١

وهكذا أصبحتُ صحفيًّا … فذات صباح مبكِّر من عام ١٩٤٦ خرجتُ من الجيزة أسعى وراء طوغان الذي كان قد سبقَني وجرَّب حظَّه في صحف ومجلات كثيرة أغلقَت كلُّها أبوابها! خرجتُ أسعى خلفه ببنطلون مجفَّف أخفَت الجاكتةُ عَوْرته، وجاكتة كاروهات كانت في الأصل بطانية … وكل عُدَّتي قلم حبر رخيص، وكشكول فيه بعض الأزجال. وأوَّل هذه الأزجال كان عن عسكري الدَّوْرية. هذا البُعْبُع أبو شنبات الذي هو مفروض أن يكون حارسًا على الطريق فإذا به قاطِعه!!

ومنذ اللحظة التي بدأتُ أتحرَّك فيها قاصدًا عالَم الصحافة كانت في ذهني فكرة لم تستطع التجارب والأيام أن تمحوها من ذهني. فكرة استقرَّت في عقلي بفضل مقالات التابعي والصاوي وفرج جبران!

فكرة أن الصحافة صاحبة جلالة وأن لها بلاطًا، وأنها حفلات ورحلات ونجم صحفي مشهور يكتب وهو جالس على كرسي في مقهًى أنيق في الشانزلزيه، ونسوان كما القشطة الصابحة تُعاكسه وتُباكسه وتجري وراه … وزعماء يستيقظون في الليل على هدير صوته، ووزارات تسقط تحت هَوْل كلماته، وعدل يقوم وظلم يندَكُّ بفضل توجيهاته وتعليماته، وغَضْبة عَنْترية قد تؤدي بالأستاذ إلى السجن … ثم يخرج بعد أربعة أيام ليحكي للناس قصة كفاحه العظيم داخل الزنازين الباردة.

ولكن منظر الصحف التي طرَقْنا أبوابها لم يكُن يُطابق صورة الحلم الذي في أذهاننا! مجلَّات في العتبة وشارع محمد علي وفي عابدين اسمها الخميس والكوكب والشهاب المضيء.

ولقد كنتُ أتخيَّل أن وراء الجدران يعيش العشرات من رهبان الفِكر وحملة الأقلام وأصحاب القضية … ولكن من النظرة الأولى على مَن كانوا داخل هذه الجدران شعرتُ بمدى بؤس هؤلاء الناس وفقرهم … ولكن نظرتي الأولى إليهم لم تكُن كافية لأنْ أتخلَّى عن فكرتي القديمة عنهم كرهبان رأيٍ وأصحاب قضية!

ولقد دختُ وراء طوغان دوخة الأرملة الوحدانية. واستطاع هو أن يشقَّ طريقه بسرعة لأنه كان يحمل بضاعة تختلف … فبينما كان هو يبرز لهم رسومًا … وهي عملية لا يستطيع كل إنسان أن يصنع مثلها، كنت أحمل أنا بضاعة مغشوشة … لأنها هكذا هي مهنة الكتابة … فكل إنسان يستطيع أن يكتب، وكل كتابة هي مثل الأخرى، لولا بعض الفروق. ولكي نكتشف الفرق فلا بد من ميزان كميزان الذهب هو الذي يحدِّد أي الكتابات أنفع وأبقى!

ولكني في النهاية ورغم ذلك وصلتُ! فرحلة طولها ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة … ورحلتي لم تكُن ألف ميل ولكنها كانت سبعة أميال فقط، من بيتنا إلى شارع الخليج المصري، وفي دكَّان في بيتٍ كان يومًا ما إسطبلًا لحمير أحد المماليك البحرية، ومن هذا الإسطبل بدأنا أول عمل صحفي.

كانت المجلة اسمها الضباب، وكان صاحبها كامل خليفة يرحمه الله عامل طباعة استطاع في أيام سطوة البوليس السياسي استخراج رخصة صحفية باسمه، ولم يكُن للصحيفة موعد محدَّد للصدور، وكانت معروضة دائمًا للإيجار كأنها شقة مفروشة. وكان يتصيَّد زوَّار مصر من البلاد العربية لينشر لهم صورًا على طول الصفحة، و«نبذة» عن تاريخ بلادهم وفصولًا عن كفاحهم … وكان يسترزق من هذا العمل بما يكفيه. وكان هؤلاء الضيوف من التَّفاهة وقِلَّة القيمة لدرجة أنهم كانوا يشعرون حقًّا بالسعادة لأن صحف مصر قد الْتَفتت إليهم!

واستأجرنا مجلة الضباب من كامل خليفة، وأصدرنا منها عدة أعداد رافعين عليها شعار: «مجلة الشباب والطلبة والجيل الجديد» وأخذنا كارنيهات من المجلة بتوقيع كامل خليفة. كارنيهات تقول إن العبد لله محرِّر (كذا) في الجريدة، وقد وقَّعَ كامل خليفة باسمه تحت عنوان كبير «المدير العام»!

ولقد كان كامل خليفة نموذجًا لمئات وألوف من الناس كان يزخر بهم العصر، كان شديد الجهل شديد الذكاء … وكان كثير المشاكل يسكن مع عائلته الكبيرة في بيت حكر بالقلعة!

ورغم أنه كان يكسب كلَّ يوم خمسة جنيهات فإنه كان ينفق كلَّ يوم أربعة جنيهات على المزاج. فقد كان مُدمن حشيش، وكان يدخِّن باستمرار ويستحلب الأفيون كلَّ لحظة، ويحتسي فناجيل القهوة بلا حساب، وكان يبدو وكأنه يرغب في أن يغيب عن الوعي إلى ما شاء الله.

وكان فَهْمُه السياسي ينحصر في الخلاف بين علي ماهر والسراي … وفي التعديل الوزاري القادم … وكان هو دائمًا مستعدًّا لكل تعديل وزاري، لا ليسير في ركابه كما تظن!! ولكن لسبب تافه للغاية … فقد كان كامل خليفة يحصل على إعلانات حكومية للصحيفة بخمسين جنيهًا كل شهر. وكان هذا المبلغ هو مورده الثابت، ولذلك كان دائمًا شديد الحرص عند كل تعديل وزاري على أن يعرف مَن هو مدير المطبوعات الجديد، فإذا كان رجلًا سبقَ له التعامل معه، بدا شديد السعادة والرضا، وإذا كان شخصًا لا يعرفه، عاش في همٍّ شديدٍ وقلق بالغ، حتى يقرِّر الرجل استمرار صرف مقطوعيته من الإعلانات الحكومية، وعندئذٍ يعود سيرته الأولى إلى دكَّان الصحافة، يلف سجاير الحشيش ويستحلب قطع الأفيون، ويحتسي فناجيل القهوة بلا حساب!

وعرفت عم كامل عن كثب، وكان إذا الْتَقى بضيوف في المجلة بدا أمامهم كأنه أحد صُنَّاع السياسة المصرية في تلك الفترة من الزمان. فإذا خلا لنفسه بدا على حقيقته: مجرَّد يائس … شديد القلق شديد الفلس، دائم البحث عن مورد جديد لأكل العيش.

ولقد أدَّت به هذه الرغبة المجنونة إلى ارتياد الطريق الصعب. فسرعان ما اكتشفتُ أن صحيفة عم كامل هي مأوًى لعشرات من النصَّابين والمحتالين … ولكنهم — والحق أقول — أبرَعُ مَن عرفتُ من هذا النوع من الناس، وأنهم جميعًا أصحاب مواهب وذوو إرادة، ولو أُحسِن تربية هؤلاء الناس وتوجيههم لكان لبعضهم شأن عظيم.

ولقد الْتَقيتُ في هذه الصحيفة بالرجل الذي باع الترام، ونصَّاب آخَر خفيف الدم شديد الذكاء اسمه عسَّال! وهو فنَّان نصَّاب؛ لأنه يحسُّ وهو ينصب بنفس النشوة التي كان يشعر بها تشيكوف أثناء كتابة قصة، وبنفس السعادة التي كان يشعر بها رمسكي كورساكوف وهو يؤلِّف شهرزاد.

والحق أنه كان يعزف وهو ينصب، ولم تكُن هذه الفئة كلها تتجه في نَصْبها على الفلاحين أو الفقراء، ولكنها كانت تنصب على فئة الخواجات والحُكَّام وأصحاب النفوذ، وكانت الفكرة بسيطة، تذاكر مذهبة لحفلة خيرية تحت الرعاية السامية الملَكية، ونصَّاب عامل يستعينون به، أي أنه نصَّاب ليس له حصة في عملية النصب، ولكن له أَجْر يومي يتقاضاه سواء نجحت العملية أم فشلت.

وكان هذا النصَّاب العامل يرتدي زيًّا خاصًّا كسعاة البنوك، وكان يعتني بمظهره وهندامه عنايةً كبرى؛ لأنها كلُّ رأس ماله في الحياة. وكان يستعمل موتوسيكلًا في مشاويره، وكان دور كامل خليفة في العملية هو طَبْع التذاكر، فإذا انطبعت تولَّى أحدهم الاتصال بأصحاب الشركات في التليفون «آلو … محلات عمر أفندي، أنا علي ماهر باشا، صباح الخير يا خواجا، فيه حفلة في الأوبرج تحت الرعاية الملَكية، أيوة هانبعت لك عشر تذاكر، التذكرة بعشرة جنيه، شكرًا.»

وكانت هذه العمليات تُجرَى في حجرة خشبية ليس بها سوى مكتب وتليفون، وكثيرًا ما كان النصَّاب الأجير يقع في يد البوليس، ولكن النصَّابين الكبار كانوا دائمًا في أمان، وحتى إذا سقطوا في يد العدالة بشهادة النصَّاب الغلبان كانوا سرعان ما يُطلَق سراحهم لعدم توافُر الأدلة!

وأغرب شيء أن هؤلاء الناس كانوا مُطارَدين من البوليس الجنائي، وكانوا في الوقت نفسه على صِلات طيِّبة بالبوليس السياسي؛ فهم يتحرَّكون في قِطاع عريض من الحياة. ولهم صِلات وَطيدة بالمطابع، وهي صِلات تجعلهم يتعرَّفون على طابِعي المنشورات السرية من الطَّلَبة والعُمَّال. ومعلوماتهم في هذا المجال ذات فائدة عظمى!

وذات مساء قُدِّر لي أن أهجر صحيفة الضباب إلى غير عودة، لقد ألقوا القبض على كامل نفسه في عملية نصب من هذا النوع، وجاءت زوجته تصرخ عند الدكَّان وتلطم، ولكن أخبار كامل لم تنقطع أبدًا عنِّي.

وفي أعوام الثورة الجزائرية الأولى عُثر على شخص هارب من ليبيا، وكأنما عُثر على كنز لا يفنى، واستطاع كامل ومعه الليبي الهارب أن يسبِّبا متاعب لا حدَّ لها للثورة الجزائرية.

فقد ادَّعى الليبي الهارب (واسمه مسعود) أنه جزائري محكوم عليه بالإعدام، وأصدر كتابًا عن كفاحه وجهاده في الثورة، واستطاعوا أن يبيعوا من هذا الكتاب عشرة آلاف نسخة، كل نسخة بخمسة جنيهات.

وسافر مسعود بكتابه إلى الكويت والأردن والسعودية، وفي النهاية مات مسعود وحيدًا في مستشفى القصر العيني!

والْتَقيتُ بكامل خليفة بعد ذلك ولآخِر مرَّة منذ عشرة أعوام عندما جاءني يطلب منِّي أن أبحث له عن عمل في دار صحفية كبرى، ولم يحضر بعد ذلك، ولم أبحث له أنا عن عمل، ثم عرفت بعد ذلك أنه مات … يرحمه الله!

ولم يبقَ من هذه الصحبة إلا عم عسَّال، ولا يزال على قيد الحياة، وهو رجل قادر على أن يصبح أي شيء في أي لحظة، فهو تاجر وأحيانًا طبيب، وأحيانًا صاحب شركة.

وذات مرة أصدر صحيفة أسبوعية كبرى اشتغل فيها عدد من الصحفيين اللامعين اليوم، ولقد رأيته ذات مرَّة في حفل دعَتْ إليه هيئة التحرير في بداية تكوينها، وكان يرتدي زيًّا باكستانيًّا باعتباره من كبار المسلمين في دكا وقد جاء ليهنئ بنفسه!!

وقصص ومغامرات عسَّال تصلح أفلامًا ولا أفلام جيمس بوند؛ فقد افتتح عيادة في إحدى قرى الريف وأجرى عمليات لعشراتٍ انتهَتْ كلها بالوفاة، وأخذ أَجْر العملية وأخذ رشوة من أهل الميِّت نظير أن يمنحهم الجثة لدفنها بدون تشريح!

ولقد خرجتُ من تجربتي الأولى في الصحافة بحسرة، وفقدتُ تلك الصورة الزاهية الألوان عن صاحبة الجلالة وبلاطها، وأدركتُ أن البلاط هو الواجهة، ولكن في القفا بدرونات ومزابل ومطابخ ذات رائحة عفنة.

ولم يمُرَّ وقت طويل حتى صدرت صحيفة نداء الوطن، أصدرها ناظر مدرستي القديمة، مدرسة المعهد العلمي الثانوية، وكان قد أصبح نائبًا على مبادئ الهيئة السعدية، وكان رئيس التحرير يُدعى مختار … وكان شديد المهابة شديد الاحترام … أهم ما يميِّزه خمسة أقلام حبر أنيقة يضعها في جيوب جاكتته بشكل بارز.

ولقد رأى مختار أنني صغير السِّن إلى درجة أنني لا أصلح للكتابة، وعندما اصطدمتُ به فصَلَني صاحبُ الجريدة، وبعد أعوام قليلة من هذا الحادث عرَضَ رئيس تحرير مجلة مسامرات الجيب بعض مقالات مختار على العبد لله لأُبدي الرأي النهائي فيها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤