١٠

كانت مصر في بداية الخمسينيات قد صادفت عهدًا من الهدوء والاستقرار لم تألفه منذ بداية الحرب العالمية الأخيرة، وكانت حكومة الوفد في الحكم، ومن عجب أن صحف الوفد انهارت كلها فجأة، وتحوَّل أكبر الكُتَّاب فيها إلى نوَّاب وشيوخ، وتحوَّل صغار المحرِّرين فيها إلى أصدقاء للشيوخ والنوَّاب الذين كانوا ينتشرون كلَّ مساء في مقاهي الأوبرا وشارع عماد الدين.

ولقد كانت هذه هي أول مرة أدخل فيها مثل هذه المقاهي الأنيقة، بزبائنها الأثرياء جدًّا، بجرسوناتها الخواجات، بسهراتها التي يخسر فيها عمد الأرياف مئات الجنيهات كلَّ ليلة في لعب الطاولة، ولقد كنت أظن حتى هذه اللحظة أن روَّاد المقاهي كلهم من الصيع، وكلهم من المقاطيع، حكمة أزلية استقرَّت في نفسي، ربما من خلال رأي أمي في المقاهي وروَّادها وفي أول جلسة اكتشفت كم كانت أمي ساذجة وكم كانت عديمة الخبرة.

ها هم ذوات البلد جميعًا يُنفقون وقتهم في المقهى يلعبون الطاولة ويشترون أغلى وأندر الأشياء دون أن يتحرَّك الواحد منهم خطوة، ولقد استرعى انتباهي هذا العدد الهائل من باعة المانجو والفستق والبطارخ والبطيخ الشليان الذين يقتحمون المقهى كلَّ لحظة، وكانوا أصحاب فطنة، فرغم جلوسنا إلى جوار هؤلاء البهوات فإن أحدًا من هؤلاء الباعة لم يعرض علينا بضاعته، وكان البائع الفَطِن يتجه مباشرة إلى البيه الذي معنا وكان البيه يكتفي باختلاس نظرة إلى البضاعة فإذا أعجبته غمز له بعينه، وكان البائع يفهم الغمزة فيضع البضاعة جانبًا ويحاسب الجرسون، ويمضي!

ولقد أحببت هؤلاء البهوات في أول لقاء وتمنَّيت أن أعيش معهم، وفي آخِر لقاء علمت أن أمي من فلاسفة العصر، وأن هؤلاء البهوات مجرَّد صياع مثل روَّاد قهوة أمين في الجيزة مع فارق واحد، وهو أن هؤلاء الصياع أغنى!

ولقد كان موسم القطن ناجحًا وحركة انتعاش كبرى شملت كلَّ شيء في البلاد، وانتشرت البدل الشاركسكين البيضاء، وكثر عدد مدخني السيجار وانتشرت نوادي القمار، وانتعشت البارات وأصبح شارع عماد الدين مثل الحريقة الوالعة، وكل الناس سكارى بالفلوس والفن والانبساط الذي ليس بعده مطلب.

وكان ملك البلاد قد خرج من مصر باسم مستعار يلفُّ شواطئ أوروبا ويستدعي الوزراء ليقسموا اليمين بين يدَيه السمينتين، وقانون أخبار القصر يلقى معارضة شديدة، والأزمة تغلي بالغضب وليس بالثورة، وعشرات الصحف خرجت فجأةً كلها تلعن وتسب في النظام الذي كان قائمًا تلك اللحظة، ولكن الأحوال رغم ذلك كانت عال والأشيا كانت معدن والناس كانت عايشة.

وفجأةً، وقف مصطفى النحاس في البرلمان ليعلن على الشعب نبأً هزَّ مصر كلها هزًّا، وتحكَّمَ في مصيرها لسنوات طويلة قادمة … وقلب كل شيء في البلد رأسًا على عقب، وهزَّ كلَّ ركن حتى المقاهي المنتشرة في شارع عماد الدين وفي الأوبرا.

كان الخبر … إلغاء معاهدة ١٩٣٦، ولم تكَد تمر لحظات على بيان النحاس حتى خرجت المظاهرات في الشارع … واصطدمت مظاهرة بدورية بريطانية في الإسماعيلية، وسرعان ما انطلقت الرصاصات، واشتعلت النيران، وسقط الشهداء وأصبحت مصر في ثورة.

وذات مساء قُدِّر لي أن أستقل آخِر قطار غادر محطة مصر إلى السويس في رحلة صحفية، ولكن لم أعُد من السويس إلا بعد ذلك بأربعة شهور كاملة … ولقد كان وقتًا قصيرًا كالحلم، ولكنه كان كافيًا لأن أرى بوضوح شكل المأساة بلا رتوش، وقبح الأحوال بلا تزويق، وأن أشم رائحة العفن بلا كمامة، وأن أضع يدي على الجرح المفتوح الذي راح ينزف بلا انقطاع حتى تقطَّعَت أنفاس مصر ليلة ٢٦ يناير المشهور.

ولكن هذه الرحلة الغريبة التي قطعتها في قطار يزحف كالدودة في الصحراء ذات مساء ملتهب من شتاء ١٩٥١ إلى السويس ستكون هي رحلة العمر كله، ها أنا ذا صحفي محترم في طريقي إلى عمل خطير المسئولية في رحلة خطيرة الأهمية ذات وضع خاص بين كل فترات التاريخ، وفي القطار ضباط بوليس في طريقهم لقيادة المعارك، وعساكر بلوكات نظام لا تدري من الأمر شيئًا، ولكنها تنفذ أمرًا صدر إليها بالتحرك إلى السويس، عساكر بطاسات صفيح وعصي خشبية وبلا سجاير ولا نقود.

وفجأةً توقَّف القطار بعنف واهتزَّ بشدة، وانكفأنا جميعًا على وجوهنا ثم قفز البعض ينظر من النافذة يستطلع الأمر، وقبل أن نلتقط أنفاسنا صعد إلى القطار فصيلة عساكر إنجليز بمدافع وأوامر واستسلمنا جميعًا للأمر الصادر إلينا، رفعنا أيدينا فوق رءوسنا وبدأ التفتيش في حقائبنا وفي جيوبنا، ولو استطاعوا لفتَّشوا في عقولنا.

لم يكُن التفتيش جادًّا بالنسبة لنا نحن ركاب الدرجة الأولى وبدا واضحًا أن الإنجليز لا يقصدون إلا إهانتنا وجرح كبريائنا، أما أمتعتنا وحقائبنا فلم تمتد إليها يد!

ولكن الوضع تغيَّر تمامًا عندما اقتحم العساكر الإنجليز عربات الدرجة الثالثة، قضوا فيها ساعات طويلة يفتِّشون كلَّ شبر وكلَّ ركن، وحتى الأجسام فتَّشوها وأجبروا الصعايدة على خلع ملابسهم، وعندما رفض أحدهم تنفيذ هذا الأمر، ضربه عسكري إنجليزي طويل كالنخلة بمؤخرة البندقية على رأسه فسقط مغشيًّا عليه، وبعد ساعات طويلة مريرة، سمح الإنجليز للقطار بالتحرُّك إلى السويس.

كانت المدينة هادئة تمامًا، لا صوت ولا حتى همس، وكل شيء يبدو مكانه كما كان منذ عشرة أعوام عندما اخترقت شارع النمسا في ذلك الوقت المتأخِّر من الليل في طريقي إلى لوكاندة فؤاد، ولم يكُن في لوكاندة فؤاد إلا سرير واحد في حجرة مشتركة ينزل فيها «رجل عجوز» على حدِّ تعبير حارس اللوكاندة ولم أستطع رؤية الرجل العجوز شريكي في الحجرة؛ لأنه كان لحظة اقتحامي الغرفة يغطُّ في نوم عميق ولأني كنت حديث العهد بالنزول في اللوكاندات، ولأنها كانت أول مرَّة في حياتي أسافر فيها إلى بلد بعيد لأقيم فيه فترة طويلة، فقد أطفأت النور ونمتُ دون ضجة، ولكنني لم أستطع أن أغمض عيني إلا عندما لاحت تباشير الصباح، وتصاعدت أصوات الديكة من أسطح البيوت القريبة!

وعندما فتحت عيني كانت الشمس تتوسَّط السماء، والجو بديعًا للغاية وحركة المرور في الشارع تحدث ضجة شديدة، وأصوات الباعة والزبائن تختلط وتتشابك، ولم يكُن يبدو على الشارع أن حركة غير عادية تجري حول المدينة، وارتديت ملابسي على عجل ونزلت إلى المحافظة لأسأل عن حقيقة الأحوال، وأدهشني أن كل شيء هادئ وعادي، واستقبلني المحافظ في مكتبه الفاخر وراح يتحدَّث عن التدابير التي اتخذها لمواجهة الموقف، ثم تحدَّث عن تكهُّناته بالنسبة للمستقبل، ومع ذلك لم أخرج من حديثه بشيء.

وعندما استأذنت في الانصراف سألني وأنا عند الباب: إن شاء الله الحديث بتاعي هيُنشَر امتى؟

ولم يكُن في نيتي نشر حديثه؛ لأنه كان غير ذي موضوع ومع ذلك طمأنت سيادة المحافظ إلى أن حديثه سيُنشَر في القريب.

عندما عدتُ إلى حجرتي في اللوكاندة بعد جولة سريعة في المدينة، وجدتُ الرجل العجوز في الحجرة منهمكًا في الكتابة، وكانت فرحتي عظيمة عندما عرفتُ أنه صحفي، وأنه موفد من جريدة الأهرام لمتابعة الأحوال في المدينة، وكان هذا أول لقاء لي مع حامد عبد العزيز وتوطَّدَت الصداقة بيني وبينه بعد ذلك، وقضينا معًا وفي غرفة واحدة أربعة أشهر كاملة كانت أخصب وأعظم فترة في حياتي … واكتشفت أن حامد عبد العزيز فنَّان هجر الفن إلى الصحافة، وأنه بدأ حياته عاشقًا للمسرح، وكتب عدة روايات مُثِّلَت على مسارح القاهرة، وأنه دارس للأساطير الشعبية وأنه قارئ ممتاز وذوَّاقة للأدب والفن، ولكن الحياة جرفته، ومهنة الصحافة أكلت مواهبه كما تأكل الدودة لوز القطن، وأنه رغم كل شيء سعيد وغير نادم، وأن هدفه الوحيد في الحياة هو رعاية أبنائه فقد كان يحبهم إلى حدِّ الجنون!

كان قد مضى على وجودي خمسة أيام عندما طرق الفرَّاش حجرة اللوكاندة في الساعة الثالثة بعد الظهر ليبلغني أن شخصًا ما يبحث عني ويريد مقابلتي ولم يكَد الفرَّاش ينتهي من كلامه حتى اقتحم الحجرة رجل في الخامسة والثلاثين من عمره يرتدي جلبابًا فاخرًا ويلف لاسة حريرية حول عنقه ويضع عمامة على رأسه، ويدس يديه في جيوب الجلباب.

وألقى علينا التحية وصافحنا في ثقة زائدة وضغط على يدي حتى كدتُ أصرخ ألمًا، وقال وهو يقدِّم نفسه: محسوبكم عبودة.

كان عبودة متين البنيان، عيناه واسعتان حادتان كعيني صقر، ولونهما في لون العسل المخلوط بالطحينة، وله شارب نافش ومرفوع من الناحيتين وفي وجهه آثار كدمات قديمة وجرح حديث العهد، وبعد أن مسح بيده على شاربه، قال في هدوء: أنت السعداوي ولا مؤاخذة؟ صحَّحتُ له الاسم واندهشت لكلمة لا مؤاخذة التي أرفقها بسؤاله، وهل اسمي فيه عيب يستوجب ألا يؤاخذ الإنسان مَن ينطقه؟!

وقال عبودة وهو يتفحَّصني وقد بدا عليه الازدراء لضآلة حجمي: هوه انت بتاع الصحافة؟

ولما أجبت بالإيجاب، قال على الفور كأنه أمر يصدره ولا يقبل المناقشة: طيب قوم معايا.

مرَّ عبودة وأنا خلفه بجوار حلقة السمك ثم تعدَّاها وعبَر خرابة مهجورة تنضح بالقذارة ثم اقتحم بوابة من الصفيح الصدئ واجتاز باحة تنشع من باطنها المياه القذرة، ثم طرَقَ على باب عشة وصرخ بأعلى صوته عدة مرات … ثم سحب مقعدًا وجلس أمام العشة ودعاني للجلوس، وعلى الفور خرج عدة رجال من العشة الصفيح وضربوا تعظيم سلام لعبودة وصافحوني جميعًا، ثم الْتَفتَ عبودة نحوهم في لهجة آمِرة: البسوا وامسكوا سلاحكم عشان اللفندي هيكتب عنكم!

ودخل الرجال إلى العشة ثم عادوا وقد ارتدوا ملابس حربية واصطفوا في هيئة طابور عسكري ومعهم مدافع سريعة الطلقات … أدوا التحية العسكرية للقائد الذي هو عبودة، ثم هتفوا هتافًا عاليًا لم أتبيَّن معناه … وبعد أن انتهوا من جميع المراسيم نظر عبودة نحوي في خيلاء وأشار نحو رجاله وقال: دول وحوش الجبال … اكتب بقى على كيفك من غير مؤاخذة!

وابتسمت لعبودة ولم أتكلَّم، وعلى الفور ضرب عبودة يده في جيبه وأخرج ورقة بنص جنيه وناولها لواحد من وحوش الجبال وقال في حزم شديد: هات لنا سمك حفار علشان نتغدى، وقبل أن يهم الرجل بالانطلاق قال: بس خد معاك مدفع.

وراح عبودة يوزِّع المسئوليات على رجاله، روح انت هات عيش وفجل … وانت هات لمون، وانت هات جبنة اسطمبولي، وكان يأمر كل واحد منهم … بس خد معاك مدفع، وعندما انصرف الرجال سألت عبودة … همه الرجالة رايحين جنب المعسكرات؟ ولمَّا أجاب بالنفي سألته: طيب وليه ياخدوا معاهم مدفع؟ وقال وهو يغمز لي بعينه: عشان يتوصوا، أصل دي عالم تخاف متختشيش. وفجأةً صفَّق عبودة بيديه وحضر رجل عجوز محني الظَّهر، وسرعان ما غاب داخل العشة عندما طلب منه عبودة أن يجهز المسائل، ثم عاد ومعه جوزة ومنقد وورقة معسل من أفخر الأصناف، وضرب عبودة أصابعه الخمسة في العمامة وأخرج لفافة من الورق السوليفان وفضها بسرعة ثم أخرجَ من الورق قطعة حشيش قضمها بأسنانه وشمَّها بمزاج، وقال وهو يمصمص بشفتَيه: أحسن صنف واللي خلق الخلق … دلوقت هنشرب حاجة نضيفة!

وراح عبودة يحكي وهو يسوي قطع الفحم المشتعلة عن كفاحه ضد الإنجليز في القناة، ويروي تاريخ حياته كله وأعماله البطولية التي سيذكرها التاريخ بدون جدال … وعندما انتهى من سرد قصته الطويلة سألته: وعملتوا عمليات ضد الإنجليز؟ ورد في هدوء: لسة!

وقلت له وأنا أتفرَّس المكان كله: أمال امتى هتطلعوا؟ وأجاب في هدوء أشد: لمَّا القمر يغيب.

ونظر إليَّ نظرة فاحصة وقال وعيناه مصوبتان في عيني: أنا تشوفني طول ما القمر طالع … لمَّا القمر يروح، ما تشوفنيش، هابقى في الجبل من غير مؤاخذة … وهاشيِّب الإنجليز واللي خلق الخلق، عليَّ الحرام من بيتي ما هاسيب إنجليزي واحد في بلدي … يا خبر أسود يا جدعان، ثم سحبَ عبودة مسدسًا ضخمًا كان يُخفيه في طيَّات ملابسه وأطلق عدة طلقات في الفضاء!

جاء الرجال من الخارج وأكلنا حتى شبعنا، وكانت الكميات المطروحة أمامنا تؤكِّد بُعد نظر عبودة.

فقد بذل الباعة بسخاء من أجل خاطر المدفع الذي حمله كل رجل وهو في رحلة البيع والشراء!

ولقد مضت أيام طويلة بعد ذلك، وغاب القمر وطلع القمر أكثر من مرَّة، ومع ذلك لم يختفِ عبودة، ولم يلجأ للجبال! ظلَّ مكانه في الخرابة إلى جانب عشة الصفيح يدخِّن الحشيش ويأكل السمك الحفار ويستعرض جيشه داخل الخرابة، ولم يكُن في السويس أي نوع من أنواع الحركة ضد جيش الاحتلال، وكانت الحياة تدور داخل المدينة بشكل عادي دون أي تغيير! الرجال يشربون الشيشة على المقاهي، والإنجليز يُطلقون النار على الناس حول السويس.

وذات جلسة مع حامد عبد العزيز في اللوكاندة اتفقنا على أنه ما دامت المعركة لم تنشب بعد في المدينة فلا أقل من أن تنشب على صفحات الجرايد، وفعلًا بدأت المعركة الصحفية عن أعمال وهمية للفدائيين داخل السويس، وهجوم مسلح في الخيال على معسكرات الإنجليز في الصحراء، وارتفع التوزيع فأغرى عددًا كبيرًا من الصحف إلى سلوك نفس الطريق، وبدأت المعركة تأخذ طريقها على صفحات الصحف حتى بلغ عدد القتلى الإنجليز عدَّة ألوف يزيدون قليلًا عن عدد الجنود الموجودين فعلًا في منطقة القناة!

ونشطت الصحف في هذا الاتجاه وتطورت إلى شيء مضحك، عربة كرنب تنسف معسكرًا! قطط مشتعلة بالنيران تقتحم معسكر الطيران في الشلوفة وتحرق جميع الطائرات!

وفجأة دخل علينا في الليل رجل يبدو عليه الأدب الشديد يرتدي بنطلونًا أصفر وقميصًا من نفس اللون ويرتدي نظارات شنبر … ودعانا الرجل في أدب جم لمقابلة الصاغ عبد الجبار قائد كتيبة أحمد عبد العزيز، وكدت أرقص من شدة الفرح ها هي الكتائب بدأت تفد على السويس، كتائب محترمة وقادمة من القاهرة من أجل الكفاح! سنسمع طلقات الرصاص إذَن، وسيسقط العشرات قتلى من جنود الاحتلال!

كان الصاغ عبد الجبار يجلس في بهو فندق بلير، ولم يكُن يرتدي زيًّا عسكريًّا، ولكنه كان يبدو في بنطلونه وقميصه والبلوفر الأزرق كأنه طالب جامعي على وشك التخرُّج!

وخلال الحديث الذي امتد ساعات اكتشفنا أن حضرة الصاغ لم يدخل الجيش في حياته ولكنه كان متطوعًا في حرب فلسطين وأنه أنعم على نفسه بهذه الرتبة وهو في طريقه إلى السويس، وأن معه مجموعة من الرجال أغلبهم كان متطوعًا في حرب فلسطين، وأنهم جميعًا على دراية بحرب العصابات، وقبل أن ننهض عند منتصف الليل قال عبد الجبار … بس أنا عاوز الصحافة تساعدني عشان نجمع شوية فلوس! ولم نفهم العلاقة بين الكتيبة والفلوس … ولكن عبد الجبار تولى توضيح المسألة بنفسه: عاوزين نشتري سلاح ومهمات!

أثار حضور كتيبة أحمد عبد العزيز غيظًا شديدًا لدى عبودة ورجاله … وحضر عبودة في اليوم التالي وهدَّد باتخاذ إجراءات عنيفة ضد كتيبة أحمد عبد العزيز … وقال وهو يلوِّح لنا بقبضة يده … إيه الحكاية؟ هيه السويس ما فيهاش رجالة ولَّا إيه؟ عليَّ الحرام ما حد يكافح إلا احنا؟ وبدا لي عبودة يائسًا ومنهارًا ومتغاظًا ولا شيء بعد ذلك.

هذا الفحل الرهيب الذي بدأ حياته حارس مرمى في أحد نوادي السويس ثم عسكري مطافي ثم مقاول لم يلبث أن فشل عند أول عملية قام بها لبناء عمارة، ثم قائدًا لكتيبة وحوش الجبال … وقف حائرًا وسط الغرفة وبصره يتسكَّع على وجوهنا يريد أن يستشف حقيقة موقفنا من الكتيبة الجديدة، وفجأة صرخ في وجهي … لازم تكتبوا حاجة عن الكتيبة بتاعتنا من غير مؤاخذة إحنا هننسف خط سكة حديد الليلادي!

احتدمت المنافسة بين الكتيبتين في السويس على جمع المال والتقرُّب من نائب سابق كان أقوى وأهم رجل في السويس تلك الأيام، وكان نائب السويس الوفدي تاجرًا طيبًا ومنهارًا أغلق باب بيته على نفسه وترك الأمور تسير كما تشاء، وانفرد النائب السابق بالأمر، وراح يجتمع كلَّ مساء بالفدائيين في فندق بلير ثم يسهر مع أصدقائه يلعب القمار داخل الفندق حتى الصباح.

وكان النائب إياه لونًا فريدًا من الرجال، كان يسهر كلَّ ليلة حتى الصبح قبل أن تتطوَّر الأمور إلى ما انتهت إليه مع ضباط الجيش الإنجليزي وكبار المسئولين في المحافظة، وكان يربح الألوف وينفق الألوف، وكان شعاره: اشترِ الرجال بالمال، ولم يحدث أن فشل قط في تطبيق هذا الشعار، وكانت أعماله مرتبطة ببقاء الإنجليز في المنطقة، وعندما تطوَّرت الأمور إلى الثورة المسلحة ألقى بنفسه في أحضان الفدائيين، يمدهم بالمال والسلاح ولكن بشرط أن ينفذوا تعليماته وأن يأتمروا بأوامره!

وأصبح زكي — وليس هذا اسمه — هو محور الكفاح والنضال في السويس، ولقد كان لقائي به أول مرَّة، ذات مساء في فندق بلير، عندما هجم علينا الجرسون يحمل ثلاثة أقداح ويسكي على حساب زكي بك الذي أقسم أن نشرب على حسابه حتى الصباح، ولم يلبث أن انتقل بنفسه إلينا، وجلس معنا يتحدَّث طول الليل عن موقفه من المعركة ثم رأيه فيما ينبغي أن تكون عليه الأحوال، وكان رأيه أن الإنجليز أساتذة في السياسة، وعلى مَن يريد أن يحاربهم أن يستخدم هذا السلاح، وأن الثورة المسلحة ضد الإنجليز لن تؤدِّي إلى شيء إلا الفوضى والخراب، وغمز حكومة الوفد القائمة وقتذاك ولمَّح بالفساد والرشوة المتفشية في أنحاء البلاد، وحوَّل المسألة من حرب تحرير إلى كفاح ضد الفساد.

وقبل أن ننهض لننام قال كأنه يتوسَّل: خدوا بالكوم من الواد عبودة، دا عبودة زعلان قوي، لازم تكتبوا عنه كلمتين! وكانت هذه أول إشارة إلى أن هناك علاقة ما بين عبودة وزكي بك ولكن ما هي حقيقة العلاقة؟! علم ذلك عند علَّام الغيوب.

ولقد أصبحت منطقة القناة مسرحًا لنشاط الغالبية العظمى من الصحفيين بعضهم اجتذبته المعركة ليفوز بزجاجات الويسكي الرخيصة، وخراطيش السجاير الأرخص، وبعضهم جاء ليحقِّق على الورق بطولات وهمية، وكانت حصيلة المعركة في النهاية ٨٠٠ قتيل وعدة ألوف من الجرحى ولم يُخدَش صحفي واحد مع أنهم جميعًا كانوا على مقربة من المعارك وكانوا مع الفدائيين وسط الحديد والنار!

ولكن قبل أن تحترق القاهرة وقعت فتنة في السويس كادت تؤدِّي إلى كوارث رهيبة، واتفق الصحفيون جميعًا على عدم نشر أي شيء حول الموضوع، ولكن المصوِّر نقضت الاتفاق ونشرت الموضوع كاملًا بالصور، هل كان الأمر مصادفة؟ أنا أقول لا، بل كان الأمر متفقًا عليه، ولعبت مجلة المصور هذا الدور الغريب، ولكن الأمور — لحسن الحظ — مضت في هدوء … وصحيفة أخبار اليوم أيضًا نشرت قبل أن تنتهي المعركة بأيام قصة جلالة الملك المُفَدَّى الذي كان يتمنَّى أن يهب المعركة بعض أبنائه، ولمَّا كان لا يملك أبناءً يُقدِّمهم للمعركة، فقد اكتفى بتقديم عدَّة آلاف من الجنيهات، ووزعت أخبار اليوم المبلغ على عبودة وكتيبة أحمد عبد العزيز وبعض اللصوص وتجَّار الحشيش في القناة.

ثم احترقت القاهرة، وتوقفت المعركة في السويس واضطررت إلى الإبحار من السويس على ظهر المركب تالودي ولم أغادرها إلا في الإسكندرية، والسبب أن زكي بك وعصابته اتفقوا مع ضابط كبير بسلاح الحدود على قتلي في الطريق الصحراوي، وفي ليلة ١٨ فبراير عام ١٩٥٢ صعدت على ظهر المركب تالودي القادمة من عدن، وكان معي كامل سالم مأمور السويس والصاغ زكي جبران واليوزباشي محمد عسل قائد بلوكات النظام، ولم يغادروا المركب إلا بعد أن تحركت ودخلت قناة السويس واطمأنوا إلى أنني قد أصبحت بعيدًا عن قبضة زكي بك وعصابته.

عندما عدت إلى القاهرة قادمًا من السويس كانت أغلب الصحف الوطنية قد توقفت عن الصدور، وكان أغلب كتَّاب هذه الصحف في السجون والبعض الآخَر يطارده البوليس السياسي، ومصر كلها تنام من المغرب بالأمر، والرصاص الشارد يدور في سماء المدينة حتى الفجر، وحصل الصحفيون وأنا منهم على تصاريح بالتجوُّل في الليل.

وكانت فرصة ليجتمع أصحاب التصاريح في دار النقابة ليلعبوا القمار للفجر … وبالرغم من ذلك فلا بد أن نذكر للحقيقة والتاريخ أن الصحف رغم ضعفها فقد استطاعت خلال عامي ١٩٥٠ و١٩٥١ أن تدق آخِر مسمار في نعش العهد الملكي، فقد تقدَّم عدة أفراد يحملون المعاول وهات يا هدم في النظام القائم، فتحي رضوان وأحمد حسين وإحسان عبد القدوس وأحمد أبو الفتح وأبو الخير نجيب وإبراهيم شكري وحلمي سلام، وخلال تلك الفترة أيضًا نشر مأمون الشناوي زجله الشهير:

يا ترسملونا يا تبلشفونا
يا تموتونا وتخلصونا
ملعون أبوكو على أبونا
إحنا اللي نشقى
ونبص نلقى
خراب وسرقة
من عند برقة
لحد سينا

وفي تلك الفترة أيضًا نشرت كلمة قصيرة في مجلة الملايين عن حيدر باشا قائد عام الجيش المصري وقلت فيها بالحرف الواحد: «ويضعه الخبراء العسكريون على رأس جنرالات الحرب في العالم وعلى رأسهم جنرال موتور وجنرال إليكتريك.»

ولكن ذلك العهد الذهبي للصحافة كان قد انتهى إلى الأبد، وأصبحت الصحف تحت الأحكام العرفية حافلة بالكلام الفارغ، وانتعشت دار الهلال؛ لأنها لا تنتعش إلا في ظل الرقابة والحكم العرفي، وانتعشت الأهرام أيضًا لأنها كانت دائمًا على الحياد بين الشعب والحكومة، وبدا واضحًا أن أخبار اليوم على صلة وثيقة بالحكم الجديد وهي التي رفعت شعار التطهير، وهو الشعار الذي جاء بالهلالي باشا إلى لاظوغلي … مقر رئيس الوزراء.

هكذا كانت الحياة تغلي في البلاد بينما مجلة النداء تنام في وادٍ آخَر بعيد.

المرتبات أصبحت تتعثَّر كأنها سيارة تمضي على طريق صعب مليء بالحفر والمطبات، ثم راحت تتضاءل كأنها غيط قطن نزلت عليه الدودة. وتولى منصب مدير التحرير فيها صحفي داعر اقترح، ضمانًا للسلامة، وحتى تتكشف الأمور، إصدار أعداد خاصة عن المدن الهامة في مصر، لتكون وسيلة للحصول على أكبر عدد ممكن من الإعلانات، ووقع الاختيار على العبد لله للسفر إلى بور سعيد مع مندوب إعلانات اسمه عبد البصير. وكانت مهمتي هي تحرير موضوعات عن الميناء وقناة السويس ومراكب الصيد وشاطئ بور سعيد بينما راح عبد البصير يسرح في المدينة لجلب أكبر عدد ممكن من الإعلانات والفلوس.

وبدلًا من أن نقضي عشرة أيام كما اتفقنا … قضينا شهرًا كاملًا على الشاطئ نأكل الكابوريا والسمك المشوي، ونستحم في البحر وننفق عن سعة كأننا من أفراد عائلة المرحوم أغاخان.

كان عبد البصير هو المسئول المالي عن الرحلة، الحق أنه كان كريمًا إلى حدِّ السفه، وكان ينفق بجنون كأنها آخِر رحلة لنا في العمر … ولم أسأله أنا عن مصدر الفلوس ولم أهتم بهذا الموضوع على أي نحو!

وكان عبد البصير نموذجًا غريبًا في دنيا الصحافة. كان مدرسًا إلزاميًّا في إحدى قرى المنوفية قبل أن يهجر قريته ويلتحق بوظيفة مندوب إعلانات بمجلة النداء، وكانت واسطته نائب وفدي طيِّب اسمه أبو العينين جعفر (رحمه الله) وكان عبد البصير يدق عصفورة على صدغه الأيمن، وأشجارًا ونخيلًا على كف يده، وكان شديد الذكاء يعرف كيف ينفذ إلى قلب العميل ببساطة. وكان يدعي أمام زبائنه من التجار والبقالين أنه عليم ببواطن الأمور، وأنه وثيق الصلة بفؤاد باشا، وأن زكي العرابي باشا لا يأوي لفراشه قبل أن يتحدَّث معه بالتليفون.

ولقد تعرفت من خلال عبد البصير إلى رجل ثري في بور سعيد اسمه الأيوبي، كان سمينًا وطيِّبًا وجاهلًا بدرجة ليس لها مثيل.

وعندما جلسنا مع الأيوبي على رصيف عمارته الجديدة، زف إلينا بشرى ترشيح نفسه في الانتخابات القادمة، ولما زف إليه عبد البصير التهاني بالنجاح والفلاح والنصر المبين إن شاء الله قال الأيوبي حزينًا: بس النحاس باشا مش راضي، غضبان عليَّ … أنا قلت أنا مستعد أدفع خمسة آلاف جنيه بس يسيبوني أترشَّح! وحدق عبد البصير في الأيوبي ولم يتكلم، رفع يديه إلى أعلى وقرأ الفاتحة قال عبد البصير للرجل، الحكاية دي خليها عليَّ، النحاس باشا مش هيمانع، بس ما تجيبش سيرة لحد!

وعقَّب الأيوبي الطيب: إيه … هو أنا عبيط أجيب سيرة لحد؟!

ونهض على الفور ونادى على أحد الخدم وأمره بأن يحضر الخروف والجزار في الحال، وأقسم أيضًا يمينًا أنه لا بد أن يذبح الخروف من أجل خاطر عبد البصير … وجلسنا في المساء حول وليمة فاخرة وزجاجات الويسكي بلا حساب رغم أن الأيوبي لم يكُن يشرب، ولكن ولد خلبوص كان يعمل مستشارًا عنده اسمه جودة هو الذي همس في أذنه بأن البهوات — عبد البصير وأنا — لا بد أن نشرب الويسكي مع الطعام.

وفي نهاية السهرة كان عبد البصير قد حصل على إعلان بألف جنيه … ومائة جنيه فكَّة لعبد البصير شخصيًّا عربون المساعي الحميدة التي سيقوم بها لدى رفعة الباشا لتذليل كل الصعاب التي تعترض ترشيحه.

ولكن خلال هذه الفترة التي قضيتها في بورسعيد وقع بصري على شيء غريب ورهيب، مراكب ضخمة تعبر قناة السويس من ناحية الشرق، وعليها عساكر فرنسيين جرحى وفي حالة يُرثى لها قادمين من الهند الصينية … ومع هؤلاء العساكر … عساكر عرب من المغرب والجزائر وتونس، أحيانًا يهربون من المراكب ويلجئون للسلطات. ولكن السلطات تسلِّمهم مرة أخرى للمراكب … باعتبارهم جنودًا فرنسيين هاربين من الخدمة، مع أنهم عرب أولاد عرب، أحفاد عرب، ومن دين محمد عليه الصلاة والسلام.

ولقد هرب أحدهم وأنا هناك واسمه عبد الرحمن، كان قبل تجنيده أستاذًا في جامعة باريس، وعندما نشرت قصته رفضت حكومة مصر تسليمه واشتغل أستاذًا في جامعة القاهرة.

وعدت إلى القاهرة بعد شهر حافل بالمتعة والراحة، وعكفت بعيدًا مشغولًا ومطهومًا بكتابة الموضوعات عن بورسعيد.

وفجأةً، علمت أن الرجل الطيِّب عاد من الهند، وأنه عاد مريضًا وحزينًا ومفلسًا وقلقًا على مستقبله كصحفي ابتعد عن الجو عدة أعوام.

وعندما زرته في بيت بعض أقاربه وكان قد لجأ إليه حتى يتقرَّر مصيره، راح يحدثني كالمسحور عن عالم الهند الغامض الساحر الفقير العجيب، مصر بمشاكلها وفقرها لا تساوي قطرة في محيط المشاكل التي تزخر بها الهند، وعلى مَن يريد أن يكتشف روح الإنسانية وأن يقف بنفسه على مأساة العصر أن يذهب إلى الهند ويتفرَّج بنفسه على ما يدور هناك.

وسحرني حديثه عن الهند وتمنَّيت أن أذهب مثله إلى هناك، ثم حدَّثني عن الفن وعن الأدب وعن السياسة، معركة القناة هي أشرف نقطة في تاريخ مصر الحديث! العالم كله كان يتابع أنباء المعركة لحظة بلحظة.

كم كان الرجل فخورًا كمصري ورصاص الفدائيين يخترق سماء الشرقية والسويس.

هكذا كانت الصورة في الخارج إذَن … يبدو أن الصورة في ذهني كانت باهتة لأنني كنت داخل البرواز، لأنني رأيت عبودة والأسرى الثلاثة وأفراد كتيبة وحوش الجبال.

هكذا الأشياء لا تبدو قيمتها إلا من بعيد، أو يبدو أنني لا أدرك قيمة الشيء إذا بدأ أي نقص فيه، وقلت للرجل الطيب كل شيء، تفاصيل الأحداث وتفاصيل المعارك والجهود الشريفة لعساكر البوليس وبعض اللصوص وبعض الرجال الطيبين مثل: سعد زغلول، فؤاد الصحفي، ومدحت عاصم الفنان ووجيه أباظة الطيار وبعض الطلبة الجدعان الذين حملوا السلاح ومضوا إلى خط النار، وهمست للرجل الطيب بأن في نيتي أن أكتب كل شيء، ولكنه نصحني ألا أفعل.

ستسكب حبرًا على الورقة البيضاء، وستضع حفنة تراب في إناء اللبن.

هكذا قال الرجل الطيب، سيأتي الوقت الذي يجب فيه عليك أن تكشف الستار عن كل شيء، ولكن عليك أن تكتشف متى يأتي هذا الوقت المناسب … فإذا أخطأت التقدير فسوف تخدم بكتاباتك قضية الرجعية والاستعمار.

لقد استمعت إلى نصيحته فلم أكتب حرفًا إلا بعد أن جاء الوقت المناسب، ولقد جاء الوقت المناسب أسرع مما توقَّعت.

كنت في المجلة في المساء وعبد البصير يحثني على الإسراع في الكتابة؛ لأن العدد الخاص على وشك الصدور.

وظللت أكتب حتى أُغمي عليَّ وخرجت من المجلة في منتصف الليل إلى البيت في الجيزة سيرًا على القدمين.

وعندما استيقظت من النوم كانت الساعة الحادية عشرة صباحًا وعلمت أن الراديو مقطوع ولا يذيع شيئًا منذ الصباح الباكر وأن إشاعة منتشرة في المدينة أن انقلابًا عسكريًّا قد حدث.

وارتديت ملابسي على عجل وخرجت مهرولًا إلى بيت طوغان، وكان عند طوغان عدد من الأصدقاء … لا أذكر منهم الآن إلا شقيقه صلاح والدكتور عبد المنعم عثمان المدرس بكلية الهندسة جامعة القاهرة.

وأكد طوغان الخبر ولكن بلا تفاصيل.

وفتحنا الراديو الميت على محطة القاهرة وجلسنا ننتظر، كانت الساعة الثانية عشرة ظهرًا واليوم ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢، وكان طوغان في السادسة والعشرين من عمره وكنت في الخامسة والعشرين إلا بضعة شهور، وكان الدكتور عبد المنعم عثمان في الرابعة والعشرين وعدة شهور، وكان صلاح طوغان في مثل سنه.

مجموعة شباب في عمر الورد، حيارى وسط أنواء السياسة المصرية، ضعاف بلا حول في مجتمع يدوس بقسوة على الضعفاء … غير مؤمنين بما هو كائن … ولكن ليس لدينا خطة بما ينبغي أن يكون.

خلاصة القول، إننا مجموعة من الوطنيين نحب الوطن المريض ولكن ليس لدينا وجهة نظر بشأن علاج هذا الوطن الذي أشرف على الهلاك المبين!

وفجأة … عادت الحياة إلى الراديو الميت. وانطلق صوت أنور السادات يعلن للناس قيام الثورة، وصرخت من أعماقي كالمجنون، وخلعت فردة حذائي وقبَّلتها من شدة السرور والحبور لماذا؟ وكيف؟ وإلى أين؟ أسئلة لم يكُن لها جواب في رأسي … ولم يكُن الجواب عنها مهمًّا على الإطلاق، المهم أن الأحوال قد انقلبت رأسًا على عقب، وهذا كل ما كنت أتمناه.

أهم من هذا أن أنور السادات هو الذي يذيع البيان، هذا الرجل الذي نعرفه! فقد كان يتردَّد على كازينو شهريار في الجيزة يشرب فنجانًا من القهوة مع صديق اسمه حسن عزت كان طيارًا في تلك الأيام.

وذات مساء حضر في ملابس مدنية وجلس مع طوغان ثم انضممت إليهما، وراح يتحدَّث عن الأوضاع في البلد، والجنون الذي يتخبط فيه النظام، ثم نهض وانصرف ونهضنا معه حتى ودعناه عند الباب، وسألت طوغان ونحن نجلس حول المائدة.

مش دا ضابط في الجيش؟ وأجاب طوغان بالإيجاب، فسألته: طيب أمال ليه بيقول الكلام ده؟ وكان غريبًا فعلًا أن يجاهر ضابط جيش بعدائه للنظام، وقال طوغان بطريقته وهو يضرب راحة يده الشمال بقبضة يده اليمين … يا بني لو حصل حاجة في البلد دي يبقى الراجل ده فيها … وضغط على «الراجل ده» بشدة!، ولم أهتم بكلمات طوغان كالعادة … ولكني عدت فتذكرتها تلك الساعة، وقمنا يعانق بعضنا بعضنا، ثم هرولنا جميعًا نحو الشارع.

وهكذا أصبحت مندوبًا للمجلة في القيادة العامة، فقد استقبل أصحاب المجلات الرجعية الحركة الجديدة بقليل من الترحيب وكثير من الحذر. وأرسلوا أقل المحرِّرين شأنًا ليتفاهموا مع حركة الضباط … ولما كان هذا الوصف — أقل المحرِّرين شأنًا — ينطبق على العبد لله، فقد أصبحت واحدًا من طقم مندوبي القيادة! ولما كانت مجلة النداء ليست في حاجة إلى أخبار! ولما كنت أنا الآخر لا أهتم بهذا اللون من العمل الصحفي على الإطلاق … فقد اكتفيت بالجلوس على باب القيادة أتفرَّج على الزوار المتردِّدين على مقر السلطة الجديدة، ولم يكُن جهلي بما يجري في داخل القيادة أقل من عدم اهتمامي بهذا العمل الجديد … فلقد كان محمد نجيب يبدو في الصورة على أنه زعيم الثورة، بينما كانت الشفاه تهمس بأسماء أخرى وتؤكِّد أن أصحاب هذه الأسماء هم القادة الحقيقيون للثورة.

ولكن أنا شخصيًّا كنت قد وصلت إلى قرار في هذا الشأن وهو أن أنور السادات هو زعيم الثورة، وهو الذي أذاع البيان، وهو الذي رأيته بعيني رأسي يجلس في كازينو شهريار يلعن سنسفيل جدود العهد البائد!

ويوم خروج الملك فاروق من مصر خلعت قناع الوقار الذي أرتديه أحيانًا كصحفي ووقفت أرقص عشرة بلدي في ميدان عابدين وسط الجموع الحاشدة، بينما كانت الدبابات تحيط بالقصر الملكي من كل ناحية، ولأول مرة أشعر أني لا أخشى الدبابة، لقد كان منظرها دائمًا يبث الرعب في نفسي، حتى يوم قيام الثورة شعرت بنفس الخوف وأنا أتجول في شارع قصر النيل؛ لأن الراديو كان قد حذر من التجمهر في الشوارع، وعندما نسينا هذا الإنذار في غمرة الفرحة ووقفنا أكثر من عشرين شابًّا تحت عمارة الإيموبيليا نتكلَّم بصوت عالٍ للغاية، اقتربت منا عربة مصفحة وأمرنا الضابط بالانصراف … وانصرفنا في سكون حتى انصرفت العربة المصفحة، ثم عدنا إلى التجمهر من جديد وفي نفس المكان. ولكن عسكري الدورية الطيب اقترب منا وقال في لهجة ناصحة «يالَّا يا فندي انت وهو ممنوع الجمهورية»!

كانت الثورة فرصة للعبد لله لكي يشرع قلمه من جديد ليكشف كل شيء دار في السويس خلال معركة القناة، وعندما عرضت لرجل هناك يُدعَى سيد السايس، وهو ثري أمثل بدأ حياته سائسًا في جراج ثم انتهى صاحب جراج ودار سينما ومتعهد للجيش البريطاني … كان يزعم أنه اشترك في المعارك عام ١٩٥١ وأنه وضع جميع سياراته في خدمة الفدائيين وكانت السيارات تدخل المدينة كلَّ يوم تحمل شحنات الأسلحة المهربة، هكذا كان سيد السايس يزعم، غير أن الحقيقة كانت عكس ذلك، فقد كانت سيارات السايس لا تحمل في الواقع إلا شحنات الحشيش! وفوجئت في العدد التالي لنشر الموضوع بخبر صغير في الصفحة الأولى «فصل محمود أفندي السعدني من وظيفته بالمجلة» هكذا تحوَّلت بخبر من سطرين إلى أفندي مفصول من وظيفتي بالمجلة! وعلمت بعد ذلك أن سيد السايس حضر من السويس ودفع ألف جنيه مقابل نشر إعلان وبشرط فصلي من المجلة.

وما كان أسهل الفصل في تلك الأيام! وبينما كان يلمع على سطح الحياة الصحفية عدة أفراد من الكتاب، كان يعاني المئات من المخبرين والمحرِّرين الصغار القلق والعذاب والطرد إلى الشارع وبلا مكافأة على الإطلاق، حتى مرتب الشهر الذي اشتغلته لم أقبضه!

وهكذا عدت والثورة لم يمر عليها سوى شهر واحد إلى الشارع عاطلًا مفلسًا ولكن بأمل جديد … إن الأمور لن تلبث طويلًا حتى تعود إلى الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن تكون عليه! ولمَ لا؟ وأنا من جيل الثورة … هؤلاء الكتَّاب الكبار تعفنوا تمامًا وتورطوا في النظام الملكي حتى أصبحوا جزءًا لا يتجزَّأ من النظام.

الصحفي الكبير الذي كان كل مجده في الحياة أنه يرافق جلالة الملك في رحلاته للخارج، والذي تلوك الألسنة سيرته على أنه كان يومًا ما عشيقًا لجلالة الملكة الأم! والصحفي الكبير الآخر الذي كان يجلس على مائدة الملك ليضحكه حتى يستلقي الملك على قفاه … والصحفي الكبير الثالث الذي أراد الملك أن يمزح معه فدفعه إلى حوض السباحة وهو في كامل ملابسه … ثم خرج من حمَّام السباحة يشكر جلالة الملك (!) على هذه اللفتة الكريمة التي خصَّ بها صاحبة الجلالة الصحافة دون سواها من الهيئات.

هؤلاء السادة أصبحوا جميعًا بهوات وباشوات وبعضهم يحمل نيشان محمد علي! لا بد أن الثورة ستنحِّيهم عن الطريق لتُفسِح لجيل العبد لله طريقه في الصحافة، والأقلام التي سبحت في بحر النفاق لجلالة الهلفوت الذي يتربَّع على العرش لا بد ستتوارى الآن خزيًا عن أعين الشعب!

ولكن … ما أغرب الحياة! نفس الأقلام هبَّت تقاتل مع مواقع الثورة وكأنها هي التي صنعت كل شيء! وراحت هذه الأقلام تكتب بشراهة عن مجون الملك وجنون الملك، والملك على الشاطئ الآخَر من البحر الأبيض المتوسط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤