن مرضٍ فيك تحتَّم عليَّ شفاؤه.
ميشال : وهل لمثل غرامي أن يُشفَى؟
إرين : أريدُ مَحْوَ ما ارتَسَمَ على وجهكَ من شقاءٍ، أريدُك سعيدًا تتذوَّق لذَّةَ الحياة يا ميشال.
ميشال : وهل لإرادتِكِ أن تَهدِم ما بيننا من حوائل؟
إرين : قل لي يا صديقي، أفلا تَرَاني وأنا غائبةٌ عنك ماثلةً أمامَك كما أراكَ أنا ماثلًا أبدًا لعياني.
ميشال : أجلْ، إنني أراكِ، أراكِ في غيبوبةِ فِكْري، فتُشاهِدكِ بصيرتي بأجْلَى مما يُشاهِدكِ بصري، وأشعر أنَّكِ لي دون أن يَدنس عرضَنا لؤمٌ أو يحوم فوْقَنا ارتيابٌ.
إرين : يا ألله! ما أشبَهَ رُوحَكَ برُوحي! فكأن تفكيري امتدادٌ لتفكيرك، أو كأنني شعلة منبثقة من نُورك، كلانا مترفِّع عن الدَّنايا، طامحٌ إلى الحقِّ الصريح.
ميشال : أصحيحٌ ما تقولين؟
إرين : أصغِ إليَّ: إنني منذ زمانٍ مديد أفكِّر في طريقةٍ تجمَعُ بيننا بلا لومٍ أمامَ الله والناس.
ميشال : وكيف يكون هذا يا إرين؟
إرين : إنَّ القضاءَ يَدُورُ لنا أو علينا في هذه الساعة. إنَّ أختي تُخاطِب زوجي في هذه اللحظة لتُطالِبَه بحرِّيَّتي.
ميشال : وهل تُؤَمِّلين النجاح في هذا المسعى؟
إرين : لا أعتقد أنَّ هذا الرجل سيتمسَّك بالبقاء معي في جحيم دائم الاضطرام.
ميشال : ليتني أُشاطِرك الأمل يا إرين.
إرين : عليكَ أن تُسافِرَ الآن إلى أن أُعِدَّ العُدَّة للخطوة الأخيرة.
ميشال : أتَقْضِين عليَّ بالابتعاد عنك الآن؟
إرين : أطلُبُ ابتعادَك حتى تعود إليَّ بعد سنة إذا أنا نجحتُ في مَسْعاي. وإنْ أنا فشلتُ فمجال الأرض رَحْبٌ، والأمر لله.
ميشال : ويلاه!
إرين : إذا قُضِي علينا بفراقٍ لا لقاءَ بعدَه، فإننا نلبس الحداد على حياتنا، ونبقى طاهِرين أمامَ ضميرنا؛ فمِثلُكَ ومثلي لا يتَّخِذان الخِداعَ سبيلًا لسعادة مكذوبة.
ميشال : أنتِ حياتي يا إرين.
إرين : إنني أُواجِهُ الحقيقة فلا أخادع نفسي.
ميشال : ولكنني لن أُطِيقَ الفراقَ إلَّا على ذِكْرى وأملٍ، فاملَئِي عيني من نُور عينَيْك ويديَّ من حرارةِ يدَيْكِ (يتقدَّم إليها بحركة ملؤُها الجوى فتتراجع عنه).
إرين : لا تُدْخِل الاضطرابَ إلى نفسي، لا تُفْقِدْني الثقةَ بذاتي، إياكَ أن تُفْسِد إيماني بعزةِ نفسي، إذا كان الدهرُ يَقْضِي لنا في هذه الساعة، فلا تُلَطِّخْها بوَصْمةِ ضعفٍ أندَمُ عليه في أيِّ زمانٍ، دَعْني، أنا خَطِيبتُكَ يا ميشال.
ميشال : أوَّاه! إنني أعبدك (يضَعُ على جَبِينها قُبلةً) أنا خَطِيبُكِ المُطيع لأمرك.
إرين : لقد طالتْ زيارتُك، فاذهبِ الآن.
ميشال : أأذهب دون أن أعلم ما قضى الله في أمرنا؟
إرين : سأبلغك الحكم في حال صدوره.
ميشال : ولكن مَن يَضْمَن لي أنَّكِ ستتمتَّعِين بحُرِّيَّتك بعد اليوم؟ أفما تُحاذِرين أن يَمْنَعَك زوجُك من الخروج وأن يُراقِبَك فلا تتمكَّنين من الكتابة إليَّ؟
إرين (تشير بيدها إلى الحديقة) : ادخلْ إلى الحديقة وانتظرْ إلى أن نعلمَ ما قُدِّرَ لنا.

(يتوارى ميشال في الحديقة.)

المشهد السابع

(إرين – بولين)
بولين : أذَهَب ميشال مِن هنا؟ لقد خفتُ أن يدخُلَ زوجُكِ فيَراه أو يلْتَقِي به في البيت، وهو على ما هو عليه من هياج، فلا نأمن سوء العاقبة.
إرين : هو يرفض إذن؟
بولين : سوف تسمَعِين حُكْمَه من فمه، فهو آتٍ.

المشهد الثامن

(إرين – بولين – فرجان)
فرجان : أهذِهِ هي المؤامرة الرائعة التي كنتِ تُدِيرينَها مع أختِك يا إرين؟
بولين : لم يكن من مؤامرة بيننا.
فرجان لإرين : أهذهِ ما كانتْ تُضْمِر كلُّ آلامِك العصبية، لأجل التوصُّل إلى هذه الْمَحجَّة كانتْ كلُّ هذه المحاوَلات؟
إرين : أنت تعلَم أنني ما اتخذتُ تجاهَك مرةً واحدةً طريقَ الخِداع والْمُداجاة، فما أخفَيْتُ عنك تمرُّدي، لقد أعلنتُ لك بكلِّ صراحةٍ أنَّنِي لا أُحبُّك! والآنَ أُكرِّر القولَ بأنني ضِقْتُ ذَرْعًا بك وبحالي، ولا قِبَلَ لي بالاحتمال، أفما آنَ لنا أن نَفُكَّ أغلالَنا ونضَعَ حَدًّا لهذا العذاب؟
فرجان : يا للغرابة أن تنتَصِبي أنتِ الممثِّلة ضلالَ القلب والتمرُّدَ على الشريعة والعفاف لتَطْلُبي منِّي الرضوخَ لك أنا الممثِّل كرامةَ الأخلاق وقداسةَ العادات وشرَفَ المجتمع وحقَّ الشرع!
بولين : اسمع يا فرجان، مالكَ وللاعتصام بالمبادئ والشرائع؟! فما نحن نناقشك في موادِّ القانون.
فرجان : وفِيمَ تناقشِينَنِي إذن؟
بولين : لقد حاولتُ من جهتي أنْ أمْنَع البركانَ من الانفجار فلم أُفْلِح.
فرجان : أشكركِ على هذه المحاولة.
بولين : كُنْ عادِلًا يا فرجان، كن شَفِيقًا، أتوسَّل إليك باسم محبَّتي لأختي واعتباري لك أن تَرْفَع نفسَك إلى أرْقى مراتِب العظمة.
فرجان : لقد حسن لديَّ أن تتَّخِذَكِ أختُكِ واسطةً بيني وبينها في هذا الأمر، وأنا أَجِد من حقِّي ألَّا يتوسَّط أحدٌ بيننا فيما لا يَعْنِي سوانا؛ فالحديث سيكون إذن بيني وبينها.
إرين : لا، يا بولين، لا تذهبي، لا تترُكِيني وَحْدي معه.
فرجان : لا تخافِي؛ فلن أرْفَع يدي عليك، وقد تتُوقِين إلى مثلِ هذه المعامَلة الخَشِنة تتَّخِذِينها حجةً عليَّ. اذْهَبي يا بولين، فأنا صاحب الأمر هنا.
بولين : لله! ما أقساك!
بولين (تتقدَّم إلى إرين وتقبِّلها قائلة) : اغفِرِي لي عَجْزي؛ فما ادَّخرتُ جُهْدًا في سبيل مرضاتك.

المشهد التاسع

(إرين – فرجان)
إرين : إلى أيةِ دَرَكة تُرِيد قَذْفي يا فرجان؟
فرجان : لا أقصد إلَّا إعادةَ رُشْدِك إليك.
إرين : لقد أبديتُ لك الأسبابَ التي تُوجِب فراقَنا، فما هي الأسباب التي تَدْعُوك إلى التمسُّك باتِّحادنا؟ لا حُجَّة لك إلَّا إذا ادَّعَيْتَ العشقَ وتظاهرْتَ بحبٍّ مكذوبٍ.
فرجان : ما أدَّعي أنني أحبُّك؛ لأنَّني لا أحبُّك، ولكنْ لي عليكِ دعوى القتيل على قاتِلِه، فأنتِ مزَّقتِ حياتي تمزيقًا.
إرين : إذن أنتَ طالبُ انتقامٍ، أنتَ تقضِي عليَّ بكفارةٍ لا نهاية لآلامِها.
فرجان : إنني إنْ قصدتُ ذلك لا أكون إلَّا مُسْتَعِيدًا ذرةً من حقوقي الضائعة، ولكنني لا أخرج ببرهاني من هذه المقدمة. لقد عقَدْنا يومَ زواجِنا اتفاقًا وكلانا بصحة العقل والجسد، وهذا الاتفاقُ صحيحٌ لا غُبْنَ فيه ولا تغرير، وهو سالم من شائبة التزوير، وبموجب هذا العَقْد أصبحتُ رجلًا متزوِّجًا؛ أي رجلًا أدبيًّا وماديًّا، وقد قمتُ من جهتي بكلِّ تكاليف العقد بلا تردُّد ولا مُخالَفة، وأنتِ الآن تتقدَّمِين بطلبٍ على غايةٍ من الغرابة، فأنتِ تُريدين أن أشْطُرَ شخصيَّتي إلى شطرين، فأصبح مُطَلِّقًا ومُطَلَّقًا، فأُضطَرَّ إلى بيع نصف بيتي ونصف مفروشاتي وأن أُفْرِغ نصف كيسي، ثم أذهب إلى المجتمع فلا أجِد فيه غيرَ نصفِ مقعدٍ ونصفِ استقبال، وكلُّ هذا لأجل النزول عند إرادة أعصابك المختَلِجة، ولأنَّك لا تَجِدين لذَّةً في عِشْرتي، والله إنها لأسبابٌ مُضْحِكة مُبْكِية، ولن تَجِدِي رجلين فيهما مُسْكةٌ من عقلٍ يُوافِقانِك عليها.
إرين : أمَّا أنا فإنني أكْرَه التظاهُرَ بغير الحقيقة، وأحتَقِر زواجًا يَرْسو على المُخاتَلة والنفاق؛ فإنني حين أقول لك إنَّ الزواج هو الشعور بالسعادة من توليد السعادة في القرين لا أسمع منك غير كلماتِ الشَّرَف والعُهُود المُبْرَمة والاتفاقات المُسَجَّلة، وكلُّ ما هنالك من مُضْحِكات ما أشبَهَها بالْمُبْكِيات!
فرجان : لقد أردتِ أن تَعُدِّي نفسَكِ غريبةً في بيتي، فاتَّخذْتِ الوقاحةَ سبيلًا للانشقاق عنِّي؛ لذلك رأيتُ أن أُعامِلَك المعاملةَ التي لا تستحِقِّين سِواها. إنَّ بيدي اتفاقًا مُسَجَّلًا أقودُكِ للرُّضوخ به بالرغم منك، فأنا لا أشعر نحوَك إلَّا بأمرٍ واحدٍ، وهو حقِّي عليك.
إرين : في الحياة حقوقٌ وواجباتٌ يا فرجان، وأنا أحتَرِمُ كلَّ شريعة تُؤمِّن الإنسانَ على مالِه، ولا أبحَثُ فيها، ولكنَّ الذي لا أفْهَمه بل أتمرَّد عليه هو القانون الذي يجعل الإنسانَ مِلْكًا لإنسان مثْلِه، ويُحكِّم المخلوق بالمخلوق ما دام فيه نسمة حياة.
فرجان : إنك تُنْكِرين الزواج، وهو يَرْسُو على مبدأ احترام العقد وصيانته من تلاعُب الأهواء.
إرين : لقد كان زمانٌ هنا في هذه البلاد نفسها يُمكِن فيه لأحد الزوجين أن يحلَّ الزواجَ بمجرَّد اختيارِهِ.
فرجان : ومَن قال لك هذا؟
إرين : أحَدُ المحامين.
فرجان : وهل توصَّلتِ بالهوس إلى هذا الحدِّ إلى استفتاء المحامين؟
إرين : لقد كان ذلك في أوائل القرن التاسِعَ عشرَ، حين كان المجتمع يفوقُ مدنيةَ اليوم عظمةً وتنظيمًا، فما أطلب إذن ما يُزَعْزِع دعائمَ الكون. إنَّ قرينًا أبغضَ قرينَه بالأمس ويُبْغِضه اليومَ ولن يَحُولَ عن بُغْضِه غدًا لهو ذو حقٍّ صريحٍ، وعلى الشريعة أنْ تَحْمِيَه. لقد كان من الواجب أن يُحتَرَم حقُّ الإنسان على نفسِه؛ لأنه يرسو على فطرةٍ كلُّ نظريةٍ ترتدُّ عنها خاسئةً متحطِّمةً، أيُّ شيء أصدقُ من العاطفة، وفي العاطفة كلُّ الحياة؟
فرجان : أحمد الله لأنَّ شريعةَ هذا العصر لا تُجِيز الطلاقَ، حتى ولو طَلَبَه الطرفان بالتَّراضِي.
إرين : وما هي حاجةُ الطَّرَفين إلى الشريعة إذا اتَّفَقا على الطلاق؟ إنَّ القانون لم يُوضَع لإقامةِ عدلٍ قائمٍ بنفسِه، ولكنَّه ضروريٌّ لإنصافِ المظلومِ وأخْذِ حقِّه من ظالِمِه، وماذا يُفِيد تشريعٌ لا يَمْنَع النخاسةَ ويُحطِّم الأغلالَ الجائرة؟!
فرجان : اتَّجِهي إلى أيِّ منفذٍ؛ فالأبواب كلُّها مُوصدةٌ في وجهِكِ.
إرين : لن أعدم مخرجًا أنطلق منه.
فرجان : لا، لن تَجِدي، أنا لم أرفع يدي لضَرْبِك يومًا، ولم أُقصِّر في تقديم ما تحتاجين إليه، لستُ زانيًا، ولم يَصدُر عليَّ حكم بجرمٍ، وما من سببٍ غير هذه الأسباب يُمْكِنك أن تتقدَّمي به أمام المحاكم.
إرين : ولكنني أتمكَّن من جَرِّكَ جرًّا إلى طلب الطلاق.
فرجان : لن تستطيعي.
إرين : وإذا أنا أَوْقَفْتُك مَوْقِفًا تتحرَّج أنت فيه؟
فرجان : ولا هذا يُجْدِيك نفعًا.
إرين : سوف ترى.
فرجان : وماذا أنتِ فاعلةٌ يا تُرَى إذا أنا أَوْصَدْتُ عليك الأبواب كلَّها؟
إرين : أتْرُك السجن وأهرب.
فرجان : إذا فررتِ من مسكَنِك أُرْسِل الجنودَ يَقْبِضون عليك ويُعِيدونك إليه.
إرين : وإذا قضيتُ أنا على نفسي وأصبحتُ امرأةً لا يَجُوز لرجل شريفٍ أن يَبْقِيَها عنده.
فرجان : سوف أحرُسُك. يلذُّ لي ألَّا أُعِيد حُرِّيَّتَك إليك، أنا حاكِمُك حتى الموت، وفي هذا الحكم كلُّ لذَّتي، القانون في جانبي، فأنتِ في يدي، ولن تُفْلِتي منها.
إرين : وَيْلاه! لقد مُنْعَتِ النخاسةُ في جميع الأقطار، وأُبْطِلتِ التجارة بالعبيد. لقد نقضَ العقلُ كلَّ تعهُّدٍ أبديٍّ، ويمكن لمن نذر حياتَه لله أن يتحرَّر من نُذُوره، ولا يمكن لامرأةٍ أن تتحرَّر من عبوديَّتها لزوجها. أين الحرية في العالَم، ولَمَّا تَزَلْ فيه قوانين تمنعُ الإنسانَ أن يكونَ مَالِكًا لنفسِه، ونفسُه عطية الله له؟!
فرجان : سوف تألَفِين هذه العبوديةَ، لقد قلتُ لك إنَّنِي أعملُ على شِفائك، فسوف نُبارِح باريس فيتَّسِع لك المجالُ في عُزْلَتِك لتدبُّر أمرِك وتعديل مبادئك المتطرِّفة.
إرين : أهذه هي كلمتك الأخيرة؟
فرجان : الكلمة التي لا كلمةَ بعدها.
إرين (تضمُّ يدَيْها بحركة التوسُّل) : لا لن تكون طاغيًا، ارحَمْني ولا تدفَعْني إلى الهاوية.
فرجان (يدفعها عنه) : أرجوكِ أن تترفَّعِي عن مثل الحركات الصِّبْيانية؛ إذْ لا فائدة منها. لقد مضَى زمن العِناد والثَّوْرة، لقد قرَّرتُ ما وجبَ اتِّخاذُه من وسائل، وما أُقرِّره لا مَرَدَّ له.
إرين (ترتمي على قدميه) : الرحمة … الرحمة … الرحمة! أنقذني!
فرجان : إنَّ إرادتي لا تتزعزع، شُدِّي نفسَك واتَّبِعي أوامري، ولسوف يأتي يوم تزول فيه سَكْرَتُك فتشكُرِيني؛ لأنني صُنتُك من الضَّلال، وقدتُ خطواتِك على السبيل السوي.

(يخرج فرجان شامخًا بأنفِه من الباب المؤدِّي إلى غرفته.)

المشهد العاشر

(إرين وحدها ثم يدخل ميشال.)

(تسقط إرين على ركبتيها وهي مُضَعْضَعة، ثم تَلُوح على وجْهِها بغتةً علاماتُ التمرُّد والعزم، فتَقِف وتتَّجِه نحو باب الحديقة وتفتَحُه مُنادِيةً: ميشال.)

ميشال (يُهرَع إلى إرين) : ما لَكِ؟ ماذا جرى؟
إرين (ترتمي بين ذراعيه) : أنت … أنت … ها أنا ذا بين ذراعَيْك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤