١٧

أحسست بأنني حصلت على فرصة العمر حين أصبحت مسئولًا عن باب النقد الأدبي في مجلة أسبوعية شهيرة، وشرعت قلمي من أول لحظة لأهاجم الجيل الماضي من الأدباء الذين سبقوني، وكانت أول معاركي مع محمد عبد الحليم عبد الله … وكان هجومي قاسيًا ومريرًا، وقد أحسست بخجل شديد عندما التقيتُ بمحمد عبد الحليم عبد الله بعد ذلك، فعندما التقيتُ به تجهَّمت بشدة، وتقلَّص جسمي وتركزت نظراتي في عينيه كأنني ثعبان يهم بالْتِهام فريسة، ولكنني حزنت جدًّا وشعرت بالخجل الشديد عندما واجهني عبد الحليم عبد الله بابتسامة، مدَّ يده نحوي في بساطة، وعاتبني في وداعة، ولم أعتذر أنا لعبد الحليم عبد الله، ولكني أحببته، وأمسكت لساني عنه بعد ذلك فلم أهاجمه قط، ولذلك حرصت كل الحرص فيما بعد أن أبتعد عن المشاهير من الناس، لا أحضر اجتماعاتهم، ولا أتزاور معهم، حتى لا يكون بيني وبينهم صداقة، فأنا من النوع الذي تأسره الصداقة وتتحكم في مزاجه العلاقات الشخصية، وأنا شديد الوفاء لكل مَن ساعدوني في بداية حياتي، ولكل مَن قدَّم لي يدًا بيضاء بدَّدَت قليلًا من ظلام الطريق!

ولهذا السبب لم أرد على هجوم مأمون الشناوي حين هاجمني بقسوة شديدة في جريدة يومية منتشرة … وقضيت أسبوعًا بأكمله أعاني عذاب الحيرة والتردد، ثم قررت في النهاية أن أرد عليه، وكتبت مقالًا شديد القسوة لو نُشِر لعشتُ عمري كله شديد الندم، فعندما قرأت المقال شاب شعر رأسي لهول ما فيه، لم يكُن المقال من كلمات ولكن من سكاكين، وعندما قرأته أكثر من مرَّة هدأت نفسي وبدأتُ أفكر في الموضوع.

لقد كان مأمون الشناوي هو أول مَن مسح على جراحي في بداية حياتي الصحفية، وكان وسط غابة الصحافة كأنه شجرة تفاح تبسط ظلها وثمرها على الحيارى والضائعين، ولذلك حملت مقالي وذهبت إلى كامل الشناوي، وقرأ كامل الشناوي المقال وتعجَّب إلى هذا الحد تتعاركان معًا وأنت ومأمون الشناوي شقيقان في الحياة، وأنا شقيق مأمون بشهادة الميلاد … هكذا قال كامل الشناوي وهو يلتقط سماعة التليفون ليتصل بمأمون … وفعلًا حضر مأمون في بيت كامل الشناوي، وقبَّل رأسي واعتذر ومزَّقتُ المقال وشعرت بارتياح بالِغ.

ولقد عفَّ عليَّ كالطير عدد من كتَّاب الصف العاشر وأمطروني بإنتاجهم الوفير في الأدب والفن، ولكني لم أكُن أحفل بهذا النوع من الأدباء؛ لأن مدح هؤلاء المدعين جريمة، والهجوم عليه جريمة أكبر، ولكن أبرز هؤلاء كان يعمل في شركة كبرى لأعمال الكهرباء، وكان منظره يوحي بأنه قاتل هارب من العدالة، أو صول بوليس في طريقه إلى المعاش! وكان لحظة التقائي به قد انتهى من تأليف كتابه الرابع ورغم ذلك لم يكُن أحد يدري به، ولم يكُن لكتبه وجود إلا في محلات البقالة، ولقد نفذ إلى نفسي من النقطة الضعيفة، فقد حكى لي قصة كفاحه في الحياة، وهي قصة أشبه ما تكون بقصة حياتي، فقد بدأ حياته عاملًا في الشركة، ثم استطاع أن يصل بمجهوده وعرقه وكفاحه إلى منصب مدير مبيعات في الشركة نفسها، ثم يصبح مؤلفًا وله أربعة كتب، وكلها روايات عن الحب والغرام، قصة كفاح مدهشة، ولكن أدبه حقير وفقير وحاجة تسد النفس وتغم الفؤاد، وصاحبته باعتباره رجلًا مكافحًا وليس باعتباره أديبًا من الأدباء.

ولكنه ظلَّ يلحُّ عليَّ أن أكتب عنه كلمة ولكني رفضت بشدة.

كان قد تعرَّف على محرِّر شاب يعمل معي في الصفحة الأدبية، وقد لاحظت شدة إشفاق هذا الشاب على الأديب المزيف، وشدة اهتمامه به وبكتبه على السواء. وذات يوم رأيت في بروفة الصفحة خبرًا عن هذا الأديب فقمت بشطبه، ولكن المحرر الشاب اتهمني بالقسوة، ورجاني أن أترك الخبر لأن عدم نشره سيصيب الأديب إياه بيأس قاتل لا يعرف أحد مداه، وتحت تأثير المحرر الشاب تركت الخبر يمرُّ، ولكن الأخبار بدأت تتكرر، أخبار لا علاقة لها بأدب الأديب إياه، ولكنها أخبار تحوي اسمه والسلام، خبر عن اعتزامه إنتاج فيلم جديد، أو خبر آخَر عن قيامه برحلة في أوروبا، ورغم تأكد هذا الغبي أن الأخبار ليست صحيحة إلا أنه كان يبدي بها اهتمامًا عظيمًا.

وكان يسهر معنا حتى الصباح لكي يحصل على نسخة قبل موعد صدور المجلة بيوم، ولكن أخبار الأديب إياه انقطعت فجأة عن الصفحة، وراح الصحفي الشاب يهاجم الأديب بضراوة، ولم يلفت نظري هذا الانقلاب المفاجئ في علاقة الطرفين، ولكني اكتشفت كلَّ شيء فجأة عندما جاءني الأديب إياه ذات مساء وهو يبكي، وراح يحكي لي كيف أقنعه الصحفي الشاب بأن في استطاعته أن يحقِّق له الشهرة الأدبية … ووزعت الصفقة بين الاثنين على أساس أن يدفع الأديب إياه ثمن الشهرة للصحفي الشاب، ودفع الأديب صاغرًا ثمن الشهرة نقودًا وأشياء أخرى عينية، ولكن الصحفي الشاب لم يقنع بعد فترة بالثمن الذي يدفعه الأديب المزعوم، والأديب هو الآخَر لم يعُد قانعًا بالأخبار التي ينشرها عنه الصحفي.

وعندما اختلف الاثنان ظهر المستور، ولقد ذهب الأديب بعد ذلك فلم أرَه أبدًا، غير أني كنت بين الحين والحين أرى مقالات في نقده بقلم بعض «كبار» الكتاب، وأحيانًا أخرى أقرأ أخبارًا عن نشاطه في دنيا الأدب، وكنت أتساءل بيني وبين نفسي، هل تم النشر باتفاق مماثل أم ماذا؟ ولكن يبدو أن المسائل «ماذا» في كثير مما يُنشَر في الصحف والمجلات.

وهكذا بعد عشر سنوات كاملة منذ عام ١٩٤٥ إلى عام ١٩٥٥، كنت قد تأكدت أن الصحافة ستصبح مهنتي من هنا وإلى الأبد، وكنت قد حققت بعض الشهرة لدى القرَّاء وكل الشهرة لدى المشتغلين بالمهنة، ورغم أنني لم أكُن عضوًا بنقابة الصحفيين فإن رأيي كان له وزن في انتخابات النقابة، ولقد خضتُ الانتخابات في النقابة ذات مرَّة ضد جلال الحمامصي واستخدمت لساني في المعركة وأثبتُّ أنه سلاح مارد وجبار، وخضتها مرة أخرى خلف طوغان، ولكن التوفيق لم يحالفه، واكتشفت على ضوء هذه المعركة أنه لا يكفي أن تكون شريفًا وأمينًا وصادقًا لكي ينتخبك الناس، ولكني اكتشفت أن الانتخابات مهنة ينجح فيها الذي يتقنها، ولكن أغرب فصل انتخابي بارد صادفته كان في نقابة الصحفيين أيضًا، ولقد خضت المعركة بكل قواي في صف عبد المنعم الصاوي ضد حسين فهمي، وكنت أعتقد أن عبد المنعم الصاوي دمٌ جديد على النقابة ينبغي تأييده، وأنه وجه جديد وحسن ينبغي الوقوف خلفه إلى ما لا نهاية. وقفنا ندافع عن عبد المنعم الصاوي كالفولاذ، طوغان وسامي الليثي وأنا، ولكن قبل الانتخابات بأيام وقف عبد المنعم الصاوي في صالة نقابة الصحفيين يخطب بحماس، وقد تشابكت يده مع يد حسين فهمي، وندَّد بالانتهازيين عملاء الاستعمار الذين دفعوه دفعًا لمنافسة زميله وحبيبه حسين فهمي، ثم أعلن في النهاية تنازله عن الترشيح، وهكذا وجدت نفسي فجأة، انتهازيًّا وعميلًا استعماريًّا … ومَن الذي يتهمني؟ الرجل الذي وقفت خلفه أدعو له بالنصر من كل قلبي، وأبذل دمي من أجله في سبيل الانتصار.

وفي ذلك العام أيضًا، عام ١٩٥٥، قُدِّر لي أن أركب الطائرة لأول مرة وكانت أول رحلة لي إلى الأقصر، وعندما تسلمت التذكرة شعرت أنني تسلمت تصريح دفني … فقد كانت الطائرة في نظري هي علامة الموت ولا شيء سواه، المصير الأغبر الأسود الذي سأنتهي إليه، ستصير جثتي بعد لحظة من الطيران طعامًا لسمك النيل، أو طعامًا لدود الأرض ولن يُعثَر لي على أثر وسأذهب قبل الأوان شأن العباقرة والعظماء.

وكان رجل هندي مخبول قد قرأ كفي أيام الحرب العالمية الثانية وقال لي وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح: ستحقق كل أمانيك في الحياة، وستصل إلى قمة المجد سريعًا ولكنك ستموت قبل أن تصل إلى الأربعين، وكنت وقتئذٍ في الخامسة عشرة من عمري صبيًّا يتفجَّر غرورًا وطيشًا وعدم اهتمام بملاك الموت.

ولكن عندما بدأت الأيام تزحف بي نحو الأربعين راح خوفي يزداد وفزعي يشتد من النبوءة السوداء التي تنبَّأ بها هنديٌّ معتوه ومدينة الإسكندرية على مرمى مدفع من الألمان … المهم أنني ركبت الطائرة في الصباح وجاء مكاني إلى جوار رجل عجوز يرتدي ملابسه كاملة وطربوش طويل فوق رأسه وفي يمينه عصا كتلك التي كانت مع سيدنا موسى لداعي هش الغنم ومآرب أخرى.

وعندما حلَّقَت الطائرة في الجو منعتُ نفسي عن الحركة حتى لا تهتز الطائرة فنسقط جميعًا ونموت، وعندما جاءت المضيفة بالشاي رفضتُ تناوله فقد خُيِّل إليَّ أن أي حركة ستجعل الطائرة تميد بنا وننتهي جميعًا في حقل من حقول القمح التي تمتد تحتنا على طول مجرى النيل.

وفجأة ارتفع صوت الميكرفون يعلن لنا أن الطائرة فوق أسيوط، ثم فجأة اهتزت الطائرة بعنف ومالت ثم هبطت كأنها تَهوِي على الأرض، وهتفتُ فجأة وبذعر شديد يا خبر أسود الطيارة حتقع! وانتفض الرجل العجوز صائحًا كأنما لدغته عقرب، وهبَّ واقفًا مزمجرًا وسبَّ ديني ودين أجدادي ثم هبدني بالقلم على وجهي، وخفتُ أن أرد عليه حتى لا تقع بنا الطائرة، فانتقلت إلى مقعد آخَر وظللت مستقرًّا في مكاني كأنني تمثال الكاتب الجالس القرفصاء حتى وصلَت الطائرة بسلام.

ولقد ظلَّت هذه التجربة تملأ نفسي بالرهبة، والخوف والدهشة معًا، فكيف تسنَّى للإنسان أن يخلق مثل هذه الآلة الجبارة التي تحملك كبساط الريح عبر المدن والقرى والحقول وفي متاهات الفضاء الذي ليس له حدود، لتحطَّ بك في مكان آخَر بعيد؟ كيف يمكن للحديد أن يطير فوق الريح؟ أهي حقيقة أم وهم أم حلم يقظة … لا يزيد؟!

ولقد ركبتُ الطائرة بعد ذلك ألف مرَّة، وركبت طائرات شتى ومن جميع الأحجام والأصناف … طائرات نفاثة تسابق الصوت، وطائرات نقل جبارة، وطائرات عسكرية، وطائرات بجناح واحد ومحرك واحد مقطوعة النفس هزيلة الصحة مثل معزة المرحوم غاندي، ولكن خوفي من الطائرة لم يتغير.

وحكمة الله أنني أخاف قبل السفر، ويصيبني صداع قاتل، ولكن الخوف يتلاشى ويزول عندما أجلس في مقعدي وتبدأ محركات الطائرة تدور، يُخيَّل إليَّ أنها نفس الحالة النفسية التي يمر بها المحكوم عليه بالإعدام، القلق والخوف قبل التنفيذ ولكن الهدوء يعود إلى نفسه عندما يدخل حجرة الإعدام، الهدوء وربما الذهول، ولكن النتيجة واحدة، وهي أن القلق لم يعُد له وجود في حياة هذا الإنسان.

وأنا بطبعي رجل قلِق لا أستطيع أن أعيش في مدينة واحدة طول العام، وأعشق السفر كتعبير عن حاجتي الشديدة إلى شيء مجهول! وأكثر الأصوات شجنًا إلى نفسي صوت باخرة تقلع من الميناء في الليل ويهزني بقسوة صفير قطار في الفجر، ودائمًا أتمنَّى لو كنت واحدًا من الذين يركبون فيه.

والسفر هو هوايتي الوحيدة ومتعة حياتي التي لا أشعر بتخمة منها، أشعر دائمًا أنني في حاجة إلى المزيد، وأنا من النوع الذي لا يهوى الفرجة على الآثار، ولا قضاء الوقت في المتاحف ولكن أحب الحياة مع الناس، ولي في كل بلد سافرتُ إليها أصدقاء وأحبَّاء أحنُّ إليهم وأشتاق إلى رؤيتهم وأتمنَّى أن أذهب إلى لقائهم بين الحين والحين.

وعلى طول ما لفِّيت وما نطِّيت في الداخل والخارج إلا أنني آسِف وحزين، لأني لم أذهب إلى بعض بلاد مصر التي أتمنى لو تُتاح لي ظروف زيارتها في وقت قريب، أنا مثلًا حتى هذه اللحظة لم أزُر مدينة المنيا، ولم أشاهد سوهاج إلا خلال نوافذ القطار، ولم يقَع بصري بعدُ على شاطئ السلوم، ولم أتفرَّج على واحة سيوة، والواحة الوحيدة التي زرتها هي الواحة الخارجة، وقد زرتها في ظروف أتمنى على الله ألا تعود! وأحَبُّ البلاد إلى نفسي هي الجيزة؛ لأنني عشت حياتي هناك، ولمنطقة القناة منزلة خاصة في نفسي وكذلك مسقط رأسي قرية قناطر القرنين منوفية، حيث أشعر نحوها بحنين دافق فياض.

ولا أكره في حياتي إلا رؤية المقابر ولقاء رجل أكرهه، ولا أشعر باحتقار في حياتي إلا للرجل الندل، أو لامرأة تخون بلا سبب، ولا أهتم في حياتي إلا بالطعام الجيد والملابس الفاخرة، ولكني لا أشعر بأي رغبة في اقتناء النقود ولا أسعى للحصول على شيء أتركه لأولادي إلا السُّمعة الطيبة والذِّكر الحسن.

ولقد تعلَّمتُ من تجربة حياتي أن الميراث لا يصنع الرجال ولكنها التجربة والرغبة في قهر الظروف السيئة، وأذكر أن زملائي في مدرسة الجيزة الأميرية قد نجح بعضهم في الحياة وفشل بعضهم، ولكنَّ الفاشلين كانوا هم الذين يملكون عقارات وأموالًا طائلة، وأنا نفسي لم أرِث شيئًا إلا القهر والديون، ومع ذلك استطعت أن أخرج من مصيدة الحياة الضيقة!

شيء واحد فقط كان عليَّ أن أحقِّقه في عام ١٩٥٥، هو عضوية نقابة الصحفيين، وكان الأمر بالنسبة لي سهلًا، فأنا تتوافر لي كل الشروط وقدَّمتُ أوراقي وانتظرت، ولكن هذا الانتظار طال إلى عدة أعوام.

ودخلت من أجل هذا المطلب المتواضع معارك وخضت حروبًا وخلعت عددًا من أضراسي من شدة الهم والغم الشديد، ولكن لماذا حدثت كل هذه الوقائع والمعارك في سبيل أن أنال حقًّا مشروعًا لا ينكره عليَّ أحد؟ لهذا قصة طويلة، أحتفظ بها الآن وسأكشفها لكم عندما يحين الوقت لكتابة الجزء الثالث من مذكرات الولد الشقي.

والآن أختم هذا الجزء الثاني، وأرجو ألا أكون قد سبَّبتُ إزعاجًا، وإذا كان أحدهم قد صادف مللًا من هذه المذكرات … فعذري أنني لم أقصد هذا العمل الرديء، كنت أريد أن أبسط أمامكم صفحات من حياتي لعلَّها تكون عظة أو عبرة أو دافعًا إلى الضحك في أوقات الظهيرة أو التثاؤب قبل النوم.

على أية حال، شكرًا لكم جميعًا … الذين انبسطوا والذين شعروا بالضِّيق، شكرًا لكم لأنكم صبرتم على قراءة حياة مخلوق هايف لم يخترع قنبلة ذرية ولم يكتشف جرثومة السرطان ولم يحلِّق بصاروخ في الفضاء الخارجي، وأرجو أن ألتقي بكم قريبًا في الجزء الثالث من مذكرات الولد الشقي، فإلى لقاء قريب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤