١٣

قصة عبد العاطي في الصحافة تصلح للغناء على الأرغول، كفاجعة من فواجع العصر، وهي قصة أكثر إثارة من شفيقة ومتولي، وأعمق شجنًا من حسن ونعيمة، ولقد كان عبد العاطي رجلًا جهولًا لا يحتاج لكشفه إلى ذكاء كبير، كانت سحنته ولهجته ومنظره كله منظر قهوجي عاطل لا يصلح لشيء على الإطلاق، كانت الأحوال في مصر مضطربة، وكانت الثورة في بدايتها، وكبار الصحفيين في قلق على مستقبلهم، وصغار الصحفيين حيارى لا يدرون بالضبط ماذا ينبغي عليهم صنعه!

ولكن كيف دخل عبد العاطي … لا أحد يدري … المهم أنه أصبح محرِّرًا بثمانية جنيهات، وصفة محرِّر واسعة جدًّا على العمل الحقيقي الذي يقوم به، فقد كانت مهمة عبد العاطفي تلقي المكالمات التليفونية من مراسلي الجريدة في الأرياف … وكانت معظم الأخبار التي يتلقَّاها تأخذ طريقها بسهولة إلى سلة المهملات، وأحيانًا كان بعضها يأخذ طريقه إلى النشر، وحتى هذه لم تكُن تخرج عن دائرة الأخبار التافهة … سرقة ماشية من زاوية أبو جاموس، أو قتل مزارع في بني حسين والعثور على القاتل بفضل يقظة وخبرة وفن الكونستابل الممتاز علي أفندي عبده! هذه هي كانت مهمته بالضبط.

ولكن عبد العاطي كان طَموحًا إلى أقصى حدٍّ، ولكن طموحه الشديد للغاية لم يكُن يصل أبدًا إلى الحد الذي وصل إليه بالفعل، فقد راح يهمس باسم أحد ضباط المخابرات على أنه صديقه الأوحد … وأحيانًا كان يطلبه بالتليفون، وأحيانًا أخرى كان يرسل بعض التقارير إليه على مرأى ومسمع من الآخَرين.

وكان عبد العاطي حتى هذه اللحظة محتقرًا من الجميع … فلما شاعت قصته وذاعت، وعرف الجميع نبأ العلاقة التي بين عبد العاطي وضابط المخابرات العامة، ابتسمت له الوجوه التي كانت دائمًا عابسة، وضحكت الأفواه التي كانت دائمًا مطبقة، وامتدت إليه الأيدي التي كانت دائمًا منكمشة وممسكة … وأحيانًا كان رئيس التحرير ينتقل بنفسه إلى مكتب الأستاذ عبد العاطي ليسأله عن آخِر تطورات الأخبار في الريف.

وارتفع مرتب عبد العاطي فجأةً من ثمانية جنيهات إلى ثلاثين، وانتقل من مكانه الصغير إلى مكتب فخم، وترك ميدان الريف إلى مجال أرحب … مندوب متجول للجريدة في دوائر البوليس … واستطاع عبد العاطي أن يثبت جدارة وكفاءة في عملة الجديد، ووثق صلاته بضباط البوليس في الأقسام، وبالصولات وبالعساكر، وأصبح له نفوذ في مديريات الأمن درَّ عليه دخلًا لا بأس به عن طريق الإفراج عن المشبوهين والمقبوض عليهم للتحرِّي، ونقل عساكر البوليس من مكان إلى مكان آخَر، فقد كان عمله يسمح له بنشر صور كبار ضباط البوليس ونشر أسماء صغار الضباط الذين اشتركوا في ضبط مجرم هارب أو إطفاء حريق شبَّ في عشش الترجمان!

وتبدَّلت أحوال عبد العاطي فخلع البدلة القديمة، وأصبح يبدو كل مساء في بدلة جديدة، وعرف القمصان الحرير والزراير الذهب والكرفتات الأرجنس، بينما الحقيبة الجلد تتأرجح دائمًا في يده … واشترى سلسلة ذهب من الصاغة كان دائمًا يلوح بها وهو سائر في الطريق، وصفت الحياة لعبد العاطي وكان يمكن أن تصفو له هكذا على الدوام، لولا أن صراعًا رهيبًا كان يدور في الخفاء بين رئيس التحرير ومدير التحرير، وقد قرَّر كلٌّ منهما أن يخوض المعركة إلى النهاية، وأن يستخدم أي سلاح حتى يحقِّق الغاية المنشودة.

وتبارى الاثنان في كسب ود عبد العاطي، فهو صاحب نفوذ في دوائر المخابرات وهو يستطيع عن طريق التقارير أن يحسم المعركة لحساب أحد الطرفين في النهاية.

ولقد كان مدير التحرير الشاب الطامع والطموح أسرع في كسب ود عبد العاطي، وكان عبد العاطي صريحًا فأعلن انضمامه إلى مدير التحرير، وفعلًا انتقل بمكتبه إلى مكان قريب من مكان مدير التحرير وتحول من محرِّر إلى فرَّاش، إذا عطش مدير التحرير أسرع فأحضر له كوب ماء، وإذا نام وقف كالديدبان يحرس مكتبه حتى لا يدخله إنسان، وإذا عطس قال له: يرحمكم الله!

ولم يكُن مدير التحرير يطمع في كل هذا الولاء من جانب عبد العاطي، كان يطمع فقط في أن يقف عبد العاطي إلى جواره في المعركة الناشبة بينه وبين رئيس التحرير في التقارير بكلمة أو إشارة، ولكن عبد العاطي كان كريمًا إلى أقصى حد.

كان يجلس بالساعات يدوِّن أمام مدير التحرير كل حرف يقوله المدير في حق رئيس التحرير، هكذا دون مراجعة ودون اعتراض، ثم يضع التقرير في ظرف ويستأذن مسرعًا ليذهب إلى المخابرات.

كرم أخلاق من جانب عبد العاطي قابله مدير التحرير بكرم أكثر، فارتفع مرتب عبد العاطي إلى ستين جنيهًا، ستون جنيهًا — في هذه الأيام — مرتب أستاذ جامعي أصبح يلهفه كل شهر هذا الجاهل الأحمق المأفون!

واستشرى عبد العاطي كالسرطان في أنحاء الدار، يدفع المحرِّر — أي محرِّر — بكتفه أو يلزقه من باب الهزار، ويتلطع عند أبواب المكاتب ويسترق السمع كلما وجد أكثر من ثلاثة في اجتماع … كان يَعِد ويتوعَّد ويهدِّد وصوته أصبح أعلى من صوت مكنة الطحين، ودائمًا يدوي بين جدران الدار، ولكن رغم جلال عبد العاطي ودلاله كان يخشى العبد لله ويتحاشاه … وكان كلما الْتَقى بي مصادفة في الطريق ضرب تعظيم سلام، ليس كما يفعل الناس العاديون، ولكن على طريقة رجل الشرطة عندما يصادف ضابطًا في الطريق.

ولقد كنت أكرهه وأحتقره وأُبدي له في وجهه رأيي الصريح.

وذات مساء دخلت الجريدة منهكًا … فقد كنت قد انتهيت تلك الليلة من كتابة مذكرات زعيم شهير من زعماء العهد الماضي، كانت الجريدة تنشرها له على حلقات، ولمَّا كان الزعيم إياه ليس من محترفي الكتابة فقد توليت أنا صياغة المذكرات في الثوب الصحفي اللائق، وحمدت الله لأن هذا العمل الثقيل على نفسي قد فرغت منه إلى الأبد، ولم أكد أستقر على مقعدي حتى جاء الفرَّاش يدعوني لمقابلة المدير العام، كان رجلًا عفيًّا وجهولًا وعديم الخبرة بالصحافة، وناولني الرجل رزمة أوراق وقال في اختصار شديد وفي حزم أشد … خد مذكرات جديدة عاوزها تُنشَر من الأسبوع القادم … وقلت لا حول ولا قوة إلا بالله، أخرج من نقرة أقع في حفرة … يا للحظ التعيس على رأي يوسف وهبي!

وفوجئت وأنا أراجع رزمة الأوراق في مكتبي وكانت هذه المذكرات بعنوان «أسرار الثورة المصرية، حقوق الطبع والامتياز محفوظة للأستاذ عبد العاطي … المحرِّر الصحفي».

إذَن هي مذكرات عبد العاطي … يا للعار! والمذكرات بالطبع كلام فارغ في فارغ وهرش مخ أزلي ونصب واختلاق وكذب ليس له مثيل! لكن كيف العمل؟ وما هي الوسيلة لإفساد خطة عبد العاطي؟ خصوصًا أن المدير العام موافق على نشر المذكرات!

لم يكُن هناك جدوى من التفاهم مع مدير التحرير ولا مع المدير العام … كان لا بد من طريق آخَر لوقف نشر المذكرات … كان لا بد من فضيحة.

استدعيت عبد العاطي إلى مكتبي وارتديت قناعًا رسميًّا للغاية … فلمَّا أبصر المذكرات بين يدي حياني باحترام شديد وجلس في أدب بالغ يحدثني عن المتاعب التي صادفها حتى استكمل هذه المذكرات والجهد البالغ الذي عاناه حتى حصل على كل التفاصيل، وعندما انتهى من سرد كل ما عنده من حكاوي قلت له باختصار وبهدوء: أنا عاوز أنشر المذكرات دي في كتاب، ونظر نحوي في ارتياب وقال في إصرار: بس أنا عاوز أنشرها في الجريدة.

وقلت لعبد العاطي: طبعًا … بس أنا عاوز أتفق معاك على نشرها في كتاب قبل ما حد يلهفها … وهتاخد ألف جنيه.

ووقعت عليه عبارة الألف جنيه كالصاعقة، فقال على الفور: زي بعضه، وانت تاخد تسعمائة وأنا آخد مية … وقلت لعبد العاطي غاضبًا، إزاي تقول كدة؟ دا عرقك وشقاك، عاوزني آكل عرقك، انت فاهمني إيه؟ وارتبك عبد العاطي فلم يستطع أن يتكلَّم، وانتهزت فرصة ارتباكه فسحبت ورقة وقلت له وهو تحت تأثير المفاجأة، نكتب العقد دلوقت … ولكنه كان قد استجمع نفسه مرَّة أخرى فطلب مهلة حتى يستشير بعض الأصدقاء، وبالطبع كان مستشاره الوحيد هو مدير التحرير، ولو استشاره في الأمر فسيدرك مدير التحرير أن المسألة كلها مقلب ولعبة شيطانية من تدبير العبد لله، وكان لا بد من منع عبد العاطي من مغادرة مكتبي بأي صورة، فقلت له بصوت مزمجر: دي فرصة ما تضيعهاش … أو خد المذكرات دي واديها لحد تاني يكتبها!

ورفعت سماعة التليفون على الفور واتصلت بيوسف السباعي في البيت، ورد يوسف السباعي وقلت له على الفور وفي لهجة مؤدبة جادة للغاية … خلاص يا فندم، عبد العاطي قدامي هنا ووافق، ولم يكُن يوسف السباعي يعلم شيئًا عن الأمر، فقال بطيبة متناهية: عبد العاطي مين ووافق على إيه؟ قلت ليوسف: أيوة خلاص … ألف جنيه ونطبع الكتاب، قال يوسف في دهشة: مين اللي بيتكلم؟ قلت: محمود السعدني. قال: طيِّب بتخرف تقول إيه؟ قلت: خلاص عبد العاطي وافق، وسيادتك موافق … مبروك … قال يوسف ضجرًا: إنت باين عليك اتجننت … ووضع السماعة بعنف، فقلت قبل أن أغلق السكة: حاضر يا فندم، هنكتب العقد على طول.

وصدق عبد العاطي الحكاية … وراح يرقبني في اهتمام زائد وأنا أكتب شرط العقد: «اتفق كلٌّ من عبد العاطي المحرِّر الصحافي له حقوق الطبع والامتياز طرف أول مع دار الهنا والشفا للطباعة والنشر على نشر كتاب أسرار الثورة المصرية وذلك بمبلغ ألف جنيه مصري تُدفَع فور صدور الكتاب، أما الطبعات الشعبية فيتقاضى المؤلف مائة جنيه عن كل طبعة تصدر في الأقاليم، وعددها عشرون طبعة في كلٍّ من بنها العسل وكفر بطة ومنوف والقصاصين والبدرشين وبني سويف وبني مزار وأبو تيج وديروط» وصرخ عبد العاطي فجأةً وقال في توسل: لا بلاش ديروط! وتساءلت أنا في بلاهة: ليه؟ فقال: أصلي دي بلدنا … وعلى الفور استأنفت كتابة العقد «بشرط استثناء ديروط حيث إنها بلد المؤلف».

كان الحوار قد جذب انتباه زميل كريم يجلس أمامي في هدوء يتصفح بعض المجلات الأجنبية، كان الزميل هو محمد محبوب وأنا أحبه وأحترمه كثيرًا، فقد كان شديد الأنفة شديد الكبرياء … يحضر إلى دار الجريدة في موعد محدَّد وينصرف في موعد محدَّد، ويؤدي العمل المطلوب منه على الوجه الأكمل … وكان نادرًا ما يمزح، ونادرًا ما يختلط بالآخَرين، ولكنه كان شغوفًا بالموسيقى مُولعًا بالأدب والفن.

ولقد جرَّه الحوار إلى التوقُّف عن القراءة ومتابعة الحديث الغريب الذي يدور بيني وبين عبد العاطي … وخلع محبوب نظارته السميكة ونظر نحوي باندهاش، وقال وهو يشفط نفسًا عميقًا من سيجارته: إيه الحكاية؟

ولو أنا حكيت الحكاية فعلًا لباظ المشروع كله، فقلت له دون اكتراث: دا مشروع كبير جدًّا وانت كمان هتقوم بالترجمة! وقلت لعبد العاطي: تحب نترجمه إنجليزي ولَّا فرنساوي؟ فقال على الفور: فرنساوي أحسن … واستأنفت كتابة العقد «وبشرط أن يقوم الأستاذ محمد محبوب بترجمة المذكرات إلى الفرنساوي ويتقاضى خمسمائة جنيه … ويتقاضى المؤلف مثلها» … وقدَّمتُ العقد لعبد العاطي فوقَّع عليه وانصرف … وقدَّمتُ العقد لمحمد محبوب، وعندما انتهى من قراءته كانت ضحكته المجلجلة ربما لأول مرة تهز جدران الدار كلها.

وحملت المذكرات والعقد إلى المدير العام فأمر بوقف نشر المذكرات … ووقف عبد العاطي نفسه عن العمل … ولكن لم تمضِ أسابيع حتى فُصِل المدير العام وجاء مدير جديد وجاء معه عبد العاطي، وأشاع عبد العاطي أن المدير السابق فُصِل بفضل جهوده لدى صديقه في إدارة المخابرات، ولقد وجد عبد العاطي مَن يصدِّقه فارتفع مرتبه إلى ثمانين جنيهًا في الشهر … وأصبح نفوذه في الجريدة يخشاه كل المحرِّرين.

وتطورت مهنة عبد العاطي فأصبح المحرِّر العسكري للجريدة، ونُشِرت صورته على غلاف مجلة أسبوعية مصورة كانت تصدر عن الدار … وكتب مدير التحرير مقالًا عن نشاط وجهود عبد العاطي في مهنة البحث عن المتاعب والأهوال … وأصبح عبد العاطي نجمًا صحفيًّا يُشار إليه بالبنان! خطوة واحدة فقط بقيت لعبد العاطي ليصبح صحفيًّا وليحقِّق كل الآمال … أن يصبح عضوًا بنقابة الصحفيين … وكل شيء أمامه مُعَد وجاهز وعلى خير ما يرام … أوراق من الدار تثبت أنه يعمل صحفيًّا وبمرتب كبير، وجميع الأجهزة الرسمية موافقة على انضمامه للنقابة … ولكن بقيت موافقة نقابة الصحفيين ولقد وقفت نقابة الصحفيين موقفًا شريفًا وعظيمًا ضد انضمام عبد العاطي إليها … وقال رخا راسي وألف سيف لا ينضم عبد العاطي للنقابة … وإذا دخل من الباب سأخرج من النافذة. ولم تتزحزح نقابة الصحفيين عن موقفها قط.

ولكن ماذا يهم، عبد العاطي شغال في الصحافة على ودنه، ويومًا ما سيدخل النقابة رغم أنف الصحفيين!

ولكن … تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ضبطت الحكومة شبكة تجسُّس لحساب الغرب … وضُبِطَت أفراد الشبكة في حالة تلبُّس أثناء اجتماع في شقة رجل إنجليزي في الزمالك، وسِيقَ المتهمون إلى السجن … وأُغلِقَت الشقة بالشمع الأحمر، ونزل عبد العاطي مسرعًا من الجريدة إلى مكان الحادث ليكتشف أن كل شيء قد انتهى وأن الشقة مُغلَقة بالضبة والمفتاح، ولكن عبد العاطي الجسور نادى على البواب وأَمَره بفتح الشقة وفض الشمع الأحمر، ولمَّا سأله البواب عمَّن يكون؟ أجاب ببساطة أنا من المخابرات!

وفتح البوَّاب الشقة ودخل عبد العاطي، وعبث طبعًا في محتويات الشقة، والْتَقط صورًا لها من الداخل … ونشر الموضوع كاملًا في الجريدة في صباح اليوم التالي، وقامت الدنيا ولم تقعد … وأُلقِيَ القبض على البوَّاب وعلى عبد العاطي، وأُجرِي معه تحقيق سريع ثم أُفرِج عنه بعد أربعة أيام … ولكن هذا التحقيق الذي أُجرِي معه صار جزءًا من التحقيق في قضية التجسُّس نفسها، ومع التحقيق أرفق تقرير مُفصَّل بالتحري عن عبد العاطي نفسه. وفي التقرير كلام عن عبد العاطي يَشيب لهوله سواد الليل!

وأنقل لكم بالحرف الواحد ما جاء بالتقرير: «عبد العاطي محرِّر صحفي كان يعمل بالبوليس السياسي برتبة عسكري في مدينة الإسماعيلية في العهد البائد، ثم فُصِل من وظيفته لاتهامه بالاتصال بالمخابرات البريطانية … وهو دائم التهديد لزملائه في العمل بأنه من المخابرات والبوليس الحربي بقصد الإرهاب وابتزاز الأموال. وهو جاهل لا يجيد القراءة والكتابة وقد حصل على علاوات كثيرة بفضل علاقاته المشبوهة ببعض كبار المحرِّرين.»

انتهى التقرير، ولقد تلقَّت نقابة الصحفيين هذا التقرير وقدَّمَته إلى المحكمة كتبرير لموقفها في رفض قبول عبد العاطي عضوًا بها، وقد أمر القاضي برفض طلبه … وإلى أبد الآبدين!

ولكن … هل انتهت قصة عبد العاطي؟ لا … لقد ظلَّ يعمل في الصحافة رغم كل شيء، وبعد شهور فُصِل مدير التحرير وفُصِل عبد العاطي … وتقاضى ألف جنيه مكافأةً وتعويضًا عن فصله … وعندما رأيتُه بعد الفصل بأيام، كان رابط الجأش يؤكِّد لكل مَن يلقاه أنه سيعود بفضل نفوذ صديقه ضابط المخابرات الكبير! ولكني الْتَقيتُ به بعد ذلك بأسابيع، وكان قد جفَّ عُوده واسودَّ وجهه واحمرَّت عيناه وقال لي وهو يجلس منكسرًا على المقهى إن عينَيه احمرَّتا من فرط البكاء، ويبدو أنه فقد الأمل نهائيًّا في الاشتغال بالصحافة، فافتتح محلًّا لبيع الفول المدمس والطعمية في عابدين … وعندما الْتَقيتُ به ذات مساء أمام الدكان راح يسبُّ ويشتم في الصحافة والصحفيين … هذه مهنة الصيَّاع والذين بلا عمل!

كان هذا هو رأي عبد العاطي في أول عهده بصناعة الفول! وكان يحلم بثروة ستهبط عليه من وراء هذا المشروع الجديد … وأنه يومًا ما سيصبح مليونيرًا مثل أبو ظريفة وأبو عضيم! ولكنه لم يلبث أن أفلس بعد شهور.

واختفى عبد العاطي سنوات طويلة، ثم الْتَقيتُ به مصادفة … ويا له من لقاء! اكتشفتُ أن مكتبي قد انفصلت أحد قوائمه فأرسلت في طلب نجار، وعندما جاء النجار اكتشفت أنه عبد العاطي نفسه! كان يرتدي بنطلونًا وقميصًا وقد أرسل ذقنه، ودبَّ الشيب في رأسه وقفز عمره عشرات الأعوام دفعة واحدة! وجلس يحكي لي في مرارة عن كفاحه وصراعه في الحياة، ولكنه لم يكُن قد فقد الأمل نهائيًّا في العودة للصحافة … سأعود إليها بعد أن تنصلح الأحوال!

ولم أفهم أي أحوال كان يقصدها عبد العاطي، وقبل أن ينصرف دعاني إلى زيارته في الدكان، واكتشفت عند الزيارة أنه لا يزال يعيش في الماضي … مقالاته مُعلَّقة على الجدران وصورته على غلاف المجلة تتصدَّر المحل وتحتها عبارة الصبر مفتاح الفرج، وقدَّمَني لزملائه في محل النجارة … لفندي كان زميلي في الصحافة، عشان تصدقوا يا ولاد الهرمة! وصاح عامل كان منهمكًا في نشر لوح خشب … والنبي تتلقَّح وتسكت … وقال عامل آخَر، ما تريحنا يا أخي وتروح الصحافة بتاعتك.

وهز عبد العاطي رأسه وقال في وقار: بإذن الله بس لما تزول الأسباب! وعندما سأله عامل عجوز، والسبب إيه إن شاء الله، رد عبد العاطي على الفور: خلاف سياسي من غير مؤاخذة!

تصوروا … هذا الحمار الذي لا يعرف الفرق بين الخيارة والحمارة!

ثم غاب عبد العاطي بعد ذلك فلم أره إلا منذ عام، كنت أجلس ذات ليلة على رصيف الدمياطي في الجيزة وكانت ليلة حارَّة ورطبة تكاد تكتم الأنفاس. ومد رجل شديد القذارة لحوح بدرجة مزعجة يده، فمددت يدي أنا الآخَر ووضعتُ في يده شيئًا لله! ولكن اليد ظلَّت ممدودة والشخص القذر ظلَّ مكانه لا يتحرَّك على الإطلاق، وعندما نظرت في وجهه اكتشفت أنه عبد العاطي! وأن يده ليست ممدودة من أجل قرش ولكن يده ممدودة من أجل السلام … وصافحت عبد العاطي وجلست معه حتى الصباح. لقد فشل في كل المهن، الفول والنجارة وحتى فشل كطباخ! ذهنه لا يجيد العمل … فلم يعُد أمامه إلا عرق الجبين والسواعد والأقدام.

ولقد تدحرج عبد العاطي في النهاية ليستقر في سفح الحياة كشيَّال في محطة التروللي باس! أية مأساة عنيفة هي حياة عبد العاطي، فلقد خُلِق عبد العاطي فعلًا لمهنة شيَّال، فإذا به — بسبب بعض الأوضاع المقلوبة — يتحوَّل إلى صحافي شهير ولكن لعدة أعوام.

لقد كان من الطبيعي أن يكون عبد العاطي شيَّالًا … وكان من المنطقي أن يظلَّ شيَّالًا من الميلاد حتى الممات … فهذه هي كل مواهبه في الحياة، ولكنه انقلب صحفيًّا شهيرًا بعض الوقت … وهذه هي المأساة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤