٧

ثلاثة شهور وأنا في دار الهلال أكتب للمحرِّرين وأقبض منهم ولا أحد يدري في الدار، وكان رحمي بك مدير التحرير يلتقي بي أحيانًا فتبدو عليه الدهشة؛ لأني ما زلت مقيمًا في الدار مع أني لا أتقاضى شيئًا، ولو كان رحمي بك يقوم بعمله على خير وجه، لاكتشف أن كل أعمال الأستاذ حلمي الجديدة بخطي، وكذلك أعمال الأستاذ الآخَر صديق المؤلِّف تاجر الفراخ! ولكن رحمي بك لم يكُن يؤدِّي عمله على الوجه الأكمل، وكان يترك عمله في الدار لبعض المساعدين، متفرِّغًا في النهاية لقبول الهدايا من المحرِّرين ولعب القمار في الليل والسهر في الشاليه الذي كان يملكه محرِّر في شارع الهرم على ربوة عالية تطل على قرية نزلة السمان.

وفي هذا الشاليه البعيد عن العمران وعن المدينة، كان رحمي بك يسهر أحيانًا وسط شلة من بنات الكومبارس في المسرح والسينما، وكان حلمي يحضر أحيانًا هذه السهرات، وكان يحكي دائمًا في الصباح لكل من يلقاه عن أدق تفاصيل السهرة، وكان يبدو عليه الغيظ الشديد؛ لأنه لا يملك شاليه من هذا الطراز، وكان يحلم دائمًا بأنه سيصبح له شاليه يومًا ما، وعندئذٍ يستطيع تحقيق أحلامه في عالم الصحافة، ويضمن الاستقرار الذي ينشده منذ زمن بعيد.

وذات صباح ذهبت إلى دار الهلال على غير العادة وكانت الحجرة خالية ولا أحد هناك، وكنت أشعر بقلق بالغ لا أدري سببه ورحت أتمشَّى في الحجرة جيئة وذهابًا كأنني نمر هائج في قفص في حديقة الحيوان، وفجأةً دخل الحجرة رجل مهيب يرتدي بنطلونًا وقميصًا من حرير ويرتدي فوق كُمِّ القميص كُمًّا آخَر من قماش رخيص أسود اللون، ثم نظر نحوي وأجال بصره في أرجاء الحجرة، ولمَّا لم أكُن أعرف مَن هو هذا الرجل الغريب، فقد جلست على المكتب الذي كان بالقرب منِّي لحظة دخوله الحجرة، ولكن الرجل أبدى دهشة بالغة ارتسمت على قسمات وجهه لجلوسي فوق المكتب، وكأنني ارتكبت عارًا لم يرتكبه أحد من قبل، واقترب مني في خطوات بطيئة وأشار نحو المكتب وسألني في غرور ولا غرور حكمدار يسأل بائع لبن غشَّاش: إيه ده؟

ولمَّا كان إصبعه اتجه نحو المكتب فقد أجبته على الفور: دا مكتب.

وبنفس الطريقة أشار نحو الكرسي وقال: وإيه ده؟

ولمَّا كان إصبعه قد اتجه نحو الكرسي فقد أجبته على الفور: دا كرسي.

وقال الأستاذ المهيب وكأنه اكتشف سر الحياة فجأة: والناس بتقعد ع الكرسي ولَّا ع المكتب؟

وقلت أنا ببلاهة وبعدم مبالاة: ساعات تقعد ع المكتب، وساعات تقعد ع الكرسي.

وهزَّ الأستاذ رأسه، ثم سألني عن اسمي قبل أن ينصرف، وبعد لحظة حضر فرَّاش نشيط وأبلغني أنني مطلوب حالًا لمقابلة الأستاذ الجريديني، ولم أكُن أعرف ما هو الجريديني هذا، كما لم أكُن أعرف أي شيء عن مهنته بالضبط، وعندما ذهبت لأكلِّم الجريديني، اكتشفتُ أنه يجلس في حجرة من زجاج كأنه سلعة معروضة للبيع في محلات عمر أفندي، كانت الحجرة الزجاجية مستديرة وتتوسَّط قاعة كبيرة؛ لكي يتمكَّن الأستاذ الجريديني هذا من إلقاء نظرة شاملة على كل ما حوله، ولم يكُن حوله شيء يستحق النظر، فقد كان كلُّ مَن حوله عددًا من الموظفين الغلابة العجائز، هم كل موظفي الأرشيف والإدارة في الدار، واقتحمت الباب وقد نويت شرًّا، فأنا الآن شديد الزهق شديد الغلب، ودار الهلال أصبحت جهنم الحمراء بالنسبة لي، فلا أنا محرِّر فيها، ولا أنا أستطيع الاستغناء عنها، ولا أنا أبحث لنفسي عن عمل آخَر. ووقفت أمام الجريديني وقد اتخذت موقف المتحدِّي، وسألني الأستاذ وقد راح يتمرجح على مقعده الهزَّاز الدائري: إنت بتشتغل إيه هنا يا أستاذ؟

– محرِّر.

وقلَّب بين أصابعه عدة أوراق اكتشفتُ من إلقاء نظرة عليها أنها الدوسيه الخاص بي، وقال وأصابعه تعبث في الأوراق: لكن دا انت بقالك كام شهر ما لكش إنتاج!

– أصلي زهقان.

ورفعَ الجريديني رأسه وألقى على العبد لله نظرة فاحصة وقال وهو شديد الدهشة: زهقان؟ زهقان من إيه؟

– ماليش نفس أشتغل.

– حضرتك مؤهلاتك إيه؟

– مهندس!

– مهندس … اتفضل!

وأشار الجريديني إلى المقعد الوحيد في الحجرة، وعلى الفور جلستُ ووضعتُ ساقًا على ساق، واندهشتُ جدًّا لتصرُّف هذا الأبله المعتوه الذي أقعدني بشدة لمجرَّد كذبة حمقاء بأنني مهندس، مع أنني أعمل في دار المفروض أنها تُنتج الثقافة والفن والأدب!

وتبسَّط الجريديني معي في الحديث وسألني في ودٍّ بالغ: وحضرتك خريج جامعة فؤاد؟

– لا أنا خريج جامعات ألمانيا.

– ما شاء الله … وبتعرف ألماني؟

– طبعًا!

– وتخصُّصك إيه يا أستاذ؟

– مباني.

– عال قوي، طيِّب دنا هاحتاجك قُريِّب، أصل عندنا مشروع عشان دار الهلال، إيه رأيك يا أستاذ تبقى تتعاون معانا.

– إذا كان هناك فرصة.

– طيِّب أنا أسف على اللي حصل مني، أنا ما كنتش أعرف سعادتك.

وضغط الجريديني على الزر وطلب للعبد لله واحد قهوة مظبوط وانتشرت في الدار حكاية لقائي بالجريديني، وهرع أكثر المحرِّرين ليتفرَّجوا على العبد لله وهو جالس مع الجريديني ساقًا على ساق وكاعب السيجارة في فمه ولا رئيس تحرير الأهرام!

وسرعان ما انتشرت إشاعة في أنحاء الدار أنني مرشَّح لوظيفة هامة في الدار وأنني على وشك أن أكون سكرتيرًا للتحرير في إحدى المجلات! وهكذا أدركت بعد انتهاء المقابلة أن الجريديني هو أهم رجل في الدار بعد أصحابها، بل هو أهم من أصحابها، وأنه شقيق المستشار القانوني للدار، وأنه ثري أمثل، وأنه مدير عام الدار، وأنه يتدخَّل في كل شيء، في الإدارة والإعلان والتحرير أيضًا.

ولو أردت أن أمضي في هذا الشوط إلى النهاية لكان لي ما أردتُ ولكني كنت زهقان من دار الهلال إلى الحد الذي لم يكُن في استطاعتي أن أمضي داخلها وقتًا آخَر، وكان شيء جديد آخَر قد حدث داخل الدار، فقد عُيِّنَ حديثًا مديرًا للتحرير طالبٌ في الجامعة الأمريكية. وكان شابًّا طيِّبًا وساذجًا عديم الخبرة، من أول لقاء بيني وبينه أدركت أنه تعلَّم كل شيء عن الصحافة في أمريكا، ولكنه لم يكُن يعرف حرفًا واحدًا عن الصحافة في مصر.

ولقد أوصانا جميعًا في أول اجتماع بالاتجاه إلى الترجمة، ولم يكُن يدري أن كل المحرِّرين لا يعرفون حرفًا واحدًا من الإنجليزية، وأن كل معلوماتهم عن الإنجليزي، أنه عسكري احتلال موجود في مصر! كما أنني تضايقت أكثر من تصرُّفات ولد نصَّاب اسمه الجرجاوي، كان وجهه مثل وجه الخنزير الحديث الولادة، وكان من النوع الذي تكتشف محاسنه عند أول نظرة ثم تقضي العمر كله تُحصي عيوبه دون جدوى.

كان يمتاز بمواهب عتاة المجرمين، فلا ينفعل ولا يغتاظ ولا يحتج أبدًا، وكان خبيرًا في التغرير بالفتيات وكان يسلبهن نقودهن وحُليَّهن ثم يفر منهن في النهاية، ولكنه كان موهوبًا وكان صاحب أسلوب مشرق وذكي ولو أنه استغلَّ موهبته الفذة في موضعها الصحيح، ولو أنه تمسَّك بعض الشيء بالقيم والشرف والأمانة والصدق لكان اليوم علَمًا من أعلام الحياة الصحفية والأدبية في مصر، ولكنه لمع فترة، ثم اختفى قبل الأوان، ولقد قضى الناس عليه، ولكنه قضى على نفسه أولًا، واحترف الكذب في النهاية ولم يسلم رجل شريف واحد في مصر من لسانه، ولكنه كان صديقًا لكل المرتشين والمنحرفين وأصحاب السلوك والسمعة الشائنة، وعندما الْتَقيتُ به أول مرَّة ادَّعى أنه ينشئ دارًا للنشر، وأنه اشترى كتبًا من العقاد والحكيم وطه حسين، وأنه ينوي إصدار كتاب لي في السلسلة الأدبية الكبرى أو هكذا سيُطلق عليها! وفي النهاية طلب مني عشرة قروش فكة؛ لأن كل النقود التي معه أوراق من فئة العشرة جنيهات!

وفي دار الهلال أيضًا الْتَقيتُ بمحرِّر آخَر مدَّعٍ وجاهل وحقير غاية الحقارة، وكان اسمه سميح الكاتب ولكني اكتشفت أنه ليس اسمه، وأنه اضطر لكي يطلق على نفسه صفة الكاتب أن يغير شهادة ميلاده، وكان يكتب قصصًا خرافية على شاكلة قصص طرزان، وكان مغرورًا إلى الحد الذي تصور نفسه فيه أعظم كاتب أنجبته مصر، وكان جاهلًا إلى الحد الذي لم يستطع فيه أن يكتشف عظمة نجيب محفوظ، مُفضِّلًا عليه هلفوت مثله اسمه أمين حب الرمان!

ولقد ظلَّ أمين هذا متصوِّرًا لفترة طويلة من الزمان أنه أنبَغ ما أنجبت مصر من الكُتَّاب حتى قرأتُ خبرًا ذات مرة عن انتحاره، ثم فوجئت به بلحمه ودمه يقتحم عليَّ مكتبي في إحدى دُور الصحف، وعرفتُ أنه لم ينتحر، ولكنه هدَّد فقط بالانتحار لضِيق ذات اليد، ثم طلب مني أن أجمع له من المحرِّرين زملائي عشرة جنيهات إعانة، وهدَّدَني بأنه سينتحر إذا لم يحصل على هذه النقود!

شيء آخَر جعلني أفرُّ من دار الهلال، فقد أرادوا تطعيم الدار بدم جديد من الشباب يتولى المسئولية في مجلة جديدة، واختاروا فعلًا أحد الشبان الذين دخلوا الدار مع فوج المحرِّرين البائسين الذي كنت أنا أحد أفراده، وكان المحرِّر الذي وقع الاختيار عليه ليكون أول مدير تحرير للمجلة الجديدة يُدعَى سمير كان أكثرنا وسامة وأكثرنا أناقة وأشدنا جهلًا … وأغرب شيء أن هذا الدم الجديد لم يكُن جديدًا على الإطلاق، ولكنه كان أكثر فسادًا من الدم القديم … فلقد حول المجلة إلى بورصة للسمسرة وجعل صفحاتها معروضة للبيع والإيجار … وقام فترة تولِّيه مسئولية التحرير التي امتدَّت زمنًا طويلًا في منزل أحد المطربين المشهورين بالبلاهة والغباء.

وكان يوم اختيار سمير هو آخِر أيامي في دار الهلال، فلقد اكتشفتُ أنني لكي أشق طريقي في الدار فلا بد أن أكون من طراز سمير ولمَّا كنت عكسه تمامًا، فقد كان المستقبل شاقًّا أمامي، وأن عليَّ أن أهجر الدار قبل فوات الأوان، ولقد هجرتها فعلًا … ولكن إلى أين؟ كان البحث عن مكان آخَر هو مشكلة حياتي! كان في السوق عدة جرائد ومجلات صغيرة مثل الحوادث والخبر والصباح والغريب والشباب، ولكنها جميعًا كانت مفلسة وكانت لا تدفع نقودًا لأحد، وكانت هناك الجرائد اليومية الكبرى، ودخولها أصعب من دخول الجنة، ثمَّة مجلة أخرى كانت في السوق وكانت تتأرجح بين الانتشار وقلة التوزيع وكانت وفدية يشرف عليها أحد نوَّاب الوفد وهو في الوقت نفسه شقيق أكبر مسئول في الحزب! وكانت المجلة تستكتب عددًا من كبار الكتَّاب مثل طه حسين والدكتور مندور وسلامة موسى وعزيز أحمد فهمي، وكان يعمل فيها مجموعة من الشباب الناضجين وعدد من الصحفيين القدامى وكانت تصدر مجلة أسبوعية أدبية يتولى رئاسة تحريرها الدكتور إبراهيم ناجي ويعاونه عدد من الأدباء الشبان سيحتلون فيما بعد صدارة الحياة الأدبية والفنية بعد ذلك، ولقد اخترتُ هذه المجلة بعد تفكير شديد ولعدة أسباب، أولًا لأنها المجلة الوحيدة التي يمكن العمل فيها والتي يُمكِن في الوقت نفسه الحصول منها على بعض الجنيهات كلَّ شهر، وثانيًا لأن رئيس التحرير كان صديقي، وكان رجلًا طيِّبًا وخدومًا واستطاع أن يحتفظ بنقائه وسط غابة الصحافة الشريرة … كان قاسم جودة هو رئيس التحرير، وكان قاسم في بداية حياته صحفيًّا لامعًا وشابًّا وفديًّا متحمِّسًا، ثم انشقَّ عن الوفد مع مكرم عبيد واشترك في وضع الكتاب الأسود، وهو موقف خاطئ دفع مستقبله ثمنًا له، فلقد كان حزب الوفد حزبًا شعبيًّا وجماهيريًّا ومناضلًا ضد الاستعمار وضد الطغاة من أسرة محمد علي، وكان أيضًا حزبًا فاسدًا ومنخورًا من الداخل، ولكن كان ورغم ذلك من أعظم الأحزاب الموجودة، وأشدها صلابة وأكثرها التصاقًا بالجماهير وتعبيرًا عنها.

وكان الكتاب الأسود صورة صادقة لفساد الوفد، ولكنه كان لمصلحة مَن هم أكثر فسادًا، وكان يخدم في النهاية مصالح الاستعمار والقصر! ولقد كان مكرم عبيد رجلًا صادقًا ولكنه كان رجلًا مُنفعِلًا، ولقد استطاع القصر وبطانته التأثير عليه في لحظة انفعال فخرج على الوفد محاولًا طعنه بشدة، ولعلَّه أفاق بعد ذلك بسنوات؛ ليجد نفسه وحيدًا وقد خسر أكبر سند له في حزب الوفد، واكتشف أنه وقع فريسة في يد الملك وأحزاب الأقلية، ولعلَّه أراد أن يكفِّر عن خطيئته بالعودة إلى حزب الوفد، ولكن الوفد كان لا يرحم مَن يخرج عليه، ولا يقبل بين صفوفه مرَّة أخرى مَن يطعنه في ظهره، وكان الوفد هو الشعب كله، ولكن بلا تنظيم ولا جهاز يحرِّك قلبه، ولقد ظلَّ سنوات طويلة ينبض بالحرارة ولكن دون حركة، ورغم ضعفه، وشيخوخته فقد ظلَّ هو الممثل الطبيعي والحقيقي للشعب المصري إلى أن قامت الثورة، وكل الذين خرجوا عليه ذهبوا إلى النسيان وكنسهم التاريخ في ترابه، ولعلَّ قاسم جودة قد أفاق لنفسه هو الآخَر، فعاد إلى حزب الوفد ولكن من الباب الخلفي وكانت مجلة النداء هي الباب الخلفي الذي دخل منه قاسم!

وعندما ذهبت إليه في قهوة الأنجلو أطلب عملًا استقبلني بحفاوة وصافحني وطلب لي زجاجة بيرة وجلس يسألني عن أحوالي، وحكيت له ما أعانيه في دار الهلال، وما جرى فيها من مآسٍ ورسم على شفتَيه علامة ازدراء كبرى وقال وقد اكتسى وجهه بحمرة فاقعة: تعرف … الدار دي مش بتاعة صحافة … دي كان لازم تكون محل خردوات زي محل عمر أفندي.

ثم طيَّب خاطري ووعدني بالبحث عن عمل لي في مجلة النداء في أقرب فرصة، وطلب مني أن أمرَّ عليه مرَّة أخرى في القريب وهكذا اضطررت إلى البقاء في دار الهلال فترة أخرى في انتظار أن يحقِّق قاسم جودة وعده، وفي خلال تلك الأيام التي قضيتها في دار الهلال أنتظر، تمردت على المحررين الذين أكتب لهم وطلبت رفع السعر إلى الضعف، فوافق الأستاذ صديق المؤلف الفرارجي، ورفض الأستاذ حلمي لضيق ذات اليد، ولكنه لكي يُغريني على التعامل معه دعاني إلى الغداء عنده في المنزل، وكان يسكن في حي طولون، وفي حارة ضيِّقة تقع على دحديرة خلف المسجد، وكان البيت قديمًا تفوح منه روائح عطنة، وتتزاحم البيوت في الحارة وتتشابك ويتداخل بعضها في بعض، حتى إني كنت أسمع الجيران يتكلمون في البيت الرابع، وعندما أصبحنا داخل الشقة انشغل حلمي بإعداد طعام الغداء، وبعد أن انتهينا من الطعام نهض ليُعِدَّ لنا الشاي، ثم فتح الباب وراح ينادي بصوت مزعج، وسرعان ما لبَّى نداءه صوت نسائي فيه بحَّة ولسعة نفذت إلى عظامي، ولم تلبث صاحبة الصوت أن اقتحمت علينا الشقة في جرأة، وقد ارتدت قميص نوم رخيصًا وأرسلَت شَعرها الأسود الناعم خلف عنقها وعلى كتفَيها، وكانت جميلة رغم فقرها، وجسمها يكاد يبرز من القميص الرخيص الذي ترتديه، وصدرها بارز بشكل مثير، حتى خُيِّلَ إليَّ أنه يبرز بعوامل صناعية، وعندما صافحتُها في أدب غضضتُ بصري خجلًا، ولكن حلمي مدَّ يده وعبث في صدرها أمامي وقال وهو يضحك: بذمتك مش سعاد تنفع في السينما؟!

ولما أمَّنتُ على كلامه، سألَتْني في لهفة: صحيح والنبي؟

ثم جلست تحكي لحلمي ما حدث لها بالأمس وكان حلمي قد أرسلها بتوصية خاصة إلى مُخرج صديقه لتعمل كومبارس في فيلم من الأفلام، ولقد اشتغلت طول الليل مقابل جنيه، وستذهب مرَّة أخرى مساء الغد، وستعمل معهم لمدة أسبوع وستلهف عشرة جنيهات كاملة، وقالت لحلمي بعد أن انتهت من قصتها وهي تضربه بيدها على رأسه: اكتب عني بقى!

وأشار حلمي نحوي وقال: ده اللي هيكتب عنك، صحيح هوه صغير كده لكن ده رئيسي في الشغل.

ونظرت البنت نحوي نظرة فاحصة أربكتني، وقالت وهي تتقصَّع: رئيسك؟! مش معقول، إنت عاوز تهرب مني. وقال حلمي وهو يُقسِم بكل المقدَّسات: زي ما بقولك كده. احكي له على قصة حياتك وهو هيكتبها، وهيطلَّع صورتك في المجلة.

ونهض حلمي وارتدى ملابسه، ثم استأذن في الانصراف وخرج دون وداع، واكتشفتُ أنني أصبحت وحيدًا مع البنت المستوية في شقة حلمي، وأحسست بأنني ارتعشت كلي … وضربت معي لخمة فلم أعرف كيف أتصرَّف معها، وفجأة، نهضتُ، ومددتُ يدي أصافحها وأستأذن، ولكن البنت المجربة شهقت وتقصَّعت، وضربت صدرها بيدها وقالت: إيه يا دلعدي، قرفت مننا ولَّا إيه؟ عامل بيه؟ دانت اللي يدور عليك يلاقي الست أمك كانت غسالة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤