٣

وكانت قهوة السروجي في مواجهة بيت طوغان، وكانت شيئًا فريدًا بين مقاهي ذلك الزمان، كانت كل الكراسي من الخشب الزان والقش المجدول بعناية، وفي الجوانب تتناثر بعض الدكك ولكنها دكك تصلح للمتاحف ودُور الآثار، دكك من العهد المملوكي بالخشب الأويما والصَّدَف والعاج، وعلى حوافها آيات قرآنية وبعض الحِكَم والأمثال.

وكان عم السروجي نفسه رجلًا مُهابًا محترمًا قليل الكلام، طالت أيامه فأصبح فوق السبعين، ولكنَّ أحدًا لم يرَه أبدًا بعيدًا عن مكانه خلف الكيس والشيشة في يده، والخواتم تلمع بين أصابعه وهو جالس كعمدة من عمد الريف في جلباب كشمير وحذاء برقبة وصديري بلدي، والشيشة دائمًا في فمه وجمرات النار تتقد على دخانها العجمي بلا انقطاع، وكانت النصبة على يمينه ليتمكَّن من مراقبة الطلبات، وخلف النصبة حوض ماء تصب فيه حنفيتان، واحدة للماء الساخن والأخرى للماء البارد المثلج، وكان أغلب المارين في شارع عبد المنعم يقتحمون القهوة بلا إحم ولا دستور؛ ليشربوا الماء المثلج وكأنها سبيل أم عباس!

وكان المعلم السروجي يتصرَّف مع هؤلاء الناس بطريقة واحدة لا تتغير … إذا كان المتطفل رجلًا نظر إليه نظرة جهنمية وقال: لا مؤاخذة … الحنفية عطلانة، وإذا هجمَ على الحنفية قذفه بالماشة التي يُصلح بها النار في وجهه أو في رأسه، فيترك الولد المضروب الكوز ويجري خارجًا يصرخ ويترنَّح وكأنه كلب مسعور أصابَتْه طلقة في المليان.

وعلى مقهى السروجي تعرَّفتُ بعشراتٍ من النماذج البشرية ليس لها مثيل في الكون، عم سيد خلفاوي الذي كان يسرح في حواري الجيزة بقفص فراخ ليس فيه فراخ ولا كتاكيت، ولكن بظروف مقفولة يبيعها للتلامذة وللفلاحين القادمين من الأرياف، وما في داخل الظروف حق صاحب البخت والنصيب، رغم أن الظروف كلها كانت فارغة ولا تحتوي على شيء، ولكنه بعملية نصب فيها شيء من المهارة وشيء من غفلة الزبون كان يُغري الناس بالإقبال على الشراء!

وكان عم سيد في نظر البعض محتالًا، ولكنه في نظر نفسه كان تاجرًا وصاحب مهنة تعتمد على المجهود الذهني والبدني، وكان شديد الإيمان بأنه لا يزال في بداية الطريق الذي سلكه عمر أفندي، وأنه لن يلبث أن يكون مثله عما قريب.

وكان سيد يكسب كثيرًا، ولكن أرباحه كلها تذهب أول الليل إلى خمَّارة جرانت، حيث كان يشرب السبرتو بشراهة، فإذا تبقَّى معه شيء من النقود جاء ليُقامر بها مع روَّاد قهوة السروجي في آخِر الليل! وكان غريمه دائمًا رجلًا أعرج يُشبه كثيرًا الشخصيات التي تزخر بها قصص جوركي، كان اسمه محمود وجاء الجيزة من حيث لا يدري أحد … وجاءها متسوِّلًا ثم استوطن بها والْتَحق بخدمة أسرة كانت تحتكر عربات الكارو، ولم يلبث أنْ أصبح عم محمود معروفًا في الحي وفي الجيزة كلها وذاعَ صِيته؛ لأنه كان يقرأ الفنجان ويفتح الكوتشينة.

ولم يمضِ وقت طويل حتى اشترى عم محمود قطعة أرض، وأصبح من الملَّاك ومن الزبائن المحترفين في قهوة السروجي، وكان النصر دائمًا في معارك الكوتشينة لعم محمود الهادئ، والفشل دائمًا لغريمه المتهيِّج المخمور؛ ولذلك كان الصياح دائمًا يتصاعد في الشارع آخِر الليل، وكان الصياح من الحِدَّة ومن الشدة بحيث يجذب عسكري الدَّوْرية، وأحيانًا كان ينتهي الحال بهما في مركز البوليس.

وعندما مات عم سيد ذات مساء قتيلًا ومخمورًا على الرصيف، انقطع عم محمود عن لعب الكومي، واكتفى بالجلوس بعيدًا وإسداء النُّصْح إلى المقامرين! وذات مساء هبط على قهوة السروجي رجل له كنبوش وبدلة متجلِّدة وحذاء في لون الطين، وكنت قد عرفتُ الرجل في مناسبات أخرى كثيرة سابقة، ولكن وصوله إلى قهوة السروجي كان كملاك الرب هبط على العبد لله من السماء.

جاء الرجل أبو كنبوش إلى مقهى السروجي ذات مساء، وكانت الليلة مُمطِرة ومُوحِلة وبَرْدُها قارس، وكان المعلم السروجي يجلس في مكانه المعتاد والشيشة في فمه يتطلَّع إلى الزبائن في سكون كأنه إله يرعى عبيده الطيِّبين، وعندما وقع بصره على الرجل أبو كنبوش انتفض واقفًا وصافحه بحرارة، وتخلَّى عن مكانه القديم وجلس معه وطلب واحد شاي ميزة مخصوص للبيه … وكان انتقالُ المعلم السروجي من مكانه والجلوس مع زبون على مقعد قشٍّ عاديٍّ حادثًا غير عادي في مقهى السروجي.

وسُرعان ما تهامَسَ الزبائن الموجودون تلك الساعة عمَّن يكون الزبون المحترم الذي شرَّف المقهى في هذه الساعة المتأخرة من الليل! وقال أحدهم: هو رجل طويل متين البنيان اسمه عم زكي، وكان تاجر خضار يسرح بعربة يد في شارع عبد المنعم، وكان أجش الصوت كثير العراك شديد البأس إذا خاض معركة في الشارع فتَكَ بكل مَن يقف في وجهه.

وكان عم زكي يؤكِّد أن سبب قوته الخارقة هو شغفه الشديد باللبن الزبادي … وكان يقسم بأغلظ الأيمان أن جده مات بعد حياة طويلة امتدت إلى مائة وعشرين عامًا، وأنه تزوَّج من بنت عذراء وأنجبَ منها ولدًا قبل موته بعام واحد، وكان هذا الولد الأخير هو والد عم زكي … وكان عم زكي رغم بأسه وقوته المفرطة يخاف على نحو خاص من عساكر البوليس … وكان يحترم أي رجل له علاقة بالحكومة.

ورغم أنه كان بخيلًا بشكل ملحوظ فإنه كان يُنفق أموالًا طائلة؛ لكي يتعرَّف على مُخبر عُيِّن حديثًا في المركز، أو لكي يسهر ليلة واحدة مع الصول الذي يباشر مهمة الضابط النوبتشي … لذلك همس عم زكي في أنحاء المقهى، فغادر المقهى أكثر من زبون، كان بعضهم يحمل مُخدِّرات معه، والبعض الآخَر كان لا يحرز أي شيء مخالف للقانون … ولكنهم آثروا الانسحاب حتى لا يُعرِّضوا أنفسهم لأي خطر متوقَّع … غير أن الرجل أبو كنبوش لم يكُن ضابط مباحث، ولم يكُن له علاقة بمركز البوليس … فقد أشار المعلم السروجي نحوي، وهو يتبادل الحديث مع الضيف … ثم دعاني للجلوس معهما.

وعندما قدَّمَه إليَّ … اكتشفت أن اسمه علي، وأن البيه صحفي كبير كما أكَّد المعلم السروجي، وأضاف أن البيه يريد أن يقرأ شيئًا من إنتاجي تمهيدًا لتعييني في منصب كبير في المؤسسة التي يملكها … وعندما أبرزتُ من جيوبي أوراقًا بها أزجال … وقصص، ومقالات، اختار البيه عدة أوراق وراح ينظر في سطورها بعدم اهتمام، ثم هزَّ رأسه في النهاية وقال: عفارم عليك … دي مقالة جامدة قوي! وقال المعلم السروجي في اهتمام بالغ: صحيح؟!

واستبدَّت بي الدهشة؛ لأن الشيء الذي قرأه البيه المهم لم يكُن مقالًا، ولكنه كان قصة قصيرة من صميم الحياة! ومع ذلك لم أتوقَّف عند هذه الملاحظة طويلًا، وظللتُ أكتب مقالات وقصصًا وأعرضها على البيه وأنتظر صدور المجلة الجديدة. وكم كانت فرحتي شديدة عندما اكتشفتُ أن البيه هو نفسه الذي يسكن في بيت طوغان وفي الدور الأرضي وفي شقة منزوية ومظلمة، وأنه يقيم حفلات ساهرة في شقته يحضرها خميس بائع الكازوزة المشاغب! ويحضرها أيضًا بعض الشخصيات المريبة في الجيزة.

ولقد رأيت البيه في مرَّات كثيرة سابقة، وعندما سألتُ عم خميس أكَّد لي أن البيه صحافي كبير، وأنه مدير عام مجلة الساعقة (الصاعقة)، وأنه غني يُنفق عن سعة، وأنه صاحب نفوذ في الحكومة؛ بدليل أن عددًا من ضباط البوليس يتردَّدون على شقته!

وعبثًا حاولتُ أن أعرف اسم البيه كاملًا، ولكن الجميع كانوا يعرفون أن اسمه علي، ولا أحد يعرف اسمه الكامل … وأن كل المعلومات التي لدى معارفه قد استقوها من علي نفسه، وأن أحدًا منهم لم يزُره في مكتبه، كما أن أحدًا منهم لم يرَه مشغولًا بعمله في يوم من الأيام!

وذات صباح شُفيت من داء الانتظار، فقد اقتحم البوليس شقة علي واقتادوه معهم إلى القسم بعد أن زفُّوه في الشوارع وضربوه على قفاه، وتركوا الأولاد يلطخون ملابسه بالطين ويرجمونه بالحجارة … ولقد ضبطوا في منزل علي مسروقات لا حدَّ لها، وتبيَّن أنه نصَّاب عريق، وأن له سجلًّا حافلًا من السوابق، وأنه كان ينتحل صفة محرِّر بمجلة الصاعقة التي كانت ذائعة الصِّيت تلك الأيام … ولقد كان خميس المشاغب هو أكثر الناس شماتة في علي، رغم أنه كان صديقه الوفي!

ولم أفهم سر شماتة خميس إلا بعد ذلك بأسابيع، فقد علمتُ أن النصَّاب علي كان يُخفي عند خميس كميات ضخمة من المسروقات، وأن خميس قد استولى عليها بعد القبض على الصحفي الكبير علي! واكتشفتُ عندئذٍ السرَّ الذي جعل البيه يخلط بين القصة والمقالة، فقد كان الأستاذ أمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتب، ولكنه كان يتمتَّع بذكاء خارق وصاحب حيلة واسعة ودهاء شديد.

ولقد أصابني الملل بعد ذلك من طول ما جلستُ على مقهى السروجي، وقرَّرتُ أن أقوم بأي عمل يبعدني عن جوِّ المقهى الكئيب … وكانت جمعية الإخوان المسلمين في الجيزة تُقيم ليالي سياسية في مقرها القريب من المقهى … وقرَّرتُ أن أنضم إلى الجماعة، فأنا خطيب أجيد مهنة الزعيق والصراخ بالألفاظ ذات الرنين، وأنا أيضًا يكمن في أعماقي مسجد وسميع أحب تلاوة القرآن.

وخطفت رِجلي ومعي طوغان إلى المقر، وحرَّرنا استمارتين للعضوية، ولكن سببًا هامًّا وقف عائقًا أمام انضمامنا للجمعية، هو أن مسئول الفرع طلب خمسة قروش من كلِّ فرد منا كاشتراك شهري، ولمَّا لم يكُن معنا صنف العملة بالمرَّة، فقد اعتذرنا وانصرفنا! وإلى غير رجعة!

وهكذا عُدتُ من جديد إلى مقهى السروجي … ولكن الوقت لم يطُل بي هذه المرَّة، فسُرعان ما انتقلت إلى مجلة جديدة عندما قرأت أول أعدادها لم أستطع أن أذوق طعم النوم ليلة بأكملها. كانت المجلة اسمها «كلمة ونص»، وكانت ضاحكة وساخرة وجذَّابة … وكان مأمون الشناوي وصلاح عبد الجيد هما رئيسَي التحرير، ولا تحمل المجلة توقيع أحد غيرهما في الداخل، وقرَّرتُ الذهاب إلى دار المجلة، فأنا أكتب شيئًا قريبًا من هذا الكلام المنشور بها … وفعلًا طرقتُ باب «كلمة ونص» ذات ظُهر أحمر شديد الحرارة لافِح القيظ، وكان العَرَق يتصبَّب من جبيني، وشعري الناعم قد تحوَّل إلى كتلة من الطين بفضل العَرَق والتراب … وكانت جيوبي محشوَّة بأوراق تافهة، وليس معي صنف العملة.

وكان كلُّ أملي أن يُسمَح لي بالجلوس في دار المجلة حتى العصر؛ كي أتمكَّن من العودة إلى الجيزة في التراوة؛ لأنني سأعود على القدمَين!

واستقبلني مأمون الشناوي بعدم مبالاة وبدون ترحيب … وقال على الفور وبدون مقدِّمات وكأنه قد شبع وارتوى من هذا الصِّنف من الناشئين المتردِّدين على دُور الصحف والمجلات: عاوز تكتب؟ ولمَّا أجبتُ بالإيجاب تساءلَ في تهكُّم: وبتعرف تكتب؟ ولمَّا أجبتُه بنعم، أشار على مكتب أمامه وقال: اقعد كدة ورِّيني … ورغم ارتباكي الشديد وخوفي من الفشل في أول امتحان حقيقي أواجهه … فقد كتبتُ عدَّة أوراق بسرعة … وعندما ألقى عليها نظرة قال وهو يتفحَّصني: انت اسمك إيه؟ وهتفتُ على الفور: محمود السعدني، فسألني وهو يُشعل لنفسه سيجارة: السعدني ولَّا السعداني؟ قلت: السعدني، قال آه، إنت عارف السعدان يعني إيه؟ ولمَّا أجبتُه بالنفي قال: السعدان يعني قرد … والسعداني يعني القرداتي ها ها ها!

وهممتُ بالجري من أمام مأمون الشناوي، وفكَّرتُ أيضًا في أنْ ألعن جدوده وأنصرف، ولكني لم أستطع التصرُّف، وظللتُ واقفًا كتمثالٍ لا أتكلَّم ولا أتحرَّك حتى هتف مأمون الشناوي: طيِّب ابقى فُوت علينا تاني! ولم أفهم هل هو جادٌّ في أن أفوت عليه تاني، أم أنه مجرَّد كلام حتى أمضي من أمامه؟!

وعندما صدر العدد الثاني من «كلمة ونص» وجدتُ كلَّ حرف كتبتُه منشورًا بالمجلة، وكاد قلبي يتوقَّف من شدة الفرحة … ورحتُ أقرأ ما كتبتُ أكثر من مرَّة … وانطلقت بأقصى سرعة مستعملًا جميع وسائل النقل المعروفة وقتئذٍ، فتشعبطت على سلم الترماي، وفي الأوتوبيس، وفي المرحلة الأخيرة من الرحلة قفزتُ على عربة كارو ولم أتركها إلا أمام باب المجلة!

ولشدة حزني اكتشفتُ أن يوم الصدور هو يوم العطلة، فعُدتُ أدراجي إلى مقهى السروجي، واعتكفتُ وحيدًا في ركنٍ بعيدًا أعيد قراءة مقالاتي القصيرة وأنا أشعر بلذة ليس لها مثيل.

وشعرتُ تلك اللحظة، أن الكلمات … وأن الطباعة هي أخطَر ما اخترع الإنسان … وأن هذه المجلة الصغيرة التي تنام بين يدي … هي أول الطريق إلى عالم المجد والشهرة والأحلام!

وفي اليوم التالي كنتُ أقف أمام مأمون الشناوي يتفحَّصني بعينَين نصف نائمة ونصف مفتوحة، وكان مأمون يرتدي قميصًا من الحرير الياباني وأمامه على المكتب عدة أوراق وعلبة سجاير فاخرة، ومنديل من نفس قماش القميص … وقال وهو يضحك: هو انت السعداوي؟ وقلت كأنني تلميذ خايب في مدرسةٍ صارِمةِ التقاليد: لا، أنا السعدني. وقال مأمون: ولا يهمك! كله عند العرب صابون … اقعد.

وقعدت أمامه وقال: اكتب لنا شوية براويز … ورحت على الفور أكتب كأنني ماكينة ضغَطَ مأمون على زرها لتدور! وكنت هذه المرة أكثر شجاعة وأكثر اطمئنانًا … وعندما انتهيت من كتابة الأوراق أصبحتُ محرِّرًا بالمجلة وبمرتَّب شهري ستة جنيهات كلَّ شهر، فهكذا قال مأمون الشناوي وهو يشير نحو حجرة جانبية ستصير هي حجرتي لعدة شهور قادمة هي كل عمر المجلة.

كانت الحجرة واسعة ونظيفة وبها مكاتب أنيقة، ولم يكُن هناك مكتب مخصَّص لأحد بذاته، ولكنها كانت مشاعًا لمَن يجلس … والْتَقيتُ في هذه الحجرة بزميلَين ربطتني بهما صداقة طويلة … أحدهما هو علي الوليلي فنَّان فلَّاح من قرى المنصورة … طُرِد من وظيفته وجاء إلى القاهرة يرتدي بالطو أصفر وَبَر جمَل كان يبدو داخله كأنه مدرِّس إلزامي في إحدى مدارس الريف … وكان علي فنَّانًا على دراية واسعة بمشاكل الريف وأحوال الفلاحين … وكان قبل حضوره إلى القاهرة موظفًا في قسم البلهارسيا، ومهمته الإشراف على تطهير مجاري المياه في الريف … ولكنه هرب ذات صباح من الوظيفة، ومن المنصورة، وحضر إلى القاهرة ليحترف الصحافة!

وكان الآخَر هو يوسف شكري، وقد حضر من السويس إلى القاهرة … ليعمل سكرتيرًا للتحرير … وكان طويلًا ونحيفًا وطيِّبًا وكذوبًا، ولكن أكاذيبه كلها كانت بيضاء … وفي نفس الحجرة كان يجلس رسَّام كاريكاتيري اسمه مجدي، كان شهيرًا ولامعًا تلك الأيام … وكان يعمل في مجلة روز اليوسف قبل ظهور عبد السميع! ورغم أنه كان يحترف الفن فإنه لم يكُن يؤمن بالفن كوظيفة لها غاية في الحياة.

كان الفن في رأيه مجرَّد أَكْل عيش أو وسيلة لزيادة الدخل؛ لذلك كان يقف مع قضيةٍ ما، ويقف ضدها، وكان يرسم كلَّما واتَتْه فرصة للرسم، ويتقاضى أيَّ مبلغ يُعرَض عليه، ويدور طول النهار يلف على دُور الصحف يرسم لها ويقبض منها.

وكان يبدو كتاجر خردوات متجوِّل عديم الانفعال، بارد الأعصاب إلى درجة تغيظ، وقد نصحَني في أول لقاء بأن أبحث لنفسي عن مهنة في الحكومة لأضمن لنفسي مَورِدًا ثابتًا … وكان يكرِّر هذه النصيحة كلما حدثت مشاكل بسبب الفلوس في المجلة … فقد اشتغلت خمسة شهور كاملة ولم أتقاضَ عنها إلا ستة جنيهات فقط! ولقد قُدِّر لهذه المجموعة أن تلتقي أكثر من مرَّة في عمل واحد بعد ذلك، غير أن مجدي الرسَّام لم يلبث أن هجَر الصحافة، واختفى بعد ذلك بسنوات، وقنع بعمله الحكومي بمصلحة المساحة!

ولقد كانت تجربة «كلمة ونص» — رغم قِصَر المدة — كفيلة بأن تمنحني الثقة وتدفعني إلى التمسُّك أكثر بهذه المهنة التي أحبها … كما كانت فرصة لأتعرَّف على أصدقاء جدد، وكان مأمون الشناوي هو أهمهم وأكثرهم تأثيرًا في نفسي. وفي بيت مأمون الشناوي تعرَّفتُ على كثيرين من نجوم المجتمع، وعندما رأيت أحمد بدرخان أول مرَّة في بيت مأمون كِدتُ أرقص من شدَّة الفرح، فقد كانت المرة الأولى التي أرى فيها رجلًا من رجال السينما بعينَي رأسي!

وكان بدرخان بسيطًا وأنيقًا وطيِّبًا إلى درجة حبَّبَتني فيه … وكان يحلم بأفلام كُبرى ملوَّنة تفرض نفسها على العالَم، ولكنه عندما ناقش موضوع الفيلم الذي يكتب مأمون أغانيه، تأكَّدت أنه لن يستطيع تحقيق أحلامه، فقد كانت الفكرة ساذجة إلى حدٍّ بعيد! وعشتُ أيامًا طويلة تعصرني البطالة ويُرهقني الانتظار … وكان مأمون الشناوي هو قارب النجاة الوحيد الذي أتعلَّق به للوصول مرَّة أخرى إلى الصحافة … ولكن مأمون نفسه كان يُعاني هو الآخَر من البطالة ومن الفلس … ورغم ذلك كان كريمًا إلى حدِّ السَّفه، مِضيافًا ولا الأمين بن الرشيد، مِتْلافًا لا وزن عنده لما سوف يحدث غدًا.

وشعرت أنني أثقلتُ على مأمون الشناوي فانسحبتُ في هدوء إلى الجيزة، ولكن هذه المرَّة إلى كازينو شهريار … وكان المكان هادئًا وأنيقًا وعلى النيل ومقصد العشاق والمشاهير من رجال الصحافة والأدب، والناشئين والمُدَّعين وأنصاف الأدباء وأنصاف الفنَّانين. ولم يكُن لهؤلاء الأنصاف حديث إلا ما أصاب الحياة الفنية من قحط، وما حطَّ على دنيا الأدب من بلاء، وكل فنَّان مشهور في عُرفهم هو دلدول استطاع الوصول بأساليب رخيصة، وكل أديب معروف هو نَذْل وخائن للوطن!

وكان هؤلاء الفاشلون يعيشون داخل أنفسهم ولديهم قدرة هائلة على احترام ذواتهم رغم الفشل … ولعلَّ هذه هي ميزتهم الوحيدة، وهي التي حفظتهم كلَّ هذه السنين وشجَّعتهم على البقاء على هامش الحياة الفنية طامِعين يومًا في الدخول فيها، ورغم أن كل الأبواب كانت مُوصَدة، وكل المسالك مسدودة … بسبب ضعف مواهبهم الفنية وضحالة ثقافتهم وقلة خبرتهم بالحياة وبالناس.

ولقد أصابني الذُّعر منهم عند معرفتي بهم أول مرَّة … وأبديتُ نحوهم احترامًا شديدًا، كانوا يدفعون دائمًا ثَمَن المشروبات التي نطلبها، وكانوا أيضًا يرتدون أفخَر الثياب؛ فقد كانوا مُوظَّفين في دواوين الحكومة ولهم رواتب ثابتة.

ولكن هيافتهم كانت واضحة إلى درجة أنني اكتشفتُها بعد فترة … وعندئذٍ رُحتُ أمزَح معهم في البداية، ثم رُحتُ أسخَر منهم … ولم يجدوا ما يُعيِّرونني به إلا أنني عاطل، ولقد حزَّ هذا الوصف كثيرًا في نفسي، ولكني لم أكُفَّ أبدًا عن السخرية بهم والتشنيع عليهم … وإنْ كان وصفهم لي بالصايع قد دفعَني إلى الالتحاق بوظيفة حكومية.

وهكذا وجدتُ نفسي ذات صباح موظَّفًا حكوميًّا في عمل موسمي بمصلحة المساحة … وكان هذا أول وآخِر عمل رسمي أقوم به في حياتي … وكان العمل هو حَصْر المساحات المزروعة في مصر كلها وتحديدها حسب نوع المحصول … وكان المكتب الذي يضمُّنا عبارة عن حوش كبير تتناثر فيه المكاتب المكسورة المجروحة والقذرة … وفي الوسط يقوم مكتب واحد كبير كأنه منصَّة قضاء، وهنا يجلس رئيس القلم وهو رجل عجوز شديد الاهتمام بشاربه الكث الذي يجعله أشبَه بممثل كومبارس في مسرحية هزلية … وكان إلى جواري موظَّف قديم يرتدي بنطلون شورت ليس من باب الرياضة، ولكن لعدم توفُّر القماش، وكان اسمه جرجس أفندي، وكان شديد النفاق للبيه المدير، مع أن المدير كان في الدرجة السابعة، وكانت ميزته الوحيدة أنه يدخِّن السجاير من علبة، بينما الموظَّفون جميعًا يدخِّنون السجاير الفرط.

ولمَّا كنت أنا أصغَر الموظفين سنًّا وأكثرهم عدم مبالاة! فقد أشعت في المكان جوًّا مرحًا. وكان جرجس أفندي هو هدفي في البداية، ثم امتد نشاطي فشمل الجميع حتى رئيس القلم علي أفندي … وبعد ثلاثة شهور كاملة فُصِلتُ من الوظيفة! والتُّهمة أنني أحلت المكان إلى سيرك! وكانت التُّهمة حقًّا … فمَن ذا الذي يوجد في مكان يحوي كلَّ هذه النماذج من الحيوانات ولا يتحوَّل إلى مهرِّج يتشقلب على ظهره ويمشي على السلك!

ولقد أبدَتْ شلة الأدباء الفاشلين شماتة لا حدَّ لها بسبب فصلي … فها هو ذا الولد الصايع عاد صايعًا كما كان، ولا فائدة تُرجى من حياته … فلا هو نفع في الصحافة، ولا فلح في الوظيفة، وأبدوا نحوي اشمئزازًا ونفورًا … وكلما دخلت الكازينو أشاحوا بوجوههم عنِّي، فإذا حاولت الاقتراب منهم ابتعدوا وانتقلوا إلى ركن آخَر.

وذات مغربية دخلتُ الكازينو منتفشًا كديك رومي، وجلستُ على مقربة منهم وصفَّقتُ بشدة للجرسون وطلبتُ فنجان قهوة سكر زيادة، ولم أكُن أحب شرب القهوة، ولم أكُن أطيق طعمها … ولكني تعمَّدتُ أن أطلبها؛ لأنها كانت أرخَص مشروب في الكازينو … ولم يكُن معي سوى نص فرنك فضة جديد وكنت أحتفظ به في جيب بنطلوني … ورحت أرتشف القهوة على مهل وأنا أتطلَّع إليهم في كبرياء.

وعندما دخل أحد أصدقائي الشبان وصافحني قلت له في هدوء مسموع: ابقى كلمني بكرة عشان تشتغل معانا في المجلة الجديدة. ولم يكُن هناك مجلة جديدة ولا أشغال جديدة … ولكن الهدف كان أن أغيظ الشلة الفاشلة، وأن يشعروا بالحسرة؛ لأنني حصلت على عمل في مجلة، بينما هم يتطلَّعون إلى العمل في الصحافة دون جدوى.

وعندما جاء وقت الحساب سقطَ قلبي في حذائي، فقد رُحتُ أبحث عن النص فرنك دون جدوى … سقط من ثقب في جيب البنطلون … ورُحتُ أبحث في الأرض بعصبية شديدة لفتت أنظار الشلة نحوي فارتفعت ضحكاتهم تجلجل في أنحاء الكازينو، وانهالت تعليقاتهم الساخرة مني … ولكن الجرسون الطيِّب الشهم حسين انحنى على الأرض والْتقطَ حفنة رمل وكأنه الْتقطَ النص فرنك، ثم حيَّاني في أدب ومضى من أمامي كأن الحساب خالص!

تمثيلية قصيرة قام بها الجرسون لينقذني من المحنة التي وقعت فيها، وما زلت أحمل لهذا الجرسون الطيِّب ودًّا عميقًا ومنزلة خاصة في نفسي … وهو الآن تاجر ناجح ومدير أربعة محلات كبرى في حي الدقي … ولكني وبرغم مهارة الجرسون وطيبته المتناهية، وبرغم جو الخريف البارد فقد أحسستُ بالعَرَق يتصبَّب من جسمي كله، وشعرت بأن الأرض تدور بي وأنني على وشك السقوط مغمى عليَّ … ومشيتُ كالسكران وغادرت الكازينو إلى غير رجعة.

يا له من إحساس رهيب على النفس عندما يصطدم الفاشل بفشله! ها أنا ذا مجرَّد ولد صايع فعلًا، فلا شغلة ولا مشغلة، ووقتي كله أبدِّده في أن أغيظ شلة كل أفرادها أكثر فشلًا مني، وها أنا ذا بعد سنوات من الكفاح المُرهِق الطويل لم أحقِّق شيئًا ولم أصِل إلى أي شيء بعدُ، وهتف هاتف في نفسي … إلى أين؟ نعم إلى أين؟ إلى أين … سؤال راح يلح على نفسي وأنا أجُرُّ خطواتي على الطريق المظلم الطويل المحاذي للنيل في تلك الليلة من ليالي الخريف الباردة، وبدا السؤال وقتئذٍ بلا إجابة، كما بدأ الطريق أمام عيني بلا نهاية، صحيح: إلى أين؟ أنا نفسي لم أكُن أعرف، ولم يكُن هناك أحد يستطيع أن يجيب على سؤالي، وارتميت على دكة من الرخام على شاطئ النيل، وانخرطتُ في بكاء عنيف هزَّني هزًّا.

يا له من إحساس رهيب عندما يصبح الإنسان الفرد وحيدًا في مدينة كالقاهرة … مزدحمة وكبيرة! وفي ليالي الشتاء المُظلِمة الكئيبة كنتُ أضطر إلى الخروج من مقهًى قاصدًا مقهًى آخَر، فإذا أُغلِقَت المقاهي كلها كنت أقطع شوارع الجيزة بحثًا عن مكان أحتمي فيه من البرد الشديد دون جدوى. فإذا طلع الصباح أسرعت إلى منزلنا لألتهم إفطارًا خفيفًا وأنام قليلًا قبل أن يعود أبي من الخارج، لأستأنف الصياعة من جديد حتى يطلع نهار آخَر. حتى المقاهي أغلقت أبوابها في وجهي؛ لأن المشاريب أصبحت بالأمر، وحتى شلة زكريا الحجاوي هجرتُها هي الأخرى؛ لخلاف بيني وبين واحد جديد اسمه سعد … أصرَّ زكريا الحجاوي على أنه أعظم مَن أنجبت مصر من الأدباء، وأن إنتاج الحكيم والعقاد وطه حسين لا بد سيتوارى يومًا ما خزيًا أمام إنتاج العبقري سعد … هذا إذا قُدِّر لإنتاج العبقري أن يظهر يومًا!

وكان زكريا الحجاوي يُصدر مجلة اسمها الميزان، وقد نشر لسعد بحثًا هامًّا في أول أعدادها … بينما رفض أن ينشر لنا حرفًا فيها … وعندما ناقشنا زكريا في هذا الأمر، قال في حماس غريب: «سعد ده هو الأديب العربي الوحيد اللي هيعرف يرد على لينين»، وكانت هذه أول مرَّة أسمع فيها اسم لينين، ولكني عند قراءة البحث تبيَّنتُ مدى فساد عقل سعد هذا، ومدى فساد رأي زكريا!

ولمَّا كان سعد ابن أسرة ثرية في الريف، وميسور الحال وينفق عن سعة، ولمَّا كان زكريا يعتمد في تدخين السجائر على سعد هذا، فقد انضمَّ إلى سعد ضدي وطردَني بغير رحمة من الشلة. وأثَّرَت هذه الحادثة على نفسي تأثيرًا كبيرًا … فقد كان عطوفًا ومدرِّسًا مثاليًّا، فقد أعطاني مفاتيح كثيرة للمعرفة، كان زكريا الحجاوي هو أهم إنسان في حياتي … وكان حنونًا، وكان له الفضل في أنني تعرَّفتُ على أعلام الفكر والفن والموسيقى: الجبرتي ويعقوب صنوع ورومسكي كورساكوف وابن خلدون والإمام الشافعي.

ولقد استفدتُ كثيرًا خلال الفترة التي عرفتُه فيها، رغم أنه كان لا يقدِّم لنا أكثر من أسماء هؤلاء الأعلام … أمَّا المعلومات، فكان علينا أن نبحث عنها بعيدًا عن زكريا؛ لأن زكريا نفسه لم يكُن من هواة القراءة … ولم يكُن لديه كتب! ولذلك كان زكريا سلاحًا ذا حدَّين، فلَكَم استفاد هؤلاء الذين الْتَقطوا الخيط من زكريا ثم تابعوه هم أنفسهم بعد ذلك، ولَكَم ضاع هؤلاء الذين اكتفوا بسماع زكريا واطمأنوا إلى أن هذا الكلام هو نهاية المطاف وغاية الثقافة، فلقد كان زكريا يذكر أمام تلاميذه أسماء كثيرة غريبة، وكان ينسب إلى هؤلاء الأعلام أفعالًا لم يرتكبوها، ويذكر على ألسنتهم كلمات لم يتفوَّهوا بها قط.

وكان واسع الخيال إلى حدٍّ رهيب، حتى إنه حكى لي ذات مرة أن سيدة ثرية من العراق استأجرَتْ طائرة خاصة حلَّقت بها فوق منزله في الجيزة لعلَّ قلبه يرقُّ لها بعد أن هجرها دون جدوى!

وحكى لي مرَّة أخرى: أن فنَّانة مشهورة جاءت إليه بعد منتصف الليل وهي ترتدي الملاية اللف والمنديل أبو أوية، وسارت معه على الأقدام فوق كوبري عباس بالجيزة، ولما استوضحتُه اسم الفنَّانة ذكر في هدوء بارد … اسم الفنانة أم كلثوم!

ولكني كنتُ سعيدًا بصحبته رغم كل شيء … وعندما فقدته أدركتُ مدى الفراغ في نفسي … ولقد غفرتُ له مواقفه مني في أول لقاء لنا بعد ذلك فقد أدركتُ مدى بؤسه وضياعه.

والحق أن زكريا كان طاقة فنية لا حدَّ لها … وكان يقطر فنًّا حتى من بين أصابعه ومن تحت أسنانه … وبينما كانت الأصداف تلمع تحت أضواء الشهرة … كان زكريا الذهب ينام مدفونًا تحت تراب مستشفى الحوامدية. فقد كان زكريا هو كاتب المستشفى وأمين المخازن، واستطاع في فترة وجيزة أن يتحوَّل من كاتب في المستشفى إلى زعيم للمدينة … ولكن الروتين الحكومي العفن الذي يريد من الموظفين أن يتحولوا إلى مكاتب وليس إلى زعماء، قدم زكريا للمحاكمة وطرده من المستشفى إلى وظيفة حقيرة في مجلس بلدي بالجيزة … واضطر سنوات طويلة أن يعول عشرة أشخاص بخمسة جنيهات لا تزيد!

وكان موقفه السياسي مضطربًا مثل حياته … ففي صباه تولى زعامة الطلبة في مدرسة الفنون والصنايع … ولعب دورًا هامًّا ضد النحاس باشا وحزب الوفد … وعندما ترك المدرسة كان من روَّاد التنظيمات الماركسية في مصر … واستمر حتى أصبح يشغل منصبًا قياديًّا في أحد التنظيمات!

ثم اختلف مع اليساريين، وخرج بما أسماه الاشتراكية الإسلامية، ولكنه لم يستمر طويلًا في هذا التيار، ولم يلبث أن هجر السياسة كلها قانعًا بجهوده في الأدب والفن؛ ولذلك عُدتُ إلى زكريا الحجاوي هذه المرَّة، وأنا أكثر حذرًا وأعمق فهمًا لتصرُّفاته، غير أني لم ألبث أن هجرتُ الشلة مرَّة أخرى إلى مجلة الأسبوع، وكانت الأسبوع في الأصل مجلة أصدرها جلال الدين الحمامصي، ثم توقَّفَت عن الصدور فجأة. وجاء رجل من الصعيد اسمه أمين، وأصدرها رغم أنه لم يكُن على علاقة بالصحافة.

وكان الائتلاف الدستوري السعدي يحكم البلاد بيد من حديد، والرقابة مفروضة على الصحف، وكانت أخبار اليوم هي المجلة الوحيدة المزدهرة، وأيضًا مجلات دار الهلال، وفيما عدا هذا فقد كانت كل المجلات تلقى المتاعب والأهوال.

واجتمعنا في مجلة الأسبوع: أربعة شبَّان صغار وصاحب المجلة. ورجل آخَر اسمه هارون كان من أقارب صاحب العمل، وكان يتولَّى منصبًا هامًّا ودائمًا في المجلة … هو حارس رئيس التحرير وملاحظ الطبع في المطبعة، وكان علي جمال الدين يتولى منصب مدير التحرير، وكان طوغان هو رسَّام المجلة الوحيد، وكنت أنا كل أسرة التحرير وكل المحرِّرين! وكان يعف علينا كالطير عشرات آخَرون. منهم أفندي صعيدي اسمه الأقصري! بدَّد حياته كلها ومواهبه كلها في الكتابة بالفصحى الصحيحة وبالنحوي السليم، وكان يحفظ ألفية ابن مالك عن ظهر قلب … ويعتقد أن العالم أينشتين أجهَل من دابة؛ لأنه لا يعرف الفاعل من المفعول.

ولم يستطع الأقصري هذا أن يدرك أن الحياة أوسَع من ألفية ابن مالك، وأن الكتابة إحساس أكثر منها حفظًا للفاعل والمفعول! ولذلك كان دائم الشجار في المجلة؛ لأننا لا ننشر مقالاته.

وعندما صدر العدد الأول كان يحمل أول تحقيق صحفي بتوقيعي، وكان التَّحقيق عن رجال الحرس الوطني، وكان يقطر سخرية بخفراء الأقاليم، وفي ذلك المساء حضر الأقصري إلى المجلة وسبَّني سبًّا شديدًا، واتهمني بأن شخصًا آخَر يكتب لي مقالاتي، وراهنني أمام الجميع أن أعرب «بلادي وإنْ جارَتْ عليَّ عزيزة … وأهلي وإن جاروا عليَّ كرام» لأبرهن للحاضرين أنني أجيد الكتابة … ولم أعرب شيئًا بالطبع، ولم يقتنع الأقصري بأنني أنا الذي كتبتُ المقال.

باع العدد الأول في الأسبوع سبعة آلاف نسخة، وفي العدد الثاني باع ألف نسخة فقط، ثم أخذَ البيع يتناقص حتى بلغ مائة نسخة.

وبينما كان صاحب المجلة في دهشة لنقص التوزيع، كنت أنا أيضًا في دهشة؛ لأننا نبيع كل هذه الكمية؛ فلم يكُن في المجلة شيء يُقرَأ، ولم يكُن لها هدف واضح، وكان لدينا «مصوراتي» يحمل كاميرا ضخمة لها شوال أسود ضخم يضع رأسه فيه كلَّما ارتكب عملية تصوير أحد، وكان يحمل معه جردلًا لتحميض الصور، وكان لا يصور إلا في الشمس … وكان يقف في ميدان التوفيقية بالقرب من دار المجلة … وكنا نستعين به كلما دعَت الحاجة إلى جهوده.

وذات مرَّة سحبته من يده لنصوِّر مجموعة من العمَّال العاطلين لأكتب عنهم موضوعًا بعنوان الذين فاتهم القطار … وبعد أن الْتَقط صورهم راح يستخرج لهم نسخًا بالأجر، وعندما نهرته أمام الجميع حمل الجردل وضربني به على رأسي … ثم رفض العمل معنا بعد ذلك!

كان صاحب ورئيس تحرير المجلة قد بدأ يُهمل شأن المجلة، ونادرًا ما كان يحضر إلى مكتبه تاركًا العمل لحارس المجلة هارون، وتحوَّل هارون شيئًا فشيئًا من غفير خصوصي إلى رئيس للتحرير وراح يفتِّش علينا في كل لحظة، والويل لنا إذا ضحكنا أو ارتفعت صيحاتنا، ثمَّ راح يتدخَّل في العمل أكثر … واعترض على الرسوم والمقالات مع أنه لم يكُن يقرأ ولا يكتب.

وذات مساء جُنَّ جنونه فحمل هراوة وانهال بها ضربًا علينا وطاردنا حتى الطريق، وظلَّ عم هارون يصرخ طول الليل، وفي الصباح حضرت الإسعاف وحملته معها إلى المستشفى الخانكة، وأجبرت هذه الحادثة صاحب المجلة على الحضور، ولكنَّه لم يحضر وحده، جاء معه رجل اسمه إسحاق الجوهري، وقدَّمَه إلينا بصفته مديرًا عامًّا للمجلة.

وكان الجوهري رجلًا مهيبًا سمينًا عليه سمات أصحاب الأعمال، وكان يحترف إدارة الصحف الميتة … فيكفيه اسم مجلة لينطلق بعد ذلك ينصب على مخاليق الله … وكانت السفارات الأجنبية والشركات الكبرى هي مجالات نصبه، ولقد أقنعنا الجوهري أن مجلة الأسبوع سيصير لها دار ولا دار أخبار اليوم … وسيُصبح لكل محرِّر أرشيف ودوسيه خاص، وستصلنا مرتباتنا في أظرف مغلقة، وسيصبح مرتَّب كل محرِّر خمسين جنيهًا كاملة، وعشت في هذا الحلم أسابيع كثيرة.

ولم يعُد رئيس التحرير يظهر بالمرَّة، وعرفنا بعد ذلك أنه نال غرضه منها، وأن الحكومة قرَّرَت له مصاريف سرية وكمية من الورق، كان يستهلك بعضها في المجلة ويبيع الكمية الأكبر في السوق السوداء.

وجلسنا أسابيع نتدارس الأمر، علي جمال وطوغان وأنا، ولكننا لم نصِل إلى حل، وذات مساء حطَّ علينا وافد جديد اسمه فهمي، كان سمينًا كالعجل ويرتدي بالطو من الجلد وطاقية من طواقي الروس، وكانت معه قصة مترجمة عن تشيكوف اسمها «النهار» وطلب منَّا نشرها … ولمَّا أخبرناه أن النشر بدون أجر … أبدى استعدادًا طيِّبًا للتعاون معنا على هذا الأساس … كانت القصة لا بأس بها، وعندما سألتُه عن اللغة التي ترجم عنها القصة، قال في هدوء: الروسية … وقال إنه قضى في روسيا خمسة أعوام حيث كان والده يعمل مستشارًا في السفارة المصرية في موسكو، وإن له مؤلفات باللغة الروسية ذائعة الصِّيت هناك … وبعد أسابيع اكتشفنا أنه طريد المدرسة السعيدية، وأنه لا يجيد لغة على الإطلاق، وأنه نصَّاب راسخ القدم في هذا الفن، وأنه لم يخرج من القاهرة إلا إلى بنها … وعندما واجهناه بالحقيقة اكتفى بالابتسام، وصاحبنا بعد ذلك طويلًا، واشتغل في عدة صحف كبيرة، ثم سافر إلى الخارج وأقام فترة طويلة هناك … ولكنه لم يكفَّ أبدًا عن النصب في أي مكان يحل فيه، ثم قُدِّر له أن ينتهي النهاية الحتمية والوحيدة التي كانت تنتظره؛ فقد دخل السجن يقضي مدة العقوبة وهي الأشغال الشاقة المؤبدة، وظلَّ في السجن حتى مات!

ثم جاءت النهاية بعد ذلك … وفي ليلة ممطرة ومُظلِمة وشديدة البرودة وكنا نجلس في المطبعة، علي جمال وأنا، كنا نطبع سبعة آلاف نسخة كلَّ أسبوع، نبيع منها مائة نسخة ثم نبيع المرجوع فور رجوعه، وكنا نتناول أجورنا من ثمن المرجوع وهي لم تَزِد أبدًا عن جنيهين في كلِّ مرَّة، وقرَّرنا في تلك الليلة أن نبيع المجلة فورًا، وقدَّرنا أننا سنكسب أكثر لأن الأعداد طازة وساخنة وستزن أكثر … وهو عمل على أية حال خير ألف مرَّة من طرحها في السوق ثم إعادتها من جديد، ثم بيعها بعد ذلك، ثم هو أيضًا حل لمشاكل كثيرة بالنسبة لنا … فلم يكُن معنا نقود، ولم يكُن لدينا سجاير، وكنا نشعر بالإحباط.

وفعلًا غادرتُ المطبعة قرب الفجر إلى شارع محمد علي، وعُدتُ إلى المطبعة ومعي تاجر ورق يجرُّ عربة يد وميزان لزوم الوزن بالأقة … ورُحنا نحمل الأعداد ساخنة من المطبعة إلى الميزان … ولهفنا أكثر من ثلاثين جنيهًا دفعة واحدة … اقتسمناها على الفور، واحتفظ كلٌّ منَّا بنسخة من المجلة، وانصرفنا على غير موعد وإلى غير لقاء.

ولم يشعر صاحب المجلة بالأمر إلا بعد أسبوع، عندما ذهب إلى دار المجلة ليكتشف أن المكاتب نفسها غير موجودة، فقد أصبح فهمي هو المتردِّد الوحيد على المجلة بعد غيابنا … ولما يئس من حضور أحد … باع المكاتب لتاجر في وكالة البلح واختفى هو الآخَر أيضًا!

ولقد غاظني جدًّا ما قام به فهمي وحده، فلقد خرج من الصفقة بنصيب الأسد، وبينما اقتسمتُ أنا وعلي مبلغ الثلاثين جنيهًا خرج هو بستين جنيهًا دفعة واحدة … لذلك رُحتُ أتردَّد على منزله لعلَّني أجده فأعكمه من قفاه وأتناول نصيبي من الغنيمة، ولكني دخت دوخة الأرملة وراه دون أن أعثر له على أثر.

وذات مرة صمَّمتُ على أن أنتظره، وظللت عند الباب أنتظره حتى انتصف الليل، وفجأة رأيته قادمًا من أول الزقاق في البالطو الجلد إياه وجوانتي مُطعَّم بالفرو ونفس الطاقية الفرو فوق رأسه، منظر أمير من أمراء بطرسبرج في عصر غابر ولا يتفق أبدًا مع منظر الزقاق الفقير المُظلِم الذي تنضح من حيطانه رائحة عفنة … وعندما رآني … وكنت مُصرًّا تلك الليلة على أن أتناول حقي أو أرتكب جريمة! فلم يكُن معي نقود ولم يكُن هناك عمل آخَر، ولكن عندما طلع الصباح علينا ونحن في حجرته القذرة … كنت قد نسيتُ كلَّ شيء، ولم أعُد أشعر نحوه إلا بالأسف والشفقة.

كانت الحجرة عارية تمامًا من أي أثاث، وعلى الحائط صورة ضخمة لفهمي نفسه في ملابسه الأنيقة وفي فمه بايب وحلقات الدخان تبدو في الصورة وعلى رأسه قبعة وفي بوز مفتعل كأنه ممثِّل في رواية، وكانت المَرْتبة القذرة مُلقاة على الأرض البلاط ولم يكُن لديه غطاء إلا البالطو، ولكنه كان يحتفظ في ركن الحجرة بأعداد مجلة الأسبوع التي نشر فيها قصصه، وأكثر من خطاب مُرسَل إليه من بعض رؤساء تحرير الصحف الكبرى، وكانت كلها ردًّا على خطابات أرسلها إليهم بصفته قارئًا معجبًا بهم على نحو ما!

وعندما دعاني على العشاء معه سحب علبة فاصوليا ناشفة من ركن في الحجرة، ووضع العلبة نفسها على النار ثم سحب عدة أرغفة من العيش الناشف وكمية من المخلل كان يحتفظ بها، وعلى رشفات الشاي الساخن الذي أعدَّه على عجَل راح يحكي لي متاعبه في الحياة، متاعب لا حصر لها مع أسرته ومع صاحب البيت والبقَّال ومع فتاة على علاقة بها، وسحب من تحت المرتبة صورة لبنت بضَّة وممتلئة وشعرها أسود وعلى شفتَيها ترتسم ابتسامة ساذجة … وغبطة بيني وبين نفسي على البنت وعلى الصورة التي معه … فلم أكُن حتى هذه اللحظة على علاقة بأي فتاة … وكل علاقاتي كانت عابرة وبالصدفة … ولم يكُن لديَّ الوقت ولا المال لأهتم بشيءٍ آخَر غير البحث المستمر الدائب عن عمل … أو مأوى أو فلوس!

وسألتُه عن سر متاعبه مع الفتاة فحكى لي بصراحة أنها طالبة في الجامعة، وأبوها موظَّف كبير في الحكومة … وقد تعرَّف عليها في حفلة وقدَّم نفسه إليها بصفته خريج جامعات موسكو … وصحفي وكاتب قصة ومن أسرة ثرية وقوية وتمتلك مئات الأفدنة في الصعيد.

ولقد تعرَّف عليها في بداية الأمر ليعبث بها وليهبر منها ما يستطيع من الفلوس، ولكنه لا يستطيع التقدُّم إليها، مع أنها ترفض الزواج من غيره وتريده، وهو يخاف لأن كل المعلومات التي قدَّمَها عن نفسه كاذبة، ولأنه أيضًا لا يجد ثمن إفطاره كلَّ صباح، ولما سألتُه عن مصير المبلغ الذي هبره من بيع المكاتب، سحب كشفًا من تحت المرتبة وراح يقرأ … خمسة جنيهات للبقَّال، خمسة جنيهات للجزار، خمسة جنيهات للترزي، عشرة جنيهات لأمه المريضة في المستشفى، جنيهان لشقيقه الأصغر الذي يدرس في الأورمان، خمسة جنيهات للمطعم، جنيه ثمن حذاء، جنيه مش عارف إيه، جنيه لمين … ومن واقع الكشف المكتوب تبيَّنتُ أنه لم يعُد معه شيء! وأقسمَ لي وصياح الديكة يتصاعد حولنا في الزقاق أنه لم يحصل منذ عامين على أي دخل من أي نوع على الإطلاق، وأنه قادم الآن من العباسية إلى عابدين سيرًا على القدمين!

وشهور كثيرة مرَّت بعد ذلك رهيبة وسوداء أسود من جلد الفيل … ولكن وقَعَ خلالها حادث كان له أثر كبير في حياتي … فقد اصطحبني طوغان معه ذات مغربية إلى نقابة الصحفيين … ولم يكُن طوغان عضوًا في النقابة، وكان من أحلامه أن يصبح يومًا ما عضوًا فيها، وعندما دخلنا سألنا موظَّف الاستعلامات عن الاسم والمهنة والعضو الذي نبغي زيارته، وذكر طوغان اسم العضو الذي يعرفه … زهدي الرسَّام.

ودخلنا النقابة ولكن زهدي لم يكُن هناك، واستقبلنا رجل آخَر سمين وطيِّب وفنَّان كانت له شهرة كالطبل تلك الأيام، ولم أصدِّق أنا أن هذا الرجل البسيط الخجول الطيِّب هو نفسه الفنان الكبير الذي كانت شهرته تطبق الآفاق، كان الفنان هو رخا … وتلك الليلة لا أنساها مدى الحياة … فقد عامَلَنا رخا باحترام زائد. ولعبَ معنا طاولة وعزمنا على العشاء.

وكانت النقابة تزدحم بعشرات من الصحفيين اللامعين، وكانت بها حجرة للقمار سهرنا فيها نتفرَّج على اللاعبين حتى الفجر، ثم خرجنا مع رخا إلى ميدان باب الخلق، وأكلنا فطيرًا على الرصيف، ثم ركبنا معه تاكسي حتى ميدان الجيزة، وأقسمَ ونحن نودِّعه أن نحضر إلى النقابة كلَّ ليلة وأكَّد لنا أنه سيكون في انتظارنا هذا المساء!

ولكني تردَّدتُ في الذهاب إلى النقابة بعد ذلك، وأخذتُ أحكي للناس في كل مجلس عن أحداث تلك الليلة الخالدة، وبمناسبة وبغير مناسبة كنت أحشر اسم رخا في الحديث، أحيانًا كان الحديث يكون عن حرب فلسطين المتوقعة بعد انسحاب الإنجليز … فأتدخَّل في الحديث … «مش ممكن هتحصل حرب، دنا ليلة ما كنت سهران مع رخا، تناقشتُ في هذا الموضوع، وعرفتُ كذا وكيت وكذا»!

وليالٍ كثيرة كنت أذهب حتى باب النقابة ثم أحجم عن الدخول، فقد كانت ملابسي غير لائقة، وكنت أشعر بخجل شديد من عيون الناس وهي تُعربِد في عيوب الجاكتة ومساوئ القميص، ولعلَّ تلك الأيام هي السر في أنني سأظل بقية حياتي أشعر بضعف شديد أمام الملابس الجديدة وسيظل بي شغف شديد بالأناقة وحرص أشد على أن أبدو دائمًا في ثوب قشيب.

وهكذا وبعد شهور طويلة … بالبدلة المكرمشة التي بليَتْ من طول الاستعمال، والحذاء المضروب المخبوط، زحفتُ ذات صباح نحو أول مجلة محترمة قُدِّر لي أن أعمل بها، وكانت المجلة في شارع فاروق ولها دار كبرى وماكينات طباعة خاصة بها، وكان صاحبها يشتغل بالترجمة واستطاع بعد كفاح مرير أن يهز السوق الصحفي هزًّا بمجلة ذات طابع جديد هي مجلة مسامرات الجيب.

وقد ضربت المجلة عند صدورها مجلات دار الهلال ضربًا شديدًا، ثم وقفت تناطح مجلات أخبار اليوم في السوق … وعندما تولَّى أبو الخير نجيب رئاسة تحريرها واتجه بها نحو المعارضة ومالَ بها نحو الوفد … كانت المجلة قد وصلت إلى أعلى رقم وصلت إليه مجلة من نوعها في التوزيع، وكانت المجلة تعتمد في توزيعها إلى جانب الرأي، على قصص من لون جديد يكتبها شاب ناشئ وضابط في الجيش اسمه يوسف السباعي.

وكان رسوم الحسين فوزي تلهب خيال القرَّاء بطابعها المميز وأسلوبها الفريد، ولكن عندما وصلت إليها كانت الدار التي تصدر عدة مجلات قد أخذت تتدحرج، وهجرها أكبر محرِّريها لمماطلة صاحب الدار في دفع المرتبات، ثم فقدت أغلب قُرَّائها عندما هادنت المجلة الحكومة السعدية وفتحت أبوابها لكل مَن يريد أن يعمل فيها بلا أجر.

وفي هذه المجلة تعرَّفتُ بكل أبناء جيلي من الصحفيين … بعضهم يتولون المسئولية في صحف هذه الأيام … وبعضهم تدحرج ولا يزال يقف مكانه محلك سر، وبعضهم ترك المهنة كلها وضاع في الحياة، ولكن سيظل أبرزهم على الإطلاق ثلاثة: عبد المنعم الحمزاوي الذي جاء ذات يوم من الصعيد ليعيش مع خاله في القاهرة، فلما فشل في الدراسة راح يسرح وراء خاله في حواري الجيزة يبيع الجاز، ثم اشتغل في الحكومة موظفًا في الدرجة التاسعة، ثم تسلَّل إلى الصحافة بموهبة فذة وخبرة هائلة وعلم قليل.

وبعد فترة قصيرة اتخذ لنفسه ركنًا في مقهى بشارع إبراهيم باشا واجتمعت حوله شلة من الأدباء الشبَّان الصياع، وأصبحت يومًا ما عضوًا في هذه الشلة ولكن لفترة وجيزة، ذلك أن رجلًا مثلي كان ينحدر من شلة زكريا الحجاوي سرعان ما اكتشف تفاهة وضياع أكثر الجالسين في الحلقة، وكان أحدهم واسمه أحمد يثير ضحكي كلما هَمَّ بالكلام، كان قصيرًا وأحول ويلف حول رقبته خرقة مبللة فقد كان مصابًا بالبرد على الدوام … وكان إذا فشخ بقه بدا كأنه حمار على وشك النهيق، وكانت أحكامه الأدبية لا تفترق كثيرًا عن أحكام بائع موز يتصدى للأمور العلمية!

وكان ثمَّة تلميذ آخَر من تلاميذ هذه المدرسة يُدعَى صمويل، وقد ملَّ صمويل حياته ولم يُطِق الصبر على الفلس والجوع، فتخلَّص من هذه الحياة ذات صباح، بأن شنق نفسه بالكرافتة الوحيدة التي كانت هي كل ممتلكاته! ولقد أسفت على النهاية الحزينة التي انتهى إليها، فقد كان أكثرهم علمًا وأكثرهم خبرة بالأدب والفن والحياة!

والحق أقول إن عبد المنعم الحمزاوي نفسه كان على شيء … ولو أُتيحَ له أن يقرأ ما ينبغي لمثله أن يقرأه … لكان له شأن آخَر، فقد كان يتمتَّع بمواهب خارقة، وكانت تجربته في الحياة أطول بكثير من سنوات حياته وأعرَض بكثير من حياة الآخَرين!

وكان الرجل الثاني الذي عرفتُه في مجلة مسامرات الجيب، هو سيد حمد الله وكان في الأصل كاتب محامي استطاع أن يصِل إلى منصب رئيس التحرير، وكان صاحب أسلوب جميل ولكنه كان شديد الهيافة، واهتماماته كلها كانت تنحصر في الليل والسهر والانصهار داخل الحياة اللذيذة.

ولم يكُن يهتم بالسياسة على أي نحو، وعلاقته بالأدب تنحصر فيما تنشره المجلات من قصص هايفة، وما يذيعه الراديو من أحاديث للأدباء، وكان إلى جانب عمله كرئيس للتحرير مشغولًا دائمًا بالحصول على إعلانات من أصدقائه الفنَّانين للمجلة.

وكان شديد الزهو لعلاقات الصداقة التي تربطه بكبار الممثلين، وكان يعتقد أن الحكمة والفن والفلسفة تكمن كلها في رأس ممثلة حمقاء كانت تبادله الحب، ولذلك كانت صورها تحتل صفحات المجلة، وكلماتها الساذجة ينشرها في براويز كمادة لتثقيف القراء، وعندما أغلقت المجلة التي كان يتولى رئاسة تحريرها أبوابها، لم يستطع الصمود طويلًا، ولم يلبث أن تدحرج حتى كنسه النسيان!

أما الرجل الثالث فكان عالِمًا بحق، ومثقَّفًا على نحو رفيع، وطيِّبًا يمسح — رغم بؤسه وضياعه — على جراح الآخَرين … وكان قد هجر وظيفته الدائمة والمرتب المستقر إلى الصحافة ولكنه فوجئ بعد شهور بأن المهنة التي اختارها، هي مهنة صياعة وضياعة وعدم استقرار … ولكن نفسه الفنانة وهي نفس أمارة بالسوء، كانت تلحُّ عليه أن يبقى حيث هو، وأن يمضي في طريقه وسط الأشواك والصخور، ومن هذا الرجل تعلَّمتُ الكثير في صباي، وأغلب الكتب التي قرأتها تلك الأيام اقتبستها من عنده!

وكان هو أول مَن زرع الثقة في نفسي، وأول مَن جعلني أتشبَّث بأسناني بمهنة الصحافة رغم طول ووعورة الطريق! ولقد قُدِّر لهذا الرجل أن يشق طريقه بعد ذلك بنجاح، وأن يتغلَّب على كل العقبات والصعاب، وأن يلمع ليصبح أحد نجوم الصحافة وكتَّابها الكبار، وكان الدور الذي لعبه في حياتي هامًّا وجوهريًّا وخطيرًا، وكانت علاقتي به بداية مرحلة جديدة … وما أكثر المراحل التي خضتُ فيها خلال رحلتي القصيرة العريضة في الحياة الرجل الطيِّب اسمه محمد عودة الكاتب الشهير الذي يتألَّق دائمًا في الأزمات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤