٤

كان الرجل الطيِّب حين الْتَقيتُ به أول مرة خارجًا لتوِّه من محنة شديدة حطَّمَت قلبه وأفقدته الثقة في كل شيء، وبدا لي أنه يُعاني قلقًا شديدًا وأنه يشعر بمرارة لا حدَّ لها، وحين وقَع نظره عليَّ أول مرة لم يتجاهلني ولم يُشِح بأنفه شأن المربيين الكبار حين يلتقون بأمثالي من المتردِّدين على أبواب الصحف، ولكنه ابتسم لي في ود وألقى نظرة على المقال الذي كنتُ أكتبه وأطلقَ ضحكة صافية من قلبه وقهقه في براءة وقال هو يهزني بعنف: «أنت لك أسلوب ساخر لو استطعت أن تستخدمه بمهارة سيصبح لك شأن!» ولم أكُن قد سمعتُ تقريظًا من أحد حتى هذه اللحظة.

والكلمات الطيِّبة التي كنت قد سمعتُها من قبل كانت كلمات مجاملة أكثر منها كلمات استحسان … ولذلك نظرتُ إليه في دهشة وبتفرُّس لأكتشف إذا كان صادقًا في القول أم مجرَّد هازل يسخر مني في قالب مدح، ولكنه أعاد نفس كلماته وأضاف إليها كلمات أخرى مماثلة، وسحبني من يدي إلى قهوة إيزافيتش، وانبهرتُ جدًّا بالمقهى وبالزبائن الجالسين في خيلاء، وبالجرسون الجريجي الذي كان يبدو أنيقًا ووسيمًا مثل نجوم السينما المشهورين.

واكتشفتُ أن الجرسون صديق للرجل الطيِّب، فقد حضر وحيَّانا في ودٍّ ثم وقف يناقش الرجل الطيِّب في السياسة … وجاءت شلة من الأفندية وانضمَّت إلينا، واكتشفتُ أنهم جميعًا طوال القامة، وأن رءوسهم جميعًا صلعاء، وأنهم يهتمون على نحو خاص بشواربهم، وهي شوارب ليست عادية، ولكنها كثَّة وسوداء، ولها أطراف تتدلَّى إلى أسفل، ولما سألتُ الرجل الطيِّب عن سر هذه الظاهرة، قال ببساطة كأنه يفسِّر ظاهرة طبيعية: «دول بيقلدوا ستالين!»

ولقد دخل الجميع في نقاش صاخب حاد حول الموقف السياسي … وتطوَّرَ النقاش إلى سباب، ثم تبادلوا الاتهامات الخطيرة! وخُيِّل إليَّ أن المسألة ستتطوَّر إلى شجار، وأنهم لن يلبثوا أن ينهضوا جميعًا ليتراشقوا بالكراسي واللكمات، وأن دماءً كثيرة ستسيل حتمًا وأن بعضهم سيُنقَل لا محالة إلى المستشفيات على عربة إسعاف!

ولكن شيئًا من هذا كله لم يحدث … فسرعان ما هدأت الضجة والْتَفَّ الجميع حول أطباق الفول يلتهمونها بشهية، ثم طلب الجميع الشاي وراحوا ينظرون في هدوء نحو الشارع متربِّصين بعيونهم لكل أنثى تعبر الطريق … وكانت رءوسهم تستدير في حركة رتيبة هادئة وتلتوي أعناقهم من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين أو بالعكس ثم تعود الرءوس إلى وضعها الطبيعي عندما تبتعد الأنثى عن الأنظار.

وكان أحدهم يعلِّق بكلمة دائمًا عقب مرور كل أنثى … وكأنه واجب يؤدِّيه، أو كأنه ناقد نسائي مطلوب سماع رأيه في كلِّ أنثى تعبر الطريق … وكانت تعليقاته قصيرة وحاسمة: «دي رجليها وحشة» أو «دي كتافها نازلة» أو «صدرها كبير»، وعندما تكون الأنثى لا عيب فيها يكتفي بهز رأسه استحسانًا ويعلِّق بكلمة واحدة «ظبط»! ولم أشترك معهم في المناقشة ولم أشترك معهم أيضًا في البصبصة! وعندما نهضوا ليغادروا المقهى نهضنا معهم، وجاء الجرسون على عجَل يطلب الحساب، وتقدَّمتُ أنا فغادرت المقهى إلى الشارع … ولكن جذبني إلى داخل المقهى صوت الجرسون يشتم ويسب ويلعن سنسفيل جدودهم جميعًا … ووقفت دقائق أستمع إلى حوار ساخن بين الجرسون والأفندية جميعًا، ثم تركهم يمضون وهو يلعن ويسب أجداد الجميع، واكتشفت أن الجرسون الجريجي له دين ثقيل في أعناقهم، وأنهم يُماطلون في الدفع منذ شهور!

ومنذ تلك اللحظة تعلَّمتُ ألا تخدعني المظاهر، وألا أنبهر بالقشور الزائفة، فقد كنت أمُرُّ يوميًّا على مقهى إيزافيتش وألقي نظرة على المقهى والزبائن المسترخين على مقاعدها! وكنت أتوهَّم أن الجالسين في المقهى هم البشوات والبهوات وأثرياء القوم، وكان منظر الزبائن ومنظر المقهى ومنظر الجرسونات الجريج يوحي بذلك، ولكن هذا الموقف كشف الغطاء عن الحقيقة المُرَّة، وعرَّى كلَّ شيء أمامي.

ولكني رغم ذلك أُعجبت جدًّا بشجاعة هؤلاء الأفندية الذين دخلوا مع الجرسون الجريجي في حوار صريح مكشوف وأمام جميع الزبائن دون أي شعور بالخجل، ولعلَّ سبب إعجابي بهم هو جُبني الشديد في مواجهة هذه المواقف، وهو جُبن دفعني إلى عدم الاستدانة من أحد، وعدم المماطلة في الدفع، وأن أحجم عن ارتياد مثل هذه الأماكن إلا إذا كان في جيبي ما أدفعه ثمنًا لطعامي وشرابي! بل لقد دفعني هذا الجبن أيضًا إلى التخلُّف عن شلة الأصدقاء أيام الطفولة إذا دخلوا عند حلواني أو فكهاني، وأتظاهر بأنني مشغول بشيء في الخارج حتى لا أحرج نفسي ولا أتسبَّب في إحراج أحد.

وكان على عكسي تمامًا طوغان، فقد كان يقتحم المحل على رأس الشلة، ويدور بين الأصناف ينتقي ويختار! فقد كان شديد الضعف أمام إغراء الحلوى والفول السوداني والبلح الأمهات، وكان يأكل كفايته، ثم يُعلِن بعد ذلك للشلة أنه يعاني الإفلاس، ولكن حتى طوغان كان يفعل ذلك أمام شلة من الأصدقاء، وكان يجد دائمًا من بينهم مَن يدفع حسابه!

ولكن هؤلاء الأفندية لم يدفعوا الحساب ولم يدفع لهم أحد، بل وناقشوا الجرسون الجريجي وأمام جميع الزبائن وفي شموخ وكبرياء، وكأنهم محامون يترافعون في أعظم القضايا، ولقد صادقتهم بعد ذلك وأصبحت واحدًا من شلة المقهى لسنوات طويلة، واكتشفتُ أنهم جميعًا كانوا أعضاء في التنظيمات اليسارية عند بدء تكوين هذه التنظيمات في مصر، ثم هجروا التنظيمات السياسية واكتفوا بالجلوس على المقهى والاشتغال بالسياسة كهواة … وكانوا شديدي الضِّيق بكل شيء، كافرين بكل إنسان، وجميع الناس خونة وعملاء للاستعمار ما عدا أفراد الشلة، وكانوا يشعرون بالرضا عن أنفسهم؛ لأنهم قد وصلوا إلى الحقيقة! فكل الزعماء متعاونون مع القصر، وكل الأحزاب متعاونة مع الاستعمار، وكل الصحف مأجورة، وكل الناس — حتى الجرسون الجريجي — متعاونون مع البوليس، وكل الأفلام تافهة، وكل الكتب حقيرة، وكل الأغاني هايفة، وكل الموظفين مرتشون، وكل النساء مومسات، وكل الرجال يستحقون القتل!

وكانوا لا يرون في الحياة إلا لونين، الأسود الفاحم والأبيض الناصع، فأنت إما خائن وإما شهيد، وأنت إما ثائر وإما بوليس، ولقد ظلَّت الشلة قعيدة المقهى ولسنوات طويلة، حتى جاء يوم فاختفت كلها، بعضهم دخل السجن في قضية اختلاس، والبعض الآخَر هجر المقهى إلى البارات ليغرق نفسه في الخمر! ولكن صديقي الطيِّب لم يكُن واحدًا منهم، وكان على خلاف معهم، وعندما أبديتُ إعجابي بهم كمثقَّفين قال في امتعاض شديد … ما يغركش الكلام المقعر اللي بيقولوه، المثقف الحقيقي هو اللي يعيش حياة الناس ويعبِّر عنها بطريقة بسيطة!

وأعجبني تعريفه للمثقَّف ولكن لم يُعجبني تعريفه للشلة، فقد وصف أفرادها بأنهم «حشرات مريضة» فقد وقع في نفس الخطأ الذي وقعت فيه الشلة، كما أنهم لم يكونوا حشرات مريضة، ولكنهم كانوا نماذج لألوف من أبناء الجيل فقدوا الثقة في كل شيء حتى في الخلاص من المصير المحتوم، ثم أسلمهم اليأس إلى الانطواء داخل أنفسهم والفرجة على ما يجري دون أن يكلِّفوا أنفسهم عناء الاشتراك في التغيير، خصوصًا أن التغيير كان يكلِّف كثيرًا … فقد كان قانون صدقي باشا بتحريم المبادئ الهدامة (!) قد صدر حديثًا، وأصبح السجن مصير كل شاب يحاول التصدي لفساد القصر أو انحرافات الأحزاب.

ولما كانوا غير مستعدين لدفع الثمن، فقد انسحبوا نهائيًّا إلى المقهى، ولكنهم لم يرتضوا أن يُلقوا السلاح نهائيًّا فاكتفوا بالكلام على المقهى كمحاولة للاشتراك في التغيير دون أن ينالهم من وراء ذلك أي عقاب! لذلك كان كلامهم حماسيًّا للغاية ومتطرِّفًا أكثر من اللازم، ولعلَّ ذلك يرجع إلى إحساسهم بأن الكلام هو كل بضاعتهم ولذلك يجب أن يكون من أحسن وأجود الأصناف.

ولكن برغم كل شيء فقد كانت هذه الشلة تمارس حريتها على أوسَع نطاق، ولم يكُن يقيِّدهم أي قيد، وكانوا مُثقَّفين على نحوٍ ما، ولكنهم لم يشعروا أبدًا بلذة اقتحام حياة الناس والالتحام مع الجماهير العريضة، بالرغم من اعتقادهم الراسخ بأنهم وحدهم ممثِّلو الأمة وترجمان الشعب ولسان حال الملايين.

ولقد لعبت شلة إيزافيتش دورًا في الحياة السياسية والثقافية في مصر، رغم أنه كان دورًا على الهامش، وذاعت أخبار الشلة واشتهر أفرادها، ولكن أبرزهم، وكان مهيب المنظر أرستقراطي الحركات مُفلسًا على الدوام، يحكي دائمًا وفي كل مناسبة عن دوره الطليعي في قيادة الشعب، وعن مقاومته الباسلة لرجال البوليس السياسي، وكان أكثر الجميع تطرُّفًا وأشدهم صلابة كما كان أكثرهم حركة!

فقد كان من عادته دائمًا أن يغادر المقهى أحيانًا إلى مكاتب الصحف البائرة يكتب فيها مقالات ضد الاستعمار وضد الحكومة، وكان أحيانًا يتقاضى مبالغ زهيدة لقاء هذا النشر لا تتجاوز الخمسة جنيهات وأحيانًا تصل إلى عدة شلنات، وكان متزوِّجًا وصاحب مشاكل عائلية لا تنتهي، وكان يرتدي في الصيف بنطلون شورت وصندل أبيض وقميص حرير هفَّاف، ويبدو في زيِّه الصيفي كأنه سائح إنجليزي عجوز جاء إلى مصر ليقف فترة بين المتاحف والآثار!

ولقد قُدِّر لي بعد ذلك أن أعيش معه فترة من الوقت داخل زنزانة واحدة في السجن، وقضيت الليالي الطويلة ساهرًا معه حتى الفجر، فقد كان أشد الجميع انهيارًا وأكثرهم بكاءً، وكان يجلس طول الليل ساهرًا لا يغمض له جفن! وكان على استعداد لأنْ يدفع نصف حياته ثمنًا لكأس واحد من الخمر! واعتقدت أنه انهارَ هذه المرَّة فقط بعد أن ناضلَ كثيرًا داخل الزنازين الباردة وخلف الأسوار الصمَّاء.

ولكن الذين عاصروه في الماضي، أكَّدوا جميعًا أن هذا هو طابعه، وأنه مُنهار بالفطرة، وأنه بكى في نفس اللحظة التي صافحت فيها أقدامه أرضية السجن أول مرَّة، وأنه شديد الانهيار عندما يكون في الزنزانة، شديد المقاومة والصلابة عندما يكون على مقهى إيزافيتش!

ولقد ودَّعت صديق سجني ذات مساء عندما فتح السجَّان باب الزنزانة ودعاه إلى الخروج لأمر عاجل، وخرج ولم يعُد، وعرفنا بعد ذلك أنه أُفرِج عنه في نفس الليلة، وأنه عاد لاستئناف حياته ورواية حكاياته على مقهى إيزافيتش!

ولقد صحبتُ الرجل الطيِّب بعد ذلك سنوات طويلة، وكان دائمًا يُبدي إعجابه بما أكتب، وكان أول مَن نصحني بكتابة رواية طويلة، ولقد استمعتُ إلى النصيحة وكتبت رواية طويلة اسمها «حارة السمك» لم يُقدَّر لها أن تتم ولم يُقدَّر لها أن تُنشَر، وضاعت ضمن ما ضاع لي من أوراق على مَرِّ السنين.

وقال لي ذات مساء ونحن جلوس على مقهى إيزافيتش: أنت أول كاتب يخرج من الحارة المصرية وعليك أن تعبِّر عن هذه الحارة وأن تكون نائبها في برلمان الأبدية! وفي مساء آخَر قال لي وعيناه تبرقان ووجهه كله يرتعش: لا تقع في مصيدة العبارات البرَّاقة، اكتب كما تتكلَّم وستصبح شيئًا فريدًا بين أدباء الجيل، واقرأ كثيرًا ولكن اجتهد أن تنسى كل ما تقرأ، وحاول أن تُتقن لغة أجنبية فهي الجسر الذي تعبر عليه إلى رحاب التراث العالمي. وأول سفارة دخلتها في حياتي كانت في صحبته، وكانت سفارة الهند، وقد تناولت عشاءً فاخرًا وشربنا زجاجة ويسكي كاملة ودخَّنتُ علبة سجاير أمريكية وقضينا الليلة نتفرَّج على الرقص والغناء.

ظللتُ شهرًا بعدها أحلم بذكرى تلك الليلة المجيدة! وأعطتني تلك الليلة شعورًا بالثقة لا حدَّ له، وقضيتُ ساعات أرطن باللغة الإنجليزية مع موظِّفي السفارة، وقد اندهش صديقي الطيِّب لأنني أجيد اللغة الإنجليزية نطقًا ولا أجيدها كتابة! وقال لي وهو يضحك من الأعماق … إنك مثل تراجمة نزلة السمان يُجيدون الحديث بكل اللغات، ولكنهم يجهلون شكل الحروف وطريقة الكتابة، ولم يكُن صديقي الطيِّب يعرف حتى هذه اللحظة أنني كنت أعمل ترجمانًا لفترة طويلة من الزمان!

وأول بيت محترم سهرتُ فيه كان مع صديقي الطيِّب أيضًا، وفي بيت في الدقي استرعتني نظافته الشديدة وفخامة العفش وكثرة التحف المبعثرة في أنحائه، وجلستُ مؤدَّبًا كتلميذ خائب يجلس في حضرة أستاذه، وتلعثمت فلم أستطع أن أتكلَّم، وكانت صاحبة الشقة ألمانية في الخامسة والأربعين من عمرها، ولكنها ظلَّت رغم هذه السنين تحتفظ بشبابها! وكانت لها صديقة مثلها في ربيعها الخمسين، وكانت أيضًا صبية ومليحة وعاشقة للفن، وسهرنا حتى الفجر نستمع إلى موسيقى تشايكوفسكي، وكلنا صامتون كأننا في جنازة، وكانت السيدة الألمانية ذات الخمسين ربيعًا تتولَّى خدمتي طوال السهرة وتُقدِّم لي الكأس بعد الآخَر، وأحيانًا كانت تسألني عن رأيي في الموسيقى فأهزُّ رأسي وأفشخ بقي عن ابتسامة بلهاء!

وقبل نهاية السهرة بدقائق مسحَتْ على شَعري بيدها، وقالت أنت تُشبه الإسبان … هل أنت مصري حقًّا، وقلتُ في سرِّي: أنا مصري ابن مصري ابن مصري وآدَم بتاع أسرتنا كان مصري ومن حارة مُظلِمة وقذرة في بقعة من الأرض المصرية يعلمها الله.

وعندما نهضنا لنغادر الشقة انحنَتْ على شفتي وقبَّلتني! وشعرت بخجل لا مزيد عليه، ووددتُ لو تبتلعني الأرض فلا أعود أظهر لها، ونكستُ رأسي في خِزي كأنني ارتكبتُ جريمة! ونهرني صديقي الطيِّب ونحن نسير في الشارع بعد منتصف الليل: لماذا كنت مكبوسًا في السهرة إلى هذا الحد؟ وادَّعيتُ لصديقي أن الجو لم يُعجبني، وكنت كاذبًا إلى حدٍّ بعيد، فقد أعجبني الجو والجلسة والشقة والست العجوزة!

ولكن كنت أشعر باضطراب شديد، وكنت فاقدًا للثقة فلم يكُن يخطر ببالي أن أكون ندًّا لست خوجاية تعيش في مثل هذا القصر العظيم.

ولقد صارحتُه بحقيقة الأمر بعد ذلك فطمأنني إلى أنني بشبابي وبهيئتي المصرية وبذكائي وخفَّة دمي يُمكن أن أكون محبوبًا لدى قطاع عريض من النساء، ولم أصدِّق صاحبي الطيِّب وقضيت ليلة بأكملها أمام المرآة أتفرَّس في وجهي وهيئتي، ولكني لم أقتنع أبدًا برأي صديقي الطيِّب، ولكن يبدو أن المسائل كلها عادة، فبعد زيارة ثانية وثالثة ورابعة أصبحتُ أنا عمدة القعدة، بل تطاولت على الخوجاية العجوز ونهرتها عن الصراخ بهذا الشكل المزعج، وحزنت الست الخواجاية جدًّا وقضت السهرة كلها تسترضيني!

ولقد ظلَّت مجلة مسامرات الجيب تنحدر حتى وصلت إلى الحضيض، وبينما كان صديقي الطيِّب يتقاضى أربعين جنيهًا شهريًّا كان لا يحصل إلا على خمسة جنيهات وأحيانًا على عشرة، وكان مرتبي ثمانية جنيهات، ولكني كنت أحصل على جنيهين وأحيانًا لا أحصل على شيء … وكان فؤاد أفندي هو صرَّاف المجلة، وكان رجلًا بارد الأعصاب ميِّت النظرات، وهي ميزة كل رجال الحسابات وأمناء المخازن وصرَّافي البنوك والخزائن، ولعلَّها صفات يكتسبونها خلال عملهم الرتيب القاتل المُمِل الذي يُصلِّت على رقابهم سيف المسئولية الحاد القاطع، وكنا نعرف أحوال الخزانة من نظرات فؤاد أفندي، ولكن نظراته في الشهور الأخيرة كانت تنمُّ عن الإفلاس والبوار والخيبة الثقيلة!

وكانت ديوني قد أخذت تتضاعف عند البقَّال الذي يحتلُّ ركنًا تحت دار المجلة، ويئستُ أخيرًا من العثور على القرشين صاغ اللازمة للوصول إلى المجلة، فقد كان عليَّ أن أركب بقرش صاغ إلى ميدان قصر النيل ثم أحتفظ بقرش صاغ آخَر لأعود به مرة أخرى إلى الجيزة! وكان هذا المبلغ عبئًا ثقيلًا لم أستطع أن أحتمله! فقرَّرتُ عدم الذهاب كلَّ يوم إلى دار المجلة والاكتفاء بثلاثة أيام في الأسبوع، ونفَّذتُ هذا القرار أسبوعًا واحدًا ثم عدلت عن قراري وعُدتُ إلى دار المجلة، فقد اكتشفتُ أن الذهاب إلى المجلة أكثر ربحًا؛ لأن وجودي هناك يُتيح لي التدخين بالمجان … وأيضًا شرب الشاي والقهوة على الحساب، وتحوَّلت مجلة مسامرات الجيب من مجلة إلى قهوة، وأصبحَت مكانًا للِّقاء والدردشة أكثر منها مكانًا للعمل.

وكان صاحب المجلة قد راح يسرح في كل مكان عارضًا الدار للبيع وبأي ثمن، وكانت حرب فلسطين قد نشبت، وحكومة الأقلية راحت تنشب أظفارها بقسوة في عنق الشعب، وأصبحَت الحياة غير مُحتمَلة، وفجأة جاءنا محرِّر في المجلة بخبر هزَّ أعصابنا هزًّا، وفتح أمامنا بابًا من الأمل في مستقبل أكثر استقرارًا وسعادة للجميع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤