٦

كان استدعائي للجيش حلًّا لجميع المشاكل، وكنت فخورًا على نحو ما، ولأنني ضمن أول دفعة تدخل الجيش بعد إلغاء نظام البدل … وهكذا غادرتُ الجيزة ذات صباح بعد أن استعرتُ بالطو قديم من أحد أصدقائي، وسافرتُ إلى قريتنا وقضيتُ في القرية عدَّة أيام استراحت فيها نفسي من القلق والعذاب … ها هي ترعة سبك التي أحبها وكأنها كائن حي!

ففي قاع هذه الترعة كثيرًا ما قضيتُ أيام طفولتي ساعات طويلة أبلبط في الطين. ومن هذه الترعة أصابتني مأساة حياتي، البلهارسيا، والتي لم أفلح في التخلُّص منها إلا بعد عذاب.

وهنا الرياح المنوفي الذي أشم على شاطئه رائحة غريبة ليس لها مثيل في أي مكان، وهنا منازل الجدود والأعمام وقد رحل معظمهم عن هذه الحياة، وهنا الفلاحون الطيبون الخبثاء البلهاء أفقر وأتعس مخلوقات الله على هذه الأرض.

وفي هذه الأيام راقت في عيني بنت فلاحة تمنَّيتُ من أجلها أن أدخل الجيش وأتزوجها على أن تبقى في القرية وأزورها أحيانًا، وكانت مليحة وبضة وفيها ملامح ممثلة أمريكية شهيرة كنت أعشق أفلامها، وكان جمالها طازجًا وعفيًّا، وكانت جريئة تهوى المزاح والغناء، وكانت حين تغنِّي يسيل من صوتها المبحوح نبرات حزينة كأنها البكاء، ولكني رحلتُ ذات صباح من القرية دون كلمة وداع من البنت الفلاحة، ولم أرحل وحدي ولكن مع قافلة حزينة من عشرة شبان فلاحين، صادق ويوسف وجاد الحق وآخَرين.

وكان بعضهم أصدقائي، والبعض الآخَر أراه لأول مرة، وخرجتُ أنا على رأس الموكب أركب حمارًا وفلاح قريبي يجري من خلفي، وخرج جدي الشيخ خليل يودِّعنا حتى شاطئ الرياح، ثم منحني جنيهًا وتمنَّى لي السلامة … وعاد! وخطفتُ نظرة على جدي وهو يحثُّ الخُطا نحو القرية، وأدركتُ عندئذٍ أنني أنتقل إلى حياة جديدة مختلفة، وأنني لأول مرة أواجه المرحلة الجديدة بلا أصدقاء.

كانت الشمس على وشك أن تتوسَّط السماء حين وصلنا إلى مركز بوليس الباجور، وفي دقائق انتهت إجراءات تسليمنا وصافحنا الخفراء ومضوا، وواجه شاويش المركز مشكلة وجودنا في المركز حتى الصباح، وراح يسأل كل مسئول عن المركز عن حل مناسب للمشكلة، كانت المشكلة تتلخَّص في أننا عهدة لديه، وكان السؤال: هل يُلقي بنا في الحجز؟ ولكننا لسنا وش ذلك كما أفتى أحد الصولات الطيبين! إذَن هل يتركنا نتجول في فناء المركز؟ ولكن مَن يدري … فقد يهرب أحدنا، خصوصًا أن بعضنا كان يبكي بحرقة وكأنه ذاهب إلى الإعدام.

وفي المساء ذهب الشاويش وأحضرَ كاتب المركز، وهو رجل مسئول خطير المسئولية، وكان شابًّا صغيرًا حديث العهد بالوظيفة، عندما وقع بصره علينا، صاح على الفور: «ارموهم في الحجز» وعلى الفور انطلقت الصيحات والنبي يا بيه احنا غلابة، نبوس رجلك يا بيه ربنا يخليك … وانقلب المركز إلى مناحة، ولكن البيه لم يتزحزح خطوة … وأصرَّ على موقفه وكان لا بد من تنفيذ الأمر.

وانهالت الكرابيج فجأةً تمزِّق الهواء وتمزِّق الجلود، وسرعان ما هدأت الضجة، وانفتح باب السجن الكبير ليدخل عشرة رجال سيصبحون بعد أيام عساكر في جيش مصر! وقبل أن نخطو داخل الزنزانة القذرة المعتمة ناداني الأفندي الكاتب وقال وهو يهزني برفق: إنت مش محمود؟ ولمَّا أجبتُ بالإيجاب صافحني بحرارة … وتبيَّنتُ وأنا أتفرَّس في وجهه أنه فخري صديقي القديم وزميلي في مدرسة المعهد العلمي. وقضيتُ الليل كله في حجرة فخري نشرب الشاي وندخِّن السجاير، ونستعيد ذكريات الشقاوة في شارع سلامة أيام التلمذة ولأجل خاطري أفرجَ عن الآخَرين وسمح لهم بالنوم في فناء المركز على ضمانتي.

وفي الصباح أوصى الشاويش الذي صحبنا إلى القاهرة أن يعاملني معاملة كريمة، وسِرنا من جديد إلى محطة السكة الحديد، الفلاحون مُقيَّدون بالحبال، وأنا أسير بجوار الشاويش نتبادل الحديث والسجاير والفلوس أيضًا، فقد حدث أن وقفنا ننتظر القطار في محطة بنها، وكان علينا أن ننتظر لمدة ساعة واستأذنتُ من الشاويش لمدة دقائق أزور خلالها خالتي التي تسكن في بنها، وعندما عُدتُ لم أجِد أحدًا في المحطة، واكتشفتُ أنني تأخرت كثيرًا وأنني تحت إلحاح خالتي تناولت طعام الفطور وشربتُ الشاي ثم خرجتُ أتجوَّل في شوارع بنها قبل أن أذهب إلى المحطة، وركبت القطار الآخَر وفي نيتي أن أفعل شيئًا … إذا وجدت القافلة في انتظاري في محطة مصر كان بها … وإذا لم أعثر فالفرار إذَن هو الشيء الوحيد الذي يجب أن أفعله. فلقد عانيت كثيرًا خلال الساعات الأخيرة، وشعرت بمرارة من منظري وأنا أزحف إلى جوار الشاويش ومن كلمات النفاق التي تناولناها خلال الرحلة، وهي كلمات زائفة، وباردة، كما أنني لم أكُن تعوَّدتُ قبل ذلك أن أنهض بأمر وأسير بأمر … وأتوقَّف بأمر، وإذا كان هذا هو الحال والأمر وأنا في يد البوليس، فكيف يكون الحال عندما يصبح في يد الجيش؟!

دخل القطار محطة مصر … ورحت أتلفَّتُ على الرصيف، ولكني لم أعثُر على أحد هناك، وعندئذٍ قرَّرتُ أن أهرب … ولكن إلى أين … إلى الجيزة؟ إنهم سيبحثون عني حتمًا في الجيزة وسيقبضون عليَّ … إذَن أهرب إلى مكان آخَر، ولكن أين هو هذا المكان؟ ورُحتُ أستعرض في ذاكرتي كلَّ الأماكن التي أستطيع أن أهرب إليها، ولكن قبل أن أستقرَّ على مكان لمحتُ ضجَّة من بعيد، وصراخ يتصاعد في فناء المحطة … وشدَّني فضولي إلى هناك … وهو فضول سيسبِّب لي متاعب لا حصر لها في المستقبل، واخترقتُ الحلقة المضروبة حول الرجل الذي يصيح وعندما أصبحتُ أمام الحلقة، اكتشفتُ أنني أصبحت وجهًا لوجه أمام الشاويش … وأنه هو نفسه الذي يبكي … ومدَّ يدًا عملاقة جبارة وقبض على عنقي، وعبثًا حاولت أن أخلِّص نفسي منه دون جدوى، ولم يترك عنقي يفلت من بين أصابعه إلا في معسكرات الجيش.

كان المعسكر الذي ضمَّنا يقع على مشارف الصحراء في أطراف العباسية وكان اسمه معسكر العزل.

ومن أول دقيقة تم تفنيطنا … وعزلوني بعيدًا عن زملاء الرحلة، ووضعوني في خيمة مع سبعة أفندية متعلِّمين، هم حصيلة هذا اليوم من المجنَّدين أصحاب المؤهلات … كان الأفندية السبعة كلهم من الريف، وأبناء عم جميعًا، ومستورين، وكانت أُسَرهم قد انتقلَت إلى المدينة خلفهم ساعين بالوسائط والشفاعات لدى أصحاب النفوذ ليخرجوا «الأولاد» من هذه المحنة.

وكان المعسكر يسلِّم روَّاده ماركات بخمسة قروش ليشتري من البوفيه طعامه وشرابه ولكن سكان خيمتي كانوا يتبرعون بالماركات لشاويش المعسكر، الشاويش خلاف … وهو رجل له صوت مكنة طحين خربانة، وقلب من بلاط، وعقل أغلب الظن أنه من مصاصة قصب، وكان شديد الزهو بهيئته، شديد الإصرار على تنفيذ الأوامر كما هي دون أدنى تقصير.

ورغم أنه فلاح فقد كان يحتقر الفلاحين من أعماقه، وكان يُطلق على زملائنا في المعسكر من أبناء الريف وصف الطلاينة، وكان يعتقد أن الطلاينة هم أسوأ ناس على ظهر الأرض، وكان يتردَّد علينا دائمًا أثناء تناول وجبات الطعام، وكان يتلكَّأ عندما ندعوه إلى الأكل معنا ثم يُقبِل بعد إلحاح، ولكنه بعد أيام، أصبح يهجم على الطعام دون دعوة، بل أصبح يوصي بأصناف معيَّنة، وأكثر من هذا كان يوجِّه نقدًا لبعض أصناف الطعام، ولم تكُن خيمتنا تستهلك من الطعام إلا ألذه وأشهاه: فطير مشلتت، فراخ محمرة، وعسل نحل، قشطة فلاحي، جبنة قديمة، بيض مسلوق، رز معمر! وكان خلَّاف يعشق الرز المعمر إلى درجة الجنون، وذات مساء أكَّد لنا ونحن جلوس أمام باب الخيمة أن الذي يأكل الرز المعمر في كل وجبة يعمر إلى سن المائة، ويبقى في صحة جيدة إلى آخِر يوم من أيام العمر، وأن معنى معمر مأخوذة من العمر الطويل، وفي ذلك المساء نهض خلَّاف فجأة في منتصف الليل وأطلق صفارة طويلة وسرعان ما استيقظ جميع الوافدين للتجنيد، ولما سألتُه عن السبب قال في هدوء، عشان يلموا ورق! ولما لم يكُن هناك ورقة واحدة في أنحاء المعسكر، فقد هزَّ خلاف رأسه وقال: يلموا أي حاجة دول طلاينة!

وخلال سبعة أيام في المعسكر رأيت أشياء عجيبة، المجنَّدون — ما عدا الأفندية — تحولوا إلى مجموعات، أبناء المنوفية وحدهم، وأبناء الشرقية وحدهم، والصعايدة وحدهم، ولكن أنشط وأعظَم مجموعة كانت تضمُّ أبناء الإسكندرية، ولقد جاء أبناء الإسكندرية إلى المعسكر ليس كما يجيء الناس، جاءوا فرادى ومع كلٍّ منهم عسكري، وفي يد كلٍّ منهم جوز كلبشات وأمر من البوليس بمراقبة النفر، فإذا دخل الجيش كان بها، وإذا أُعفِي من التجنيد فلا بد من تسليمه للبوليس، واكتشفت أنهم جميعًا من بحري والأنفوشي، وأنهم جميعًا مراقبون بعد سجن طويل من أجل جرائم لا تمس الشرف، وكانوا يسهرون الليل بطوله مضفين على جو المعسكر ساعات من البهجة والمرح وكانوا جميعًا يحفظون ألحان سيد درويش، ويتعصَّبون لكل ما هو سكندري.

وكانت الإسكندرية في رأيهم هي مركز الكون ومحور العالم، كما أن أهلها هم أذكى ناس على ظهر الأرض! وكانوا يحتقرون الشاويش خلَّاف بشدة، ويتعمدون عدم تنفيذ أوامره، وكانوا يسمونه القُفَّة ردًّا على تسميته لهم بالطلاينة، ولكن رغم هذا التحدي فقد سارت الأمور عدة أيام في هدوء قبل أن ينفجر الموقف داخل المعسكر … ورغم رذالة الشاويش خلَّاف فإنه كان محتملًا، فقد كان خفيف الدم، وكانت تطلُّعاته محدودة، ومطالبه سهلة ولكن الصول شفيق كان أكبر مصيبة حطَّت علينا نحن الأفندية.

كان يسهر معنا طول الليل مصرًّا على أن يقرأ علينا كشاكيل ضخمة من إنتاجه الأدبي … وكان مصرًّا على أنه لو صادف بعض الحظ الحسن في الحياة لأصبح مثل طه حسين والعقاد، وكان يحلم بأن يترك الخدمة يومًا ما ليصبح كاتبًا كبيرًا ذائع الصِّيت. وعندما قرأ أول سطر في الكشكول الضخم الذي سحبه علينا، تبيَّنتُ كم هو مُدَّع وكاذب مهبول: «بينما كنت أسير في منازل الزرع الأخضر، بين النسيم العليل والهواء البليل والطيور تغرِّد على أفنانها، والحيوان يتبخطر في أرجائها» … وسكت فجأة ليسألنا سؤالًا مفاجئًا، عارفين يتبخطر يعني إيه؟ وأجاب بنفسه على الفور، يعني يتمخطر، شايفين الفن؟! ولم يكُن في كلامه فن ولا حتى صنعة، ومع ذلك ظلَّ يقرأ علينا كل يوم كشكولًا ضخمًا، ونحن نستمع إليه في أدب وفي خوف، وكنا أحيانًا نردِّد أمامه عبارات الإعجاب وكان هو ساذجًا ومغرورًا إلى حد أنه صدَّق كلَّ حرف قُلناه!

وذات صباح نشبَت المعركة في المعسكر، طلب الشاويش خلَّاف من أبناء الإسكندرية أن يجمعوا الورق، ولمَّا لم يكُن هناك أي ورق، فقد رفضوا تنفيذ الأمر، ومدَّ الشاويش يده ولهف أحدهم قلمًا ولكن قبل أن تصل يده إلى المكان الذي اعتادت أن تصل إليه، كان الشاويش خلَّاف قد أصبح جثة ممددة على الأرض والدماء تنزف من كل جزء فيه، وطاح عيال إسكندرية في المعسكر كله، وضربوا الشاويشية والصول والمجندين، وزعق النفير: كبسة! وتدفَّقت قوات كبيرة حاصرت المعسكر، وسرعان ما هدأت المعركة، وتم عزل أبناء الإسكندرية في معسكر آخَر قريب.

وذهبنا للكشف الطبي في النضارة، ووقفنا جميعًا عرايا في حوش واسع تنبعث منه روائح كريهة أشبه بالروائح التي تنبعث من بيت الأسد في حديقة الحيوان، وعندما عُدنا إلى المعسكر كنا قد أصبحنا جنودًا في الجيش، أما الآخَرون فقد أطلقوا سراحهم بعد الكشف، ولم يعُد معي من أبناء بلدنا إلا واحد فقط، والباقون جميعًا شرك، وكان السبب واحدًا: ضعف الرؤية إلى درجة العمى!

ولقد أتيح لي أن أعيش عشرين يومًا في المعسكر ثم استطاع أحد أفراد أسرتي وهو مستوظف، وكان على علاقة بأحد الأحزاب، استطاع أن ينتزعني من المعسكر ومن الجيش كله لأعود من جديد إلى الجيزة تحت الطلب! وكانت تحت الطلب تعني أنني أكون مستعدًّا دائمًا لدخول الجيش عند أي لحظة خطر يتعرَّض لها الوطن! وهي نكتة بالطبع لأنني خرجتُ من الجيش والوطن يتعرَّض فعلًا للخطر، ولم أكُن أنا وحدي الذي خرجتُ، خرج معي كل الأفندية، وتركنا الطلاينة خلفنا للشاويش خلَّاف وللصول الذي يحلم بالشهرة عن طريق الأدب.

وخرجت من المعسكر إلى دكان عبده بكر، وبعد شهر واحد أصبحتُ محرِّرًا في دار الهلال، ولكن خلال هذا الشهر وقع حادث غريب، فقد هبط عليَّ ذات مساء شاب كان يعمل معنا لفترة في مسامرات الجيب، وكان اسمه خلف وكان وسيمًا وصحيح البدن وله هيئة وشكل أبناء الذوات الهنود، وكان يعمل محاميًا ولكنه صادف كثيرًا من المتاعب فلجأ إلى الصحافة وكان قريبًا إلى قلب الرجل الطيِّب، ولقد نصحه الرجل الطيِّب بأن يتجه إلى الترجمة، وكان رأي الرجل الطيِّب أن المترجم الذي ينقل أدب الشعوب إلى لغتنا ينبغي أن يكون أديبًا وفنَّانًا ومحبًّا للشعب.

ولقد وافق خلف على هذا الرأي فعلًا وانهمك في ترجمة كتاب لدستوفسكي، ولكنه سرعان ما هجر دستوفسكي إلى سمرست موم، ثم هجر الجميع إلى كاتب فرنسي وترجم له فصولًا من كتاب فلسفة الحب! ثم ما لبث أن اختفى نهائيًّا من المجلة ولم أرَه بعد ذلك إلا عندما هبط علينا في دكان عبده بكر.

ولقد ارتعتُ بشدة عندما رأيته، كان يبدو عليلًا ومنهكًا للغاية، وكان منظره يدعو إلى الأسى، وعيناه متقرِّحتان، وفي وجهه بثور، وحذاؤه مخبوط ومضروب في أكثر من موضع … وبنطلونه ممزَّق وجاكتته باهتة اللون وقميصه مُمَزَّق كأنه خارج لتوِّه من خناقة حامية، وعندما استفسرتُ منه عن حاله لم يتكلَّم … آثَرَ الصمت البليغ وسرح في ملكوت الله … وبدا لي وأنا أتفرَّس فيه كأنه مجذوب يعيش حول ضريح سيدنا الحسين.

وفي آخِر الليل طلب منَّا أن نسمح له بالنوم في دكان عبده حتى الصباح … ورفض عبده في أول الأمر، ظنًّا منه أن خلف لا بد أن يكون لصًّا عريقًا اعتاد الإجرام، وهاربًا من البوليس ويبحث عن مكان يلجأ إليه … وفي النهاية وافق بشرط أن يغادر الدكان في الصباح الباكر قبل أن يكتشف وجوده أحد … ومع ذلك فقد نام خلف في دكان عبده أسبوعًا كاملًا، وكان أكثر المتحمِّسين له عبده نفسه، وكان شديد الكرم معه، يشتري له الطعام ويعد له الشاي ويمده بين الحين والآخَر بالسجائر.

ولكن عبده الذكي كان يرمي إلى شيء آخَر، فقد كان عبده هاويًا للمسرح وكانت له فرقة مسرحية خاصة به، وأراد أن يستغل خلف في تأليف الروايات … ولكن خلف المسحوق تمامًا لم يستطع أن يكذب طويلًا على عبده، ولم يلبث أن غادر الدكان ذات صباح ولم يعُد، ولقد عرفتُ من الرجل الطيِّب بعد ذلك أنَّ خلف فقدَ عقله، وأنه نزيل مستشفى المجاذيب، ثم عرفتُ بعد ذلك أنه مات في الطريق، صدمَتْه عربة في مصر الجديدة ولفظ أنفاسه على الفور.

ولقد قُدِّرَ لي أنا أيضًا أن أغادر دكان عبده المكوجي إلى غير رجعة، وبعد رحلة قصيرة إلى دار الهلال ومقابلة لم تستمر طويلًا مع رئيس التحرير، وحديث قصير بالتليفون من إسماعيل الحبروك، أصبحت محررًا في دار الهلال … ولقد بدت دار الهلال أمام عيني شامخة وجليلة، والدار نفسها كانت نظيفة والرخام يلمع بشدة والسكون يشمل كل شيء على غير عادة دُور الصحف وكأننا في مستشفى من مستشفيات العاصمة الأنيقة.

ولقد تحدَّث معي رئيس التحرير حديثًا خاطفًا ولكنه بَلْوَر ولخَّص فيه كل فلسفة دار الهلال وكل أهدافها: نحن هنا نهتم بتسلية الناس، وعلينا أن نقدِّم للقارئ كل ما ينشده، إنه يبحث دائمًا عن كل شيء طريف! ولم أفهم وقتئذٍ ما هي الطرافة، وحسبتُ أنه يقصد الظرف وأن الشيء الطريف هو الشيء الظريف … وعندما استفسرتُ عمَّا يقصده رئيس التحرير، أجابني أحد المحرِّرين بحماس، يعني لازم تجيب شيء جديد، القارئ يحب الجديد، وضرب لي أمثلة حية من إنتاجه هو شخصيًّا.

وسحب عددًا من مجلة الاثنين … وراح يتصفَّحها ببطء ثم توقف عند صفحة معيَّنة وقال: بص، دا موضوع طريف، أنا عامله! وكان الموضوع في دولاب ممثلة شهيرة، وعدة صور عن ملابس الشتاء القادم ثم الممثلة نفسها وهي تعرِّي فخذيها، ثم الممثلة أيضًا وقد برز صدرها للهواء النقي!

ورأيت توقيع المحرر «بقلم طلال مرزوق» واندهشتُ لأنه لم يكُن في الصفحة أي شيء بقلم هذا الأستاذ، والموضوع المنشور كله بعدسة المصور، ولكن المجد كله للأستاذ مرزوق.

وتنهَّد الأستاذ بعد أن انتهى من شرحه العملي، ورفع سماعة التليفون في رشاقة وطلب الست الممثلة، وراح يدردش معها دردشة طويلة عن الموضوع، وما بذله في سبيل نشره وانتهى الكلام بموعد مع الممثلة في المساء، وعندما نهض واقفًا نظر نحوي في زهو ممتزج ببلاهة، وقال قبل أن يغادر الحجرة، إذا كنت عاوز أي حاجة أنا تحت أمرك … ثم قذف أمامي بكارت … وعلى الكارت كان اسمه بارزًا بحروف صفراء في لون الذهب، الأستاذ مرزوق، صحافي! ووضعت الكارت في جيبي وتمنَّيتُ أن يكون لي مثله في قادم الأيام!

كان فوج المحرِّرين الجدد الذين اقتحموا دار الهلال أخيرًا يتكدَّس أفراده جميعًا في حجرة واحدة، وكان منظر الحجرة الخشن البائس يُوحي للزائرين أن هذه الحجرة قد انفصلت نهائيًّا عن دار الهلال، كما أن كل الأصوات النشاز التي كانت تتصاعد في جو الدار الهادئة هدوء المقابر كان مصدرها هذه الحجرة التي أصبحت مقرًّا لهذا الفوج البائس من المحرِّرين الجدد.

وكانت النظرة الأولى إلى هؤلاء المحرِّرين تؤكد أنهم حديثو الصِّلة بالدار، فقد كان المحرِّرون القُدامى جميعًا يرتدون قمصان حرير وبِدَلًا أنيقة وأربطة عنق غاية في الحلاوة والجمال، وكان أحدهم واسمه نصرت عبد الحليم يرتدي نظَّارات ملوَّنة ويضع السيجارة دائمًا بين شفتَيه ويتكلَّم من طراطيف أنفه ويفلسف كل شيء وكأنه الفيلسوف جان جاك روسو نهض من قبره فجأةً ليهدي البشرية إلى طريق السلام.

وكان الأستاذ نصرت قد كتب عدَّة قصص قصيرة في مجلة الاثنين الواسعة الانتشار فأصبح نجمًا من نجوم المجتمع المصري ولكن لعدة شهور، ثم ما لبث أن اختفى اسمه من المجلة ثم اختفى هو نفسه من المجتمع، وقنع بركن في كازينو أوبرا كل مساء يدخِّن فيه الشيشة ويجتمع ببعض الأصدقاء الذين كانوا يؤمنون بعبقرية الأستاذ، ورغم انطفاء اسمه وذبول أحلامه في الشهرة والانتشار إلا أن وظيفته في دار الهلال كانت تُتيح له سيطرة كاملة على المحرِّرين، فقد كان يقوم بدور المراجع، وكان يستطيع أن يمنحك مائة جنيه كلَّ شهر، أو يمنحك نصف جنيه فقط لا غير لو أراد … ولذلك كان يقضي الساعات الطويلة في الحجرة البائسة مع قطيع المحرِّرين الجدد يحكي لهم أمجاده العريضة في الصحافة، ويصحِّح لهم معلوماتهم الخاطئة عن الحياة، وكان يصحبه خلال هذه الساعات صمت عميق من جانب المحرِّرين … ويضمن أيضًا نفاقًا لا حدَّ له من جانب البعض الطامع في مزيد من عطف الأستاذ ومزيد من فلوس الدار.

ولكني اكتشفت من أول لقاء أن الأستاذ فاضي تمامًا من كل ثقافة، وخاوي تمامًا من كل موهبة … وأنه قبل مجيئه إلى هنا كان باشتمورجي هرب من عيادة طبيب والْتَحق بدار الهلال كموظف في الإدارة، ولكنه استطاع بفضل نبوغه في النفاق أن يُنقَل من الأرشيف إلى التحرير، واستطاع أن ينشر عددًا من القصص … ثم ارتكب غلطته الكبرى عندما نسي أنه يحتل هذا المكان ليس بفضل عبقريته الفذة ولكن بفضل سلوكه كتابع أمين لأصحاب النفوذ في الدار … فلما شمخ بأنفه عليهم، عزلوه ببساطة وجرَّدوه من كل شيء … وأغلقوا عليه باب حجرة ضيِّقة ليراجع فيها أعمال المحرِّرين، غير أنه كان شديد الثورة ضد النظم القائمة في الدار، هذه النظم نفسها التي رفعته من كاتب في الأرشيف إلى كاتب قصة، وكان يزعم أن حقد أصحاب الدار عليه ليس إلا لكبريائه الوطني وثقافته العريضة!

وكان يحلم دائمًا بإصدار مجلة تقضي على مجلة الاثنين ثم تقضي على دار الهلال نفسها، وكان يؤكِّد دائمًا أن لديه مائة قصة جاهزة لنشرها في المجلة المزعومة!

ومضى شهر كامل وأنا أعمل في دار الهلال دون أن أعرف المبلغ الذي سأتقاضاه آخِر الشهر، كان عليَّ أن أقدم ما أستطيع من الموضوعات وكانت هذه الموضوعات تخضع لتقييم وتقدير مدير التحرير، وكانت العلاقة بيني وبين مدير التحرير لا تسمح بالخوض في هذا الموضوع، فقد كان رجلًا قصيرًا مشوَّهًا وحاد المزاج، وكان يسهر في نقابة الصحفيين يلعب القمار حتى الصباح ولكنه والحق أقول كان على دراية بهذا النوع من العمل في دار الهلال فقد كان يعرف الخط العام للمجلة والسياسة التي ينبغي أن تسير عليها، وكانت كل اهتماماته محصورة في الطريف والظريف من الأمور، وكان كل أصدقائه من المقامرين، وكل صديقاته من بين بنات الكومبارس المتردِّدات على أستوديوهات السينما، وكان أحيانًا ينشر لبعضهن صورًا بالمايوه عند اقتراب فصل الصيف باعتبارهن من بنات الأُسَر التي اعتادت الاصطياف وكانت له بطانة من المحرِّرين يسهرون معه أحيانًا ويتكلَّمون باسمه أحيانًا.

وكان هؤلاء المحرِّرون ينفقون عن سعة، ويدخِّنون نفس الصنف الذي يدخِّنه مدير التحرير ويرتدون نفس الألوان التي يرتديها … بل كانوا أحيانًا يقصُّون علينا نفس الحكايات التي يقصها عليهم، وعلى أنها حدثت لهم شخصيًّا وليس لمدير التحرير!

وجاء آخِر الشهر، ووقفتُ أمام عم حبيب صرَّاف الدار كبائع غلبان معكوم تحرِّي، وسألني عن اسمي عدة مرات، ثم ألقى نظرة على كشف أمامه، ثم أدخل يده في درج … ثم أخرج رزمة أوراق مالية وراح يعدُ فيها، وأدركتُ أن الرجل أخطأ، فهو يعد أوراقًا مالية من فئة العشرة جنيهات، وأنا شخصيًّا لم أكُن أطمع في أكثر من ستة جنيهات أو ثمانية، هذا إذا كنت سعيد الحظ! ولكن عم حبيب واصل العد ثم راح يفرد الأوراق أمامي، أوراق بلغت خمسين جنيهًا ثم ورقة من فئة الخمسة جنيهات، ثم ورقتين من فئة الجنيه ثم أوراقًا صغيرة من فئة العشرة قروش، وكاد يغمى عليَّ … فأنا لم أحلم أبدًا منذ أن احترفت الصحافة بأن أمتلك مبلغًا بهذا القدر، وأنا كنت أعتقد حتى هذه اللحظة أن الوزير يتقاضى خمسين جنيهًا في الشهر، وأن الملك يتقاضى أكثر من مائة جنيه … وها أنا ذا في لحظة أقفز إلى درجة الوزير، وها هو عم حبيب يمنحني خمسين جنيهًا وأكثر مرة واحدة … وأمسكت بالنقود في خوف … وتردَّدتُ في التوقيع فقد كنت متأكدًا أن النقود ليست لي … لعلَّها لرجل آخَر اختلط اسمي باسمه في ذهن عم حبيب.

وقرَّرتُ أن أصارح عم حبيب بالأمر؛ لكي أثبت له أنني رجل شهم وأمين … ولا أقبل المال الحرام مهما كان قدره ومهما كان مصدره! ولكن عم حبيب شخط شخطة عنترية أفزعتني، ودعاني إلى التوقيع لأفسح المجال لغيري من المنتظرين، ووقَّعتُ فعلًا، ولهفت المبلغ وخرجت من دار الهلال أجري، كأنني قاتل تطارده عشرة كلاب متوحشة!

وسبعة أيام كاملة وأنا صايع في الشوارع دون هدف … أرتاد البارات والمقاهي وأستعمل التاكسيات … وأدخِّن السجاير الأمريكاني التي يدخِّنها طاقم المحرِّرين الملتف حول رئيس التحرير … واشتريت لنفسي حذاءً جديدًا … فقد كان حذائي القديم قد بلي من كثرة الاستعمال، وكانت المياه المتخلفة من الأمطار تتسرَّب إلى قدمي من خلال الثقوب الكثيرة التي طرأت عليه … وكان لونه أجرب لم تعُد تنفع فيه الأصباغ ولا الورنيش ولقد ارتديتُ الحذاء الجديد داخل المحل، ثم قذفت بالحذاء القديم في الميدان الكبير وانصرفت هاربًا، وأحسستُ براحة لا حدَّ لها، وكأنني امرأة زانية تخلَّصت من جنينها الذي رُزِقَت به في الحرام.

وعُدتُ من جديد إلى دار الهلال … عُدتُ إليها وقد تغيَّرت كثيرًا، واكتشفت خلال الأسبوع الذي مضى أنني أصبحت أكثر رقة وأكثر طيبة وأقل غلظة وأقل حِدَّة عن ذي قبل … وجلست في سكون في ركن الحجرة أكتب، وقد اعتراني فجأة إحساس بأن ما أكتبه مهم، كنت أكتب موضوعًا عن فنَّان الشعب، الرجل أبو أرغول الذي يحتل كل أسبوع ركنًا في سوق الثلاثاء يغنِّي مواويل أدهم الشرقاوي ومسعود ووجيدة، ولقد وافق عليه رئيس التحرير بصعوبة، ووصفه بأنه شحاتة، وقال إن الفنَّان هو مَن يعمل في المسرح أو في السينما، أو البنت التي ترقص في الصالات … ونطق الكلمة بإنجليزية ARTIST وقال إن الكلمة ينبغي عدم ابتذالها … واستبدل العنوان بعنوان آخَر … مطرب الشعب!

وفجأة هبط علينا محرِّر من طاقم المحرِّرين إياهم، وجلس أمامي، وتفرسني بشدة، وسألني وهو يهز رأسه ويغمز لي بعينيه: هيه مبسوط؟

– الحمد لله!

– رحمي بك عمل لك مبلغ محترم.

– آه فعلًا!

– شكرته ولَّا لا؟

– لا والله!

– شوف العبط … مش تروح تشكره؟!

– بكرة بقى إن شاء الله!

– أقولك … تعرف إسكابينو؟

ولم أكُن أعرف إسكابينو، ولم أكُن قد سمعتُ به من قبل، وخُيِّل إليَّ أنه محل جاتوه مثل جروبي … أو كاتزانس، وربما هو قهوة مثل بوديجا والشمس … ولما بدا جهلي الشديد، أضاف الرجل الخبير: إسكابينو بتاع الكرافتات!

وهززت رأسي وقلت كاذبًا: آه.

طيِّب فوت عليه بعد الضهر، عنده تشكيله جديدة رائعة، هات نص دستة لرحمي بك وروح بكرة اشكره.

ونهض الرجل الخبير على الفور ولم يترك لي أي فرصة للرفض أو للرد … وجلست أفكِّر في هذا العرض المريب، نص دستة كرافتات لرحمي بك وأنا نفسي أرتدي بدل الكرافتة شيئًا يشبه الحبل. ولو عثرت على دستة كرافتات فمن المؤكَّد أنني سأستعمل بعضها وأبيع البعض الآخَر، كما أنني حتى هذه اللحظة لم أكُن قد تلقَّيتُ أي هدية في حياتي، ولم أكُن قدَّمتُ أي هدية لأحد على الإطلاق … ثم هل هذه هدية؟ أم رشوة؟ وهل النقود التي قبضتها هي أجر ما كتبت … أم في أموالنا حق معلوم لمدير التحرير المسئول؟ وهل هذا النظام معمول به هنا فقط أم في كل دُور الصحف الأخرى؟ وهل هذه هي الصحافة؟ وهذا هو الطريق الوحيد المؤدي إليها؟ أم ماذا؟

وقرَّرتُ في النهاية أمرًا … لن أذهب إلى سكابينو … ولن أهدي شيئًا لرحمي بك … ومضَت الحياة عادية في دار الهلال حتى جاء أول الشهر … وعندما وقفت أمام حبيب صرَّاف الدار اكتشفت أن المبلغ هبط من سبعة وخمسين جنيهًا إلى سبعة عشر جنيهًا، وهبط في الشهر التالي إلى ستة جنيهات، ثم إلى لا شيء في الشهر الرابع، وأصبحتُ محرِّرًا بلا أجر في دار الهلال … واقتراحاتي كلها مرفوضة وموضوعاتي كلها مردودة وحركاتي كلها سخيفة ودمي بايخ وصوتي مزعج بشكل رهيب!

ورحت أقترض من المحرِّرين الرائجين، ثم رحت أتناول منهم أجرًا لقاء ما أكتبه لهم، وذاع صِيتي في الدار، فأصبحت «كاتب عمومي» أكتب موضوعات المحرِّرين لقاء أجر معلوم أتقاضاه آخِر الشهر ثم احتكر جهودي محرِّران أحدهما يعمل الآن مندوبًا للإعلانات وآخَر ضاع في الحياة وعاد إلى قريته بعد أن داخ دوخة الأرملة في مصر!

كان الرجل الأول شديد الذكاء شديد الطموح ولكن إمكانياته لم تكُن تُسعفه لتحقيق أغراضه … وكانت كل حصيلته في الثقافة قبل أن يصبح محرِّرًا في دار الهلال هي عشر روايات جيب لأرسين لوبين، وروايات السينما المصرية، وكان واسع الاطلاع عليها، وعلى صِلة وثيقة بجميع مؤلِّفي الأغاني في مصر وكان يطلق عليهم وصف الشعراء … وكان صديقًا لأحدهم وهو مؤلف وتاجر فراخ، وكان يكتب عنه كل شهر موضوعًا في المجلة، ويلتقط له صورًا وهو يؤلِّف إلى جانب أقفاص الفراخ وكان يكتب في الفرق بين صوت الديك وصوت الشاعر.

وكان الشاعر الفرارجي كريمًا فقد كان يُهدي المحرِّر إياه خمسة أجواز فراخ كل أسبوع، وكان المحرِّر كريمًا هو الآخَر، فكان يستولي على الهدية أسبوعًا، ويرسل بها إلى بيت مدير التحرير أسبوعًا آخَر … وعندما اطمأنَّ إلى كفاءتي وإتقاني في العمل، ترك لي مهمة كتابة المواضيع وتسليمها باسمه وتفرَّغ هو لعمله الآخَر فقد أصبح مديرًا لدعاية شركة أفلام!

أما الرجل الآخَر فكان من الأرياف … وكان مدرِّسًا إلزاميًّا قبل أن يعمل بالصحافة، وأغرب شيء أنه استقال من وظيفته ليتفرَّغ لعمله الآخر كسكرتير لوكيل عام أحد الأحزاب السياسية الكبرى، ومن خلال عمله في الحزب تسلَّل إلى دُور الصحف المختلفة، ومنها إلى دار الهلال … ورغم أن الحزب الذي كان يعمل داخله كان حزبًا عقائديًّا، فإن اهتمامات الأستاذ حلمي كانت كلها نسائية، وكان وثيق الصِّلات بكل الجمعيات النسائية في مصر، وكان قادرًا على الحديث مع السيدات بالساعات دون أن يكل.

وكانت اهتماماته تافهة تدور كلها حول الطبيخ وأصناف الطعام والحلوى اللازمة لبناء الجسم، وكان يؤكِّد في كل مناسبة أن الأرز هو الطعام الكامل … وأن الحلويات تُساعد على تكاثر الدم، وأن شرب الماء على الطعام يسبب كوارث عظمى، وأن الرجل الكامل هو الذي يأكل ثم يشرب بعد الانتهاء من الأكل بساعتين.

ورغم أن الأستاذ حلمي كان أعزب فإنه كان قد دخل تجربة الزواج مرتين! مرة في بداية الحرب العالمية الثانية وكان يسكن في حارة في عابدين وعلى رأس الحارة كانت إحدى الفتيات تبيع الجاز بدون كوبون وبسعر مرتفع، وكان حلمي يحصل لها على الكوبونات بنفوذه في دوائر وزارة التموين، وكانت تربح من وراء هذا العمل مبالغ طائلة، كان حلمي يحصل على بعضها مقابل خدماته.

ولقد تطوَّرَت الصِّلة بينهما إلى حُب ثم إلى زواج، ولكن حلمي سرعان ما سئم حياته فهجرها … ولكن البنت الغلبانة التي جرَّبت الزواج من رجل يتمتَّع في الحياة بنفوذ لم تقبل أن تفرِّط فيه بسهولة وقاتلَت في سبيله بأسنانها وبأظفارها … وأدى بها الأمر إلى انتظاره كلَّ صباح أمام دار الهلال، والصراخ داخل الدار! ورغم الفضيحة فقد أصرَّ حلمي على موقفه، ولم تجِد البنت بدًّا من رفع الأمر إلى القضاء … وفعلًا … حصلت على حُكم ضد علوي بالنفقة أو السجن.

ولمَّا لم يكُن مع حلمي ما يدفعه، فقد ألقوا به ذات صباح في السجن ثم قبلَ العودة إليها فأفرجوا عنه، ولبث معها شهرًا ثم هجرها مرَّة أخرى ولكن بدون مشاكل ولا قضاء!

ثم تزوَّج مرَّة أخرى من بنت كومبارس جاءت إلى دار الهلال لتظهر في موضوع عن ملابس الخريف، وبعد الموضوع خرجَت البنت مع علوي إلى مأذون السيدة زينب … وعادا في المساء إلى بيت حلمي زوجين سعيدين للغاية، ولكن يبدو أن الأمور تكشَّفَت لهما بعد ذلك، فانفصلا دون ضجة، فقد ظنَّت البنت أنها حصلت على الشهرة والمجد بزواجها من حلمي، وظنَّ هو أنه حصل على الاستقرار المادي بزواجه منها، ثم اكتشف بعد شهر أنها مفلسة، واكتشفت هي أنه هايف وتم الطلاق في هدوء وعاد يسعى من جديد على رزقه في دار الهلال.

ولقد كان حلمي نموذجًا غريبًا من البشر لم أصادف مثله في حياتي … بل لعله أغرب نموذج الْتَقيتُ به في الحياة، ورغم أن والده كان من رجال الدين، ورغم أنه كان من بيت طيب، فإنه لم يكُن يشعر بخجل تجاه أي شيء … وكان يقبل القيام بأي عمل لرؤسائه حتى ولو تحوَّل إلى قوَّاد دون أي غضاضة! ورغم أنه كان يصنع أي شيء وكل شيء فإنه لم يكُن طمَّاعًا أو طموحًا … فلم يكُن يهدف إلى شيء إلا أن يعيش في هدوء.

وكانت كل أمنيته في الحياة أن يعيش في شقة بمفرده … وأن يصبح دخله ثلاثين جنيهًا كل شهر، وكان يتمتَّع بقوة ثور ولا يشكو من مرض على الإطلاق، وكان يبدو لاهيًا وسعيدًا ومبسوطًا رغم المشاكل العديدة التي تلاحقه في كل مكان … ولقد تسبَّب في انقسام مروع داخل الحزب وتسبَّب في طرد وكيل الحزب وعدد من أعضائه الكبار، ولكنَّه لم يشعر بالذنب أبدًا، وكان يلقي اللوم على عقلية زعماء الحزب التي لا تريد ولا تقبل أي جديد، ولم يكُن هذا الجديد سوى شقة استأجرها حلمي في ميدان شهير وكان وكيل الحزب يتردَّد عليها، وكان حلمي يتولى إعداد كل شيء من النساء إلى الخمور إلى الحشيش.

ومع النساء والحشيش كان وكيل الحزب يجمع أنصاره داخل الحزب لمناقشة الأمور السياسية، ولاتخاذ موقف موحد يهدف في النهاية إلى خلع رئيس الحزب وبعض أعوانه، وذات مرَّة تسلَّل واحد من أنصار رئيس الحزب إلى الشقة وصادق حلمي وأغدق عليه بالفلوس والهدايا وانبسط علوي شديد الانبساط، وانشكع غاية الانشكاع وأطلعه على كل أسراره، بل جعله عمدة، في الحشيش … هو الذي يرص، وفي الخمر هو الذي يصب، وفي الليالي الطرية هو الذي يتولَّى كل شيء، وهو الذي يفهم كل شيء.

ودحرج حلمي أكثر حتى ترك له مفاتيح الشقة، وكأنه ترك مفاتيح الكرار للقط، واهتبل القط الأسود — حتى مع الاعتذار للإذاعة — هذه الفرصة وهبر من مكتب حلمي في البيت كل الأوراق المطلوبة وكل الوثائق التي تدين الوكيل والأنصار والأخ حلمي، ولكن بقيت وثيقة واحدة، وهي وثيقة هامة وحاسمة وفاصلة عند الحساب، ولكي يحصل رئيس الحزب وأنصاره على هذه الوثيقة فلا بد من تعاون حلمي معهم، وكانت مشكلة ولا مشكلة كوريا، ولكن القط الأسود لم يكُن من النوع الذي تقف أمامه عقبة أو يمنعه عن الوصول إلى أغراضه أحد ما، خصوصًا إذا كان هذا الأحد رجلًا طيِّبًا ومنهارًا ومستعدًّا لأي شيء وكل شيء مثل الأستاذ حلمي.

وفعلًا تم الأمر على خير ما يشتهي القط الأسود، دفع للأستاذ حلمي ببعض النقود وغمره ببعض الهدايا ويسَّر له كثيرًا من الأمور، ثم اتفق معه على أن يسجِّل قعدة من هذه القعدات للسيد الوكيل وبطانته، وليه؟ للذكرى والتاريخ! ولكي تنفع عندما تمرُّ أيام الحظ الحلوة ويصبح التسجيل هو الشيء الحي الباقي لأيام الحظ الفانية! وصدق علوي بالطبع! وانبسط جدًّا لهذا الاقتراح الرائع الذي يحفظ الذكريات والقعدات والسهرات الطرية!

ولكي يتم الأمر على خير وجه، قام حلمي بالتسجيل لكي يكون الأمر كله مفاجأة للوكيل الطيِّب الساذج الذي أسلم روحه ونفسه للأخ حلمي!

وذات مساء حافل رهيب، كان بيت حلمي يشغي بالناس، سياسيون من عيِّنة الوكيل، وفتيات في عمر الورود، وشبَّان كالغزلان وخمر وحشيش، وكل ما لذَّ وطاب مما تعصر المعاصر وممَّا تنبت الأرض، جلست الشلة والتسجيل دائر، حلمي مبسوط لأنه يعدُّ مفاجأة عظيمة وحلوة، والبيه الوكيل أيضًا مبسوط لأنه يسهر سهرة من سهرات العمر! وتطرَّق الحديث خلال السهرة إلى السياسة ومن السياسة إلى المؤامرة! وخلال الحديث ضحكات وهمسات وقرصات مفيش بأس.

وانتهت السهرة، وانتهى الرجل الطيِّب … وعلى صوت التسجيل الدائر في مقر الحزب، استطاع رئيس الحزب اليقظ المدرب الوصول إلى خلع الوكيل والأنصار والأخ حلمي، وكانت التهمة الموجَّهة إليهم جميعًا هي خروجهم عن الخلق اللائق، وارتكابهم ما يخجل وما يشين دون وازع من دين أو ضمير.

وتكرَّر اسم حلمي في بيان الحزب أكثر من مرَّة … ومع ذلك كان شديد الإصرار على أن الأمور يومًا ستستقيم، وأنه يومًا ما سيعود على رأس الحزب من جديد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤