٥

كان الخبر الذي هزَّ أعصابنا هزًّا، والذي حمله إلينا محرِّر في المجلة أن دار روز اليوسف ودار الهلال في حاجة إلى محرِّرين، وأن اثنين من محرِّري مسامرات الجيب قد الْتَحقا فعلًا بالعمل في روز اليوسف، وأن البعض الآخَر قد ذهب فعلًا إلى دار الهلال، ولقد استقبلتُ الخبر ببرود ظاهري رغم أنه في الحقيقة هزَّني من الأعماق، ها هي مرحلة جديدة في الصحافة تُوشِك أن تبدأ في حياتي، وهي لا شك ستكون فاصلة، فإمَّا إلى الصحافة وإما إلى الصياعة!

وقضيتُ ثلاثة أيام متتالية أقلِّب الأمر على جميع الوجوه، وأقارن بين روز اليوسف ودار الهلال، ولم يكُن لي حتى هذه اللحظة أي علاقة بروز اليوسف إلا كقارئ، وكان بيني وبين بعض محرِّريها علاقات صداقة غير وطيدة، وكنت أتردَّد عليها أحيانًا مع طوغان الذي كان يعمل بها رسَّامًا لفترة من الزمان.

ولقد راعني منظرها أول مرة رأيتُها من الداخل، منظر المكاتب المحطمة والجدران المشقوقة، وعشرات من المحرِّرين اللامعين يتخاطفون ساندويتشًا واحدًا، أو يبحثون معًا عن سيجارة، ولكن هذا المظهر لم يكُن يخفى عن العين الفاحصة حقيقة الموضوع، فلقد كانت هذه المجموعة التي تعمل في روز اليوسف أغلبهم ثوار وأصحاب قضية … وحتى المحرِّرون المحترفون فيها كانوا ينصهرون في الجو العام للدار، فيُصبح من الصعب على الزائر أن يفرِّق بين الصحفي والثوري!

وكانت العلاقة بين رئيس التحرير والمحرِّرين نموذجية، كان واحدًا منهم، وكثيرًا ما كان يترك مكتبه ويجلس في الصالة يتفرَّج على لوحات الفنَّانين، وكانت تربطني بروز اليوسف رابطة أخرى هي أن الصداقة توطَّدت بيني وبين أحد محرِّريها المسئولين وهو في أخريات أيام حياته، كان اسمه عز الدين وكان شابًّا وسيمًا وفنَّانًا ووحيدًا، وقد تعرَّفت عليه في مستشفى القصر العيني وهو يُعاني من مرض السل الرهيب، وقد طالَ به المرض قبل أن يفتك به، أو في الحقيقة قبل أن يفتك هو بنفسه، وذات مرَّة حذَّرَه الأطباء أمامي من السهر ومن التدخين ومن الانفعال ومن الكلام.

وابتسم عز الدين في هدوء وقال وهو يناولني سيجارة ويُشعل لنفسه سيجارة أخرى: إنهم يحذِّرونني من الحياة. وظللتُ أتردَّد على عز الدين في المستشفى حتى مات، وقد ترك موته في نفسي أثرًا رهيبًا، فلقد كنتُ قبل أن أراه أتوهَّم أني مريض بالسل، وبعد أن عرفتُه تأكدت من أنني مريض، وظللتُ بعد ذلك أعوامًا طويلة أعيش الحياة على أنني مسلول، ولم يدفعني هذا الشعور إلى الحياة بحذر، بل دفعني إلى الحياة بجنون! فما دام المصير هو الموت، فأي فائدة يجنيها الإنسان من التردُّد والخوف والوقوف على مشارف الحياة يتفرج عليها.

ولكني رغم ذلك اخترت دار الهلال وفضَّلتُها على روز اليوسف والسبب أن روز اليوسف كانت تعامل محرِّريها بالقطعة، ودار الهلال كانت تنهج نفس السبيل، ولكن روز اليوسف كانت تدفع على ما يُنشَر، وكانت دار الهلال تدفع على ما يُكتَب، وبينما كانت دار الهلال تدفع ثلاثة جنيهات على الموضوع، كانت روز اليوسف تدفع خمسين قرشًا، وأحيانًا كانت تدفع عشرة قروش على الخبر، أما الخبر الذي يُنشَر بحروف بارزة فكانت تدفع مقابله ريالًا كاملًا!

ورغم أنني قارنت واخترت، فإنني لم أذهب إلى دار الهلال إلا بعد ذلك بستة شهور، ذلك أن الطريق إلى هناك لم يكُن سهلًا، وخلال الشهور الستة الأخيرة في مسامرات الجيب عانيتُ الكثير.

كان الرجل الطيِّب دائم التجوال بين البانسونات كأنه أحد الأعراب الرُّحَّل، ولم يكُن الانتقال بدافع السياحة أو التغيير، ولكن السبب الحقيقي كان ضِيق ذات اليد، وعدم استطاعة صاحبات البنسيونات الصبر، حتى تنفرج الأمور وتتعدَّل الأحوال!

وذات مساء ونحن جلوس نتأهَّب لترتيب الكتب في بنسيون جديد كان الرجل الطيِّب قد انتقل إليه، فجأة، عرض عليَّ أن أتزوج! ولم يكُن يخطر ببالي شيء من هذا ولم أكُن أستطيع حتى الارتباط الاجتماعي بشقة أستأجرها أو ترزي يقبل التفصيل لي على الحساب، كنت حتى تلك اللحظة كأبناء الغجر، أهلب رزقي بالعافية، وأتناول الطعام ليس لأنني جائع ولكن لأنني وجدته، وأنام عندما يغمى عليَّ من شدة الإرهاق، وأذهب إلى أي مكان ما دامت هناك دعوة، وكانت حياتي كلها مضطربة، ولكن علاقاتي الجنسية كانت أكثر اضطرابًا.

وكانت آخِر مرة اتصلتُ فيها بامرأة منذ أسبوع من هذا العرض الذي جاء فجأةً وبلا مناسبة من الرجل الطيِّب.

وكانت مغامرة شقية ليس لها نظير، وحماقة لا يرتكب مثلها إلا المجانين أو المجرمون العتاة.

فقد تعرَّفنا إلى امرأة ليس لها شكل، تجلس وحيدة في كازينو شهريار، وكنا عشرة شبَّان ورجلًا عاقلًا يعمل مدرِّسًا في إحدى الجامعات، وكان شديد الخجل شديد الطيبة، منعَتْه ظروف أسرته المحافِظة وعمله المحترم وعُمره الذي شارف الأربعين من أن تكون له أية مغامرات من أي نوع.

ولقد وجد في صُحبتنا لونًا من الحياة لم يألفه وإنْ كان يتمنَّاه، وعوَّضته شقاوتنا عن استقامته التي كانت مضرب الأمثال، وكان شديد المحافظة على المظهر في الخارج، فإذا ضمَّه معنا منزل واحد بدا على طبيعته المرحة، وسلك سلوكًا يختلف تمامًا عن السلوك الذي كان يُبديه أمام الناس.

وفي تلك الليلة نصَحَنا بألَّا نقترب من المرأة التي تجلس وحيدة وأكَّد أنها تنتظر رجلًا، وهدَّدَنا بأنه سيغادر الكازينو إذا نحن أقدَمْنا على عمل طائش من هذا النوع، ولكننا لم نستمع لنصيحته وقمتُ أنا وغزالي، وبعد لحظة كنا نجلس مع السيدة التي تجلس وحيدة، ولم تلبث ضحكاتنا نحن الثلاثة أن ارتفعت تُعلن للجمع المتربِّص بنا أننا في غاية الود والانسجام!

وسرعان ما غيَّر الرجل الطيِّب رأيه فلم يُغادر الكازينو، ولم يحتج علينا، بل أرسل إلينا مَن يخبرنا أننا نستطيع أن نطلب ما نشاء من الطلبات وأنه سيدفع الحساب!

وبعد قليل نهضنا مع الست خارج الكازينو في طريقنا إلى المنزل، ولم يكُن لدينا منزل كما لم يكُن هناك منزل لدى أحد من الشلة التي تتعقبنا، ورحنا نفكِّر أنا وغزالي في مكان نقصد إليه، ولم نهتدِ في النهاية إلا إلى بيت طالب أزهري اسمه الصدفي، كان يسكن وحده في الجيزة في شقة في بيت له مظهر البيوت الأنيقة، رغم أنه في الداخل لم يكُن يحتوي إلا على سرير شديد القذارة ومشنة عيش كانت دائمًا فارغة، وثلاثة كراسي كلها محطَّمة كأنها متخلِّفة من خناقة بين بعض الفتوَّات العتاة!

وكان الصدفي نفسه شديد الغرابة، مظهره يدعو إلى الإضحاك، كان قصيرًا ومشوَّهًا ويتكلم بالفصحى وبصوت عالٍ كأنه يخطب على الدوام، كان سعديًّا متحمِّسًا وهي ظاهرة شاذة تأملتها كثيرًا، ولكن لم أستطِع تفسيرها على الإطلاق، فلقد كان هناك وزراء سعديون، ونوَّاب سعديون، وشيوخ سعديون، ولكن أبدًا لم يكُن هناك شبَّان سعديون.

كان الشباب موزعًا تلك الأيام بين الوفد ومصر الفتاة والشيوعيين والإخوان، وكان الصدفي هو الشاب السعدي الوحيد الذي قابلته في حياتي، وكنت دائم العراك معه، شديد السخرية به، هازئًا من معتقداته، متهمًا إيَّاه بالرشوة إذ لا يُعقَل أن يكون الإنسان سعديًّا بضميره، خصوصًا إذا كان شابًّا، ولا بد أن يكون لهذا الموقف الغريب ثمن مدفوع!

وأعتقد الآن أن موقف الصدفي كان مدفوع الأجر، وأنه كان أجرًا زهيدًا لأنه كان دائم الشكوى من الإفلاس، وكان يبدو دائمًا شديد الإرهاق والشحوب.

ولقد استقبلنا الصيرفي بفرح شديد، وعندما وقَع بصره على المرأة التي معنا لمعَت عيناه ببريق غريب، واستقبلَتْه المرأة بفتور وباحتقار شديد، فقد كان يرتدي جلبابًا مخططًا وحافي القدمين، وكانت فانلته تبرز من فتحة جلبابه وكان فيها من الثقوب أكثر مما فيها من القماش.

واعتقدَت المرأة أنه خادم في المنزل وعاملَتْه طول السهرة على هذا الأساس.

ولم تلبث شلة الأصدقاء أن اقتحمت علينا المنزل، وكعادة الفقراء أردنا أن نزيف الواقع المُر وأن نخدع أنفسنا، وأن نضفي على الجو مسحة من الشاعرية والخيال، واكتتبنا جميعًا لنحصل على زجاجة رخيصة من الكونياك الرديء، ومن جهاز الراديو العتيق الذي تعشِّش فيه الصراصير رُحنا نستمع إلى موسيقى حالمة، وصعد غزالي على أكتاف أحدنا ولفَّ حول لمبة النور قطعة من الورق الأحمر، ورحنا نسهر فرحين في هذا الجو الهزيل، جو كلما تذكرته الآن اقشعرَّ بدني من هول ما كنا فيه، جو تجتمع فيه امرأة صايعة قبيحة وعشرة شبان ورجل رزين وزجاجة خمر رخيصة وراديو كان لا يواصل الغناء إلا بخبطة يد قوية تهز أجهزته العتيقة التي تودُّ أن ترتاح من هذا الشقاء اللعين!

المهم أن السهرة اكتملت، وعندما جاء الصباح كان علينا أنا وغزالي أن نواجه الموقف الصعب، ولم يكُن معنا سوى ستين قرشًا هي كل ما مع الشلة من نقود، خمسون قرشًا دفعها الرجل الرزين وعشرة قروش هي كل ثروة الآخَرين!

كانت المرأة تقف أمام المرآة تسوِّي شَعرها وتغنِّي بصوت مسلوخ أغنية شائعة، وكان الصدفي يقف في الصالة محمومًا وعيناه مصوبتان نحونا كأنهما فُوَّهتا بندقية مستعدة للإطلاق … والسبب أن المرأة الصايعة رفضت بشدة أن يختلي بها الصدفي وكان هذا تصرُّفًا طبيعيًّا من جانب المرأة. فهكذا الفقراء دائمًا يريدون في أي مناسبة أن يؤكدوا لأنفسهم أن هناك مَن هُم أفقر منهم، وهكذا الحقراء أيضًا يريدون أن يثبتوا ولو لأنفسهم أن هناك مَن هم أحقَر منهم.

وكانت تلك الليلة هي فرصة الست الصايعة، ولقد أصرَّت على موقفها وظلَّت متمسِّكة برأسها لا تتزحزح، ورغم التوسُّلات والشفاعات فإنها رفضت بشدة، وبدا عليها في لحظة أنها مسألة مبدئية، وأنها على استعداد لتواجه الموت في سبيل هذا المبدأ العظيم!

ولما ضاعت كل المحاولات عبثًا، قرَّرنا تجاهل الأمر تمامًا، واتفقنا على ضرب الصدفي لو اعترض طريقنا أو حاول أن يقوم بحركة انتقام من أي نوع.

وكانت المرأة الصايعة قد انتهت من زينتها عندما أقبلت علينا تتقصَّع كأنها ممثلة سينما … وبدت تلك اللحظة بشعة كغوريلا مزوقة، ووقفت أمامنا فجأة ومدَّت يدها تطلب النقود وهمس غزالي في أذنها أن الحساب سيتم في الخارج وليس أمام الصدفي الغاضب المتحفِّز المطعون في كبريائه، ولكن الست رفضت بشدة أن تتزحزح خطوة إلا بعد أن تحصل على النقود.

ومد غزالي يده بالمبلغ الموجود، ولكنها شهقت وتقصَّعت وألقت بالمبلغ على الأرض وطلبت عشرة جنيهات لا تنقص مليمًا وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور!

وضحكتُ أنا وغزالي، فلم نكُن في هذه اللحظة قد رأينا عشرة جنيهات كاملة، وكان اليوم آخر شهر ولو أننا فتَّشْنا الجيزة كلها فلم نكُن نعثر على عشرة جنيهات.

ولقد كنا متعبين للغاية بعد أحداث تلك الليلة الحافلة … ولم نكُن قادرين على النِّقاش، كما أننا لم نكُن مستعدين لمواجهة امرأة متنمرة وفي بيت رجل أكثر تنمُّرًا!

ولذلك — وبدون اتفاق — فتحنا الباب فجأة بعد أن جمعنا النقود المبعثرة على الأرض وانطلقنا هاربين إلى الشارع، ولكنا لم نبتعد كثيرًا حتى توقفنا في عرض الطريق نستمع إلى الصراخ الذي انبعث من داخل المنزل، ولم يكُن الذي سمعناه هو صراخ المرأة، ولكن صراخ الصدفي!

هذه إذَن هي نهاية الصدفي في هذا اليوم المشئوم! ليلة معذبة بالنسبة له وصُبح أغبر! ولكن الصراخ لم يلبث أن تلاشى ثم هدأ كل شيء.

وتوقعنا أن تخرج المرأة ولكنها لم تفعل، ولمَّا طال غيابها جلسنا على قهوة الحريري القريبة وطلبنا إفطارًا وشربنا الشاي واشترينا علبة سجائر كاملة، وجلسنا ندخِّن في هدوء … كأننا نستقبل يومًا جديدًا من أيام الحياة في ثقة زائدة.

وفي الظهر خرجت المرأة الصايعة ومعها الصدفي، ووقف معها على محطة الترام حتى ركبت، ولمَّا انطلق بها الترام رفع يده يلوِّح لها كأنه صديق يودِّع صديقته العزيزة وهي تبدأ رحلة ميمونة إلى باريس.

أغرب شيء أن الست الصايعة لم تنقطع عن الجلوس في كازينو شهريار، ولكنها كانت كلما رأتني أنا وغزالي أشاحت عنَّا بوجهها: رغم أن الرجل الرزين أستاذ الجامعة قد تنازل عن كبريائه وتجاهل مركزه الاجتماعي وقضى معها ليلة بأكملها في الكازينو يعتذر لها، ثم اختفت الست من حياتنا ومن الكازينو بعد ذلك … ثم علمنا أنها تزوجت!

وممَّن؟

من أستاذ الجامعة الرزين نفسه! ودنيا عجيبة وواقع … ولكن أغرب من الخيال!

لذلك كان عرض الرجل الطيِّب بالزواج موضع دهشتي! فهو أعلم الناس بظروفي كما أنه يعلم تمامًا أنه ليس في حياتي امرأة! وعندما سألتُه عن سبب هذا العرض قال على الفور، أنت محتاج إلى امرأة إلى جوارك، موهبتك ينقصها التنظيم، لو أنك حصلت على كفايتك من النوم وكفايتك من الطعام لاستطعت أن تُنتج شيئًا أعظم، إنك مادة خام طيِّبة وفي حاجة إلى مَن يبنيك!

وعندما سألته: ولكن أين هي الزوجة التي ترضى بهذه الصفقة الخاسرة؟

أجابني في هدوء وقد رفع وجهه عن الكتاب الذي يقرؤه: صفية!

وكانت صفية امرأة رغم أنها لم تتزوج قط، وكانت من أسرة ثرية، وتتمتَّع بروح متشرِّدة، وكانت تتردَّد على دور الصحف مقنعة نفسها أنها مثقفة وأنها عالمة، وأن عليها واجبًا ثقيلًا هو تعليم الشعب ورفع مستواه، وكانت متبجِّحة لا تدرك كم هي غبية وحمقاء ومزيفة! وكان الشعب في نظرها هو مجموعة المثقفين الذين تجلس معهم وهم شلة الأفندية الذين تقضي أوقاتًا سعيدة في صحبتهم.

ولمَّا أبديتُ له رأيي في صفية، قال في حسم، تتزوَّج لا لتُصلح أحوال الكون، ولكن لتُصلح من شأنك وأنت في حاجة إليها لمدة عامين أو ثلاثة، ثم تصرَّف بعد ذلك كما تهوى!

ورُحتُ أفكِّر في الأمر … وبعد أسبوع وافقتُ على العرض ولم يبقَ إلا التنفيذ … وتمَّ الأمر في هدوء … سحبها الرجل الطيب إلى كازينو شهريار ذات يوم لكي تتعرَّف عن قرب إلى الولد الشقي الذي سيكون زوجًا لها في المستقبل ودعوتها أنا على الغداء، فتة ولحمة راس وطرشي بلدي، وجلسَتْ تتفرَّس في الطعام كأنها خوجاية من بلجيكا تشاهد قطعة أنتيكا مصرية لأول مرة! ثم صحبتها في جولة داخل الجيزة وهي مدهوشة لِما ترى ولِما تسمع، وانطلقتُ على سجيتي أنكِّت وأضحك وأصافح كلَّ مَن ألقاه من أبناء البلد الطيِّبين، ويعلم الله كيف استدنت لأواجه نفقات هذه الدعوة، فقد أنفقتُ يومها ما يقرب من جنيه!

وفي المساء انصرفَت الست صفية، ثم علمتُ في اليوم التالي أنها رفضت، والسبب … أنني بلدي.

ولقد حدثت هذه المسرحية بين الست صفية وثلاثة شبَّان آخَرين غيري، أحدهم الآن نجم من نجوم السياسة في مصر، والآخَرون من رجال الأعمال الناجحين للغاية، وقد رفضتهم الست جميعًا.

وأنا أدرك السبب الآن، فلقد كانت صفية تتمنَّى من أعماقها أن تتزوج الرجل الطيب! وإلى هذا الحد كان الرجل الطيب يعرفها، ولذلك آثَر أن يبتعد عنها، ولما يئس من العثور لها على زوج مناسب، تزوَّج الرجل الطيب فجأة وغادر مصر إلى الهند وقضى هناك سنوات طويلة، ولا تزال الست صفية وهي الآن في خريف العمر — تنتظر الزوج المناسب! ولكنها لم تعُد نفس السيدة التي كنت أعرفها من قبل، ذبلت وجفَّت وانزوت، وأصبحت كقطعة قماش قديمة ممزَّقة وباهتة اللون!

ولقد غادر الرجل الطيِّب مصر فجأة ذات يوم من عام ١٩٤٨ وكانت حرب فلسطين على الأبواب، ولقد حضرنا اجتماعًا ساخنًا في فندق شبرد حضره «زعماء العروبة» وقتئذٍ، وفي نهاية الاجتماع أخرج أحدهم مسدسه وأطلق منه عيارًا في الهواء، وقال كلمة صارت مثلًا: تكلَّمَ السيف فاسكت أيها القلم!

وكتبتُ يومئذٍ كلمة قصيرة عن الاجتماع، وعلَّقتُ في نهايتها على الكلمة المأثورة التي أطلقها الزعيم إياه!

تكلَّمَ السيف فاسكت أيها القلم!

وقلت: وسكت القلم، وتكلَّم السيف … سيف الإسلام عبد الله!

مجرَّد نكتة حزقتني ولكنها كانت الحقيقة المرَّة، وشعرتُ بضياع شديد وفراغ لا حدَّ له بعد سفر الرجل الطيب.

ها أنا ذا وحدي مرَّة أخرى بلا أي سلاح، والرجل الطيِّب غادر مصر إلى الهند، ويبدو أنه سيغادرها نهائيًّا، ولكن أنا محكوم عليَّ بالبقاء في الحضيض إلى الأبد.

فلا أنا أستطيع أن أجد مكانًا لقدمي في الزحام، ولا أنا أستطيع أن أبحث عن هذا المكان بعيدًا عن مصر، وفكرة الهجرة نفسها لم تكُن تروق لي، فأنا أشعر بارتباط حقيقي وبحنين جارف إلى الأرض، ولا يوجد مكان في الحياة يستطيع أن يعوِّضني عن حَوَاري الجيزة وميدان الساعة وشريط الترام وشاطئ النهر.

وطاف بخاطري أن أعود مرَّة أخرى إلى الوظيفة، ولكن سُرعان ما تخلَّيتُ عن هذه الفكرة نهائيًّا، فأنا لا أطيق الحركة في نطاق روتين لا يتغيَّر، كما أنني لا أتقيَّد بمواعيد، ولا أحسن عملًا أُجبَر عليه، وأنا في حقيقة أمري صايع أكتب أحيانًا، ولو تُرِكَت لي حرية الاختيار لاخترتُ أن أكون مجذوبًا أطوف حول ضريح السيدة أصرخ في الليل كالذئاب بكلام غير مفهوم.

وألذ لحظات حياتي هي تلك التي أقضيها وأنا على سفر، وفي أي لحظة أستمع فيها إلى صفير قطار يسابق الريح أحسُّ برغبة شديدة في البكاء، وكلما رأيتُ طيارة تحلِّق في الجو انتابتني حالة غريبة، فأتوقَّف عن السير وأظل رافعًا رأسي إلى أعلى أتتبعها حتى تختفي عن ناظري.

وأعظم أغنية حرَّكَت مشاعري وأنا طفل وألهمتني لحظات عظيمة من الكآبة والحزن كانت أغنية شائعة منذ أكثر من ثلاثين عامًا في مصر … وكانت كلماتها تقول: «يا طير يا مروح على بلدك ليه بتنوح؟!»

الوظيفة إذَن لا تصلح لي، وأنا لا أصلح لها.

وهكذا عُدتُ من جديد إلى الجيزة، وإلى شارع عباس … وإلى رجل كانت تربطني به صِلة صداقة عميقة، ويشدُّني إليه إعجابي به على نحو ما … ولكني عُدتُ إليه وقد تغيَّرَت سحنتي وتغيَّرَت هيئتي، عُدتُ إليه وقد غيَّرَت مني الأيام، وأكلَت مني الأحداث، وشيَّبَتني الأيام السُّود التي عاصرتُها.

وهكذا عُدتُ إلى الجلوس على باب دكان عبده المكوجي … عُدتُ إلى عالَمي العجيب الرائع، عالَم حسنين الطبَّاخ وصابر السفرجي، والمعلم قطب.

ولكني ولأول مرَّة في حياتي بدأتُ أخشى المستقبل … وأتحسَّس طريقي وسط الظلام الذي لا تبدو من ظلامه بارقة أمل ضئيلة!

وذات صباح وصلني خطاب خلَّصَني من قلقي وهمي، وكان الخطاب من جهة رسمية، ويحمل ثلاثة سطور لا غير، وكان يدعوني إلى التجنيد الإجباري في صفوف الجيش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤