١٤

وهكذا أصبحت — بعد تجربة عاصفة — واحدًا من رجال السياسة، ولقد كانت تجربة صدمتني ولا أستطيع أن أزعم لنفسي أنها أنضجتني! ولقد كنت قبل هذه التجربة المُرَّة أشترك في السياسة على الهامش، وكنت وفديًّا بقلبي، مع النحاس بعواطفي، ضد جميع الأحزاب بقلقي وهمي وعدم استقراري على حال!

ولقد خرجت من هذه التجربة بشعور غريب، هو أنه ينبغي أن أتذوق السياسة بلسان ساخر وأن أشمها بأنف مزكوم! وبعد عام من قيام الثورة لم أكُن قد شهدتُ حفلًا سياسيًّا لقادتها. ولكن قُدِّر لي أخيرًا أن أقوم بأول رحلة سياسية مع قادة الثورة في أنحاء الريف وكانت رحلة لا تُنسى.

كنا أربعة من الصحفيين مع عدد من قادة الثورة على رأسهم جمال عبد الناصر وحسين الشافعي، ولم أكُن أعلم وقتئذٍ أن عبد الناصر هو زعيم الثورة وبطلها الوحيد، ولقد حرص هو خلال الرحلة أن يؤكد بتصرفاته أنه ليس الرجل الذي في الصدارة، وأنه ليس الرجل الذي حرَّك كلَّ شيء قبل وأثناء ليلة ٢٣ يوليو، بينما كانت تصرفات وحركات أصغر ضابط في الرحلة تكاد تصرخ بأنه صاحبها الذي صنع كل شيء ودبَّرَ كل شيء، وأنه لولاه لما حدث في مصر حادث! وتحركت السيارات إلى شبين الكوم حيث خطب عبد الناصر خطبته المشهورة التي دعا فيها الاستعمار أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل … أو يقاتل حتى الموت دفاعًا عن صلفه ووجوده.

ولم أكُن أنا شديد التعلُّق بالسياسة تلك الأيام خصوصًا بعد التجربة المريرة، وكنت قد أصبحت صاحب نظرة متشائمة وغير مبالية بأي شيء ولذلك لم أدرك مغزى هذه الكلمات ولا معناها. وظننتها لونًا من الدعاية، وأشياء للاستهلاك المحلي لا تزيد، وهكذا أخذت الأمر ببساطة، كما تعودت أن آخذ كل حركة سياسية تلك الأيام ببرود، فقبل ذلك بعدة شهور قُدِّر لي أن أقوم بدور تمثيلي مضحك في مسرحية سياسية هزلية ليس لها مثيل.

فقد دُعيت عند تنظيم الأحزاب لحضور ليلة سياسية يقيمها حزب المعارضة الذي دعا إلى قيامه الزميل فتحي الرملي، ولقد كانت معرفتي بفتحي الرملي تمتد إلى ما قبل ذلك بأعوام، فعندما كنت تلميذًا بمدرسة المعهد العلمي الثانوية شاهدت شخصًا يرتدي ملابس العمَّال يوزِّع على الناس في حي السيدة زينب منشورات ثورية ملتهبة ضد النظام الملكي القائم ويدعو في الوقت نفسه إلى انتخابه نائبًا عن الدائرة، وكان الشخص إياه هو فتحي الرملي نفسه، ولكن منظر فتحي الرملي ودعوته لم تشغلني كثيرًا فقد كنت مطهومًا وقتئذٍ في المعركة الانتخابية إلى جانب مصطفى عبد الهادي صاحب مدارس المعهد العلمي …

ثم تعرَّفت إليه بعد ذلك في جريدة الجمهور المصري وأحببته، ولذلك لبَّيتُ دعوته لحضور مؤتمر الحزب، وفوجئت بعشرة أنفار في المؤتمر، وشاب ضئيل الحجم يرتدي نظارات طبية ويتكلم بفصاحة يتصدَّر الاجتماع، وبدأ الشاب حديثه عن حركة الحزب الجديدة وبرنامج العمل الذي ينبغي علينا أن نقره وأسلوب العمل في المرحلة القادمة، وكانت نغمة جديدة على أذني، فلم أكن قد سمعت مثلها في أي ندوة سياسية من قبل.

كان الكلام طيبًا ولكن واقع الحال لم يكُن كذلك، فلم يكُن في مؤتمر الحزب سوى عشرة أنفار أغلبهم حضر دون رغبة في الحضور مثلي، هل نحن فعلًا الطليعة كما قال الأخ الضئيل إياه؟! وهل ستقوم على أكتافنا نحن كل التغييرات المنتظرة في المجتمع المصري في المرحلة القادمة؟ وهل المسألة جد أم هزار؟

وتأكدت أنها هزار عندما طلب الأخ المتكلم من الحاضرين أن يدفع كلٌّ منهم خمسة وعشرين قرشًا وأن يترك صورته باعتبارهم الهيئة التأسيسية للحزب الجديد، ودفعت الربع جنيه وتركت صورتي وانصرفت، وفوجئت بأخبار الحزب منشورة في جريدة المعارضة، والهيئة التأسيسية بكامل هيئتها مجتمعة، وصورة العبد لله تحت أفضل مكان بين الحاضرين، عندئذٍ تأكدت أن المسألة هزار؛ لأنني في واقع الأمر لم أكُن مع هذا الحزب ولم أكُن ضده! ولم أكن مشغولًا حينئذٍ إلا بعملي الصحفي وأن أحتفظ بنفسي ثانيًا على حبل الصحافة الذي كان يهتز كثيرًا تلك الأيام.

ولكن صديقًا آخَر زارني في الجريدة في اليوم التالي جعلني أنظر للمسألة نظرة أخرى، كان الصديق هو إبراهيم عبد العليم … ولقد عرفت إبراهيم أول عهدي بالصحافة في جريدة صوت الأمة … وكان لا يبدو مثل الصحفيين الآخَرين. كان جادًّا ومهتمًّا وممرورًا على نحو ما، وكان يفلسف كل شيء، وذات يوم صدمني صدمة قاتلة حين قرَّرتُ أمامه أنني أبحث عن عشرة قروش لشراء كتاب لإبراهيم الورداني، وكنت معجبًا بإبراهيم الورداني إلى حد الجنون؛ كان أسلوبه سهلًا ممتعًا شديد الأناقة والرشاقة كأن كاتبه تاجر من تجار الصاغة يجيد عملية سبك الكلمات إلى حد ليس له نظير، ونظر إبراهيم نحوي باحتقار شديد، وهاجمني بعنف، واتهمني بالتَّفاهة والهيافة والجهل المقيم. لماذا؟ لأنني أعشق الورداني ككاتب، مع أنه لا يكتب إلا لطبقة السادة وأصحاب الطين!

ولم أفهم وقتئذٍ ماذا يقصد إبراهيم عبد العليم، وظللت على حبي لإبراهيم الورداني، وتبينت بعد ذلك أنني كنت على حق، وكان إبراهيم عبد العليم على خطأ عظيم؛ فليس أسهل من العثور على مثقفين، ولكن ما أصعب الحصول على فنانين، وإذا كان لديك عشرة مثقفين فمن الصعب أن تجعل من أحدهم فنانًا، ولكن لو كان لديك فنان واحد وجاهل، فما أسهل عملية تحويل هذا الفنان الجاهل إلى فنان مثقف وملتزم وعظيم!

ولقد ظلَّت العلاقة بيني وبين إبراهيم عبد العليم كعلاقة القط والفأر، ولكن صداقتنا ظلَّت قائمة من بعيد، حتى جاء يوم زارني فيه في الجريدة وانهال على رأسي بكلمات التَّفاهة والهيافة ولماذا هذه المرة؟ لأنني أصبحت عضوًا في حزب فتحي الرملي الجديد. وشرحت لإبراهيم الأمر، وكيف أن انضمامي إليه لا يتعدَّى دفع ٢٥ قرشًا وصورة ليس إلا! وقال إبراهيم: إذَن هاتِ صورتك. ولم أسأل لماذا ولكني أعطيتها له، إلى هذا الحد أصبحت صورتي مهمة؟ وبعد أسبوع كانت صورتي منشورة في إحدى المجلات على أنني أحد أعضاء حزب التحرُّر الوطني!

وهكذا مرَّة واحدة أصبحت الأحزاب تتقاتل من أجلي وتتنافس في سبيل الحصول على صورة العبد لله! ونفس الشيء الذي حدث من إبراهيم عبد العليم حدث من فتحي الرملي، جاءني إلى الجريدة وعاتبني على انضمامي لهذا الحزب المنافس، وقلت له ما جرى بيني وبين إبراهيم بالحرف الواحد، وانصرف فتحي لأكتشف بعد أسبوع أن كل ما دار بيني وبينه قد أصبح مادة في جريدة المعارضة، وتكذيب بالبنط العريض لِمَا أُشِيع عن انضمامي إلى حزب التحرُّر الوطني، ثم تأكيد لشعب مصر بأنني ما زلت في حزب المعارضة وأنني ما زلت على العهد مقيمًا؟! تمثيلية ما كان أصلحَها على خشبة المسرح الكوميدي لولا أن المسرح الكوميدي لم يكُن قد ظهر بعد! ولكنها حادثة كان لا بد من ذِكرها قبل أن نمضي معًا في رحلتي مع عبد الناصر إلى الريف.

كان عبد الناصر يرتدي الملابس العسكرية، وكانت هذه أولى رحلاته في ريف مصر، ولقد لاحظت عليه خلال الرحلة أشياء لم ألحظها في أحد غيره من قبل.

عندما كنا نجلس على مائدة الطعام، كان يسأل أولًا أين الصحفيون؟ وعندما يطمئن إلى وجودنا على المائدة يسأل: هل قُدِّم الطعام للسواقين؟ ثم يسأل نفس السؤال بالنسبة لرجال البوليس المُخصَّصين للحراسة، وعندما يطمئن إلى أن الجميع قد تناولوا الطعام يبدأ هو الآخَر في تناول طعامه.

وفي دسوق حدث لنا حادث غريب، جاء مدير المديرية في الصباح وصافَحَنا — نحن الصحفيين — بحرارة، ثم جاء معنا لتناول طعام الإفطار، ولقد كانت المائدة حافلة بكل أنواع الطعام، قشطة وبيض ورز معمر وحمام وفطير مشلتت وجبنة قديمة وزبدة وطواجن فول مدمس، وقد نزلت أنا على القشطة والفطير المشلتت كما ينزل وباء على قرية ليس فيها طبيب … وخيبة العبد لله أن نفسي مفتوحة وبطني مريضة على الدوام، حتى في تلك الأيام عندما كنت شابًّا في شرخ الشباب كنت إذا تناولت الطعام في وليمة ظللت أسبوعًا أصرخ من بطني، ولم يدرِ بخلدي أبدًا أنني مريض … ولو أنني تداركت الأمر من البداية فلربما أصبحت الآن في حال غير هذا الحال، ولكني لم أدرك هذا إلا أخيرًا، وبعد أن الْتهبَتْ مصاريني الْتهابًا أبديًّا لا دواء له ولا خلاص منه ولا فائدة تُرجى فيه!

وقمنا من الإفطار إلى بعض الزيارات الرسمية، ومن هناك إلى جامع سيدي إبراهيم الدسوقي لحضور صلاة الجمعة، وعندما دخل عبد الناصر ومَن معه إلى الجامع، تصدَّى مدير المديرية لنا نحن الصحفيين بالذات ومنعنا من الدخول … ولما احتجَّ أحدنا على هذا الإجراء رفع الرجل المخبول عصاه وانهال بها ضربًا علينا، ورحنا نجري في كل اتجاه. وهكذا صدرت الصحف الأربع اليومية الكبرى في الصباح وفيها وصف تفصيلي لرحلة قادة الثورة في دسوق، وأجمعت الصحف الأربعة على أن السيد دسوقي عبد السميع مدير المديرية كان في استقبال وفي وداع الجميع … ولم يكُن المدير اسمه دسوقي عبد السميع، ولذلك جاء يجري مهرولًا في الصباح الباكر إلى استراحة الري حيث كنا نقيم … وبدا لنا خلال حديثه معنا أنه يعاني غيظًا شديدًا نحونا، والسبب أننا كنا تجاهلناه في اليوم السابق فلم نذكر اسمه ولم نُشِر إلى وجوده … وأدركت عندئذٍ كم هي قوية الصحافة وكم هي ضعيفة أمامها أجهزة الإدارة والحكم، من أجل أننا تجاهلناه كاد يموت غيظًا، ومن أجل أننا لخبطنا اسمه جاء يعتذر ويبكي!

وتركتُ دسوق إلى مدينة أخرى … وفي ساحة الاحتفال جاءني رجل مُعمَّم وصافحني باحترام شديد رغم أنه في سن والدي، وقدَّم نفسه على أنه مراسل جريدة القاهرة في الأقاليم، ثم وقف فجأة وخبطني قصيدة عصماء في وصف صفاتي النبيلة، وكلها لا تخرج عن دائرة الحكيم والعليم والأمير والكاتب النحرير وكل المدى بشلاضم الشرشير!

لا بد أنه ألقاها من قبلُ في وصف عشراتٍ من الناس في مناسبات سابقة! وفجأةً راح يقدِّم لي صفًّا طويلًا من الناس، حضرة العمدة وولده، الشيخ فرَّاج وأبناء عمومته، الحاج وهدان وابن خاله، الوجيه عبد الشكور وعائلته … وصافحتُ الجميع باحترام، فقد ظننتُ لخبلي أنهم جاءوا خِصِّيصَى لمقابلتي! … وفجأةً سحب من جيبه كشفًا وأعطاني إياه … وقال وهو يسيل عذوبة ورقة: أنا اشتغلت عشان إنت ما تِتْعِبش نَفْسك. الوصف وكل شيء على ما يُرام، إنت تبعت الرسالة بس … في الوصف إياه … وكان عن وصول قادة الثورة للمدينة … مجرد سطر واحد … ثم … وكان في استقبالهم حضرات الحاج وهدان وعائلته والشيخ فرَّاج وأهل بيته، والوجيه عبد الشكور وابن خاله. كشف بأسماء العمد والأعيان في الناحية، وهذا الكشف مجرد إعلان مدفوع الأجر للمراسل إياه، ويبدو أنه توسَّم في العبد لله الغفلة والسذاجة فخبطني القصيدة إياها وتوكل على الله! وطويت الكشف ووعدته خيرًا.

انتهى الحفل في المساء واستعَدَّ الجميع لمغادرة المدينة إلى مدينة أخرى، وهرع الجميع نحو السيارات التي كانت تنتظر على جانب الطريق وانحشرت مع الصحفيين في سيارة صغيرة سوداء، وعندما تحركت بنا السيارة مُخترِقةً الساحة لمحتُ الشيخ المراسل إياه يقف وسط وفد العمد والأعيان وقد فشخ بُقه عن ابتسامة رضا بلهاء، فها هو كشفه المُعَد قد ذهب إلى المحرر، وها هو سيقبض غدًا أجر النشر وسيصبح مبسوطًا شبعان بإذن الله!

وهتفت فجأةً وبلا سابق تدبير أناديه: يا شيخ عبد السلام! وصرخ هو الآخَر كأنه عسكري بلوكات نظام نادى عليه حضرة الأميرالاي الكبير: أفندم! وقلتُ على الفور: خُد يلعن أبوك. وألقيتُ له بالكشف من نافذة السيارة، أمام رهط العمد والأعيان وأهل بيوتهم.

لقد أدركتُ من خلال تلك الرحلة مدى خيبة الصحافة في الأقاليم … مراسلي الصحف في الريف جميعًا تلك الأيام كانوا مراسلين هواة … جزمجية وقهوجية وأصحاب دكاكين بقالة ومراسلين لجرائد كبرى ومحترمة في العاصمة، أي سطر فيها كفيل بزلزلة عروش الحاكمين في الريف، ولكن بدلًا من أن تصبح الصحافة في الأقاليم عينًا على الإدارة، أصبحَتْ عينًا لها … وتحوَّل مراسلو الصحف إلى ذيول للسلطة الحاكمة، مهمتهم الحقيقية التقرب للمدير وللحكمدار ولموظفي البلدية وعساكر البوليس، وأصبحَت كل سهراتهم في بيوت العمد والأعيان والذين يملكون القعدة الطرية واللقمة الهنية ويملكون ما يستطيعون أن يدسوه في يد المراسل النشط … ومن بين هؤلاء المراسلين مَن استطاع أن يجمع ثروة، ومنهم مَن اقتنى البيوت والأطيان وأصبح من أعيان الريف.

ولقد وصف أحدهم ذات يوم في عام ١٩٥٠ ثورة الفلاحين في بهوت بأنها تمرد من جانب البلطجية واللصوص والمشاغبين ضد حضرة صاحب السمو الملكي ولي العهد المعظم الذي لا يترك مناسبة إلا ويغمر فيها بكرمه وعطفه الفقراء والمعوزين!

أدركت حينئذٍ أن مشكلة الصحافة ينبغي أن تُحَل من هنا، ولو وُجِد في كل عاصمة محافظة صحفي محترف ومحترم، الصحافة عنده رسالة وليست وسيلة لأكل العيش … لو وُجِد هذا الصِّنف الممتاز من الصحفيين في الريف لانصلحت أحوالٌ كثيرة ولانزاح ظلم كثير … ولأصبحت رسائل الصحفيين من جوف الريف ذات أهمية كبرى … ولها الاحترام الواجب والتعظيم.

ولكن أغلب رسائل مراسلي الريف تأخذ طريقها بسهولة إلى سلة المهملات … حتى الجيد منها والمفيد، ليس إهمالًا من الصحفيين في القاهرة، ولكن لأن مراسلي الريف لم يستطيعوا أن يفرضوا أنفسهم بالموقف المحترم والسلوك الشريف.

ولقد كنت أعرف أحدهم منذ عشرين عامًا يراسل جريدة كبرى ويتنطط طول النهار في قطارات الوجه البحري يبيع للمسافرين الروائح العطرية والدهانات التي تعيد الشباب للشيخ السقيم! وأحدهم كان عضوًا في أخطر عصابة عرفها الصعيد، وأحدهم كانت مهمته الوحيدة إضحاك سعادة المدير بأن يقف وسط أي حفلة يحضرها المدير ويلزق نفسه على قفاه ويصرخ كالطفل ويتشقلب كالقرد الظريف!

رحلة ممتعة خرجتُ منها بدروس عديدة … وخرجتُ منها بصداقة رجل فلاح من ريف مصر العظيم … فلاح اسمه محمد الجمال … احترف التدريس فترة في المدارس الإلزامية ثم احترف السياسة واستطاع في فترة قليلة أن يصل إلى قمة جهاز سياسي كان له شأن كبير في مصر في فترة من الزمان هو المؤتمر التعاوني العام، ولقد استطاع محمد الجمال أن يصل إلى سكرتارية هذا المؤتمر بفضل كفاحه وتعبه الشديد، ولكن الشِّلَل ضربَتْه ضربة قاصمة، والمخابرات العامة أفسدت حياته وأبعدَته عنوةً من ميدان التعاون ليحتل مكانه بعض الإمعات الذين كانوا أقارب لبعض السادة في إدارة المخابرات، مع أن محمد الجمال كان من أول مَن آمنوا بثورة عبد الناصر في أول يوم من قيامها، ولقد اندفع في تيار الثورة بعنف، وسبح في بحرها بمهارة، كان يحب عبد الناصر إلى درجة الجنون، ويقدِّس اسمه إلى درجة أنه كان يقسم به، ولكن مَن قال إن الذين كانوا يحبون عبد الناصر كانوا يشقون طريقهم بسهولة؟ مَن قال إن تلاميذ عبد الناصر المخلصين كانت لهم الولاية على الأمر؟ لقد اصطادت مراكز القوى معظمهم، وضربت أكثرهم بلا هوادة، وكان محمد الجمال عنوانًا على هذا الطراز من الرجال المخلصين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤