١٦

عندما جلست أمام توفيق الحكيم في مكتبه بدار الكتب بعد أسبوع من لقائي الأول أدركتُ أن شيئًا ما قد حدث، ولكن لم أستطِع إدراك هذا الشيء على وجه التحديد، ولكنه اعتذر بأنه لم يقرأ قصص المجموعة الثانية وطلب مني في النهاية أن أمهله حتى شهر رمضان … حيث الوقت متسع للقراءة والكتابة على حدٍّ سواء، وهز توفيق الحكيم رأسه وقال بطريقته المعروفة: «إيه رأيك بقى؟» ووافقته بالطبع، ولكني لم أنقطع عن زيارته حتى جاء رمضان، ومضى رمضان أيضًا وأنا مواظب على الزيارة وهو مواظب على الاعتذار.

وبعد ثلاثة أشهر كاملة أدركت أن توفيق الحكيم لن يكتب المقدمة، والحق أنني حزنت وتألَّمتُ بشدة، والسبب أنني كنت في صباي المبكِّر أحب طه حسين وأفضِّله على توفيق الحكيم، ولكني الْتَقيتُ في مطلع شبابي بطبيب مثقف أوصاني بقراءة توفيق الحكيم، لأنني «سأجد مصر بين السطور وسأشم رائحة الأرض الطيبة ممتزجة برائحة الحبر الذي كُتِبَت به الكلمات.»

وقرأت عودة الروح في البداية ولكنها لم تهزني بعنف، ولكن عند قراءتي ليوميات نائب في الأرياف انتابتني حالة غريبة من القلق والنشوة والإمتاع الفني غمر كياني كله وجعلني ساهرًا حتى الصباح دون أن أشعر بحاجة إلى النوم، ورحت ألتهمُ توفيق الحكيم كمفجوع وجدَ نفْسَه فجأة على مائدة عامرة بأطايب الطعام، وكان توفيق الحكيم هو البداية التي دخلت منها إلى ساحة الفن المصري العظيم، وهي التي قادتني إلى هذا النفر العظيم من الفنانين المصريين: إبراهيم عبد القادر المازني وزكي مبارك وبيرم التونسي العظيم.

ولقد تصورت أن مقدِّمةً يكتبها توفيق الحكيم لمجموعة من قصص سوف تدفعني عدة أميال في هذا الطريق، وستكون شهادة ميلاد لي كقصَّاص جديد.

ولكن لماذا اعتذر توفيق الحكيم عن كتابة المقدِّمة؟! لذلك قصة، وهي قصة لم يروِها توفيق الحكيم، ولكن الذي رواها واحد من أقرب أصدقائه وأكثرهم اطلاعًا على حقيقة ما يدور عند توفيق الحكيم … الذي حدث أن بعض الأدباء الشبَّان ذهبوا إلى توفيق الحكيم وعاتبوه على اختيار مجموعتي لكتابة مقدِّمة لها ورطنوا أمامه برطانة أعجمية فهم منها الحكيم الذكي الحذِر الشديد الحرص على ألا يقحم نفسه في مهاترات من أي نوع لكي يقضي رحلة حياته العظيمة الطويلة بإذن الله قارئًا وكاتبًا ولا شيء غير ذلك.

ولذلك حزنت حزنًا شديدة عندما اعتذر، ومَن يدري؟ ربما لو كتب توفيق الحكيم المقدمة لتفرَّغتُ لكتابة القصة وربما كنت اليوم أحد فرسانها الميامين.

فهم الحكيم أن هناك خلافًا وأن هناك أشياء لا يجوز له أن يخوض فيها على الإطلاق، ولقد واجهت هؤلاء الأدباء بعد ذلك … بعضهم اعترف وبكى.

وبعضهم اعترف واعتذر بأنهم كانوا في حالة نفسية شديدة السوء!

على أي حال، لقد طبعت هذه المجموعة «جنة رضوان» في الكتاب الذهبي حيث طلب مني يوسف السباعي أن أسلِّم أصول الكتاب إلى إحسان عبد القدوس، وكانت صلتي بإحسان مجرد صلة قارئ بكاتب، وكنت أنا القارئ على كل حال، وأيضًا صلة زميل صغير بزميل أكبر، ولكني اكتشفت عند لقائي به أنه قرأ مجموعتي الأولى «السماء السوداء» وأنه معجب بها على نحو ما، ولم أكُن أنا أدرك حتى هذه اللحظة أن ما أكتبه يستحق اهتمام أحد من الكتاب الكبار.

وربطتني هذه المقابلة بإحسان، فقد عاملني بود، واحتفل بي بصدق.

وسرعان ما دارت ماكينات الطباعة، وصدر الكتاب في السوق، وسحبني يوسف السباعي بعد صدور الكتاب بأسبوع إلى دار روز اليوسف لمقابلة الست، وكان هذا هو لقب السيدة روز اليوسف يرحمها الله، وذهبت مع يوسف السباعي في بدلة جديدة، شامخ الأنف ثابت الخُطا، فقد تصورت نفسي أحد كبار الكتاب في هذا العصر والأوان. وعندما اقتحمنا الغرفة اكتشفت بأن الست ليست وحدها، وأنها تراجع بروفات المجلة ومعها عدد من المحرِّرين والعمال.

وصافحتني بدون احتفال وقالت ليوسف السباعي: «مين ده راخر؟» ورد يوسف في خوف: دا محمود السعدني. وقالت بعصبية: لأ خلاص مش هنطلع كتب تاني بقى، كفاية بقى، كفاية بقى، كتب الشبَّان دول مالهاش سوق، كفاية خسارة!

وقال يوسف ما احنا لازم نشجع الشبَّان برضه، ولكنها ردت في حزم: لأ خلاص أنا قلت لا. وقال يوسف السباعي: على كل حال السعدني كتابه طلع خلاص. وقالت الست لتنهي المناقشة: خلاص، خلِّيه يروح يقبض الفلوس. أربعين جنيه، مفهوم.

وانتابتني حالة الحماقة التي تنتابني دائمًا كلما واجهت موقفًا من هذا النوع.

وهممت بأن أصرخ في وجهها، ما هذا الذي تفعلينه؟ أنا لست شيَّالًا في محطة مصر، والخلاف بيني وبينك على أجرة مشال من المحطة إلى البيت، أنا كاتب أعطيتك إنتاجًا هو عصير عمري وتجربتي في الحياة، وما ذنبي أنا إذا كان هذا الإنتاج لم يجِد سوقًا، وهل أنا تاجر في سوق العصر؟

ولكن الكلمات ماتت على شفتي، وتراجع يوسف السباعي خارجًا وأنا خلفه. وعلى درجات السلم سألني يوسف: إنت شفت الست قبل كده؟ وأجبت بالنفي، فقال يوسف وهو يضع يده على كتفي، دي طريقتها لكن هيه ست طيبة! وارتاحت نفسي لكلمات يوسف. فهذه الست العظيمة التي أنشأت من العدم دارًا صحفية وكتابًا شهريًّا وصنعت كتَّابًا ومؤلِّفين وأصحاب أقلام من كل نوع … وابنها من كبار الكتاب، وأي كاتب إذَن هو ابنها مهما كان! مَن أكون أنا في زمرة الكتَّاب؟!

ولم يسعدني الحظ بعد ذلك لمعرفة الست عن قرب، فقد كان هذا لقاؤنا الأول والأخير … وعندما عملت في دار روز اليوسف كان قد مضى على وفاتها أكثر من عام، ولكن ذكرى هذا اللقاء لم تبرح ذاكرتي قط، ولقد حرصت بعدها على أن أعرف مدى انتشار هذا الكتاب، وأدركت أنها على حق، فلقد كان أعلى رقم بلغه توزيع الكتاب هو عشرين ألف نسخة باعها كتاب الدكتور طه حسين، وأعتقد أنه الطبعة الثانية من «المعذبون في الأرض» وكان ثاني كتاب وُزِّع منذ ثلاثة عشر عامًا هو كتاب «يوم الثلاثاء» لأمين يوسف غراب وقد باع ستة عشر ألف نسخة بينما باع كتابي ثلاثة آلاف نسخة وكذلك كتب كل الكتَّاب الشبان الذين ظهروا في سلسلة الكتاب الذهبي ذلك العام.

ولكن الذنب لم يكُن ذنبنا فلم تكُن الجماهير قد تعرَّفَت علينا بعد، وكانت كل وسائل النشر لا تهتم إلا بجيل الكتاب الكبار المشاهير أصحاب التاريخ الطويل والعريق في الأدب والفن، وكان جيل الشبان في حاجة إلى مَن يقدِّمهم للناس ويتحمَّل الخسارة والتضحيات. ولقد تحمَّلَت السيدة روز اليوسف هذا العبء. وأشهد أنها كانت رائدة في هذا الميدان.

وفي ذلك العام أيضًا تعرفت إلى فنان مصر الأعظم بيرم التونسي. كان يجلس على مقهى في السيدة زينب، يكتب بقلم رصاص كلامًا أشد فتكًا من الرصاص، ولكن هذا الوطني العظيم والاشتراكي المناضل كان قد تحول خلال السنوات القليلة التي سبقت الثورة فكتب كلامًا يُنشَر في بعض المجلات، يهاجم به حزب الوفد، ولا أدري ما الذي دفع مناضلًا عظيمًا مثل بيرم التونسي إلى هذا العمل الرديء؟ ومع ذلك لم يحطَّ هذا العمل من قيمة الفنان العظيم في نظري.

ولقد كنت معجبًا به إلى درجة الجنون، فهذا الكاتب هو وحده الذي يستحق لقب كاتب الشعب. لأنه ظل يقاتل بقلمه كل القوى التي تعادي الناس إلا في فترات قليلة، وحتى في فترات ضعفه، وتخاذله كانت كلماته في مدح الطغاة تقطر سمًّا … وما زلت أذكر كلماته التي قالها في أسرة محمد علي ولحَّنَها وغنَّاها رياض السنباطي.

محمد لما شرفها
بعينه المبصرة شافها
كنوز بس اللي يعرفها
ويعرف ينتفع بيها
مزارع جوها دافي
وطولها وعرضها وافي
وليه يمشي ابنها حافي
يمد الإيد ويطويها
وليه القاضي والوالي
يجيبهم بابها العالي
حاكمها من أهاليها

وليس أبلغ من هذه الكلمات في نقد أسرة محمد علي، ومع ذلك شربها الحمير وأذاعوها على أنها قصيدة عصماء في مدحهم، وعندما رأيته كان منظره يوحي بأنه لا يزال في المنفى، ورغم أنه كان خلال الأعوام التي تَلَت قيام الثورة يربح نقودًا كثيرة إلا أنه كان دائم الشكوى، الشكوى من أنه لم يأخذ حقه كما ينبغي، ولأنه أيضًا عندما بدأ يسترد بعض حقه كانت أيام الصحة والشباب قد ولَّت إلى غير رجعة.

ولقد توطَّدت صلتي به إلى أن مات، وحتى الحظ النحس تدخَّل ليفسد عليه آخِر متعة في حياته، فعندما أُبلغ أنه حصل على وسام الفنون من الدرجة الأولى كان المسكين يعاني سكرات الموت، ولعلَّه لم يسمع بالضبط كلمات التهنئة على وجه التحديد، ومع رحيل الليل رحلت روحه هو الآخَر وفارق دنيانا بعد رحلة عجيبة وغريبة ورهيبة، تجرَّع خلالها المر وتجشَّأ الأسى، وأشهد أنني ما تعلَّمتُ في حياتي من أحد بالقدر الذي تعلَّمتُ به من بيرم ولم يبهرني فنَّان مثله، ولم أتعرَّف بالضبط على جغرافية المجتمع المصري إلا من خلال كلماته.

ولقد كان الدكتور زكي مبارك هو الفنان المصري الثاني الذي بهرني بحق … وعندما تعرَّفت إليه كان يزحف ببطء نحو القبر … وكان يجلس في بار صغير في ميدان التوفيقية يشرب خمرًا رخيصًا ويكتب مقالات فريدة في نوعها، إذ يبدأ بموضوع ويتشعَّب إلى ألف موضوع، وينتهي المقال ولا ينتهي الموضوع الذي بدأه.

ولقد كنت أحب زكي مبارك لأكثر من سبب، لفنه في الدرجة الأولى، ولأنه من سنتريس وهي على مرمى رصاصة من مسقط رأسي في المنوفية، وأعتقد أن الدكتور زكي مبارك لم يوفه أحد من النقاد حقه، لم يأخذ مكانه اللائق في الحركة الأدبية المصرية … ولعل السبب أنه لم يكُن يحتفل بإنتاجه، ولم يكُن يحفل أيضًا بتدعيم الصلات والصداقات مع المسئولين عن الأدب والفن … ولكن الذي أحزنني حقًّا هو الكشك الذي كان يجلس فيه أيام الصيف في سنتريس على حرف الرياح المنوفي، ولو كنا في دولة عصرية حقًّا لانتهز مجلس قروي سنتريس الفرصة وأحاط الكشك بحديقة … ولأقام تمثالًا للدكتور زكي مبارك في الحديقة، ولأنشأ متحفًا للدكتور الأديب الفنان ابن سنتريس في الحديقة، ولأقام حفلات موسيقية وأدبية وفنية لأهل سنتريس في هذا الكشك. ولكن الذي حدث عكس ذلك على طول الخط.

هدم مجلس قروي سنتريس الكشك، وزرعوا مكانه قمحًا وبطيخًا! ويبدو أن شعار المجلس القروي القمح قبل الكلمة … والطحن قبل الفن! هذه العقلية نفسها هي التي جعلت محافظًا سابقًا من محافظي المنوفية — لا أذكر مَن هو على وجه التحديد — يُصدر كُتيِّبًا في عيد المنوفية، تحدث فيه عن مفاخر المنوفية ومجدها، وكان أبرز ما قدَّمَه من مفاخر المنوفية أنها تنتج أعظم أنواع العجول، وأنها أنجبت لمصر ٣٧٤ وكيل وزارة! ونسي المحافظ إياه، أو لعلَّه تعمد أن ينسى أن المنوفية أنجبت زكي مبارك والمرحوم عبد العزيز فهمي وسعد مكاوي وأحمد عبد المعطي حجازي وعبد الرحمن الشرقاوي … وكل الذي لفت انتباه المحافظ أن المنوفية تُنجب أعظم أنواع العجول … ووكلاء الوزارة!

ولكن هذه هي حقيقة الأجهزة الرسمية المسئولة عن الفن والأدب من الفنانين الأدباء، هذا الموقف الذي جعل شاعرًا عظيمًا مثل عبد الحميد الديب يُعامَل كمتسوِّل وبائس وفقير لا ينبغي أن نصدر له ديوانًا ولا يصح أن يكون له في تاريخ أدبنا … تاريخ!

ولو وُجِد عبد الحميد الديب في بلد مثل فرنسا، لتألَّفَت باسمه جمعيات وأقيمت ندوات، ولأصبح له مطاعم يرتدي فيها الجرسونات ملابس المتسولين، ويُقدَّم فيها الطعام في صحون من الفخار، ولقامت جمعية للتأليف تحمل اسمه ودار نشر تهتم بمؤلفاته وتدرس ظروف حياته ومن خلالها تدرس ظروف عصره.

وهذا الموقف نفسه هو الذي جعل رجلًا مثل الدكتور إبراهيم ناجي ينام تحت تراب النسيان حتى غنَّت له أم كلثوم أغنية الأطلال، مع إن إبراهيم ناجي شاعر عظيم وصاحب مدرسة وفنان كان له أكبر الأثر على المدرسة الجديدة في الشعر الحديث! وهذا الموقف نفسه هو الذي أدَّى ويؤدي إلى الاحتفال بشاعرة هايفة ليس لشعرها بكسر الشين، ولكن لشعرها بفتح الشين!

وأبرز مثَل على هذا بنت حلوة وبضَّة وبيضة وكالبطة، وكان شعرها سائحًا كالحرير، وجسمها سائحًا كالسمنة، وعقلها سائحًا كلوح ثلج في شهر يونيو، هذه البنت كانت تكتب شعرًا أكثر سيحانًا من عقلها وشعرها وجسمها البض السمين، ومن خلال هذا الشِّعر الهايف استطاعت أن يكون لها معجبون وأن يكون لها شهرة عريضة، وأصبحت صورها وأخبارها مادة ثابتة في الصحف اليومية، مع باب: أين تذهب هذا المساء.

والْتفَّ حولها عشرات الشعراء والكتَّاب والأدباء والصحفيين وصار بيتها ندوة لرجال الأدب والفكر، وصار لها في المجتمع مكانة ومكان.

ولمعَت الست البيضة المعجبانية عدة سنين طويلة، وصار لها أكثر من ديوان وصدر عنها أكثر من دراسة، ولكن شهرتها الأدبية أفلَتْ عندما تسلَّل الشَّعر الأبيض إلى شَعرها الأصفر، وحفر الزمان تجاعيده في جلد وجهها، وذبلت العيون التي كانت تشع نورًا ونارًا تحرق قلوب المعجبين.

وكم من ست معجبانية حدث لها نفس الشيء في مصر، ولو كانت في بلد مثل إنجلترا لوجدت هذه الست فرصتها كموديل تقف زَلْط مَلْط أمام فنان يرسم لوحة، ولكن لأن الأشياء مختلفة ومتشابكة في مصر … فكل شيء ممكن وكل شيء ماشي وكل شيء عال.

رجل مثل زكي مبارك يذهب إلى النسيان، وست مثل بديعة مصابني تصدر عنها كتب، وعن فلسفتها دراسات!

حقيقة تؤكد أن الموهبة ليست طريق الفن، ولكنَّ هناك طرقًا كثيرة، ولكن أغربها هو الذي حدث لي شخصيًّا، ولقد كان الذي حدث … أغرب من الخيال!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤